مستقبل التعاون الاقتصادي في إفريقيا

للتعاون الاقتصادي بإفريقيا فوائد كثيرة، رغم عدم قدرته بمفرده على حل مشكلات القارة ويعود ذلك إلى أن الثمار التي تجنى من التعاون لا يتم الاستفادة منها بشكل متساو في ظل استحواذ الاقتصاديات الكبرى بكل إقليم على الأنصبة الأكبر على حساب الاقتصاديات الأصغر
1_1071847_1_34.jpg

لوك أوبالا

منذ منتصف القرن العشرين، وبعد أن تحقق الكثير من أحلام الشعوب الإفريقية بالتحرر من نير الاستعمار، ما تزال الآمال معقودة على تكوين اتحاد اقتصادي وسياسي يأخذ بيد القارة السمراء إلى تجربة شبيهة بتجربة الوحدة الأوربية، أو على أقل تقدير يدنو بها من نماذج التكتلات الاقتصادية الناجحة التي تشهدها مختلف قارات العالم.

أسئلة تبحث عن إجابات
فوائد التجمع الإقليمي
الثمار المرجوة من التعاون الاقتصادي
عقبات في طريق التعاون الإقليمي

أسئلة تبحث عن إجابات

وفي واقع الأمر، جاء هذا الاهتمام الإفريقي بالتعاون الاقتصادي مدفوعا بنجاح مشروعات التكامل والتعاون الأوربي التي انطلقت فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وما تلا ذلك من إعلان اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "النافتا"، وتحويل "اللجنة الاقتصادية الأوربية" إلى "الاتحاد الأوربي"
حين نبحث في التفاصيل نكتشف أن قضية التكتلات الاقتصادية الأفريقية ليست بهذا القدر من السهولة. إذ يعوزنا في البداية تعيين تلك المسائل المرتبطة بمعضلة التجمع الإقليمي بالقارة، من خلال البحث عن إجابات لأسئلة محورية، في مقدمتها ما المنفعة التي تعود على دول القارة من وراء التجمعات الإقليمية؟ وهل بوسع هذه التجمعات تقديم حلول للمشكلات المعقدة لإفريقيا؟ وما نوعية العقبات التي تواجه مشروعات التعاون الإفريقي؟

وكي يتمكن المرء من تلمس إجابات لهذه الأسئلة فلا بد له من مراجعة رحلة كفاح وصراع القارة الإفريقية في نصف القرن الأخير، محاولا استشراف الطريق الذي تسير فيه نحو المستقبل.

وحري بنا في هذا المقام أن نحدد الأهداف والمآلات المترتبة على أشكال التجمع الإقليمي لما لذلك من أهمية بالغة في رسم ملامح المصالح والمنافع المتوقعة لشعوب وسكان القارة، فضلا عن كشف النقاب عن العقبات التي تحول دون بلوغ تلك الأهداف وسبل تجاوزها.

على مدار العقود الأربعة الماضية، كافحت إفريقيا لتحقيق تكامل إقليمي عند مستويات مختلفة، في محاولة لتلبية طموحات الحركات الشعبية الساعية إلى تحقيق حلم الوحدة الإفريقية، تلك الحركات التي تفجرت خلال حقبة صعود المد القومي قبيل الاستقلال وبعده. ويرجع بعض الباحثين تنامي الاهتمام بفكرة التكامل الإقليمي كرد فعل للتحولات المحورية التي أصابت بنية النظام العالمي برمته.

ولقد شهدت القارة الإفريقية خلال العقود الماضية محاولات متعددة لإحياء مشروعات تعاون إقليمي أصابها التجمد، وبث الروح في مشروعات أخرى انتابها الفشل، وإعادة تنظيم وتعزيز المشروعات القائمة بالفعل، والمبادرة بتشكيل وابتكار مشروعات جديدة.

وفي واقع الأمر، جاء هذا الاهتمام الإفريقي بالتعاون الاقتصادي مدفوعا بنجاح مشروعات التكامل والتعاون الأوربي التي انطلقت فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وما تلا ذلك من إعلان اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "النافتا"، وتحويل "اللجنة الاقتصادية الأوربية" إلى "الاتحاد الأوربي".

وقد واكب ذلك الحراك التعاوني العالمي محاولات إفريقية على نحو ما شهد الاتحاد المغاربي في شمال إفريقيا، والسوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا (الكوميسا) Common Market for Eastern and Southern Africa (COMESA) والجماعة الإنمائية لإفريقيا الجنوبية "سادك SADC".

وينظر كثير من الباحثين إلى إحياء مشروعات التعاون الإفريقي كاستجابة للتوجهات التي ظهرت مؤخرا في الاقتصاد العالمي والنظام الدولي. بينما يذهب فريق آخر إلى أنها تأتي استجابة جماعية لعدد من الدول في أقاليم جغرافية بعينها تهدف إلى التفاعل مع مفردات الواقع الجديد في الاقتصاد السياسي الدولي المعاصر.

وتبقى الحاجة ماسة في إفريقيا لمواجهة احتمالات التهميش، الناتج بشكل خاص عن تزايد إجراءات الحمائية الاقتصادية التي تنتهجها الدول المتقدمة. ومن اللافت للانتباه هنا أن دول الشمال المتقدم في الوقت الذي تمارس فيه إجراءاتها الحمائية تطالب الدول الإفريقية بشكل متزايد بفتح أسواقها أمام التجارة الحرة.

فوائد التجمع الإقليمي

يمثل دافع تحقيق المكاسب النقطة المركزية في أهداف التجمع الإقليمي، فعلى سبيل المثال تحمست كثير من الدول لتقليص الحواجز الجمركية حتى يمكنها الانتفاع بسهولة من أرباح تصدير المنتجات والخدمات.

يذهب بعض الباحثين إلى أن هناك أربعة عوامل رئيسة تقف وراء قيام واستمرار التجمعات الإقليمية، وهي: التشارك الوجداني، التطلع إلى المكاسب، الخوف من المهددات المحيطة، والرغبة في السلطة والسيطرة. فالدول قد تتعاون معا لما بينها من تاريخ مشترك، كما هو في حالة دول شرق إفريقيا، التي تقاربت معا بفعل اشتراك اللغة، والميراث الاستعماري المشترك، والارتباطات العالقة بين مختلف المجموعات العرقية عبر الحدود. غير أنه رغم هذه العوامل إلا أن كافة أشكال التعاون السابق قد باءت بالفشل. ويطرح ذلك أسئلة حول مدى ملائمة دور التشارك الوجداني في تحديد نجاح التجمع الإقليمي.

ويتفق كثير من الباحثين على أن العامل الثاني المتعلق بـ "التطلع نحو المكاسب" هو الأكثر أهمية. وتختلف درجة ومكانة هذا العامل من دولة لأخرى، وإن كان ثمة إجماع على أنه القوة الدافعة الأكبر القادرة على تكوين ودعم بقاء التجمع الإقليمي.

وتنظر الدول الإفريقية إلى المكاسب عند مستويات مختلفة. فالمكاسب قد تكون عالمية المستوى، حيث يجني بعض الدول منافع ومصالح نتيجة اشتراكه في عضوية مؤسسات كبرى كتلك المتعلقة بمفاوضات اتفاقات الشراكة الاقتصادية "الإيبا EPA Economic Partnership Agreements" (وهي المفاوضات التي تتم لخلق منطقة تجارة حرة بين الاتحاد الأوربي والدول الإفريقية ودول البحر الكاريبي ومجموعة دول المحيط الهادئ).

ففي هذه الحالة تستفيد الدول الإفريقية من قوة التعاون الإقليمي حين تفاوض على حزمة من المصالح المشتركة التي لا يمكن أن تحققها بشكل فردي. فهنا تكون المكاسب محورية لضمان بقاء واستدامة عمليات التجميع الإقليمي للدول، بشكل يشبه سلوك الأفراد الذين يسعون لتحقيق أقصى قدر من المكاسب وتحقيق أدنى حد من الخسائر.

ويمثل دافع تحقيق المكاسب النقطة المركزية في أهداف التجمع الإقليمي، فعلى سبيل المثال تحمست كثير من الدول لتقليص الحواجز الجمركية حتى يمكنها الانتفاع بسهولة من أرباح تصدير المنتجات والخدمات. ويحقق هذا بدوره جذبا لمزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتي من المفترض أن تؤدي إلى توفير فرص عمل جديدة للمواطنين.

وقد يتسبب الانشغال بالمكاسب في إثارة توترات شديدة بين الدول المشتركة في التجمع الإقليمي. ويتجلى هذا في حالة "تجمع دول شرق إفريقيا"، و "التجمع الاقتصادي لدول غرب إفريقيا"، و "التعاون التنموي لدول جنوب إفريقيا". ففي هذه الأمثلة هناك دولة واحدة تحقق نفعا أكبر من بقية الدول، استفادة من تلك التنظيمات التعاونية.

ففي مثل هذه المواقف قد تؤثر التوترات بشكل متباين على عمل وفعالية تلك التجمعات الإقليمية. وذلك لأنه ستكون هناك دوما تلك الدول التي تنتفع من التجمع الإقليمي أكثر من غيرها. فعلى سبيل المثال تنتفع كينيا من تجمع دول شرق أفريقيا أكثر من بقية الدول الأعضاء، وفي حالة "الجماعة الإنمائية لإفريقيا الجنوبية" (سادك) فإن دولة جنوب إفريقيا تحقق النفع الأكبر. وفي حالة "تجمع دول غرب إفريقيا" فإن نيجيريا هي المستفيد الأول. ومن ثم يجب أن نعترف أن دولة ما في التجمع الإقليمي ستحقق قدرا أعلى من المكاسب الأمنية والسياسية.

أما العامل الثالث الذي يحكم التجمع الإقليمي فهو "الشعور المشترك بالتهديد"، والذي يترتب عليه رغبة في تحقيق حماية مشتركة وأمن جماعي. ويتحقق ذلك حين تجد الدول نفسها في وضع تهديدي وتحتاج لتحقيق قدر من التعايش السلمي الآمن. وفي هذا الصدد تجد كثير من دول الجوار الإفريقي نفسها يتهددها مصير مشترك. وفي حالات عديدة ينتج التهديد عن قيام جار من الدول المحيطة بممارسة مزايدات على الدول الأخرى. وهنا تبرز أهمية الاندماج في تجمع إقليمي للحد من تلك المخاطر.

أما العامل الرابع والأخير من العوامل التي تدفع الدول إلى الاندماج في تجمعات إقليمية فهو الرغبة في ممارسة السلطة والسيادة. وفي هذا الصدد فإن مسألة تحقيق الاستقرار في الإقليم قضية جوهرية، تتحقق بفعل مساعدة دولة مهيمنة قادرة على تحقيق توازن للقوى في الإقليم.

ولا يتوفر هذا العامل في كثير من حالات التجمع الإقليمي الإفريقي، لكنه حاضر بقوة في حالات أخرى. ففي حالة تجمع دول شرق إفريقيا ليست هناك دولة قادرة على الحفاظ على صفة الدولة المهيمنة، بينما في تجمع "سادك" يمكننا اعتبار دولة جنوب إفريقيا هي تلك الدولة، وفي تجمع "الإيكواس ECOWAS " (التجمع الاقتصادي لدول غرب إفريقيا) تعد نيجيريا هي القادرة على لعب ذلك الدور.

وهناك أمثلة لتلك التجمعات أو المنظمات الإقليمية التي تشكلت أو استمرت على قيد الحياة بفضل ذلك الدور الذي تستطيع دولة رئيسة لعبه بين دول التجمع، على نحو ما تفعل الولايات المتحدة في حالة تجمع "النافتا"، والدور المهيمن الذي كان يلعبه سابقا الاتحاد السوفيتي في تجمع "الكوميكون" المعروف باسم "مجلس العون الاقتصادي المتبادل" الذي كان يجمع الدول الاشتراكية عبر العالم.

وخلاصة القول إن اهتمامات الدول الإفريقية بالتعاون الإقليمي تتمحور حول العديد من قضايا وتحديات التنمية التي تطرح نفسها يوميا. وفي مقدمة تلك القضايا الفقر، والبطالة، والتخلف، والمرض، وضعف الأمن الغذائي، إضافة إلى العديد من المشكلات المزمنة الأخرى.

وعلى نحو ما أشار كثير من الباحثين، فإن اهتمامات الدول الإفريقية من وراء التجمعات الإقليمية تدور حول ثلاثة أهداف كبرى:

• الحد من الفقر، وهو هدف يسعى معظم مخططي التجمعات الإقليمية في القارة الإفريقية إلى تحقيقه. ويتطلب مواجهة هذه القضية تركيزا كبيرا على تنمية ما يعرف باسم "السلع العامة الإقليمية" (والتي تشمل النقل، والطاقة، والمياه، وتكنولوجيا المعلومات) والتي بوسعها تعزيز التجارة بين مختلف الدول والتفاعلات البينية ومن ثم تقليل الفقر ومحاصرته.

• توسعة التكتلات التجارية الإقليمية، ويعد هذا الهدف أصيلا ومحوريا للعديد من دول القارة الإفريقية المنخرطة في تجمعات إقليمية. ويفسر هذا بدون شك لماذا يتم التأكيد دوما على عقد علاقة وثيقة بين التكتلات التجارية وأنماط الاستثمار، خاصة الاستثمار الأجنبي. ويفسر هذا أيضا أهمية التجارة والاستثمار في النمو الاقتصادي والسعي نحو ازدهار طويل الأمد.

وعلى أية حال، يعتبر توفير السلع العامة الإقليمية بمثابة الوسيلة الأكثر فاعلية للحد من الفقر في إفريقيا. وذلك لأنها تساعد المنظمات الإقليمية على استخدام الاقتصاديات ذات الحجم الكبير، وتوزع المنافع بشكل أكثر عدالة مقارنة بما يحققه تطوير التجارة أو الاستثمار.

وفي هذا الصدد، سيكون من المناسب للمؤسسات الإقليمية، والمستثمرين الأجانب، والهيئات التنموية أن تدرك الأهمية المحتملة لما يعرف بـ "ممرات التنمية" وذلك للحد من الفقر، أخذا في الاعتبار أن هذه الممرات هي بمثابة آلية موثوق في قدرتها على نقل وتوصيل السلع العامة الإقليمية.

ويعد الاستثمار في الطاقة (الكهربائية على وجه الخصوص) بمثابة القضية الأخرى ذات الأهمية الكبرى للدول الإفريقية، خاصة أنها أكثر مطالب البنية التحتية إلحاحا لدى هذه الدول. ويعود ذلك إلى أن عدم وجود مصدر دائم ومعتمد عليه من الطاقة، يعد أكبر عقبة أمام الإنتاج والنمو الاقتصادي.

ومع التسليم بأن الاستثمار في توليد الطاقة غالبا ما يكون عالي الكلفة، ورغم أن إفريقيا تشتهر بتصديرها الكبير لمصادر الطاقة، فإن تلك القارة تحتاج لبذل جهود هائلة لتسخير إمكاناتها من الطاقة لمصلحتها الخاصة. وهنا تبرز أهمية التجمعات الاقتصادية الإقليمية لعلاج تلك المشكلة بتكلفة أقل وبحلول ناجحة.

• تحقيق سلطة متجاوزة للقوميات، وهي من المنافع الأخرى الكبرى على المستوى السياسي، وإن كانت ذات تأثير اقتصادي عميق. وتبرز أهمية هذه الفائدة من التجمعات الإقليمية في حالة النزاعات القومية أو الانقلابات العسكرية. وعلاوة على ما سبق، وأخذا في الاعتبار الدور الذي تمكنت تلك المنظمات الإقليمية من لعبه خلال الأزمات التي واجهت القارة الإفريقية، تبرز ثلاث حالات من النزاعات التي دارت حول الانتخابات في كل من كينيا وزيمبابوي وساحل العاج.

ففي كافة هذه الحالات الثلاث كانت أدوار التعاون الإقليمي على درجة عالية من الأهمية. وتلعب اليوم "الجماعة الإنمائية لإفريقيا الجنوبية" (سادك) دورا مهما في البحث عن حل للأزمة السياسية في مدغشقر. ومن ثم فليس من المبالغة القول إنه في السنوات الأخيرة، حققت أفريقيا تقدما عظيما في جني ثمار المفاوضات السلمية لحل النزاعات السياسية. وهي نتيجة تستحق التقدير من كافة الأطراف.

الثمار المرجوة من التعاون الاقتصادي

القارة الإفريقية في حاجة إلى مبادرات معنية بضبط التجارة الإقليمية عبر الحدود من أجل تحقيق تكامل الاق

ABOUT THE AUTHOR