المساعدات الاقتصادية لمصر وتونس: اصطياد الثورات بشباك التبعية

بادرت الدول الغربية إلى عرض مساعدات لتونس مصر ولكن بنفس الشروط وبإشراف المؤسسات التي أدت سياساتها الاقتصادية في الدولتين سابقا إلى الفساد والإفقار وتفاقم المديونية.
1_1067421_1_34.jpg

 

جورج قرم

تركّز اهتمام دول الثمانية الكبرى (1) (G8) في القمة التي انعقدت مؤخراً، في "دوفيل" في فرنسا، على مساعدة كل من مصر وتونس يثير العديد من التساؤلات. وتجعلنا هذه المبادرة التي تلت مبادرة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في الإعلان عن تقديم رزمة من المساعدات إلى مصر، لأهميتها نعيد التأمل حول استدامة تبعية العديد من دولنا العربية للمساعدات الخارجية منذ استقلالها، وبشكل خاص وبدرجة متفاوتة كل من مصر وتونس. ذلك أننا نرى في المقابل العديد من الدول الناشئة التي تمكنت في العقود الأخيرة من الإفلات من مثل هذه التبعية؛ بل في بعض الأحيان قد تحوّلت إلى دول دائنة بالنسبة إلى اقتصاديات الدول الغربية ذاتها وبشكل خاص الولايات المتحدة، بينما كانت في الماضي تعاني من مديونية عالية ومن الاتكال على أنواع مختلفة من المساعدات والقروض الخارجية، ومنها أنواع من تمويل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنوك التنمية الإقليمية (بنك التنمية الآسيوية وبنك التنمية لجزر الكاريبي ودول أميركا اللاتينية) العاملة حسب نموذج وإجراءات شروط البنك الدولي والمكملة لها.

الأقطار العربية قد اعتادت، منذ استقلالها، أن تتكل في المرحلة الأولى، إلى حدّ بعيد، في تنظيم شؤونها الاقتصادية والمالية على تطوير علاقاتها بالدول الأوروبية المستعمرة للمنطقة سابقاً أو صاحبة النفوذ فيها.
والجدير بالملاحظة أن بعض تلك الدول قد مرّت في الماضي بأزمات حادة، اقتصادية الطابع كما في أميركا اللاتينية خلال الثمانينات من القرن الماضي أو جنوب شرق آسيا (1995-1997)، أو في بعض الأحيان سياسية وأمنية الطابع (كما في التايلاند أو في كوريا الجنوبية المهددة عسكرياً من قبل كوريا الشمالية)، ومع ذلك تشهد اقتصاديات تلك الدول، سنة بعد سنة، التقليل من اعتمادها على المساعدات الخارجية وتحولّها إلى شراكة ايجابية وديناميكية في النظام الاقتصادي الدولي والتجارة العالمية، نظرا لتطوير قدرتهم على تصدير المزيد من السلع والآلات والتجهيزات والخدمات التقنية ذات المحتوى العلمي والتكنولوجي الرفيع. وفي المقابل نرى أن العديد من الدول العربية لم تنجح في مثل هذا التحول، وبقيت اقتصادياتها غير متنوعة وغير قادرة على اختراق الأسواق الدولية بسلع ومنتجات وخدمات ذات قيمة مضافة عالية. وهذا ما يفسّر بقاءها أسيرة آليات المساعدة والتمويل الخارجية، مع ما يترتب على ذلك من تبعية سياسية واقتصادية بالنسبة إلى الدول المقدِّمة للمعونات والتسهيلات التمويلية.

لذلك لا بد من تحليل وفحص مبادرة قمة قادة مجموعة الثمانية ووضعها في إطارها الصحيح، وليس في الإطار الإعلامي التسويقي الطابع الذي يحيط دائما بمواقف ومقررات تلك القمم، لنسعى إلى استكشاف النوايا الحقيقية الكائنة وراء ستار الكلمات البرّاقة.

المساعدات الدولية: العود إلى شروط التبعية
نحو تعاظم شبكات النفوذ الغربية أم الإفلات منها؟

المساعدات الدولية: العود إلى شروط التبعية 

1. ماذا يعني إعلان دوفيل حول تأييد الثورتين المصرية والتونسية عبر منح مساعدات "سخية" لهما؟

ثلاث وثائق هامة تفرعّت من هذه القمة يجب الاطلاع الدقيق على محتواها لتبيان نوايا دول مجموعة الثمانية.

الإعلان الرسمي الصادر عن قمة دوفيل
إن الإعلان الرسمي حول نتيجة المداولات بين الأعضاء في القمة جاء بشكل وثيقة طويلة تبدأ بالإشارة إلى التطورات الحاصلة في منطقتي الشرق الأوسط وإفريقيا جنوب الصحراء، مرورا بالتضامن مع اليابان بعد إصابته بكارثة طبيعية خطيرة (الزلزال والتسونامي في 11-3-2011)، وحاجيات إعادة انتعاش الاقتصاد العالمي، والتغيير المناخي والتعدد البيولوجي، والمحاسبة في قضايا التنمية، انتهاءً  بقضايا الأمن والسلام التي تتضمن العديد مما يعتبره القادة الغربيين مشاكل رئيسية يجب حلها وعلى رأسها محاربة الإرهاب، والوضع في ليبيا وسوريا واليمن والمفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية، مع المطالبة الملحة بإطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط ـ وكأن أسر جندي إسرائيلي من قبل مقاومين للاحتلال الإسرائيلي لهي قضية بنفس أهمية القضايا المذكورة سابقا! ـ هذا بالإضافة إلى الكلام المعروف عن إيران (حقوق الإنسان، القمع، تطوير الطاقة الذرية) إلى آخره من الهواجس الأمنية السياسية الغربية.

الإعلان الخاص الصادر عن القمة حول الربيع العربي
وهي وثيقة تحتوي على 18 نقطة، فيها بلاغة مشهودة ومحتوى خطير يتلخص في إطلاق من جانب واحد، أي القادة الغربيين، "شراكة دوفيل" مع الشعوب العربية، يفترض أنها "مبنية على الأهداف المشتركة للمستقبل"، وهي شراكة "كلية" (Global) تشمل كل دول المنطقة، ابتداءً من مصر وتونس، بمشاركة الدول الأخرى في المنطقة، التي تودّ التحوّل إلى قيَم الديمقراطية والحرية، على أساس احترام سيادة الدول والشعوب التي تقع حمايتها على المسؤولية المشتركة للحكومات، وتتطور بناءً للمبادرات التي تمّ اتخاذها من قبل أعضاء مجموعة الثمانية. وحسب الإعلان فإن الشراكة المقررة ستهدف إلى تحقيق الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة من أجل تحديث الاقتصاديات ودعم القطاع الخاص وإنشاء فرص العمل المطلوبة والحصول على منافع العولمة.

وعلى هذا الأساس، يرحب الإعلان بالتقييم الذي قام به صندوق النقد الدولي حول التحوّل الاقتصادي في المنطقة (وهو الوثيقة الثالثة التي سنستعرض محتواها)، والصندوق هو الذي سيسند إليه القادة تمويل الاقتصاديات العربية التي يتحوّل نظامها إلى نظام ديمقراطي، ويمدونه بشتّى أنواع المساعدات. وفي هذا الخصوص، يعتزم قادة المجموعة ضرورة إشراك مؤسسات التمويل الإقليمية (بما فيها البنك الأوروبي لإعادة التعمير والتنمية (EBRD)، (نظراً لخبرته في قضايا تمويل التحوّل إلى الديمقراطية والاقتصاد الحرّ)، في تمويل مثل هذه الشراكة المقررة من جانب واحد، والانتهاء من وضع خطة عمل مشترك من قبل البنك الدولي وسائر مؤسسات التمويل المشتركة؛ كما تعلن دول المجموعة عن استعدادها تقديم مساعدات ثنائية. ويؤكد القادة في هذا الإعلان أن مؤسسات التمويل في إمكانها تقديم أكثر من 20 بليون دولار لمصر وتونس، بالإضافة إلى ما ستقدمه حكومات دول المجموعة بشكل ثنائي.

هذا ويدّعي القادة أنهم سيساعدون دول المنطقة في إقامة "مساحة سياسية لازدهار الديمقراطية والحرية"، وأنهم سيقدمون كل الدعم في هذا المجال، وبشكل خاص حرية التعبير، بما فيه الدور الحاسم لوسائل الإعلام (Media) والانترنت والحرية الدينية. كما ينوي القادة تكليف وزارات الخارجية والمالية لدولهم بالقيام بمراقبة التطورات وتحديد أطر الشراكة هذه مع دول المنطقة.

وثيقة صندوق النقد الدولي المرفوعة إلى قمة دوفيل
إن هذه الوثيقة لا تقلّ خطورة عن الوثيقة السابقة، إذ تحتوي على البرنامج الاقتصادي الذي سيفرض على الدول العربية في السنين القادمة بحجّة مساعدتها على التحوّل السياسي الديمقراطي والتحول الاقتصادي "التحديثي" نحو مزيد من الاندماج في الاقتصاد الدولي عبر إجراءات عديدة لمنح المزيد من الدعم والتشجيع والمزايا للاستثمارات الخاصة، المحلية والأجنبية، في المنطقة.

وينطلق تحليل صندوق النقد الدولي بوصف أوجه القصور في الأداء الاقتصادي في المنطقة، خاصة في مجال النقص في توفير فرص العمل للعنصر الشاب، وضعف الصادرات (خارج قطاع الطاقة)، ومعدلات نموّ أقل من تلك الحاصلة في العديد من الدول الناشئة، وبالتالي النقص في زيادة نمو متوسط دخل الفرد، وزيادة الفوارق الكبيرة في توزيع الدخل لصالح قلة من الفئات المحظوظة.

وانطلاقا من هذا التقييم، يبرر الصندوق "الأجندة" المستقبلية التي يرتئيها للتحول الاقتصادي والاجتماعي، والذي يمكن تلخيصها بالشكل التالي:

  1. بلغ مجمل المساعدات المتراكمة من جميع الجهات المانحة لكل من مصر، تونس، الأردن، المغرب، لبنان، سوريا واليمن بين عامي 1970-2009 ما يوازي 203 مليار دولار (بالأسعار الجارية) خلال هذه الفترة، وقد نالت مصر من هذا المبلغ 88.6 مليار.
    إعادة النظر في دور القطاع العام الذي ما يزال في نظر صندوق النقد يقوم بنشاطات يجب أن تعود إلى القطاع الخاص من حيث إفساح المجال له.
  2. مزيد من تحسين "مناخ الأعمال"  لجذب الاستثمار إلى المنطقة، أي تسهيل معاملات الشركات الخاصة في تعاملها مع الأجهزة الحكومية ودعم حقوق المستثمرين.
  3. تطوير النظم المالية بحيث توفر المزيد من التسهيلات والخدمات للشركات الخاصة المتوسطة والصغيرة الحجم.
  4. إزالة المزيد من العقبات في نُظُم التجارة الخارجية، من ناحية تخفيض التعرفة الجمركية وإزالة العقبات الأخرى أمام تدفق التجارة الدولية.
  5. المزيد من الاندماج في الأسواق الدولية بزيادة درجة انفتاح الأسواق المحلية على الخارج.
  6. تشجيع الاندماج الإقليمي.
  7. إزالة الإجراءات الجامدة وغير اللينة التي تعيق ـ حسب صندوق النقد ـ توسيع سوق العمل، وجعل نُظُم سوق العمل أقل تعقيدا وأكثر سهولة لكي يتجاوب القطاع الخاص مع الإشارات في تحرير الأسواق؛ هذا بالإضافة إلى توفير رزمة من الحمايات الاجتماعية المتكاملة والموجهة إلى الفئات التي هي فعلياً بحاجة إليها.
  8. بناء مؤسسات فعّالة وشفافة.

وتنتهي وثيقة صندوق النقد الدولي تحليلها بالإشارة إلى أن لا بدّ أن يقوم المجتمع الدولي في أخذ العبر من النواقص الماضية في تقديم المساعدة لدول المنطقة لبناء الشراكة المستقبلية. ويرى الصندوق في هذا الصدد أن على قادة مجموعة الثمانية أن يأخذوا بعين الاعتبار ضرورة أن يكون حجم وهدف المساعدات متوازنا مع حاجيات التحول؛ وكذلك أن يكون الدعم محدداً حسب أهداف كل دولة وإيقاع الإصلاح فيها. كما يجب أن يكون الدعم مدموجاً في إطار الشراكة الجديدة مع المنطقة. وأخيرا، يرى الصندوق ضرورة مضاعفة مساهمة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي الذي هو وحده من شأنه أن يحقق أهداف التنمية الشاملة.

من كل هذه الوثائق الثلاث نستنتج مدى اندفاع قيادات الدول الغربية في استيعاب وامتلاك الثورات العربية عبر وسائل قديمة جديدة تهدف إلى أن تكون هي في قيادة وتوجيه التغيرات الحاصلة في المنطقة، كما كان الحال منذ الاستقلال والى يومنا هذا. فمما لا شك فيه أن ثورتي تونس ومصر قد أرعبت وأربكت كلا من الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغنية، كما ظهر جلياً من التناقضات في تصريحات قادة هذه الدول، بين مسؤول وآخر، أو بين يوم وآخر، إلى أن تقرر دعمها لفظياً بقوة وتركها تأخذ مداها بإسقاط أهم رموز الأنظمة الاستبدادية التي كانت قد حظيت بدعم متواصل وقوي من قبل الدول الغربية نفسها على مرّ العقود.

ويبدو أن التصرف الأبوي الغربي المهيمن على المنطقة لم يتغير إطلاقاً فحسب، بل قد زاد شراسة كما يظهر جلياً من قراءة الوثائق الثلاثة التي استعرضناها باقتضاب لإظهار ما فيها من فوقية آمرة ووصاية في جميع الميادين، إذ وصل تجدّد حب الهيمنة، متزعماً دعم الثورات والتحول الديمقراطي، إلى فرض من جانب واحد مشاركة مع دول المنطقة في جميع الميادين التي تهمّ حياة ومصير الشعوب العربية.
والغريب في الأمر قلّة الردود على هذا الموقف الغربي، بل في كثير من الأحيان الترحيب برزمة المساعدات المالية لكل من تونس ومصر.

ولذلك لا بدّ من الغوص في هذه المواقف العربية تجاه ما صدر عن قمة "دوفيل".

نحو تعاظم شبكات النفوذ الغربية أم الإفلات منها؟ 

إن الأقطار العربية قد اعتادت، منذ استقلالها، أن تتكل في المرحلة الأولى، إلى حدّ بعيد، في تنظيم شؤونها الاقتصادية والمالية على تطوير علاقاتها بالدول الأوروبية المستعمرة للمنطقة سابقاً أو صاحبة النفوذ فيها. أما في مرحلة ثانية، وبعد تصفية كل آثار الاستعمار الأوروبي المباشر، فقد تمّ الاتكال على كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.

وفي المرحلة اللاحقة، وبعد زوال العهد الشيوعي في روسيا أصبح الاتكال منصباً على المساعدات الأميركية والأوروبية. ومنذ ذلك الحين، تعاظمت العلاقات الاقتصادية والمالية مع الدول الغربية ومؤسسات التمويل الدولية وبعض المؤسسات الإقليمية، كالبنك الأوروبي للاستثمار وآليات التمويل الخاصة بالاتحاد الأوروبي وما تفرع منها من مشاريع تخص المنطقة العربية، كإقامة منطقة التجارة الحرة الأوروبية المتوسطية، ومن ثم "سياسة الجوار"،  وأخيراً الاتحاد من أجل المتوسط الذي تشكل في باريس عام 2008 بين الاتحاد الأوروبي من جهة والدول المتوسطية من جهة أخرى، بما فيها إسرائيل وتركيا.

وعلى مرّ السنين، كوّنت كل هذه الآليات شبكة واسعة من النفوذ الاقتصادي والمالي، بالإضافة إلى النفوذ الثقافي والسياسي عبر المساعدات المقدمة إلى المنظمات العربية غير الحكومية، خاصة تلك التي تعمل في ميدان حقوق الإنسان ونشر مبادئ الديمقراطية، و المساعدات المقدمة للشأن الاجتماعي المختلفة الطابع، وكذلك التمويل بالقروض صغيرة الحجم للأفراد والوحدات العائلية.

علاوة على ذلك، المساعدات الثنائية الضخمة التي تمنحها الدول الأوروبية والولايات المتحدة عبر أجهزة مختصة مختلفة، والتي تنشط في ميادين عديدة عبر تمويلات تتراوح بين شؤون المياه والكهرباء والري والزراعة والطرقات والمواصلات والموانئ والمطاž

ABOUT THE AUTHOR