العلاقات التركية-الفرنسية والاستدعاء السياسي للتاريخ الأرمني

ينتظر مشروع القانون الذي يجرّم إنكار وقوع "مجازر إبادة" بحق الأرمن إحالته إلى مجلس الشيوخ للمصادقة عليه بعد أن أقره البرلمان الفرنسي وأغضب تركيا، وفي حال اعتماده سيكون مستقبل العلاقات التركية الفرنسية قاتما، لذا فإن الجهود منصبة على احتواء الأزمة وتداعياتها.
22 January 2012
201212274458911734_2.jpg
ينتظر مشروع القانون الذي يجرّم إنكار وقوع "مجازر إبادة" بحق الأرمن إحالته إلى مجلس الشيوخ للمصادقة عليه بعد أن أقره البرلمان الفرنسي وأغضب تركيا، وفي  حال اعتماده سيكون مستقبل العلاقات التركية الفرنسية قاتما (الجزيرة)

وافق البرلمان الفرنسي في نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول 2011 على مشروع قانون يتضمن تجريم إنكار "وقوع عمليات إبادة"(1) بحق الأرمن من قِبل العثمانيين في عام 1915، وذلك بعقوبة حبس قد تصل إلى عام كامل مع غرامة مالية تساوي 45 ألف يورو كحد أقصى. وعلى الرغم من أنّ مشروع القانون هذا لم يتحول بعدُ إلى قانون بانتظار البت فيه في مجلس الشيوخ الفرنسي هذا الشهر، إلا أنّ هذه الخطوة كانت كفيلة بإشعال الغضب الرسمي والشعبي في تركيا.

فبعد أقل من 3 ساعات من إقراره في البرلمان، جاء الرد التركي سريعًا وحازمًا؛ إذ قامت الحكومة التركية باستدعاء سفيرها من باريس، وباتخاذ حزمة من العقوبات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية ضد فرنسا مهدِّدة برفع مستوى هذه العقوبات، وباتخاذ المزيد من الاجراءات لردع الحكومة الفرنسية عن المضي قُدمًا في الملف وثنيها عن محاولات تحويل مشروع القانون إلى قانون. وقد أدى كل ذلك إلى تدهور كبير في العلاقات الدبلوماسية بين البلدين علمًا بأنّ الموضوع لا يزال مفتوحًا ومرشحًا لمزيد من التصعيد في حال استمر الوضع على ما هو عليه.

خلفية العلاقات التركية-الفرنسية

لطالما اعتمدت العلاقات التركية-الفرنسية على عنصر ثالث خارج إطار المعادلة الثنائية في التقارب أو التباعد، التفاهم أو التخاصم بين البلدين؛ فالتحالف الذي تم بين العثمانيين في عهد سليمان القانوني والفرنسيين في عهد فرانسوا الأول كان سببه عداء الأخير لملك إسبانيا شارل الخامس، وقد استمرت العلاقات الجيدة هذه لأكثر من قرنين، وقد تخاصما فيما بعدُ بسبب احتلال نابليون لمصر.

وإن كان التقلب هو السمة العامة التي صبغت العلاقات الثنائية فيما بعد، فإنّ اختراقات مهمة لهذا النمط كانت تحصل بين الفترة والأخرى؛ فبعد انهيار الدولة العثمانية استولت فرنسا على أجزاء واسعة منها، ولم يحُل هذا دون تأثر النخب العلمانية التركية - التي أنشأت الدولة التركية الحديثة على أنقاض السلطنة العثمانية- بالفرنسيين، ويمكن إدراك هذا المعطَى اليوم من خلال العديد من المفردات الفرنسية في اللغة التركية الحديثة والتي حلَّت غالبًا محل نظيرتها العربية.

مدارات الاشتراك والاشتباك

اعترفت فرنسا في العام 2001 بوقوع عمليات "إبادة" للأرمن كحقيقة تاريخية. وقد كان ذلك مقدّمة لتقلّب آخر في العلاقة بين الطرفين، ترافق مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم نهاية عام 2002؛ حيث تبدلت معطيات تركيا الداخلية والإقليمية والدولية، وأُعيد معها تعريف العلاقات الثنائية التركية- الفرنسية.

وتسارع الصعود التركي الإقليمي والدولي سياسيًّا واقتصاديًّا منذ العام 2007؛ فأصبح من غير الممكن مقاربة العلاقات الثنائية للبلدين من دون الأخذ بالاعتبار المدارات التي يشتبك فيها كلا الطرفين وتغطي الفترة الممتدة حتى عام 2010. وفي هذا الاطار يمكن رصد ثلاثة مدارات على الأقل:

1- المدار الأوروبي
وتُعد فرنسا فيه قائدة التيار المتشدد المعارض لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ومع وصول نيكولا ساركوزي إلى قصر الأليزيه أصبح الموقف الفرنسي أكثر تشددًا، خاصة أنّه كان قد اتخذ مواقف قوية ومعادية لتركيا عندما كان وزيرًا للداخلية عام 2005، رفض من خلالها الانضمام التركي للاتحاد، وفُهم منها أن أوروبا نادٍ مسيحي ولا يمكن لتركيا "رغم علمانيتها" أن تدخل هذا النادي.

2- المدار الإفريقي
شهد النفوذ التركي تصاعدًا هائلاً في إفريقيا منذ العام 2005 وتحديدًا خلال السنوات القليلة الماضية؛ إذ ارتفع عدد السفارات على سبيل المثال من 12 سفارة بداية عام 2009 إلى 20 حاليًا، مع التحضير لفتح 15 سفارة جديدة، علمًا بأن عدد السفارات التركية في إفريقيا عام 2002 بلغ بضعة سفارات فقط لا غير. أما التبادل التجاري مع دول القارة فقد ارتفع من حوالي 5 مليارات عام 2003 إلى حوالي 17 مليار عام 2008، وقد أثار ذلك حفيظة الفرنسيين الذي يملكون نفوذًا واسعًا في إفريقيا لاسيما في مستعمراتهم السابقة.

3- المدار العربي
وفيه يبرز نوع من الصراع على الدور والتأثير يختلط فيه التاريخ (السلطنة العثمانية وفرنسا المستعمرة) مع الحاضر (الجمهورية التركية والجمهورية الفرنسية) في منطقة كانت في وقت من الأوقات مكونًا أساسيًا للإمبراطورية العثمانية، وتعرضت أجزاء واسعة منها بعد انهيارها للاستعمار الفرنسي. ومع الصعود الذي رافق العلاقات التركية-العربية سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا خلال هذه الفترة وتحديدًا 2007-2010، شعر الفرنسيون بشيء من المزاحمة مترافقًا مع تراجع دورهم وتأثيرهم.

الثورات العربية: حصل تطور جديد بداية العام 2011 تمثّل باندلاع الثورات العربية، الأمر الذي زاد من التعقيد في العلاقات التركية-الفرنسية وأضفى عليها مزيدًا من التشنج. وكان لافتًا تقدّم الموقف الفرنسي كثيرًا على العديد من الدول الأوروبية وحتى على واشنطن في دعم الثورات العربية، وأحد المعطيات المفسِّرة لذلك هو حرص فرنسا على حجز موقع جيد لها على الصعيد الدولي والإقليمي في التحولات الجيو-سياسية الجارية، وذلك لإعادة تقديم الدور الفرنسي الإقليمي والدولي بشكل جديد، وكذلك محاولة التأثير على الأنظمة الوليدة وعلى توجهاتها وسياساتها في المنطقة.

وهذا ما يطرح بدوره موضوع التنافس في التأثير بين النموذج العلماني لتركيا والنموذج العلماني لفرنسا؛ فالأخيرة ترى أنه بإمكانها أن تلعب دورًا في الدول العربية التي تجدد نظامها، وأن تكون مؤثرة وفاعلة، خاصة وأن عددًا معتبرًا من نخب هذه الدول استقر في فرنسا سابقًا، أو تأثر بالمعطيات الفرنسية والنموذج الفرنسي، فضلاً عن وجود شريحة من العلمانيين العرب الذين يتطلعون إلى التجربة الفرنسية برضا، ويتعاملون بالمقابل بحذر مع التجربة التركية المعروفة في الجمع بين الديمقراطية والإسلام تحت نظام علماني.

كيف ينظر الأتراك إلى الخطوة الفرنسية

ما إن شهدت العلاقات التركية-الفرنسية تحسنًا ملحوظًا في الآونة الاخيرة نتيجة لجهود التقارب المشتركة المبذولة من قبل الطرفين بعد ما اعتراها من تأزم على خلفية الثورة الليبية، حتى أعاد طرحُ مشروع القانون المتعلق بالملف الأرمني الخلاف من جديد بين الدولتين ضمن هذا السياق الكلّي الإقليمي والدولي.

وقد تمّت الموافقة على مشروع القانون هذا في البرلمان الفرنسي بـ 38 صوتًا من أصل 50 صوتًا ممن حضروا الجلسة، أي في غياب معظم النواب الذين يصل مجموعهم إلى 577 نائبًا. وتعتقد معظم الجهات الرسمية والنخبوية في تركيا أنّ طرح مشروع القانون هذا في البرلمان الفرنسي نهاية الشهر الماضي ومحاولة تحويله إلى قانون، إنما يرتبط بحسابات فرنسية داخلية بالدرجة الأولى متعلقة بالانتخابات القادمة (رئاسية وبرلمانية)، وبوضع ساركوزي تحديدًا في هذه الانتخابات، ما من شأنه أن يؤمِّن له أصوات حوالي أقل من نصف مليون ناخب أرمني تقريبًا، دون أن ينفي ذلك أنّ الأرضية الخارجية للموضوع موجودة بشكل دائم نظرًا للمعطيات التي سبق ذكرها، فضلاً عن أن الموضوع بطبيعته خارجي كونه يرتبط بعلاقة فرنسا مع كلٍّ من أرمينيا وتركيا.

وعلى الرغم من أنّ مشروع القانون هذا لم يتم طرحه في البرلمان من قِبل الحكومة الفرنسية وإنما عبر أحد النواب، فإن جهات تركية حكومية وغير حكومية ترى أنّه عمل مدبَّر من قبل الرئيس الفرنسي ساركوزي، ولم يأت ذلك من فراغ، ويؤيد ذلك معطيات أساسية ثلاثة:

المعطى الأول
سياسة ساركوزي الشخصية معادية للأتراك، وهناك من يصفه بالعنصرية ويستذكر مدى كرهه للأتراك، ويدلل على ذلك بملاحظات عديدة، منها مواقفه السابقة من دخول تركيا للاتحاد الأوروبي، ومنها طريقة تعاطيه مع المسؤولين الرسميين الأتراك والتي كان آخرها رفضه أن يرد على اتصال رئيس الجمهورية التركية عبدالله غول، عندما اتصل به ليحذره من تمرير مشروع القانون.

المعطى الثاني
تعهد ساركوزي خلال زيارة له إلى أرمينيا في أكتوبر/تشرين الأول 2011 بطرح موضوع "المجازر" ضد الأرمن مطالبًا الأتراك بمراجعة "تاريخهم الأسود"، وضرورة الاعتراف بعملية "الإبادة".

المعطى الثالث
تنتمي النائبة "فاليري بوييه" التي طرحت مشروع القانون في البرلمان إلى حزب الرئيس ساركوزي، ولم يفعل الرئيس أو حزبه ولا حتى الحكومة شيئًا للحؤول دون طرح المشروع في جدول أعمال البرلمان. علمًا بأنّ ساركوزي قادر على منع المشروع إذا أراد بدليل أنه فعل ذلك سابقًا؛ حيث أسقطت كتلته مشروع قانون مماثل في مايو/أيار2011 يجرِّم إنكار  وقوع "إبادة" بعد أن كان البرلمان قد أقرّه في العام 2006.

التقديرات التركية لمسار مشروع القانون

يشير التقييم التركي لمشروع القانون الفرنسي إلى أنه جاء لاعتبارات داخلية ويتصل بتكتيكات انتخابية، وعلى الرغم من ذلك كان رد الفعل التركي سريعًا وشديدًا؛ فتم تجميد كل اللقاءات السياسية والمشاريع العسكرية الثنائية والمشاريع المشتركة مع فرنسا في الاتحاد الأوروبي، وألغت أنقرة المشاورات والاجتماعات السياسية والاقتصادية والثقافية القادمة، كما منعت الطائرات الفرنسية العسكرية من استخدام المطارات التركية للإقلاع أو الهبوط، وفرضت عليها إرسال طلبات مسبقة لدراسة كل حالة على حدة، وكذا الحال مع السفن البحرية.

ودعت أنقرة أيضًا إلى انسحاب باريس من مجموعة (مينسك) الدولية المرتبطة بحل النزاع الآذري-الأرميني لأنها أصبحت غير محايدة، وهددت باتخاذ تدابير أشد لاحقًا وبالعمل على المستوى الدولي للتركيز على "التاريخ الفرنسي غير المشرف والذي لا يؤهِّل باريس للحديث عن غيرها فيما يتعلق بالمجازر والإبادة والاستعمار".

وقد استغرب الفرنسيون رد "الأصدقاء في تركيا" مطالبين إياهم بعدم المبالغة فيه، في حين أراد الجانب التركي بمستوى الرد هذا أن يلجم أية مبادرة قد يفكر بها آخرون ضد أنقرة على الطريقة الفرنسية، سواء من أطراف داخل الاتحاد الأوروبي أو خارجه، علمًا بأنّه من غير المتوقع وفق معظم الترجيحات داخل الدوائر الرسمية التركية أن يتابع هذا الملف مساره داخل مجلس الشيوخ الفرنسي ليتحول إلى قانون، وهذا التقدير بُني اعتمادًا على عدد من المؤشرات، منها:

  1. من المفتَرَض أن يتم مناقشة مشروع القانون في مجلس الشيوخ الفرنسي نهاية يناير/كانون الثاني 2012، ولكن هناك احتمال بالمماطلة فيه وعدم طرحه على النقاش حتى يصل شهر فبراير/شباط إلى نهايته، وحينئذ تنتهي الدورة الحالية للمجلس ويدخل في عطلة، ما يعني انتهاء الملف وتأجيل تبعاته إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية وحتى البرلمانية المقبلة، وهناك عدد من المؤشرات ترجح هذا السيناريو منها عدم اتخاذ المشروع صفة "المستعجل".
  2. إذا كان مشروع القانون مرتبطًا بالشأن الانتخابي الفرنسي، فإن مجلس الشيوخ الفرنسي أكثر استقلالية في قراره من البرلمان؛ ولذلك فلن يصوت على الأرجح لصالح القانون ولن يدخل في لعبة انتخابية لأن أفراده لا يُنتخبون من قبل الناس مباشرة.
  3. هناك معلومات تركية تقول بأن الاشتراكيين الذي يشكِّلون أغلبية في مجلس الشيوخ الحالي ليسوا بصدد التصويت لصالح القانون على الرغم من أنّ زعيمهم الاشتراكي والمرشح الرئاسي لعام 2012، فرانسوا هولاند كان قد وعد بتمرير قانون "تجريم إنكار الإبادة".
  4. هناك مسؤولون فرنسيون معارضون للمشروع يتحركون ضده وينصحون بعدم المتابعة في إجراءاته نظرًا للأضرار التي سيُلحقها بالعلاقات مع تركيا، وعلى رأسهم وزير الخارجية الفرنسية آلان جوبيه إضافة إلى عدد من أعضاء حزب ساركوزي نفسه. وهناك بوادر لسياسة فرنسية تستهدف حصر الأضرار التي وقعت حتى الآن مع تركيا وتطويق تداعيات مشروع القانون، وهي تعكس نية إيجابية على ما يبدو وحرصًا فرنسيًا على إبقاء الموضوع في حده الأدنى.
  5. تريثت تركيا وكفت يدها عن اتخاذ إجراءات أقسى مما سبق رغم المطالب الشعبية بتصعيد الرد، بل على العكس من ذلك طمأنت الفرنسيين على استثماراتهم ومصالحهم في تركيا موضحة أن الخلاف هو مع سياسات الحكومة الفرنسية وليس مع الشعب الفرنسي. والجدير بالذكر أن تركيا هي ثالث أكبر سوق لفرنسا خارج الاتحاد الأوروبي، ويعمل فيها حوالي ألف شركة فرنسية، وتزيد الاستثمارات فيها عن 11 مليار دولار، كما أن حجم التبادل التجاري بين البلدين يبلغ حوالي 13.5 مليار دولار.
  6. أعادت تركيا سفيرها إلى فرنسا بمهمة واحدة ووحيدة وهي العمل على التأكد من ألا يتحول مشروع القانون إلى قانون، كما بدأ وفد برلماني تركي زيارة إلى باريس للغاية نفسها، وإلى جانبه عدد من الجمعيات والهيئات التركية-الفرنسية المشتركة.

وعلى العموم ينتظر مشروعَ القانون طريقٌ طويل، فحتى لو أُقرَّ في مجلس الشيوخ فقد يعود إلى البرلمان ليصوِّت عليه بعدده الكامل، ويمكن رفعه إلى مجلس القضاء الفرنسي الأعلى أو حتى إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان للطعن به باعتباره يحد من حرية التعبير.

انعكاسات الخلاف على الملفات الإقليمية (سوريا وإيران)

هناك شبه إجماع حتى من قبل الفرنسيين أنفسهم على أنّ فتح هذا الملف كان عملاً فرنسيًا "طائشًا وغير محسوب العواقب على الإطلاق"، وفي توقيت أحوج ما تكون فيه فرنسا إلى علاقات جيدة مع تركيا سياسيًّا واقتصاديًّا سواء فيما يتصل بالبعد الثنائي للعلاقة أو فيما يتّصل بالبعد الإقليمي والدولي والملفات المشتركة، كالملف السوري أو حتى الملف الإيراني وكلاهما شديد السخونة حاليًا.

وقد دفع امتعاض هذه الجهات من فتح الملف الأرمني إلى التعبير صراحة عن ذلك، ووصل الأمر ببعضهم إلى حد التعهّد للجانب التركي بالذهاب شخصيًا حتى النهاية في معارضة هذا المشروع، وفعل كل ما يمكن فعله لمنع تحول المشروع إلى قانون، وإعادة الاعتبار إلى العلاقات الثنائية.

لكن ذلك لا ينفي القول: إن ضررًا وقع حتى الآن في العلاقات الثنائية، وإنّ ضررًا أكبر "لا يمكن إصلاحه" سيقع إذا ما تحول المشروع إلى قانون فعلاً ولم يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة لكبحه.

أولاً: فيما يتعلق بالملف السوري
قبل حوالي الشهر من فتح الملف الأرمني، نجحت الدبلوماسية الفرنسية والتركية في الوصول إلى مستويات عالية من التفاهم بعد جهود كبيرة للتقارب، وقد كان الملف السوري أحد أهم دوافع التقارب بين باريس وأنقرة لأن هناك مصلحة مشتركة لدى الطرفين في ألا يبقى النظام قائمًا.

وللمفارقة، فكما خيّب الرئيس بشار الأسد أمل الأتراك فإنه فعل الشيء نفسه مع الفرنسيين. فقد كان ساركوزي أول من كسر الحصار السياسي والدبلوماسي الدولي المفروض على دمشق عندما وجّه دعوة للرئيس السوري إلى باريس عام 2008، تلاها بعد عدّة أشهر بالقمة الرباعية في سوريا التي جمعت الأسد -إضافة إلى ساركوزي- بكل من الأمير القطري حمد بن جاسم ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وذلك في سبتمبر/أيلول  2008.

ويدرك الفرنسيون عمومًا أهمية تركيا في الملف السوري من الناحية الجيو-سياسية والإستراتيجية، كما بالنسبة إلى أيٍّ من الخطوات التي تسعى فرنسا إلى اطلاقها أو دعمها سواء في مجلس الأمن أو الناتو أو خارجه، والتي تتطلب بالضرورة أن تكون تركيا موافقة عليها، كموضوع العقوبات، أو حتى موضوع المنطقة العازلة أو ربما احتمال التدخل العسكري لحماية المدنيين، وهو ما دفع الناطق باسم الخارجية إلى التأكيد على أن "تركيا شريك مهم جدًّا جدًّا وحليف لفرنسا"، خاصة وأن دائرة الخارجية كانت قد بذلت جهودًا كبيرة في الآونة الأخيرة للتقرب من أنقرة.

ثانيًا: فيما يتعلق بالملف الإيراني
ما ينطبق على الملف السوري ينطبق كذلك على الملف الإيراني وإن بشكل مختلف؛ فالملف الإيراني عاد إلى الواجهة من جديد على خلفية التهديدات الإيرانية الأخيرة بإغلاق مضيق هرمز، وكان أن سبق ذلك تدهور العلاقات الأوربية مع طهران وبشكل لافت في أعقاب اقتحام متظاهرين إيرانيين للسفارة البريطانية في طهران.

ويبدو واضحًا من خلال ردود الفعل الأوربية أنهم بصدد وضع حد للسياسة الإيرانية الحالية. وتقود فرنسا إلى جانب بريطانيا الموقف الأوروبي الداعي إلى اتخاذ إجراءات صارمة ورادعة تتضمن عقوبات تؤدي إلى شلِّ النظام الإيراني، منها مقاطعة المصرف المركزي وحظر الصادرات النفطية الإيرانية.  وفي هذا الاطار لا مفر من أن تكون تركيا بموقعها وقدرتها على التأثير بالملف الإيراني حلقة الوصل، سواء لتبريد الملف الملتهب أو للشروع بخطوات أقسى تجاه إيران.

مستقبل العلاقة التركية-الفرنسية

إن المعطيات الإقليمية الحالية تُحتم على باريس وأنقرة التعاون والاقتراب من بعضهما البعض ما قد يجعل من الأزمة المتصلة بما يعرف بالإبادة الأرمنية مؤقتة وعابرة، وإن كانت سبل معالجتها وإصلاح  تداعياتها قد تتطلب بعض الوقت. ولكن هذا لا ينفي أن الأزمة ترتبط بتحديات ومعطيات أخرى قد تنعكس سلبًا على مسار العلاقات الثنائية بين البلدين خلال المرحلة المقبلة منها:

مشروع القانون
إذا مرّ مشروع القانون الذي يجرّم إنكار وقوع "مجازر إبادة" بحق الأرمن، فهذا يعني أن مستقبل العلاقات التركية-الفرنسية سيكون قاتمًا وغير قابل للإصلاح تحت أي ظرف من الظروف. وهذا أمر محسوم على الأقل لدى الجانب التركي الذي لا يستطيع السكوت عن خطوة كهذه، علمًا بأنّ تحول مشروع القانون إلى قانون سيكون كما سبق الذكر أمرًا صعبًا في ظل المعلومات التي توافرت من دوائر صنع القرار التركية والتعهدات الفرنسية التي قطعها أكثر من فريق لصد المشروع.

سياسة حصر الأضرار
لن يكون من السهل استئناف التعاون الإيجابي بين الطرفين حتى في حال عدم المضي قُدمًا بمشروع القانون الفرنسي؛ فهنالك ضرر قد وقع وشرخ قد حصل، وإصلاح هذا الضرر ورأب هذا الصدع قد يأخذ بعض الوقت، وسيعتمد بالأساس على مدى نجاح سياسة حصر الأضرار التي يعتمدها الطرفان، وبالتالي مدى نجاحهما في تطويق تداعيات وذيول الموضوع.

الملف السوري
هناك رهان كبير على الأقل لدى الجانب الفرنسي على أن يكون الملف السوري عامل تقريب يساعد على تسريع إصلاح العطب الذي أصاب العلاقات بين البلدين على خلفية الموضوع الأرمني، خاصة أن بقاء الشرخ يعني تهميش أي دور محتمل لفرنسا في الملف السوري وتحييدها عنه، بل وازدياد الحساسية من أي مشروع قد تطرحه في هذا المجال ويمكن لتركيا أن تعرقله.

الرئيس الفرنسي القادم
هناك مؤشرات لدى الطرفين التركي والفرنسي تؤكد على فكرة مفادها أن بقاء ساركوزي في الرئاسة الفرنسية سيعقِّد العلاقات مع تركيا إن لم يكن بسبب هذا الموضوع الأرمني فبسبب موضوعات أخرى مرتبطة بمواقفه الشخصية من الأتراك، وبنزعته الخاصة في التعامل مع تركيا بعيدًا عن معطيات وزارة الخارجية، ناهيك عن سياساته في مراكمة الخلافات مع أنقرة؛ ولذلك فهناك تقييم عام يقدِّر أن رحيل ساركوزي قد يكون عاملاً مساعدًا أيضًا على تحسين العلاقات وتطويرها.
______________________
علي حسين باكير-باحث في منظمة البحوث الإستراتيجية الدولية (USAK)-تركيا

هامش
(1) لا ينكر الأتراك سقوط قتلى من الأرمن لكنهم يقولون: إنّ قتلى من الأتراك سقطوا أيضًا، وهناك تضخيم بوصف "إبادة" يتم لأغراض سياسية دومًا، وإنّ هذا الملف الذي يتضمن الاستدعاء السياسي للتاريخي يُستخدَم دومًا لابتزاز تركيا؛ فتركيا ليست الدولة العثمانية، كما أنّ معظم الذين سقطوا من الأرمن إنما سقطوا بسبب المرض والجوع وليس بسبب الأعمال القتالية. ومن سقط منهم بسب الأعمال القتالية فذلك لأنهم كانوا مقاتلين انخرطوا في صفوف العدو الروسي ضد العثمانيين في وقت كانت فيه الدولة تدافع عن أراضيها.

ABOUT THE AUTHOR