قراءة في نتائج الانتخابات التركية الأخيرة

يتجه حزب العدالة والتنمية بعد فوزه بالانتخابات نحو إجراء تعديلات دستورية تعطي المزيد من الحريات الديمقراطية والفكرية والدينية، وتحد من فرص حدوث انقلابات العسكرية، وسيحاول حل الأزمة الكردية عن طريق تحقيق المزيد من الحريات والحقوق
1_1067647_1_34.jpg

رويترز

برهان كورأوغلو

أدلى المواطنون الأتراك بأصواتهم في الانتخابات التشريعية التي أُجريت في الثاني عشر من شهر يونيو/حزيران الجاري، والتي اعتبرت واحدة من أهم العمليات الانتخابية في تاريخ تركيا الحديثة. وبوصول عدد المقترعين إلى حوالي خمسين مليون شخص بنسبة مشاركة بلغت 86.7%، تجاوزت هذه الانتخابات سابقتها التي كانت عام 2007 وبلغت نسبة المقترعين حينها 84.5%.

وقد تم الإعلان عن فوز كاسح لحزب العدالة والتنمية للمرة الثالثة على التوالي حصد فيها أصوات نصف الناخبين وأهّلته ليحصل على 326 مقعدا نيابيا من أصل 550 من مقاعد مجلس الأمة التركي. أما الأحزاب الأخرى فقد جاءت نتائجها على النحو التالي: نال حزب الشعب الجمهوري 26% من الأصوات وحاز 135 مقعدًا نيابيًا. ونال حزب الحركة القومية 14% من الأصوات وحصل على 53 مقعدًا نيابيًا. أما حزب السلام والديمقراطية الذي يهدف -كما يقول- إلى رعاية حقوق المواطنين من الأصول الكردية فلم يحقق الحد الأدنى من النسبة التي حددها قانون الانتخاب للتمثيل الحزبي وهي 10% من مجموع الأصوات، فحصل على ما نسبته 6% فقط؛ لذلك سيتم تمثيل المنطقة التي فاز بها أعضاؤه عن طريق النواب المستقلين على مستوى الدولة، والذين بلغ عددهم 38 نائبا.

ومن الأهمية بمكان تحليل هذا النجاح الذي حققه حزب العدالة والتنمية، والتراجع الذي حل بالأحزاب الأخرى، وانتشار حزب العدالة والتنمية في عموم مناطق الدولة، والانعكاسات المتوقعة لهذا الفوز. كما يحمل هذا التحليل أهمية خاصة للقارئ العربي، نتيجة للتطورات التي شهدتها العلاقات التركية-العربية في السنوات الأخيرة.

الفوز الكاسح للعدالة والتنمية
أوضاع الأحزاب الأخرى في الانتخابات
وسائل الإعلام والحملات الدعائية
نتائج الانتخابات والرؤية المستقبلية

الفوز الكاسح للعدالة والتنمية

حزب العدالة والتنمية لم يعد حزبا محصورًا بالشريحة المحافظة من الجمهور التركي، بل أصبح يلاقي تأييدا من قطاعات شعبية مختلفة. أما النقطة الأهم في كل هذا، فهي أن هذا الحزب حقق نجاحا متصاعدا للمرة الثالثة على التوالي، رغم الأوضاع السياسية والاقتصادية المتأزمة على المستويين الداخلي والخارجي
عند النظر إلى خريطة نتائج الانتخابات، يتبين أن حزب العدالة والتنمية حل بالمرتبة الأولى في أغلبية المحافظات التركية، أما حزب الشعب الجمهوري المؤسس الأول للدولة التركية والمتمسك بوصف نفسه حزبًا "اجتماعيًا ديمقراطيا" فقد اقتصر فوزه هذه المرة على سبع محافظات تركية فقط، في حين حقق حزب السلام والديمقراطية، ذو النزعة القومية الكردية، نجاحا على مستوى بعض المدن التي يقطنها المواطنون من أصول كردية في جنوب شرقي الأناضول.

وبالعودة إلى حزب العدالة والتنمية نجد أنه فاز بـ 66 محافظة من أصل 81 محافظة، وارتقى في بعض المحافظات ليصبح في المرتبة الأولى شعبيا بعد أن كان في المرتبة الثانية فيها، حتى إن الفرق بينه وبين حزب الشعب الجمهوري في مدينة إزمير، قلعة حزب الشعب الجمهوري تقلّص. كما زادت نسبة نجاح حزب العدالة والتنمية في المناطق التي تعتبر مؤيدة تقليديا له، مثل: قونية وقيصري ومدن سواحل البحر الأسود وغيرها، أما مدينة إسطنبول أكبر المدن التركية فقد حافظ الحزب على تقدمه فيها بفارق واضح.

ومن هنا يمكن التأكيد أن حزب العدالة والتنمية لم يعد حزبا محصورًا بالشريحة المحافظة من الجمهور التركي، بل أصبح يلاقي تأييدا من قطاعات شعبية مختلفة. أما النقطة الأهم في كل هذا، فهي أن هذا الحزب حقق نجاحا متصاعدا للمرة الثالثة على التوالي، رغم الأوضاع السياسية والاقتصادية المتأزمة على المستويين الداخلي والخارجي. 

أسباب النجاح

يمكن القول: إن أسباب النجاح التي حققها هذا الحزب تعود للعوامل التالية:

1. النجاحات الاقتصادية المتحققة.

2. النجاحات على مستوى السياسة الخارجية.

3. التقدم الذي حدث في مجال الحريات العامة على مختلف الأصعدة، والذي نتج عن الإصلاحات القانونية التي بدأت بعد عام 2002.

4. المواقف المبدئية التي اتخذتها الحكومة من مؤسسات الدولة والمؤسسة العسكرية خاصة.

5. الشخصية القيادية النموذجية لرئيس الحكومة السيد رجب طيب أردوغان.

أوضاع الأحزاب الأخرى في الانتخابات

مثلت الفترة التي استلم فيها حزب العدالة والتنمية قيادة الحكومة التركية، مصدر إزعاج للأحزاب التركية المعارضة -مثل حزب الحركة القومية وحزب الشعب الجمهوري- التي شكّلت في المراحل السابقة حكومات ائتلافية، ولا تزال تنتظر الفرصة السانحة لتعود مرة أخرى وتسيطر على مقاليد الحكومة

مثلت الفترة التي استلم فيها حزب العدالة والتنمية قيادة الحكومة التركية، مصدر إزعاج للأحزاب التركية المعارضة -مثل حزب الحركة القومية وحزب الشعب الجمهوري- التي شكّلت في المراحل السابقة حكومات ائتلافية، ولا تزال تنتظر الفرصة السانحة لتعود مرة أخرى وتسيطر على مقاليد الحكومة، لاسيما حزب الشعب الجمهوري؛ حيث تجددت آماله بتحقيق تقدم معتبر بعد تولّي كمال كيلغدار أوغلو منصب القيادة فيه ليحل محل دينيز بايكال الذي أُجبر على الاستقالة إثر فضيحة جنسية. ويشار إلى أن هذا الحزب خاض تجربتين فاشلتين في الانتخابات التشريعية السابقة.

وقد اتخذ حزب الشعب المشار إليه أعلاه في الآونة الأخيرة توجهات مختلفة عن السنوات السابقة، فلم يعد يتبنى دعايات ضد التوجهات الدينية لحزب العدالة والتنمية، أو التركيز على القضايا القومية، أو اتخاذ مواقف سلبية من الدين والمتدينين أو من القضية الكردية، حتى إن قيادييه صرحوا بأنهم لا يقفون ضد الحريات الدينية. كما عبر كمال كيلغدار أوغلو عن نيته في التوجه إلى مخاطبة الجماهير في مناطق شرق تركيا عن طريق تنظيم لقاءات جماهيرية معهم، ولا يخفي كيلغدار أوغلو هويته العلوية بهدف الحصول على تأييد أبناء الطائفة العلوية الذين يُعتبرون مؤيدين كلاسيكيين لحزبه، على الرغم من حالة الجفاء التي سادت بين العلويين والحزب في الآونة الأخيرة. كما أنه على الرغم من وقوف قياديي الحزب ضد الإجراءات التي تبنتها الحكومة التركية في طريق الانضمام للاتحاد الأوربي في السنوات الأخيرة، إلا أنهم لم يتخذوا أي موقف إيجابيا كان أم سلبيا في هذه المرحلة، وآثروا الصمت إزاءها.

وبالرغم من أن حزب الشعب الجمهوري قد زعم أنه قادر على تحقيق التطلعات الاجتماعية والديمقراطية، وأنه بوسعه أن يتجاوز السلبيات التي ادعى وقوعها في عهد حزب العدالة والتنمية، إلا أنه من الناحية الواقعية فقد الكثير من مكانته وأصواته الانتخابية نتيجة الخطأ المهم الذي وقع فيه، ويتمثل في ترشيحه لأشخاص أكاديميين وإعلاميين تورطوا في قضية محاولة الانقلاب العسكري للإطاحة بالحكومة عام 2007، والمعروفة باسم "أرغاناكون".

وبالرغم من فعالية كيلغدار في الحملة الانتخابية مقارنة بخلفه دينيز بايكال، إلا أن حزبه ما يزال بعيدا عن تطلعات النخب والجماهير التركية، ويفتقر إلى شخصية القائد النموذجي مقارنة بأردوغان، إلا أنه يمكن القول: إن للمقاربات الجديدة التي اتخذها كيلغدار الدور الأكبر في الزيادة التي حدثت في نسب الناخبين، مقارنة بما حصل عليه الحزب في الانتخابات السابقة، والتي ارتفعت من 21 إلى 25% بواقع 135 مقعدا من مقاعد البرلمان، بالإضافة إلى استفادته من امتيازات نظام العملية الانتخابية. وتشير هذه الأرقام بطبيعة الحال إلى مدى بُعد تطلعات حزب الشعب الجمهوري عن واقعه الحالي، كما ستظل مسألة تسلمه للسلطة بعيدة المنال لاسيما إذا لم تتغير ذهنيته التي تأثرت بنظام الحزب الواحد، والتي استلم فيها السلطة في الفترة بين عامي 1923-1947.

ومن جهة أخرى واصل حزب الحركة القومية استخدام التصريحات القومية الشديدة، وشن حملات سياسية مناهضة لسياسات حزب العدالة والتنمية وفق هذا المنطق، وضد الخطابات الكردية القومية التي يتبناها حزب السلام والديمقراطية. ومع ظهور الفضائح الجنسية بين قيادات الحزب في هذه المرحلة استقر الأمر به على استقالات لرموزه القيادية واستبدالها بوجوه أخرى.

ومن هنا ظهرت تقديرات باحتمال أن تنخفض نسبة تمثيل الحزب إلى ما دون الـ 10% استنادا إلى دور العامل الديني والأخلاقي في الانتخابات، لكن بروز ادعاءات مفادها أن هناك مؤامرة تجري من أجل إفشال الحزب، رفعت من أسهمه في الاستفتاءات قبل الانتخابات من 10% إلى 13%، كما ذكرت بعض التحليلات أن قادة حزب الشعب الجمهوري قد قاموا بدعم حزب الحركة القومية لاعتقادهم أن حزب العدالة والتنمية ستزداد قوته مع خسارة حزب الحركة القومية. وبالرغم من التباعد الأيديولوجي بين حزب الشعب الجمهوري -اليساري الهوى، والمتمسك بالديمقراطية الشيوعية- وحزب الحركة القومية، إلا أنهما يلتقيان مع بعضهما البعض في مواجهة حزب العدالة والتنمية للحيلولة دون تسلمه للسلطة.

أما بالنسبة لحزب السلام والديمقراطية فهو يعتمد بشكل أساسي على المطالبة بالحقوق الكردية، ويُتهم بأن له علاقات سرية مع حزب العمال الكردستاني الموصوف بـ"الإرهابي" داخل تركيا، وقد حصل على بعض التعاطف من مؤيدي عبدالله أوجلان زعيم حزب العمالي الكردستاني المسجون في تركيا. لكنه في المقابل زاد من أسهم أصحاب مقاربة الحل الأمني للمسألة الكردية، الذي يُعتبر حزب الحركة القومية من أنصاره، وتسبب بتقويض مبادرات حزب العدالة والتنمية التي اعتمدت الانفتاح الديمقراطي والطرق السياسية والسلمية في التعامل مع المسألة الكردية.

وقد اتجه حزب السلام والديمقراطية إلى زيادة حدة التوتر عن طريق مبادراته اللاسلمية، من خلال مهاجمة المقرات الانتخابية لحزب العدالة والتنمية، وإلقاء الزجاجات الحارقة على مدارس الأئمة والخطباء، والدعوة إلى الأذان باللغة الكردية كما كان الأذان باللغة التركية في الأربعينيات من القرن الماضي، وقد تركت هذه الأعمال آثارا سلبية في نفوس المواطنين من الأصول الكردية الذين يعتزون بهويتهم المسلمة، وفتح هذا المجال أمام تكهنات وتساؤلات جدية حول الهوية الدينية لحزب السلام والديمقراطية.

وبالرغم من أن حزب السلام والديمقراطية قد وضع في قائمة الترشيح شخصيات إسلامية، مثل ألتان تان إضافة إلى الشخصيات اليسارية الكردية، إلا أن تصريحاته حول علاقة الأكراد بالزرادشتية، ومهاجمة المدارس الدينية للأئمة والخطباء، والدعوة إلى الأذان بالكردية، دلت على رجوع هذا الحزب عن انفتاحه على الهوية الإسلامية. ولكن بالرغم من ذلك نجح الحزب بالتعاون مع القوى اليسارية في بعض المناطق، وعن طريق الاستفادة من نظام العملية الانتخابية بالحصول على 38 مقعدا نيابيا لنواب مستقلين.

أما بالنسبة للأحزاب التي حققت نسبًا دون الـ 1%؛ فعادة ما يتم شطبها من قائمة المنافسة الانتخابية.

ويلاحظ أن الناخبين أصحاب التوجهات اليمينية المحافظة قد اتجهوا إلى انتخاب أعضاء حزب العدالة والتنمية، أما أصحاب التوجهات اليسارية والعلمانية فإنهم اتجهوا نحو انتخاب حزب الشعب الجمهوري وحزب المجتمع الديمقراطي، ويعود هذا التوجه إلى النسبة التي فرضها قانون الانتخاب للتمثيل الحزبي في البرلمان والتي حددها بـ 10%، فحتى ولو حصل أي حزب على 100% من الأصوات في منطقة معينة دون وصوله إلى هذه النسبة الإجمالية على مستوى الدولة، فسيبقى دون اعتبار، ومن هنا فإن الناخب الذي يرى أن حزبه لن يستطيع الوصول إلى نسبة الـ10 % من مجموع الأصوات، يتجه تلقائيا إلى انتخاب واحد من الأحزاب الكبرى الأخرى.

وسائل الإعلام والحملات الدعائية

ومن الميزات المهمة التي اصطبغت بها الدعاية الانتخابية لحزب العدالة والتنمية، تبنيه مشاريع إستراتيجية ضخمة في أهم المناطق التركية لتتحقق مع الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية
من التطورات المهمة التي شهدتها هذه الانتخابات كذلك مقارنة بسابقاتها؛ التخفيف من حدة الانتقادات الإعلامية الموجهة ضد حزب العدالة والتنمية وغيره من الأحزاب المحافظة الأخرى؛ حيث كانت وسائل الإعلام تتجه بشكل مباشر إلى دعم حزب الشعب الجمهوري، لكنها خففت من حدة توجهاتها هذه في هذه المرحلة، وما زالت أهم المحطات التلفزيونية والصحف التركية التي تتبنى أفكار الصحف الأجنبية مثل "إيكونومست" و"نيويورك تايمز" تتبنى فكرة دعم حزب الشعب الجمهوري وانتقاد حزب العدالة والتنمية.

ويمكن أن يكون لتوجهات السياسة الخارجية التركية التي تبناها حزب العدالة والتنمية -من خلال إقامة علاقات طيبة مع الدول الإسلامية ووقوفها في مواجهة المقاربات الصهيونية- دور في ظهور هذه الانتقادات الداخلية والخارجية لها.

ومن ناحية أخرى، وجَّه حزب العدالة والتنمية دعايته الانتخابية إلى مختلف قطاعات الشعب التركي ومختلف المناطق الجغرافية ابتداء من المدن الكبرى حتى القرى الصغيرة، كما قام حزبا الشعب الجمهوري والحركة القومية بتوجيه دعايتهم الانتخابية إلى مناطق جديدة في الأناضول لم يزوروها من قبل، ليدخلوا مرحلة مهمة من الانفتاح على قطاعات شعبية جديدة.

ABOUT THE AUTHOR