الاتحاد الخليجي: الخلفية والتوقيت والتداعيات

تعاني دول الخليج من مثلث ضعف، أو انكشاف تتكون أضلاعه من الانكشاف الرمزي والدبلوماسي و التنموي؛ ما فتح الباب لتهديد مصالحها. طرحت السعودية فكرة الاتحاد الخليجي كوسيلة لمعالجة هذا الانكشاف، لكن تحقيق الاتحاد بالشكل الذي يحقق الغاية، دونه ما دونه من العوائق.
201211713014381734_2.jpg

دعوة العاهل السعودي لقادة دول الخليج العربي، إلى الانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد لم تكن ارتجالية ولا وليدة اللحظة (الجزيرة)

تعاني دول الخليج العربي من مثلث ضعف، أو انكشاف (تتكون أركانه من الانكشاف الرمزي والانكشاف الدبلوماسي والانكشاف التنموي)؛ مما فتح الباب لتهديد مصالحها. طرحت السعودية فكرة الاتحاد الخليجي كوسيلة لمعالجة هذا الانكشاف. لكن تحقيق الاتحاد بالشكل الذي يحقق الغاية، أي معالجة الضعف وتوفير الأمن وحماية المصالح، دونه ما دونه من العوائق. وأخطر هذه العوائق هي عقبة المصالح الذاتية للنخب الحاكمة في الخليج، وتعريف المواطن الخليجي وعلاقته بالسلطة؛ ومن ثَمَّ بناء مؤسسات تضمن استمرار واستقرار الاتحاد.

سنحاول في هذه الورقة تناول ثلاث محاور رئيسية: 1- الخلفية (مثلث الانكشاف)، 2- التوقيت (طرح فكرة الاتحاد في هذه الفترة الزمنية)، وأخيرًا 3- التداعيات (النخب الحاكمة، المواطن والسلطة، والمؤسسات الاتحادية).

وقبل البدء، نود التذكير بأن دعوة العاهل السعودي لقادة دول الخليج العربي، في القمة الخليجية الثانية والثلاثين التي عُقدت في الرياض في التاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول 2011، إلى الانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد لم تكن ارتجالية ولا وليدة اللحظة، بل هي فكرة تم الترتيب والتخطيط لها منذ فترة. ونستدل على ذلك ببعض المؤشرات السعودية الداخلية والإقليمية، من أهمها سعي السعودية للتوصل إلى توافقٍ ما مع دولة الإمارات العربية المتحدة فيما يخص مقر البنك الخليجي المركزي، بعد أن تسبب إصرار كلا البلدين على استضافته في عرقلة إنشائه. وإغلاق هذا الملف مطلب أساسي قبل الحديث عن الاتحاد. ومن المؤشرات أيضًا، محاولة السعودية تمهيد عملية الاتحاد مع بقية الدول الخليجية عبر إزالة العقبات السياسية الداخلية، ومنها ملف الانتخابات، بما في ذلك مجلس الشورى، وإعطاء المرأة حقوقها السياسية. لتلتحق السعودية ببقية الدول الخليجية في هذا الجانب.

1- الخلفية

الكلام عن الانتقال من حالة التعاون إلى حالة الاتحاد له ما يبرره في حاجة دول الخليج العربي لتوفير الأمن لنفسها. هنالك ميزان قوة وضعف، وحضور عوامل تهديد وخطر. ومن الواضح أن الميزان ليس في صالح دول الخليج؛ ولذلك تحاول دوله الست جعل هذا الميزان في صالحها من خلال تبني فكرة الاتحاد. إذًا، فنحن أمام حالة انكشاف، ولسنا أمام إيران أو غيرها من اللاعبين الإقليميين؛ فدور إيران يقتصر على مجرد تذكير دول الخليج بانكشافها.

إنَّ إيران مجرد نتيجة، وليست سببًا. ولو لم تكن إيران لكان غيرها إيرانات أخرى. ولو كانت إيران جارة لألمانيا أو فرنسا لما نظر إليها جيرانها كما ينظر دول الخليج إليها الآن. ينبغي إذاً على المحللين والمخططين الإستراتيجيين الخليجيين التنبه إلى أن مدخل إيران كلاعب في منطقة الخليج ليس عبر "متعاونين" معها كما في دول مجاورة، ولا في قوة تمتلكها هذه الدولة، بل مدخلها الرئيسي إلى الخليج يكمن في ضعفه. إن دول الخليج التي تحاول أن توصد أبوابها وتُحكم إقفالها في وجه إيران، هي ذاتها التي تهرّب إليها المفاتيح من تحت الأبواب وعبر إحداث الثقوب في الجدران.

وأخطر ضعف تعيشه دول الخليج هو الضعف الرمزي. وهو أشد أنواع الضعف فتكًا؛ وعندما نستخدم مصطلح القوة الرمزية فنحن نشير إلى تبني المؤسسة الثقافية الرسمية لكافة مكونات الإنسان والمكان، دون التقيد بأزمنة محددة، بما يسمح للمعرفة بالتحرر من قيود السلطة. نحن بصدد الحديث عن الرمز لأن السلم الاجتماعي قائم على ركن أساسي هو الانتماء. والرمز هو مقياس هذا السلَّم. وبمعنى آخر، الرمز هو مقياس الانتماء؛ فضعف الثاني يعكس ضعف الأول، والعكس صحيح. حينما يكون الرمز ضعيفًا، فهذا يدل على سيطرة فئات وجهات لا تمثل الشارع كله. ويتبع ذلك أن مصالح هذه المجموعات المتنفذة هي المرعية، على حساب مصالح الوطن. وسنتناول هذه النقطة بشيء من التفصيل.

من الواضح أن الانتماء لا يزال ملفًا غير محسوم في دول الخليج العربي الست بلا استثناء. من هذا المنطلق، يجوز لنا القول بأن السلم الاجتماعي في الخليج مهدد لعدم بناء هذا الانتماء. ويتكون الانتماء من الهوية والشراكة؛ فإذا تم الاعتراف بكافة الهويات؛ ومن ثم إشراكها، هنا يتحقق الانتماء. الانتماء أشمل وأعم من الهوية، لأن الانتماء يجمع والهوية تفرق. ولا يتم استحضار الهوية إلا إذا تمت استثارتها بما يقابلها. فاستحضار الحضري يكون في مقابل البدوي. ولكن عندما تحتوي الشراكةُ الهويةَ، تتحول إلى انتماء؛ فالشراكة هي التي تنزع فتيل التفرقة. والرمز هو الوعاء الذي يسمح للهوية والشراكة بالتمازج للتحول بعد ذلك إلى انتماء.

عندما نستخدم مفردتي "هوية" و"شراكة" فإنما نحن نتحدث عن هوية المواطن وعن شراكته في بناء بلده، وفي اتخاذ القرار في وطنه، وفي ثروات المكان الذي يعيش فيه. ليس هنالك وطن بلا مواطن، ولا مواطن بلا انتماء. إذًا، لا يوجد وطن بلا انتماء. والرمز ليس هوية كبرى تجمع تلك الهويات الصغرى المتناحرة، بل هو تلك المساحة المحايدة التي لا تقوم على مبدأ التضاد كالهوية. إنه لغة تفهمها كل الأطراف، ومكان معنوي للالتقاء، يسمح بتجاوز التحزب والتخندق. باختصار، الرمز هو الفضاء الإنساني ذو الحدود الجغرافية والملامح الزمنية.

إن القوة الرمزية لكيان ما، تشير إلى تجاوز الفئوية والنخبوية إلى ذلك الفضاء الرحب الذي يجمع المواطنين. ويبدو لنا أن الخليج العربي يعاني من أزمة رمزية؛ فالأوطان ليست لمواطنيها بشكل حقيقي. بل يسود التحزب والتخندق والمصالح الفئوية والجهوية والنخبوية؛ فالشعارات، والخطاب الرسمي، والمؤسسات لا تمثل كافة شرائح المجتمع. وعليه، فإن "الهويات الرسمية" المفروضة على عامة المواطنين لا تمثلهم بقدر ما تمثل تلك الأحزاب والجهات المتنفذة.

وللضعف الرمزي في الخليج العربي أسباب، منها ضعف التراكم الثقافي والتواصل التاريخي، وذلك لأن التراكم تم تغييبه والتواصل تم قطعه لمصلحة هويات فئوية. أولاً: تم فرض الهويات الجهوية، فانقطع التواصل وتوقف التراكم وغاب، فأصبح الرمز ضعيفًا. وعلى سبيل المثال نجد أن الشعوب الخليجية ليس لها حضور في المناهج التعليمية، فانظر مثلاً إلى ورود كلمة "خليجي"، أو اسم أي دولة من دول الخليج الست، تجده لا يبعث على استحضار تلك الثقافات العريقة والتاريخ التليد الذي ينتمي إليه الخليج العربي؛ ولذلك تبعات على الهوية والسلطة والمعرفة؛ فالقوة الرمزية دلالة على السلْم الاجتماعي، وتحصين من التدخل والزعزعة الأمنية. وبالإضافة إلى دورها في السلْم الاجتماعي، تشكل القوة الرمزية التراكم الثقافي والتواصل التاريخي، وهما أحد الأوراق الدبلوماسية المهمة في عصرنا الحاضر.

فمن في المنطقة، أو في خارجها، يستحضر دلمون، أو ثمود، أو كنده، أو أية مملكة من الممالك العربية القديمة أو الوسيطة أو المتأخرة، عند الحديث عن دول الخليج العربي الست؟ إن من أقدم الشواهد على استيطان إنسان الشرق الأدنى وتكوينه لكيانات سياسية، هي مملكة الأكاديين في بلاد الرافدين، ومملكة دلمون (البحرين حاليًا) والتي يعود تاريخها لثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد. فمن يعرف مملكة دلمون، أو ثمود أو غيرها من الكيانات التي تكونت على أرض الخليج العربي وساهمت بفعالية في التطور السياسي والفكري والاقتصادي والفني في الحضارة الإنسانية؟ كل هذا التاريخ، وكل هذه العراقة لا تجد اهتماما كافيًا من قبل دول الخليج العربي؛ فلماذا؟

لأن الهويات الضيقة سيطرت وركَّزت على خدمة مصالحها. ولذلك، تجد رمزية العراقة الثقافية والتاريخية للخليج العربي يتم اختصارها في هويات ضيقة. وقس على ذلك مكونات أخرى نعتقد أيضًا بأنها مغيبة.

ولذلك تداعيات على الدبلوماسية الخليجية وعلى الحضور السياسي والثقافي لهذه الدول الست داخليًّا، وإقليميًّا ودوليًّا؛ فلا يوجد مثلاً "مجلس أعلى خليجي" للتراث والثقافة الخليجية يُعنَى بتنظيم مهرجانات ومعارض كتب ومسابقات وجوائز لإبراز المكانة الحضارية للخليج العربي. ولا يوجد كذلك صناعة سينمائية متطورة، تقوم بتسويق هذا البروز الحضاري. ولا يلقى النقاد السينمائيون -وهم قلَّة- اهتمامًا يُذكَر، ليساهموا في ارتقاء السينما؛ حيث للأفلام دور فعَّال في الحضور الثقافي. فكيف يمكن تخيل أميركا بدون هوليوود أو فرنسا دون مهرجانها السينمائي السنوي في مدينة كان! وكذلك الحال مع الموسيقى والفن التشكيلي والنحت والتصوير والصناعات الحرفية واليدوية.

كما يتمثل الضعف الدبلوماسي في الارتهان لقواعد لعبة قديمة، قضى على مجملها الربيع العربي؛ فماذا ينتظر الخليج من مؤشرات حتى يدرك أن اللعبة قد تغيرت إلى حد كبير، وأن لاعبين مهمين قد تغيروا، وأن مجمل القوانين القديمة لم يعد ساري المفعول؟ هل ينتظر السياسي الخليجي أن يجد مباركًا ثانيًا، وإذا وجد نقيضه فعندها فقط سيدرك أن الأمور لم تعد كما كانت؟ في تلك اللحظة، لن يكون لأحد الفضل في الفهم والإدراك. أميركا اليوم ليست أميركا الأمس "أحادية القطبية"، التي تُملي ما تشاء على من تشاء. نعم لا يزال دورها مؤثرًا ومهمًا، ولكن لا شك بأنَّ هامش المناورة معها قد اتسع، وهنا مربط الفرس. من الملاحظ عدم إدراك الخليجيين أن الملعب الأميركي مفتوح لمن يجيد تمرير الكرة وتسجيل الأهداف؛ ومن ثَمَّ فإن التعاون مع القوى المنافسة لأميركا لا يمكن أن يكون بحجم السوء الذي يتصوره الخليجيون.

أما فيما يخص الانكشاف التنموي لدول الخليج فهو بارز للعيان؛ فكل المحاولات الخليجية لتعزيز أمنها ستظل ناقصة، وستقوم بفتح ثغرات جديدة لمساومات عديدة من لاعبين كُثر، كإيران وغيرها، ما لم يتم اعتبار المواطن ركنًا أساسيًا في مفهوم الأمن. وطالما يتم تجاهل التنمية السياسية، وإشراك المواطن في عملية صنع القرار، والتوزيع العادل للثروة، والتنمية المتوازنة للإنسان والمكان، فإن أي جهد لحفظ الأمن يبقى جهدًا منقوصًا، وسيتسلل المنافسون لدول الخليج العربية عبر هذه الثغرة، سواءً من داخل المنطقة أو من خارجها.

ثم إن التنمية الاقتصادية ستزيد من قوة الخليج العربي، ليس من الناحية الاقتصادية فحسب، بل من الناحية الأمنية كذلك؛ فالاقتصاد المنتج الفاعل، الذي لا يعتمد فقط على الثروات الطبيعية، حيث حضور ومشاركة المواطن في التنمية، وبالتالي استفادته المباشرة منها. وفي هذا تحصين للأمن. وفي هذه الحالة، لا يصبح النمو الاقتصادي مقتصرًا على الاقتصاد، بل سينسحب على النمو الاجتماعي والثقافي والسياسي. وهذا سيوفر مناخًا إنتاجيًا يسهِّل عملية الارتباط والتكامل مع المنطقة ومصالحها. وبالتالي، يصبح الحفاظ على مصالح الخليج مصلحة للاّعبين آخرين؛ فتعارض المصالح يُنبئ عن فجوة في التنافس لا يمكن بأي حال من الأحوال تبريرها. نعم قد تتعارض المصالح، ولكن بقدر معلوم؛ فالتنافس الإقليمي يشبه معدل البطالة، والذي له قدر محدد يكون معه عاملاً في الإنتاج والتنمية، مالم يزد عن حده. أما أن يكون التعارض لهذا الحد، فهذا دليل فجوة في التنمية. فبينما نرى تقدمًا اقتصاديًا هائلاً في تركيا، على سبيل المثال، لا نرى الشيء ذاته في دول الخليج. وهذا قد يقود إلى تفاوت كبير في المصالح بين تركيا والخليج. بالإضافة إلى ذلك، نرى بطئًا شديدًا في التنمية العسكرية، واعتمادًا على القوى العظمى. نعم، قد يمكن التعاون مع القوى العظمى كحل آني ومباشر وسريع، ولكن ينبغي البدء في تنمية القدرات الذاتية على المديين المتوسط والبعيد. ولابدَّ أن يكون هذا خيارًا جديًا.

2- التوقيت

عندما نريد تحليل توقيت الدعوة للاتحاد الخليجي، يتبادر إلى الذهن ثلاثة عناصر: تقلص الخيارات، والسياسات التوسعية لدى بعض دول المنطقة، وعواصف الربيع العربي.

برزت تساؤلات عديدة على السطح بعد إعلان البيت الأبيض عن إستراتيجيته العسكرية الجديدة. ولكن هذه التساؤلات كانت حاضرة وبقوة لدى صناع القرار في الشرق الأوسط قبل ذلك الإعلان بفترة، وتحديدًا بعد تفاقم الأزمة المالية، ووصول إدارة أوباما للبيت الأبيض؛ حيث شكَّل وصوله ومن ثَمَّ إعلانه عن خطط الانسحاب من عدة مناطق مهمة في الشرق الأوسط، وتبنيه لمقاربات دبلوماسية جديدة مع ملفات المنطقة، وأهمها الملف النووي الإيراني، نقطة تحول مهمة.

باختصار، تتجه الولايات المتحدة الأميركية إلى "سياسة التعايش"، لأسباب اقتصادية وسياسية معقدة، وذلك على حساب سياسة "الأحادية القطبية"، أو الهيمنة الشاملة؛ ولذلك ثمن، تفضّل واشنطن أن تدفع دول المنطقة الجزء الأكبر منه. هنا تشعر دول الخليج العربي بأنها منكشفة بشكل أكبر على مساومات تركية-إيرانية-أوروأميركية. ولذلك، فالاعتماد على الولايات المتحدة الأميركية لتوفير مظلة أمنية، نووية أو تقليدية، لم يعد كما كان. ستستمر الولايات المتحدة في منع أية جهة من السيطرة الكاملة على الخليج، لاعتبارات إستراتيجية جلية، ولكنها لن تستثمر جهدًا كبيرًا في ذلك. ويعني ذلك، أن الوصول لتفاهمات مع اللاعبين الرئيسيين في المنطقة أمر حتمي، سواء من جهة الأميركيين أو الخليجيين؛ ولهذا ثمن ستدفعه دول الخليج لا محالة.

ولايبدو في المنظور القريب توفر بدائل جدية وسريعة لدول الخليج. من هنا، تشعر الدول الخليجية الست بالحاجة لعمل شيء ما، ولذلك جاءت فكرة الاتحاد. إنها لا تهدف إلى الاعتماد على الذات بشكل كامل في حماية مصالحها بقدر ما تهدف لتعويض النقص الحاصل بسبب إستراتيجية الولايات المتحدة الجديدة، وملء الفراغ الناجم عنها. ونعتقد أن هذه نقطة ضعف يمكن استغلالها واستثمارها ضد دول الخليج؛ فإن لم يكن هدف الاتحاد الاعتماد الكلي على الذات، ولو بعد حين، فلن يستطيع ملئ الفراغ الناتج عن تقهقر الولايات المتحدة جزئيًا. والسبب أن الهدف له دور كبير في الالتزام والإنتاجية ومقدار التنازل والتوافق. وقد عرفت دول الخليج عبر تاريخها شيئًا من هذا.

ولسوء حظ الدول الخليجية، فإن تقهقر الولايات المتحدة رافقه صعود قوى منافسة دوليًا وإقليميًا. وكنتيجة لذلك، تقوم هذه القوى الإقليمية بمحاولات حثيثة للتوسع الاقتصادي والدبلوماسي، وهذا يأتي بالطبع على حساب طموحات دول الخليج العربي. هذه السياسات التوسعية تمثل تهديدًا جديًّا، خصوصًا أنها مصحوبة بتطوير قدرات عسكرية تقليدية ونووية. وفي حال تحقق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، سيكون حضور إسرائيل، وهي القوة النووية البارزة، في سوق المنطقة ودبلوماسيتها، سيكون ذلك أمرًا محسومًا. وستجد دول الخليج نفسها بين ثلاثة محاور نووية: إيران (في حال نجاحها في تطوير القنبلة)، وتركيا (وهي التي تتمتع بمظلة الناتو النووية)، وإسرائيل (والتي تملك أكثر من مائتي رأس نووي).

هذه القوى الثلاث ستعمل على تقاسم المنطقة اقتصاديًا ودبلوماسيًا. وقد بدأت ملامح هذا السيناريو في البروز. لذلك، تبدو دول الخليج في حاجة، أكثر من أي وقت مضى، للاتحاد. ولن يكون الاتحاد وحده كافيًا إذا كان مقتصرًا على النخب الحاكمة. بل يجب أن تتحد مع شعوبها أيضًا. وقد يكون الشعب الخليجي أقوى دعامة أمنية لمواجهة هذه القوى الثلاث. ولكن لذلك ثمن، يتمثل في تنازل النخب الحاكمة عن بعض امتيازاتها السياسية والاقتصادية.

بالإضافة إلى ذلك، فقد ذهب الربيع العربي بجُلّ استثمارات الخليج الدبلوماسية عبر العقود المنصرمة، عندما ذهب بحلفاء مهمين وأسقط أنظمة رئيسية كانت متعاونة مع الخليج. هذا من جهة، ومن أخرى فإن رياح التغيير ستهب شرقًا لامحالة. إنها مسألة وقت، والسياسيون الخليجيون يدركون ذلك. ومن هذا المنطلق، يمكن أن يلعب الاتحاد، إذا تم تبنية بشكل يساعد على ذلك، دور سفينة الأمان التي ستعبر بالنخب الحاكمة والمواطنين الخليجيين كل هذه الأمواج المتلاطمة، الربيع العربي والتنافس الإقليمي المحموم. إنها فكرة إبداعية حقًّا أن يلعب الاتحاد الخليجي دور الوسيط بين النخب الخليجية الحاكمة وشعوبها، لتتوصل بعد ذلك لتوافُقٍ ما يلبي عامة مطالب الطرفين.

3- التداعيات

هنالك مستويان للتداعيات: الأول داخلي والثاني خارجي.

داخليًا، سيؤطِّر الاتحاد لفضاء عمومي خليجي، هو في الأصل موجود ولكن بحدود عائمة، يسمح بانفصال فكرة السيادة، sovereignty، عن النخب الحاكمة في كل دولة، لترتبط بعد ذلك بالاتحاد. وهذا، لأن السيادة ستتحول إلى مستوى تجريدي أعلى من الدول المكونة للاتحاد. في هذه اللحظة، ستتم إعادة تعريف المواطن على أساس انتماء السيادة للاتحاد. بمعنى آخر، سيتم طرح سؤال شرعية السلطة وعلاقة المواطن بها من جديد. لابد أن يتم تعريف حقوق المواطن الخليجي ودوره. من هنا يبدأ الحديث عن المؤسسات التي ستشرف على هذه العمليات السلطوية المعقدة، لضمان استقرار واستمرار الاتحاد وعلاقة هذه المؤسسات بالنخب الحاكمة في دول الخليج العربي.

ستنزل النخب الحاكمة من كونها "الدولة" إلى منزلة وسيطة بين الدولة والمواطن، لأن الاتحاد سيكون بمنزلة الدولة. سيصبح لدينا دائرة كبرى اسمها "الاتحاد"، ثم في داخلها دائرة متوسطة اسمها "النخبة الحاكمة"، يليها دائرة صغرى، في داخل الدائرة المتوسطة، اسمها "المواطن". الجديد في هذا الشأن نقطتان: وجود الدائرة الكبرى، أي الاتحاد، واجتماع كل مواطني دول الخليج الست في الدائرة الصغرى؛ ولذلك انعكاس مباشر ومهم على مفهوم الشرعية. ستؤذِن هذه التراتبية الجديدة ببداية ربيع خليجي بنكهة وطريقة مختلفة كليًّا عن الربيع العربي؛ حيث سيكون مركبًا مهيئًا لعبور آمن لهذه المرحلة التاريخية الحساسة، للمواطن والنخب الحاكمة على السواء.

ولكن، ما هو نوع الاتحاد المنشود؟ وإلى أي حد ستكون هذه النخب مستعدة للمضي في تنفيذه؟ هل ستكون هنالك قسمة معينة بين هذه النخب؟ وكيف سيتم التعامل مع ملف الثروة وإدارتها؟ هل ستبقى الميزانيات منفصلة؟ وماذا عن التنمية والأمن والقوانين المختلفة؟ هذه أسئلة وجيهة ولا مناص من تبني دستور اتحادي يجيب عليها وعلى غيرها، وإلا سيبقى الحال كما هو عليه مع فارق التسمية. في تلك الحالة، سيصبح الاتحاد مجلسًا للتعاون ولكن تحت مسمى "اتحاد".

وسيكون من المستحيل تحقيق الاتحاد الخليجي دون بناء مؤسسات اتحادية فاعلة. وأهم مؤسسة اتحادية هي مؤسسة الدستور الاتحادي للخليج العربي.

قوة الاتحاد الخليجي تتركز في قدرته على معالجة مثلث الضعف الذي أشرنا إليه في بداية هذا التقرير. ولن يتحقق ذلك قبل أن يصبح أسلوب التحرك والفعل وردة الفعل، أسلوبًا اتحاديًا. بمعنى آخر، يجب أن يشكل الاتحاد كيانًا واحدًا مغلقًا في وجه التدخل الذي يمكن أن يجزئ الفعل الخليجي إلى عدة كيانات، كما هو حاصل حاليًا. وإلا فإن كل مكون من المكونات الست للاتحاد سيتعامل وسيشارك بقدر ما تملي عليه مصالحه الخاصة. وهنا مصدر خلل.

ولذلك، وحدة المصالح، ومن ثَمّ وحدة الفعل وردة الفعل، ستكون بمثابة حجر الزاوية للاتحاد. ولن يصبح ذلك ممكنًا بغير مؤسسات الاتحاد وعلى رأسها الدستور الاتحادي. يجب أن تكون هنالك آلية للعمل ومرجع للاحتكام. وجود الدستور يعني وجود برلمان خليجي، ومحكمة خليجية عليا، وجهاز تنفيذي فاعل. وبدون الجانب المؤسساتي، لن يتم تحقيق الغاية المرجوة. وفي تلك الحالة، سيبقى مجلس التعاون قائمًا ولكن بمسمىً جديد.

تبني دستور اتحادي، بعد اعتماده من المواطن الخليجي، سيكون بمثابة المركب الآمن الذي سيوصل النخب الحاكمة والمواطن إلى بر الأمان. وستكون خطوة عبقرية وخلاّقة ليس لتحقيق الأمن من منافسين إقليميين فحسب، وإنما لتجاوز طوفان الربيع العربي والتغيير، والذي سيمر بالجميع لا محالة. وسيصاحب الاتحاد بروز منظمات المجتمع المدني الخليجي بلا شك. وهذه نقطة قوة للاتحاد ومُعينًا على تحقيق أهدافه.

وخارجيًا، تمثل دول الخليج العربي أكثر من نصف الإنتاج القومي العربي. ويحمل أكثر من ثلاثين مليون إنسان جنسيات دول الخليج الست. وهذه قوة اقتصادية وبشرية ضخمة. يسمح لها اتحادها في إطارٍ واحد بمواجهة التحديات القائمة، أي تعزيز قدراتها وتطويرها، وهذا في حد ذاته يشكِّل تهديدًا للمنافسين الإقليميين والدوليين. وهنا يحق لنا التساؤل: كيف سيؤثر الاتحاد الخليجي على العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية وأوربا وتركيا وإيران؟ وما هو شكل الاتحاد الذي يخدم مصالح هذه القوى الأربع؟ وكيف ستعمل كل منها على أن ترى اتحادًا حسب مقاييسها؟

هذه أسئلة محورية لابد من تدارسها والبحث لها عن إجابة. ومن الحكمة استثمار التقهقر الأميركي، وتحويله من مشكلة ومصدر قلق لدول الخليج العربي إلى مصدر قوة. ونعني بهذا التحول من التحالفات المغلقة إلى التحالفات المفتوحة.
________________________________
منصور المرزوقي البقمي-باحث ومحلل سياسي سعودي

ABOUT THE AUTHOR