جنوب السودان وجواره الإفريقي.. المصالح الجاذبة والمخاوف المنتظرة

نشأة أية دولة جديدة حدث كبير له أبعاده الإستراتيجية وانعكاساته الجيوسياسية. ودولة جنوب السودان الجديدة ستكون لها سياساتها الخارجية وعلاقاتها الإقليمية والدولية الخاصة، فكيف سيتفاعل ذلك كله مع جوارها الإفريقي؟
1_1063435_1_34.jpg

 

محجوب محمد صالح

تستقبل القارة الإفريقية في التاسع من يوليو/تموز القادم الدولة الإفريقية الرابعة والخمسين في عضوية الاتحاد الإفريقي بعد أن اختار أبناء جنوب السودان بأغلبية تقترب من الإجماع أن ينفصلوا عن دولة السودان ويؤسسوا دولتهم الخاصة، وهو حق منحته لهم اتفاقية السلام الشامل الموقعة في العاصمة الكينية نيروبي في التاسع من يناير/كانون الثاني عام 2005، في محاولة لوضع حد نهائي لصراع مسلح بين الشمال والجنوب دام عقودًا من الزمان.

ونشأة أية دولة جديدة في منطقة ما من العالم حدث كبير له أبعاده وتداعياته وانعكاساته على الأفق السياسي. وفي تلك المنطقة كان جنوب السودان موجودًا منذ الأزل متمتعا بعلاقة الجوار مع المجموعات السكانية الأخرى؛ فهو ليس عنصرًا جديدًا طارئًا على المنطقة؛ ولكن الجديد هو أن هذا الإقليم سيتحول الآن إلى دولة ذات سيادة لها سياستها الخارجية الخاصة؛ ولها مواقفها من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأمنية، ولها مساهماتها وتفاعلاتها مع القوى الإقليمية والدولية.

جوار دولة جنوب السودان.. جدلية الاتصال والانفصال
كينيا: الدور المتميز في الحرب والسلام
أوغندا.. الجار القريب جغرافيا والأقرب تواصلا
إثيوبيا.. تطلُّع إلى علاقة بالجنوب السوداني لا تحرج شماله
إفريقيا الوسطى والكونغو.. علاقات ما زالت محدودة
شمال السودان.. حدود مفتوحة على جميع الاحتمالات

جوار دولة جنوب السودان.. جدلية الاتصال والانفصال 

دولة جنوب السودان لها جوار مباشر مع ست دول تحيط بها من شرقها وغربها وشمالها وجنوبها وهي تأتي للمنطقة متمتعة بوضع اقتصادي يفتح شهية دول الجوار؛ إذ إنها ثالث الدول الإفريقية إنتاجا للنفط.
الدولة الجديدة الوليدة هي دولة داخلية ليس لها منفذ على البحر وبالتالي تحتاج لأن تتواصل مع العالم عبر دولة أخرى. ولكن دولة جنوب السودان لها جوار مباشر مع ست دول تحيط بها من شرقها وغربها وشمالها وجنوبها وهي تأتي للمنطقة متمتعة بوضع اقتصادي يفتح شهية دول الجوار؛ إذ إنها ثالث الدول الإفريقية إنتاجا للنفط (بعد نيجيريا وأنجولا)؛ وفوق هذا تأتي مثقلة بإرث صراع مسلح مع جارها الشمالي-السودان- الذي كانت جزءا منه، وخلال صراعها مع ذلك الجار الشمالي أسست علاقات مع دول الجوار الأخرى قامت على التعاون أحيانا وعلى التوتر أحيانا أخرى، ولكنها الآن بحاجة لأن تفتح صفحة جديدة مع الجميع.

والدول التي تحيط بالدولة الوليدة، هي: إثيوبيا شرقا، وكينيا وأوغندا والكونغو جنوبا، وإفريقيا الوسطى غربا، والسودان شمالا، وأطول حدودها وأكثرها تداخلا وترابطا وتحديا هي حدودها مع شمال السودان؛ التي تمتد لمسافة أكثر من ألفي كيلومتر من حدود إثيوبيا شرقا حتى حدود إفريقيا الوسطى غربًا. ومن بين هذه الدول الست هناك دولتان لهما حدود مشتركة مع كل من جنوب السودان وشمال السودان (إثيوبيا في الشرق وإفريقيا الوسطى في الغرب).

ولجنوب السودان قبائل مشتركة مع بعض تلك الدول؛ فالزاندي قبيلة مشتركة بين غرب الاستوائية وجمهورية الكونغو الديمقراطية، والإشولى قبيلة مشتركة بين أوغندا والاستوائية الوسطى، والتركانا والتبوسا -أصولهما واحدة- قبائل مشتركة بين كينيا وشرق الاستوائية، والأنواك والنوير في أعالي النيل وجنوب غرب إثيوبيا.

وهذا التداخل القبلي قد يرى البعض أن من شأنه أن يحدث انسجاما لكن الواقع يشير إلى أنه في كثير من الحالات يصبح مصدر توتر؛ للمنافسة الحادة حول الموارد الطبيعية والهجمات المتبادلة. وقد شهدت المرحلة الانتقالية بعض التوترات المحدودة على الحدود الجنوبية الأوغندية والحدود الجنوبية الكينية (2008-2010). ومما يزيد من التحديات أن الحدود لم تُرسم بشكل دقيق، وغير محروسة بشكل جيد، وهي مفتوحة ويصعب مراقبتها مراقبة فاعلة، وسلطان الدولة المركزية على الأطراف يتسم بالضعف، بل إن هناك صراعاتٍ كامنةً يمكن أن تتصاعد في أي وقت؛ فعلى سبيل المثال هناك الصراع الكامن حول مثلث اليمي، وهو مثلث يقع عند تقاطع حدود شرق الاستوائية مع كينيا وإثيوبيا، وما زال الخلاف على ملكيته قائما. وكانت بريطانيا في الحقبة الاستعمارية قد اعتبرته جزءا من السودان، ولكن عهدت بإدارته إلى الحكومة الكينية التي ظلت تديره لأكثر من قرن من الزمان، وما زال الجنوب يعتبره تابعا له بينما تعتبر كينيا نفسها قد تملكته بوضع اليد الذي امتد لأكثر من قرن من الزمان. ثم جاءت ايطاليا عند احتلالها لإثيوبيا عام 1936 لتعلن أن المثلث جزء من الأراضي الإثيوبية. وقد أصبح المثلث نقطة نزاع بين ثلاث دول، وقد تجدد الحديث عنه مؤخرا عندما انتشرت شائعات تفيد بوجود ثروات معدنية من نفط ومعادن فيه؛ مما دعا كينيا لتعبّر عام 2010 عن مخاوفها من أن تثير حكومة الجنوب قضية هذا المثلث.

مهما يكن من أمر فإن الدولة الوليدة يُنتظر أن تحاول ألا تثير أية قضايا حدودية مع دول الجوار في المرحلة الأولى من حياتها لأن لها من القضايا الحدودية مع شمال السودان ما يشغلها في الوقت الراهن.

والجوار الشمالي سيكون هو الموقع الذي تسلط عليه الأضواء في المرحلة القادمة باعتباره المنطقة التي يتركز فيها مخاض مولد الدولة الجديدة بكل مشاكله وتعقيداته وصعوباته، رغم إمكانية تطوير هذا الحزام الحدودي لكي يلعب دورًا في خلق علاقات شمالية-جنوبية معافاة مما ستتعرض له لاحقًا.

الانفصال مصدر إحراج للدول الإفريقية
كانت الدول الإفريقية عامة تستشعر قدرا من الحرج تجاه احتمال انفصال جنوب السودان، فأغلبها كان يتعاطف مع الحركة الجنوبية بصورة أو أخرى، لكنه في ذات الوقت كان يخشى أن يؤدي فصل الجنوب إلى خلق نموذج يمكن استنساخه في الدول الإفريقية الأخرى التي يعاني أغلبها من حركات داخلية طَرَفية متمردة على المركز، وتحاول أن تخرج عليه لدواعٍ إثنية أو قبلية أو ثقافية. هذا التخوف عبرت عنه النخب الحاكمة في إفريقيا في ستينيات القرن الماضي عندما أصدرت منظمة الوحدة الإفريقية (التي أصبحت الاتحاد الإفريقي الآن) قرارًا يضفي قدسية على الحدود الموروثة من العهد الاستعماري، ويرفض تماما تغييرها خوفا من أن يؤدي ذلك إلى تشظي القارة الإفريقية. ورغم هذا التخوف العام فإن الدول المجاورة لجنوب السودان غلبت عليها دواعي المصلحة العاجلة التي جعلتها تقف موقفا مؤيدا وداعمًا لانفصال الدولة الجديدة أملاً في أن يوفر لها هذا الوليد الجديد مجالات للاستثمار وللتجارة ولفرص العمل.

كينيا: الدور المتميز في الحرب والسلام 

ظلت كينيا منذ نشوء النزاع الشمالي الجنوبي في السودان تتعاطف مع الجنوب بتوفير المأوى للاجئين وتسمح لهم بالنشاط السياسي، وظلت مساعدة كينيا لجنوب السودان نسبية لأن حدودها مع السودان بعيدة عن مواقع العمليات؛ لذلك ظل دورها العسكري محدودًا أو غائبًا على عكس دول جوار أخرى مثل إثيوبيا وأوغندا اللتين لعبتا دورًا عسكريًا كبيرًا ومباشرًا في مراحل مختلفة.

مهما يكن من أمر فإن الدولة الوليدة يُنتظر أن تحاول ألا تثير أية قضايا حدودية مع دول الجوار في المرحلة الأولى من حياتها لأن لها من القضايا الحدودية مع شمال السودان ما يشغلها في الوقت الراهن.
لقد استفادت كينيا اقتصاديا من حرب الجنوب والشمال؛ إذ أصبحت المركز الرئيسي للإمدادات في عملية الغوث الإنساني والذي تقدمه هيئات الإغاثة ومنظمات المجتمع المدني الدولية التي جعلت من كينيا قاعدة للإمدادات تنطلق من مدينة ليكيشكو التي تحولت إلى قاعدة ومركز اقتصادي وتطورت إلى مدينة كبيرة كمركز إمداد لمشروع الإغاثة. وقد أطلق على هذا المشروع اسم "شريان الحياة" لأنه يوفر الغذاء والدواء للنازحين والمتضررين من الحرب في جميع أنحاء الجنوب.

ولأن كينيا لم تكن منغمسة مباشرة في الصراع المسلح، وعلاقتها مع الشمال كانت حسنة إلى حد ما، وجدت نفسها بحكم الجوار مع الجنوب تقود عملية المفاوضات الثنائية عبر منظمة (الإيغاد) في العام 1993، وهي المفاوضات التي استمرت متقطعة على مدى أحد عشر عاما قبل أن تنجز اتفاقية السلام.

كان الدور الكيني كبيرا وقد اعترف به الشمال والجنوب فأشرف الرئيس الكيني أراب موي على المفاوضات وقادها تنفيذيًا الجنرال سيمبويا الذي اختاره الرئيس لهذه المهمة.

كل هذا منح كينيا موقعا متميزا في الحرب وفي السلام وخلال المرحلة الانتقالية، وهو ما استثمرته الحكومة الكينية جيدًا منذ بداية المرحلة الانتقالية فأصبحت الشريك التجاري والمستثمر الأكبر في جنوب السودان اليوم. وكينيا الآن تضع خططا للمستقبل بعد قيام دولة الجنوب وهي خطط تتميز بالطموح، وترى كينيا نفسها أكثر الدول المؤهلة للمساهمة في إعادة بناء الجنوب، والدولة الأكبر سيطرة اقتصادية على جنوب السودان.

تحركت كينيا على المستوى الاقتصادي الأعلى مستهدفة سوق المال عبر البنوك الكينية وشركات التأمين، وسعت إلى الاستحواذ على قدر كبير من الاستثمار في مجال الفنادق، والرحلات الجوية التي تربط الجنوب بالخارج، وعمليات الإنشاءات والبناء والطرق والعمليات الاستثمارية الكبرى. ومن بين خططها الطموحة أن تصبح المنفذ البحري لا لجنوب السودان فحسب بل لجنوب السودان وإثيوبيا أيضا.

وضعت كينيا خطة لإنشاء ميناء جديد في مدينة لامو الساحلية بمواصفات عالمية عالية ضمن مشروع يتكلف اثنين وعشرين مليار دولار، ويشمل إنشاء طريق مرور سريع، وخط حديدي يربط كل من إثيوبيا وجنوب السودان بالشبكة الكينية، وخط أنابيب بترول، ومصفاة لخدمة بترول الجنوب بديلا لشمال السودان. وقد أُذيع أن شركة تويوتا اليابانية في مقدمة المؤسسات المالية المستعدة للمشاركة في المشروع، كما تجري اتصالات بشأنه مع الصين. وقد تباحث الرئيس الكيني مؤخرًا مع رئيس حكومة جنوب السودان سيلفا كير حول هذا المشروع واتفقا عليه؛ لكن التنفيذ سيحتاج لعدة سنوات.

بالإضافة للنشاط التجاري والاستثماري، تسهم كينيا في توفير الموارد البشرية لجنوب السودان الذي يفتقد المهارات في كافة المجالات؛ وذلك بتوفير موظفين وإداريين وعمال وفنيين ، بل وإداريين كبار لتأسيس مؤسسات الحكومة في الجنوب، وتوفير المعلمين للمدارس، واستقبال الطلاب الجنوبيين. وتتولى كينيا الآن تدريب كوادر جنوبية قيادية، وهي تدرك أن ثمة أموالا كثيرة ستكون متوفرة في دولة الجنوب حال إعلان استقلالها، ليس من موارد البترول فحسب بل من الوعود التي أجزلها المانحون من شتى أنحاء العالم، وخاصة من أوروبا وأميركا والمنظمات الدولية للإسهام في إعادة التعمير والبناء في الدولة التي تفتقد كل شيء من البِنى التحتية حتى المشروعات الزراعية.

وعلى الرغم من هذه الآمال الكينية العراض فإن كينيا تتحسب من بعض التحديات؛ فهي تخشى نزاعات حدودية بينها وبين الجنوب خاصة في منطقتي التركانا والتبوسا اللتين شهدتا أحداثا في عامي 2008 و 2010 أدت إلى مقتل بعض رجال الشرطة الكينيين وأُصيب البعض الآخر بجراح، وقد تجددت هذه الاشتباكات منتصف شهر يونيو/حزيران من هذه السنة، إضافة إلى احتمال إثارة قضية مثلث اليمي المختلف عليه، لكنّ خوفها الأكبر من الخطر الذي يمثله عدم الاستقرار في الجنوب سواء كان ذلك بسبب الحروب القبلية الداخلية في الجنوب نفسه أو تجدد الصراع المسلح مع الشمال، وما سينجم عن ذلك من تداعيات سلبية على استثماراتها الضخمة في الجنوب.

أوغندا.. الجار القريب جغرافيا والأقرب تواصلا 

تأمل أوغندا في تقوية علاقاتها الاقتصادية أكثر مع دولة الجنوب الوليدة، وقد وقّعتا اتفاقات تعاون اقتصادي وثقافي واجتماعي خلال المرحلة الانتقالية، وتتطلع أوغندا الآن لأن يمدها الجنوب بالنفط بعد استقلاله بأسعار تفضيلية.
من بين كل جيران دولة جنوب السودان فإن أوغندا هي الأقوى صلة من الناحية الاجتماعية والثقافية والأقرب والأكثر اتصالا، وقد ظلت أوغندا هي الحليف الأقوى لجنوب السودان منذ اندلاع التمرد عام 1955، وزادت هذه العلاقة قوة في المرحلة الأخيرة بسبب العلاقة الحميمة التي ربطت بين الرئيس الأوغندي يوري موسفيني ومؤسس الحركة الشعبية الراحل جون قرنق، وإن كان مقتل الأخير في حادث تحطم طائرة رئاسية أوغندية (كان المفترض أن تكون على درجة عالية من الأمان) ما زال يثير تساؤلات لا تجد أجوبة شافية.

بحكم هذا القرب أصبحت أوغندا اليوم هي الأكثر وجودًا في جنوب السودان، والأكثر انتفاعا من توسع التجارة مع الجنوب وتصدير العمالة إليه. وتشير الإحصاءات المعلنة إلى أن في الجنوب الآن مائة وخمسين ألف أوغندي يعملون في التجارة في معظم أنحاء الجنوب وفي مهن مختلفة. وقد تضاعفت تجارة أوغندا مع الجنوب عدة مرات حتى تجاوزت المليار دولار في العام الماضي، وما زالت أوغندا تطمح في المزيد. وهناك تواجد كثيف للعمالة الأوغندية في قطاع البناء والتشييد الذي يشهد توسعا كبيرًا، وزاد عدد العاملين الأوغنديين فيه على الألف وخمسمائة عامل إضافة لعدد من المهنيين يعملون في المؤسسات الخاصة والوزارات الحكومية. وتم الاتفاق بين الحكومتين على بناء سوق لعرض المنتجات الأوغندية يكلف ثمانمائة وخمسين ألف دولار. وحسب الإحصاءات الرسمية فإن هناك مائة ألف طالب