التوازن الإستراتيجي في جنوب شرق آسيا، وتأثيراته على الخليج

للحديث عن التحديات الإستراتيجية التي تواجه منطقة الخليج ومضيق هرمز يجب فهم ما يجري من توازنات إستراتيجية في منطقة جنوب شرق آسيا. ذلك أن السياسات الأميركية والصينية في منطقة الخليج لا يمكن مقاربتها بمنأى عن خيارات هذه القوى في جنوب شرق آسيا.
1_1067830_1_34.jpg

 

عبد الجليل زيد المرهون

لا يمكن الحديث عن التحديات الإستراتيجية التي تواجه منطقة الخليج ومضيق هرمز بمعزل عن فهم ما يجري من توازنات إستراتيجية في منطقة جنوب شرق آسيا وتحديدا حول مضيق ملقا وبيئته الجيوسياسية. والأكثر من ذلك، فإن السياسات الأميركية والصينية في منطقة الخليج لا يمكن مقاربتها بمنأى عن خيارات هذه القوى في جنوب شرق آسيا، من هنا تجيء أهمية هذا التقرير.

إن التكنولوجيا الحربية المتقدمة أضحت تلعب دورًا موازنًا لميزات التفوق البشري والجغرافي. وباتت دول صغيرة في الإقليم تتمتع بميزات تنافسية تجاه الدول الأكبر، والأكثر قوة بمعيار الثقل الجيوبوليتيكي العام.
تحتل منطقة جنوب شرق آسيا مركزًا محوريًا في الجيوستراتيجيات الدولية المتنافسة. ويعود ذلك إلى أسباب عدة، بينها موقعها الجغرافي؛ حيث تحتضن مضيق ملقا الذي يربط بين المحيطين الهندي والهادئ، كما تمثل همزة وصل بين آسيا والأوقيانوس. وهي مركز التقاء لثلاث دول كبرى، هي الهند والصين واليابان. كما أن الأمن القومي لدولة كبرى رابعة، هي أستراليا، لا يمكن مقاربته بمنأى عن ظروف هذه المنطقة.

وقد تراجعت مصادر الطاقة الهيدروكربونية في جنوب شرق آسيا، إلا أن المنطقة لا تزال تحتفظ بمكانتها كطريق حيوي لهذه الطاقة. وهي تحديدًا ممر لناقلات النفط المتجهة من الشرق الأوسط وإفريقيا إلى كل من شمال آسيا وأستراليا.

على صعيد البيئة الدولية للإقليم، لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بالمركز الأول في هذه البيئة، وهي قد طوّرت من حضورها الإستراتيجي عبر اتفاقيات متقدمة مع كل من الفلبين وتايلاند وسنغافورة. كما نجحت في إبرام اتفاقية صداقة وتعاون مع رابطة جنوب شرق آسيا (الآسيان).

وعززت الولايات المتحدة -في السياق ذاته- من مستوى قواتها في جزيرة "غوام"، التي تمثل القاعدة المتقدمة للوجود العسكري الأميركي في عموم آسيا الباسيفيك.

وفي إطار الإستراتيجية ذاتها، جرى رفع القدرات الهجومية والاستطلاعية، ومنظومات الدفاع متوسط المدى للأسطول السابع الأميركي، المعني بأمن الباسيفيك.

وعلى صعيد ميزان القوى الإقليمي، شهدت المنطقة، في السنوات العشر الأخيرة، ما يمكن اعتباره إعادة رسم جزئي لخارطة القوة في الإقليم؛ حيث أدت برامج التسلّح الحديثة والمكثفة إلى تراجع نسبي لدور المقومات البنيوية الأولى للقوة العسكرية.

إن التكنولوجيا الحربية المتقدمة أضحت تلعب دورًا موازنًا لميزات التفوق البشري والجغرافي. وباتت دول صغيرة في الإقليم تتمتع بميزات تنافسية تجاه الدول الأكبر، والأكثر قوة بمعيار الثقل الجيوبوليتيكي العام.

أولاً: التسلّح والإنفاق العسكري في جنوب شرق آسيا
ثانيًا: الأشكال الجديدة للتوازنات المحلية
ثالثًا: الإستراتيجية الأميركية الجديدة
رابعًا: تحديات السياسة الصينية في المنطقة

أولاً: التسلّح والإنفاق العسكري في جنوب شرق آسيا 

لقد شهدت منطقة جنوب شرق آسيا، في السنوات العشر الماضية، مستويات متقدمة من الإنفاق العسكري، وأبرمت صفقات تسليح تُعد من بين الأعلى في تاريخها.

مبدئيًا، يحدد حجم الإنفاق العسكري ما تخصصه الدول من ناتجها القومي الإجمالي لمجال الدفاع والأمن، سواء لاستيراد الأسلحة من الخارج، أو تصنيعها محليًا، وللتطوير والبحث العلمي من أجل الارتقاء بالتكنولوجيا العسكرية.

كما يحدد هذا الإنفاق مدى إدراك الدول لوجود تهديد خارجي لأمنها القومي، وما تتكبده من تكلفة مالية للإنفاق على نشاطها العسكري. وهذه التكلفة هي بمثابة مدخلات للقطاع العسكري؛ ولذا فإنها لا تُعتَمَد بمفردها لتقدير القوة الأمنية أو العسكرية، التي هي مخرجات لذلك القطاع؛ فهذه القوة بشقيها، تتوقف على التوازن بين فئات الإنفاق المختلفة ضمن ميزانية الدفاع، والتكلفة، ومستوى التكنولوجيا والتدريب، وعلى الرؤية الإستراتيجية والعقيدة العسكرية المعتمدة.

فعلى مستوى مؤشرات الإنفاق العسكري في دول الإقليم، بلغ الإنفاق العسكري في بروناي 327 مليون دولار عام 2010، نزولاً من 368 مليون دولار عام 1990. وبلغت نسبة الإنفاق العسكري إلى الناتج القومي الإجمالي 3.1% عام 2009، نزولاً من 6.4% عام 1990.

وفي كمبوديا، ارتفع الإنفاق العسكري من 77 مليون دولار عام 1990 إلى 191 عام 2009. وبلغت نسبة الإنفاق العسكري إلى الناتج القومي الإجمالي 1.8% في العام ذاته، نزولاً من 2.1% عام 1990.

وفي إندونيسيا، فاق الإنفاق العسكري عام 2010 الستة مليارات دولار، صعودًا من 1.8 مليار دولار عام 1990. وبلغت نسبة هذا الإنفاق إلى الناتج القومي الإجمالي 0.9% عام 2009، نزولاً من 1.2% عام 1990.

وفي ماليزيا، سجَّل الإنفاق العسكري 3.2 مليار دولار عام 2010، صعودًا من 1.4 مليار دولار عام 1990. وبلغت نسبة الإنفاق العسكري إلى الناتج القومي الإجمالي 2.3% عام 2004، نزولاً من 2.6% عام 1990.

وفي الفلبين، ارتفع الإنفاق العسكري من 971 مليون دولار عام 1991 إلى 1.4 مليار دولار عام 2010. وبلغت نسبة هذا الإنفاق إلى الناتج القومي الإجمالي 0.9% عام 2005، نزولاً من 1.3% عام 1991.

وفي سنغافورة، ارتفع الإنفاق العسكري من 3.1 مليار دولار عام 1991 إلى 7.6 مليار دولار عام 2010.

وبلغت نسبة الإنفاق العسكري إلى الناتج القومي الإجمالي 4.3% عام 2009، نزولاً من 4.7 عام 1991.

وفي تايلاند، ارتفع الإنفاق العسكري من 3.3 مليار دولار عام 1990 إلى 4.3 مليار دولار عام 2010. وبلغت نسبة هذا الإنفاق إلى الناتج القومي الإجمالي 1.9% عام 2009، نزولاً من 2.7% عام 1991.

شهدت منطقة جنوب شرق آسيا، في السنوات العشر الماضية، مستويات متقدمة من الإنفاق العسكري، وأبرمت صفقات تسليح تُعد من بين الأعلى في تاريخها.
وفي فيتنام، ارتفع الإنفاق العسكري من 1.6 مليار دولار عام 1989 إلى 2.4 مليار دولار عام 2010. وبلغت نسبة هذا الإنفاق إلى الناتج القومي الإجمالي 2.5% عام 2009، نزولاً من 7.7% عام 1989.

واستوردت بروناي خلال الفترة من 1999- 2010، أسلحة ومعدات عسكرية بقيمة 92 مليون دولار، فيما بلغت قيمة هذه الواردات في كمبوديا خلال الفترة ذاتها 104 مليون دولار، وبلغت في إندونيسيا 2424 مليون دولار، وفي لاوس 109 مليون دولار، وفي ماليزيا 4670 مليون دولار، وفي ميانمار (بورما) 738 مليون دولار، وفي الفلبين 136 مليون دولار، وفي سنغافورة 6928 مليون دولار، وفي تايلاند 1071 مليون دولار، وفي فيتنام 1824 مليون دولار.

وقد تصدرت الطائرات الحربية قائمة الأسلحة والتجهيزات العسكرية التي استوردتها دول الإقليم خلال الفترة بين 1999 -2010.

فقد استوردت إندونيسيا طائرات حربية خلال هذه الفترة بقيمة 924 مليون دولار، في حين بلغت هذه القيمة في لاوس 102 مليون دولار، وفي ماليزيا 1178 مليون دولار، وفي ميانمار 392 مليون دولار، وفي الفلبين 108 مليون دولار، وفي سنغافورة 3065 مليون دولار، وفي تايلاند 680 مليون دولار، وفي فيتنام 576 مليون دولار.

وعلى صعيد واردات دول الإقليم من السفن الحربية، بلغت قيمة هذه الواردات خلال الفترة بين 1999 -2010، في بروناي 40 مليون دولار، وفي كمبوديا 72 مليون دولار، وفي إندونيسيا 1039 مليون دولار، وفي ماليزيا 2069 مليون دولار، وفي ميانمار 120 مليون دولار، وفي الفلبين 22 مليون دولار، وفي سنغافورة 2117 مليون دولار، وفي تايلاند 113 مليون دولار وفي فيتنام 690 مليون دولار.

ثانيًا: الأشكال الجديدة للتوازنات المحلية 

تتفاوت الكتلة الديموغرافية لدول الإقليم على نحو قد يكون الأكبر من نوعه ضمن أقاليم العالم المختلفة. بيد أن هذا التفاوت في المؤشرات الديموغرافية لم ينعكس آليًا على مستويات وأحجام القوة العسكرية البشرية في الإقليم.

فوفقًا لمؤشرات العام 2010، تمتلك فيتنام أكبر جيش (قوات برية) في جنوب شرق آسيا، بواقع 412 ألف جندي، تليها ميانمار بواقع 350 ألف جندي، فإندونيسيا 233 ألفًا، فتايلاند 190 ألفًا، ثم الفلبين 80 ألفًا، وماليزيا 80 ألفًا، ثم كمبوديا 75 ألفًا، وسنغافورة 50 ألفًا، وأخيرًا لاوس 25.6 ألفًا.

وفي صورة أخرى للتفاوت، يمكن ملاحظة تباين كبير على صعيد التركيب القطاعي للقوات؛ فالقوة الكبيرة للجيوش الأرضية لم تنعكس بالضرورة على حجم القوات الجوية أو البحرية. ويعود ذلك إلى طبيعة العقيدة العسكرية السائدة، والنظرية الأمنية المعتمدة، والسمات الجغرافية للدولة، وحجم الإمكانات التقنية والمادية المتاحة.

وحسب مؤشرات عام 2010، تمتلك تايلاند أكبر قوة جوية في الإقليم من حيث عدد القوات، بواقع 46 ألف عنصر، تليها فيتنام بواقع 30 ألف عنصر، وإندونيسيا 24 ألفًا، والفلبين 16 ألفًا، فماليزيا 15 ألفًا، ثم سنغافورة 13.5 ألفًا، ولاوس 3.5 آلاف وكمبوديا 1.5 ألف.

كذلك، تمتلك تايلاند أكبر قوة بحرية في الإقليم، بواقع 69.8 ألف عنصر، تليها إندونيسيا بواقع 45 ألف عنصر، ثم الفلبين 24 ألفًا، فماليزيا 14 ألفًا، ثم فيتنام 13 ألفًا، وسنغافورة 9 آلاف وكمبوديا 2.8 ألف.

على مستوى القدرات التسليحية، تتقدم تايلاند على صعيد سلاح الجو؛ حيث يتشكل أسطولها من 307 طائرة حربية، تليها فيتنام بواقع 279 طائرة، وإندونيسيا 256 طائرة، وسنغافورة 167 طائرة، وماليزيا 97 طائرة، والفلبين 81 طائرة، ولاوس 44 طائرة، وكمبوديا 35 طائرة.

وعلى الرغم من ذلك، فإنه على صعيد الطائرات الحربية المصنفة كطائرات حديثة، تأتي سنغافورة على رأس القائمة، بواقع 60 طائرة، تليها تايلاند بواقع 50 طائرة، ثم ماليزيا 24، وإندونيسيا 16، وفيتنام 11 طائرة.

وربما أمكن القول: إن سنغافورة وتايلاند أضحتا متقاربتين على صعيد القوة الجوية، وهما متقدمتان بمسافات كبيرة على بقية دول المنطقة.

على صعيد الأسلحة البرية، تأتي فيتنام على رأس القائمة، وتحديدًا لجهة عدد الدبابات التي بحوزتها؛ حيث تبلغ 1935 دبابة. وهي في مجملها قديمة، من طرازات (T-34)، (T-54)، (T-62)، (Type-59 )، (Type 62/63) و(PT-76 ).

من ناحيتها، تمتلك تايلاند 793 دبابة، من بينها دبابات (Type-69 )، (M48A5)، (M60A1 )، (Scorpion )، (M41 ) و(Stingray ).

وتمتلك إندونيسيا 455 دبابة من طرازات (AMX13)، (Scorpion ) و (PT-76).

وتمتلك سنغافورة 450 دبابة، بينها 350 دبابة خفيفة من طراز (AMX13 ). وتمتلك ماليزيا عددًا من دبابات (Scorpion )، و(PT-91M ).

وعلى صعيد عدد المدفعيات، تمتلك فيتنام 3040 قطعة مدفعية، وتايلاند 2473 قطعة، وإندونيسيا 1010، وماليزيا 436، وكمبوديا 428، وسنغافورة 335، والفلبين 282.

وعلى صعيد القدرات البحرية، تمتلك سنغافورة أربع غواصات، وماليزيا غواصتين وإندونيسيا غواصتين. وقد باتت الغواصات الحديثة معيارًا رئيسيًا للقدرات البحرية. بل هي عروس البحر.
وعلى صعيد الفرقاطات الصاروخية، تمتلك تايلاند 8 فرقاطات، وإندونيسيا سبع  فرقاطات، وسنغافورة ست فرقاطات، وماليزيا فرقاطتين.

وتُعد الفرقاطات، هي الأخرى، إحدى أهم أسلحة القوات البحرية، فهي تقوم بمهام البحث والملاحقة والقتال ضد الأهداف الجوية، والأهداف المتواجدة فوق وتحت سطح الماء، إضافة إلى حراسة الحدود البحرية الدولية.

والفرقاطات الحديثة قادرة على التسلح بسلاح قوي وثقيل، بما في ذلك صواريخ مضادة للسفن، كما تحمل على متنها مروحيات عسكرية.

من جهة أخرى، يوجد لدى دول الإقليم عدد من الزوارق الصاروخية الحديثة وشبه الحديثة؛ فتمتلك فيتنام 18 زورقًا صاروخيًّا، وماليزيا ثمانية زوارق، وتايلاند ستة، وإندونيسيا أربعة زوارق.

تتفاوت الكتلة الديموغرافية لدول الإقليم على نحو قد يكون الأكبر من نوعه ضمن أقاليم العالم المختلفة. بيد أن هذا التفاوت في المؤشرات الديموغرافية لم ينعكس آليًا على مستويات وأحجام القوة العسكرية البشرية في الإقليم.
وفي إطار عمليات التسلّح البحري الجارية في الإقليم، تعمل فيتنام في الوقت الراهن، على تجديد القاعدة البحرية في خليج (Cam Ranh)، التي كانت إحدى رموز الحرب الباردة في جنوب شرق آسيا.

ويعد تجديد هذه القاعدة جزءًا من صفقة قيمتها مليارا دولار، تم توقيعها في العام 2009 بين هانوي وموسكو، وتضمنت كذلك شراء ست غواصات من طراز (Kilo-class)، سوف يجري وضعها في هذه القاعدة، وذلك عند استلامها اعتبارًا من العام 2013.

وفي أحد أبعاده، يندرج إقامة هذه القاعدة في إطار رغبة فيتنام في لعب دور ما في التنافس الأميركي-الصيني في منطقة الباسيفيك، كما يندرج في سياق النزاع الصيني الفيتنامي، الدائر على عدد من الجزر في بحر الصين الجنوبي.

إلى ذلك، تعتبر تايلاند الدولة الوحيدة في الإقليم، وقارة آسيا عامة، التي تمتلك حاملة طائرات.

وهناك فقط ثماني دول في العالم تمتلك حاملات طائرات، هي: الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والأرجنتين وإسبانيا والبرازيل وتايلاند. ولا تمتلك دول مثل روسيا والصين والهند حتى الآن مثل هذه السفن، التي باتت رمزًا للمكانة الجيوسياسية للدول.

ولا تستطيع حاملات الطائرات العمل وحدها، بل تحتاج إلى زوارق وفرقاطات وسفن مساعدة.

وفي المجمل، تحتاج الدول المختلفة إلى بوارج حربية متعددة المهام، مثل مواجهة البوارج والغواصات، وتأمين الدفاع الجوي، ومساندة جنود البحرية أثناء عمليات الإنزال.

ثالثًا: الإستراتيجية الأميركية الجديدة 

على صعيد الإستراتيجية الأميركية في جنوب شرق آسيا، يمكن ملاحظة ثلاثة مستويات للحضور الأميركي: حضور إستراتيجي في الممرات الحيوية في المحيطين الهادئ والهندي، وتعاون عسكري ودفاعي مع دول الإقليم، وروابط سياسية ومدنية، ثنائية ومتعددة.
ونحن، بهذا المعنى، أمام حضور متعدد الأوجه، ذي طبيعة مركبة.

على صعيد الحضور الأميركي في المحاور والممرات الإستراتيجية في الباسيفيك، ترابط للولايات المتحدة في مياه الباسيفيك ثماني غواصات نووية مزودة ب

ABOUT THE AUTHOR