الأمن العربي2012: تصدعات داخلية ومناطحات خارجية

العالم العربي يقع في منطقة ضغط مرتفع، فالثورات الديمقراطية واجهت بأشكال مختلفة عنف الأنظمة، والتسوية السلمية للقضية الفلسطينية في مأزق، والمواجهة بين إيران والغرب بلغت الخطوط الحمراء، ومن المتوقع أن توجه هذه التيارات أمن المنطقة خلال العام الجديد.
2012129121532284734_2.jpg
أطاح عام 2011 بافتراضات وتوقعات هيمنت لعقود خمسة ماضية، ويبدأ عام 2012 دون يقينيات ما عدا توقع الترددات التي أحدثها زلزال الثورات العربية في العام المنصرم (الجزيرة)

يدخل العالم العربي العام 2012 مثقلاً بارتدادات عام استثنائي مضى، شهد انعطافات تاريخية حادة بدأت في انتفاضات شعبية متواصلة أشَّرت لبدء انتقال هذا العالم من عصر السلطة القاهرة إلى عصر الجماهير الشعبية، وأطاحت بافتراضات رئيسية اعتمدها العالم الغربي المتقدم عن الطبيعة الخانعة لتلك الشعوب في مواجهة نظم حكم شمولية مستبدة، استهلك الفساد والإحساس الكاذب بمناعتها قدرتها على الصمود في مواجهة انتفاضات حسمت أمرها في 4 دول عربية، بينما تعصف رياحها العاتية بدول أخرى تسلك الطريق نفسه.

اختلطت تلك الارتدادات إذًا بواقع الصراعات المزمنة في قلب العالم العربي وعلى أطرافه؛ حيث تبدو الأطراف الإقليمية المتمثلة في إسرائيل وإيران على نحو خاص في سعي دؤوب لترتيب أوضاعها في إطار هذه الصراعات ووفقًا لارتدادات ما حدث ويحدث من تغييرات حادة في هذا العالم العربي بغية توظيفها لمصالحها الوطنية الخالصة، في وقت تبدو فيه القوة الدولية المؤثرة وهي الولايات المتحدة بعد انسحابها من العراق وتهيؤها لمثله من أفغانستان في وقت قادم، وكأنها تنفض غبار تورط عميق مكلِّف في هذه المنطقة على مدى عقد كامل، فراحت حسب الإعلان مؤخرًا عن عقيدة إستراتيجية دفاعية جديدة تركز في أولوياتها على منطقة آسيا-الباسيفيكي.

إن استشراف أمن المنطقة وما يُتوقَّع له في هذا العام، حسب ما سبق، سوف يفرض في حدود هذه الورقة تناول ثلاثة مجالات رئيسية: مجال الدائرة العربية–الإسرائيلية، ومجال الدائرة الغربية/العربية-الإيرانية، ثم مجال الفاعل الدولي المؤثر في المنطقة وهو الولايات المتحدة، هذا مع الإقرار بواقع التداخل المتبادل والمؤثر بين كل من هذه الدوائر، وهو ما سوف نطرحه في إطار كل منها.

دائرة الصراع العربي–الإسرائيلي

ويُقصد بها المحيط العربي المجاور والمتماسّ مباشرة مع الطرف الإسرائيلي، والذي تطغى فيه -ولأول مرة- وقائع وكذلك ارتدادات أحداث الربيع العربي على التطورات –الرتيبة في بعض الأحيان– لما يسمى بعملية السلام الفلسطينية–الإسرائيلية، وعلى ذلك فإن البدء سيكون منطقيًا بالأطراف العربية المشتعلة برياح ذلك الربيع الذي سيُلَوِّن فصول باقي العام الجديد.

سوريًّا: تقترب الأزمة الداخلية في هذا البلد من عامها الأول، ومن المرجح استمرارها وتصاعدها في الشهور القليلة القادمة لتصل إلى احد المنعطفين الحاسمين في ظل المأزق القائم بين نظام حكم عاجز عن إخماد الحركة الاحتجاجية رغم حصّادة القتل التي لا تتوقف للحظة، ومعارضة عاجزة كذلك عن إسقاط النظام دون تدخل خارجي لم يتبلور شكله بعد.

المنعطف الحاسم الأول هو انقلاب عسكري تتولاه قيادات رئيسية في الجيش السوري مدعومة ليس فقط برضاء قوى دولية كبرى ولكن بتعهد دعم دبلوماسي ولوجيستي سريع لترتيب الأوضاع الحرجة التالية لهذا التحرك على المستويين الداخلي والإقليمي، إلا أن هذا المنعطف دونه مصاعب عدة ليس آخرها القبضة الأمنية القوية لأركان النظام واعتمادها على البعد الطائفي في إدارة المؤسسة العسكرية في هذا البلد على مدى يزيد عن أربعة عقود من الحكم.

المنعطف الحاسم الثاني يتمثل في تدخل عسكري إنساني خارجي يبدأ بدعم الجانب المسلح من المعارضة والذي يُعبِّر عنه بقوة حاليًا ما يسمى بـ " الجيش السوري الحر "، المؤسَّس على تدفق منشقين من كوادر الجيش السوري النظامي في إطار وضع فضفاض للقيادة والسيطرة يتمركز رأسه داخل الحدود التركية، وتتوزع قياداته الفرعية والصغرى وعناصره المقاتلة في الداخل السوري بدءًا من إدلب وحماه في الشمال الغربي وصولاً إلى درعا وحوران في الجنوب، ومن اللاذقية على ساحل المتوسط غربًا إلى دير الزور والبوكمال شرقًا على الحدود مع العراق.

وقد تتطور مرحلة دعم المعارضة المسلحة –وهناك دلائل عدة على تنفيذها– إلى منطقة حظر للطيران كخطوة ثانية، في اتجاه خلق البيئة العملياتية لإسقاط النظام، تمهد للتمكين من بناء منطقة عازلة توفر حرية التحشد والمناورة والدعم اللوجيستي للمعارضة بعيدًا عن الحساسيات الحالية لقربها من التخوم الخارجية للدولة، وهو الأمر الذي سيدفع بالتدرج لخطوة تالية تتمثل في التقدم إلى حلب أكبر مدن سوريا وعصبها الاقتصادي؛ ومن ثم توسيع "الجيب" المعارض ماديًا ومعنويًا لمستوى يتيح تبرير التوسع في الدعم الدولي لقوى المعارضة دبلوماسيًا وعسكريًا، بالشكل الذي يُقوَّض النظام من الداخل تحت وطأة تدهور الأوضاع المعيشية في المناطق التي يديرها وإنجازات الخصم، وهو ما قد يدفع النظام في النهاية إلى افتعال أحد أمرين: إما إحداث حرب طائفية في الداخل، أو فتح جبهة حرب جديدة مع إسرائيل بهدف خلط الأوراق وتعقيد الموقف الإقليمي والدولي معًا، استنادًا إلى شراكة إستراتيجية روسية ما فتئت تدعمه حتى الآن، وإن كانت السوابق الروسية تطرح شكوكًا قوية حول مصداقيتها في استمرار هذا الدعم سواء كان الأمر يتعلق بالقرارات الأممية أو بتطورات المواقف العملياتية على الأرض.

لبنان: تدفع الأزمة السورية بانعكاساتها السلبية نحو مزيد من الانشقاقات في الأوضاع السياسية الداخلية في هذا البلد، فبينما يدعم ائتلاف 14 مارس/آذار المعارضة السورية على خلفية معاداته الدائمة للنظام في دمشق أكثر من قناعته بالقضايا التي أسست لهذا الانفجار المجتمعي في سوريا، فإن حزب الله وتيارات شيعية وقومية متحالفة معه توفر الدعم الصريح للأسد ونظامه، وصل إلى حد الحديث عن مشاركة فعلية في محاولة إخماد الاحتجاجات، الأمر الذي جلب معه إدانة واسعة من قِبل المعارضة السورية لموقف حزب الله، فضلاً عن أن قوى متحالفة مع هذا الحزب سواء كانت سنية كما في حالة رئيس الوزراء الحالي نجيب ميقاتي أو درزية كما في حالة وليد جنبلاط بدأت في النأي بنفسها عن دعم النظام السوري بل وتوجه انتقادات ضمنية وصريحة حول سلوكه.

ويدرك حزب الله أنه يواجه واحدة من أخطر التحديات منذ تأسيسه أوائل الثمانينيات في العقد المنصرم؛ حيث لا يمكنه النكوص عن دعم حليف إستراتيجي شكَّل دعمه اللوجيستي والعملياتي أحد أهم دعائم قوة الحزب وبقائه على مدى العقود الثلاثة الماضية، في وقت تؤشر فيه معطيات الواقع القائم واحتمالات المستقبل القريب بحتمية تغيير النظام في دمشق بما يعني ذلك من مواجهة الحزب أوضاع محلية وإقليمية بالغة الصعوبة، في وقت يبدو فيه الراعي الرئيسي في طهران محاصرًا بواسطة ضغوط إقليمية ودولية تقترب من ذروتها، وإن كان ذلك لا يعني بأي حال طرح شكوك حول مدى استمرار التنظيم الذي يتمتع بطبيعة طائفية لأنصاره في الداخل وبإمكانيات كمية ونوعية كبيرة لجهازه العسكرية، فضلاً عن امتدادات طائفية داعمة ما زالت على الجانب الآخر من الحدود مع سوريا.

عملية السلام الفلسطينية–الإسرائيلية: عقب توقف دام 16 شهرًا تم استئناف لقاءات تمهيدية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي في مطلع يناير/كانون الثاني 2012 بدعوة أردنية وبمشاركة الرباعية الدولية، تحدد سقفها الزمني بحلول 26 يناير/كانون الثاني 2012، تنتهي فيه فترة الشهور الثلاث التي اقترحتها الرباعية لتقديم الطرفين رؤيتهما حول قضيتي الحدود والأمن، وإذا كان الطرف الأول أكثر تحديدًا في رؤيته، فإن الطرف الثاني الإسرائيلي يبدو أكثر مراوغة وضبابية في تقديم رؤيته ويحاول الاستعاضة عنها ببعض التنازلات الشكلية في ممارساته اليومية التي تكرس وضع الاحتلال بمناطق الضفة الغربية، وهو ما أشار إليها مؤخرًا دينس روس مبعوث الرئيس أوباما -استقال مؤخرًا من مهمته– في عدد من المقترحات التي تمثل إجراءات لـ "تقليص الاحتلال" كإغراء للسلطة الفلسطينية لمعاودة مفاوضات ماراثونية جديدة مع الإسرائيليين. ويبدو من واقع اللقاءات الجارية في عمّان والتصريحات المترافقة معها من قبل المسؤولين أن كلا الطرفين يوظفان هذه اللقاءات كأداة تكتيكية للوصول إلى أهداف أخرى أكثر من السعي نحو أسس جديدة لاستئناف مفاوضات أكثر جدية؛ فالجميع يدرك صعوبة ذلك في عام انتخابات أميركية تحظى بالأولوية في جدول أعمال قاطني البيت الأبيض رعاة عملية السلام، فبينما يهدف الطرف الفلسطيني إلى البناء على نتائج هذه اللقاءات –في حالة فشلها على نحو خاص– لاستئناف مساعي عضوية المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، فضلاً عن استغلالها كورقة مهمة في دعم مرشحي فتح في الانتخابات الفلسطينية التي ستجري في وقت ما من هذا العام، خاصة مع  تعثر مسيرة المصالحة الفلسطينية–الفلسطينية التي انطلقت باتفاق مصالحة القاهرة في 4 مايو/أيار 2011. على الجانب الإسرائيلي فإن تقديم تنازلات شكلية للطرف الآخر مقابل استمرار لقاءات ومفاوضات غير مجدية في جوهرها يوفر غطاءً لاستعدادات سرية تجري لمواجهة البرنامج النووي الإيراني، فضلاً عن ترطيب الأجواء مع النظم الحاكمة في القاهرة وعمّان المنغمسة أصلاً في ترتيب أوضاع داخلية فرضتها وتفرضها رياح الربيع العربي.

دائرة الصراع الغربي/العربي–الإيراني: تتجه المواجهة بين إيران من جانب وكل من القوى الغربية وإسرائيل من جانب آخر حول البرنامج النووي الإيراني ومزاعم تطويره لسلاح نووي إلى مستوى تصعيد خطير -باعتبار التوجه الجاري لأميركا والاتحاد الأوروبي معًا- وصل إلى عقوبات الذروة المتمثلة في حظر استيراد النفط الإيراني، ووقف التعامل مع البنك المركزي الإيراني، وتوقع انضمام كل من اليابان وكوريا الجنوبية لهذه الإجراءات، وهو الأمر الذي يعني توجيه ضربة في الصميم إلى صناعة تشكِّل حوالي 80% من إيرادات الدولة في إيران من العملة الصعبة، وتضيف إنهاكًا حادًا لاقتصاد يعاني من ضعف كبير بفعل جولة عقوبات دولية أربعة سابقة، فضلاً عن أوجه خلل بنيوي عديدة.

ورغم وجود هامش للمناورة من قبل قطاعي النفط والمال الإيرانيين باعتبار وجود أطراف أوروبية ما زالت معارضة لقرار الحظر النفطي، وكذلك في بعض المرونة والتدرجية في التطبيق التي اتسم بها القانون الذي وقَّعه الرئيس أوباما في الأول من يناير/كانون الثاني 2012، فضلاً عن موقفي موسكو وبكين المانع لاستصدار قرار أممي يتضمن عقوبات دولية على صناعة النفط الإيرانية، خاصة أن الصين وبعض الدول الآسيوية يمثلان سوقًا بديلاً للنقص المتوقع من حصة التصدير الإيراني إلى دول الاتحاد الأوروبي (حوالي 450.000 برميل يوميًا)، إلا أن لهجة التصعيد الإيرانية في الرد على هذه العقوبات والتي تركزت بصفة أساسية حول وقف مرور صادرات النفط العربية عبر مضيق هرمز على نحو ما جاء على لسان محمد رضا رحيمي النائب الأول للرئيس الإيراني في 28 ديسمبر/كانون الأول 2011، بأنه "إذا فرض الغرب عقوبات على صادرات النفط الإيراني فلن تمر نقطة نفط واحدة من مضيق هرمز"، كما تزامن ذلك التصريح مع مناورات بدأتها البحرية الإيرانية في 24 ديسمبر/كانون الأول 2011 ولمدة عشرة أيام، صرح خلالها الأدميرال حبيب الله سيادي قائد البحرية بأن "إغلاق مضيق هرمز مسألة سهلة فعلاً، ولكن في الوقت الحالي لسنا في حاجة لإغلاقه كون بحر عمان تحت سيطرتنا ومنه نستطيع أن نسيطر على المضيق "، وتبدو أهمية مضيق هرمز وحرية الملاحة عبره من كميات النفط التي تمر به، فهي يوميًا حوالي 17 مليون برميل يوميًا تمثل 33% من تجارة النفط العالمية المحمولة بحرًا، وتتوقع تقديرات مستقبلية أن تصل الكمية إلى 35 مليون برميل يوميًا بحلول العام 2020، ولكل هذه الاعتبارات فإن إغلاقه يُعد بمثابة خط أحمر للولايات المتحدة التي ردت على لسان المتحدث باسم وزارة خارجيتها بأن "التهديد الإيراني أجوف نوعًا ما، والولايات المتحدة التي تجوب سفنها الحربية المنطقة ستدعم تدفق النفط عبر المضيق بحرية"، وذلك بالتوازي مع احتشاد بحري غربي قوي راقب عن كثب مناورات "الولاية 90" للبحرية الإيرانية، شمل مجموعتي حاملات طائرات هجومية بالإضافة إلى مجموعتي عمل بحريتين لمكافحة الألغام البحرية، إحداهما أميركية (CTF-S2)، وأخرى تابعة لحلف الناتو (SUMCMG2).

إلا أن الأمر الأبرز هو التحول الراديكالي في الموقف الأميركي الذي جاء خاصة على لسان وزير دفاعها ليون بانيتا الذي طالما حذّر في السابق إسرائيل من تبعات شن ضربة استباقية ضد المنشآت النووية الإيرانية؛ حيث اعتبر بانيتا أن الخط الأحمر للولايات المتحدة يبقى مسألة عرقلة التجارة النفطية في الخليج، وكان آخر تحذيراته في 2 ديسمبر/كانون الأول 2011 خلال محاضرته بمعهد بروكنجز في العاصمة واشنطن، علاوة على إعلانه في مقابلة أخيرة على شبكة الأخبار الأميركية CBS في الـ 20 من ذات الشهر بأن "الإيرانيين وصلوا لنقطة يمكنهم فيها تجميع قنبلة نووية في غضون عام أو أقل، وهذا خط أحمر بالنسبة لنا وكذلك لإسرائيل، وإذا كان علينا العمل فسوف نتعامل معه"، وهو النهج الذي سار عليه كذلك وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك بقوله مؤخرًا: "صحيح أن الأمر لن يستغرق ثلاث سنوات، ربما فقط ثلاثة أرباع السنة قبل أن يتمكن أي شخص من فعل شيء عمليًا حيال هذا الأمر، خاصة أن الإيرانيين يدخلون تدريجيًا وبشكل متعمد فيما أسميه منطقة الحصانة عبر توسيع نطاق وفرة خططهم ونشر قدراتهم في مواقع عديدة إضافية".

يبدو من الإشارات السابقة لوزيري الدفاع الأميركي والإسرائيلي أن فسحة الوقت المتاحة لشن عمل عسكري ضد إيران تضيق مع اقتراب نهاية العام الجاري 2012، وإن كان انشغال البيت الأبيض بآليات وحساسيات عام الانتخابات ذاته يمثل عاملاً قويًا لتوسيع هذه النافذة الزمنية إلى ما بعد الانتهاء من هذه الانتخابات، لكن مع مواصلة حملة الضغوط على الجانب الإيراني سواء بتصعيد مستوى العقوبات الدولية والأحادية كما سبق الإشارة إليه، مصحوبًا باستمرار الحرب السرية ضد أركان البرنامج النووي الإيراني سواء من خلال هجمات الفيروسات الإلكترونية ضد أنظمة التحكم في عمليات التخصيب وبرامج تطوير الأسلحة، أو عبر عمليات التخريب التي برزت مؤخرًا في انفجارات غامضة في منشآت مرتبطة بتطوير أنظمة صاروخية (قرب طهران في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2011)، أو بأنشطة نووية (أصفهان في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2011)، أو بصناعات خاصة بمواد حرجة (يزد في 11 ديسمبر/كانون الأول 2011)، أو من خلال حملة اغتيالات متواصلة ضد علماء نويين كان آخرها في 11 يناير/كانون الثاني 2012 واستهدفت مصطفى أحمد روشان المسؤول البارز في عمليات تخصيب اليورانيوم بمنشأة ناتانز.

وفي الوقت الذي يتماهى فيه الموقف الخليجي العربي مع الموقف الأميركي في مسألة البرنامج النووي لإيران، خاصة مع استمرار نمو القدرات العسكرية لهذه الدول في مجال القوة الجوية والدفاعات الجوية والصاروخية على النحو الذي تشير إليه صفقات السلاح الأميركية الأخيرة لدولة الإمارات العربية (نظام الدفاع الصاروخي الأحدث ثاد THAAD، وقنابل قصف الأهداف الحصينة تحت الأرض BLU-109 في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2011)، وللسعودية ( 84 طائرة هجومية F-15 SA في 30 ديسمبر/كانون الأول 2011). إلا أن علامات نفاد صبر هذه الدول من التباطؤ الأميركي في حسم المسألة النووية الإيرانية بدت واضحة في تصريحات سعودية أخيرة على لسان الأمير تركي الفيصل بقوله في 6 ديسمبر/كانون الأول 2011: "إذا فشلت جهودنا وجهود المجتمع الدولي في إقناع إسرائيل بإزالة أسلحة الدمار الشامل لديها، وفي منع إيران من حيازة أسلحة مماثلة، فإنه من واجبنا نحو بلدنا وشعبنا التطلع لكل الخيارات المتاحة بما فيها حصولنا على هذه الأسلحة".

كما يضاف لهذه التوترات الخليجية العربية–الأميركية عدم رضاء هذه الدول عن موقف الإدارة الأميركية من أحداث الربيع العربي، سواء بتخليها عن أبرز حلفائها في المنطقة "مبارك " في مصر أو بإعلانها عدم رضائها عن الإجراءات التي تمارسها هذه الدول الخليجية في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية الداخلية، وهو ما عبَّر عنه المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية في تعقيبه على أحداث شهدتها المنطقة الشرقية، في مارس/آذار 2011، بقوله في السابع من ذلك الشهر: "الولايات المتحدة تدعم مجموعة من الحقوق العالمية بما في ذلك الحق في التجمع السلمي وحرية التعبير. يجب احترام هذه الحقوق في كل مكان بما في ذلك السعودية"، وإن كان ذلك الموقف لم يُثنِ السعودية عن التدخل عسكريًا في البحرين بعد مرور أسبوع واحد على هذا التصريح وتحديدًا في 14 مارس/آذار 2011 لإخماد حركة الاحتجاجات الشعبية في هذا البلد، وهكذا يبدو حرج الموقف الأميركي المزمن في التعامل مع الضفة العربية للخليج في محاولة التوازن بين المصالح الإستراتيجية في هذه المنطقة وبين القيم العالمية للحريات الإنسانية التي تدعو إليها.

الولايات المتحدة: الاشتباك من بعيد

وسط زخم أحداث الربيع العربي وارتداداته المصيرية، ووسط التطورات الجارية في الصراعات الإقليمية القائمة، أقرَّت الولايات المتحدة وثيقة الإستراتيجية الدفاعية الجديدة في الخامس من يناير/كانون الثاني 2012، عكست رؤية جديدة لاستخدام القوة العسكرية الأميركية في ظل ثلاثة معطيات ضاغطة:

  1. الأول: أزمة العجز المالي وتصاعد الدين العام في الولايات المتحدة التي فرضت تخفيضات في الإنفاق الدفاعي على مدى السنوات العشر القادمة تصل إلى 450 مليار دولار، قد يتبعها تخفيضات أخرى من قِبل الكونجرس قد تصل إلى 500 مليار دولار وفقًا لقانون ضبط الميزانية التي اتفقت عليه مؤخرًا السلطات التنفيذية والتشريعية معًا، وهو الأمر الذي انعكس في تخفيض حجم القوة البشرية لكل من الجيش ومشاة البحرية وفي إلغاء أو إبطاء برامج تطوير عدة لأنظمة تسليح تقليدية.
  2. الثاني: حالة الإجهاد الشديد التي عليها القوات الأميركية خاصة الأرضية منها، المصحوبة بإحباط الفشل الواضح في نتائج تطبيقات إستراتيجية مكافحة التمرد وبناء الأمم التي اعتمدتها الولايات المتحدة في حروبها الجدلية في كل من العراق الذي غادرته في نهاية 2011 دون نتائج إيجابية محققة، أو في أفغانستان التي خاضت الولايات المتحدة فيها أطول حروبها عبر تاريخها العتيد، وتتهيأ أيضًا لمغادرتها بحلول العام 2014 دون توقع نتائج إيجابية أخرى مقنعة.
  3. الثالث: الأوضاع الجيوإستراتيجية التي أصبحت عليها منطقة آسيا–الباسيفيكي التي تشهد نموًا مطردًا للقوة العسكرية والنفوذ الصيني معًا على حساب وجود أمريكا التاريخي ومصالحها القومية في هذه المنطقة، وعلى ذلك فإن الإستراتيجية الجديدة تشير إلى أولوية آسيا–الباسيفيكي في حسابات القوة العسكرية الأميركية، وتعتمد في هيكل بناء القوة على خوض حرب كبيرة واحدة بدلاً من حربين في آن واحد مع ردع اندلاع حرب ثانية في منطقة أخرى من العالم، وهو ما يعني ضمنيًا تحول الإستراتيجية العسكرية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط من نمط الحروب التقليدية كثيفة الموارد كما كان الحال بين 2000 و 2010 إلى إستراتيجية الردع والاحتواء المؤسَّسة على بصمة تواجد عسكري مباشر محدود في المنطقة مدعومة بتواجد عسكري متأهب للتدخل السريع من خارج الأفق، وهكذا فإن المتوقع من تطبيقات الإستراتيجية الجديدة في الحالة الإيرانية القائمة العمل عبر مسارات ثلاثة متوازية:
  • أولها: استئناف برنامج موسع لمناورات وتدريبات عسكرية بمشاركة الحلفاء تستهدف استعراضًا للقدرات النيرانية والحركية البحرية والجوية معًا.
  • وثانيها: إظهار الالتزام الدائم بالخليج عبر دعم القدرات الدفاعية الساحلية والجوية للدول الحليفة هناك.
  • ثالثها، وأهمها: التهيؤ لضربات انتقامية انتقائية (الردع بالعقاب) حال تجاوز الإيرانيين لخطوط حمراء حددتها الولايات المتحدة، في تكرار لما حدث ضد السفن ومنشآت النفط الإيرانية في أواخر الحرب العراقية–الإيرانية ردًا على اختراقات اعتبرتها الإدارة الأميركية آنذاك تجاوزًا لتلك الخطوط، (على غرار عملية Praying Mantis في إبريل/نيسان 1988 ردًا على ارتطام فرقاطة أميركية بلغم إيراني).

وفي كل الأحوال تبقى العقائد الإستراتيجية الجديدة بما فيها الأخيرة محل اختبار وتوقعات أكثر منها حقائق على الأرض يفرضها عادة الخصوم والأصدقاء معًا، ووقائع التاريخ القريب خير شاهد على كيف حاول رؤساء أميركيون عديدون تقديم رؤية حول تحجيم تورط أميركي في الشرق الأوسط سرعان ما بددتها أحداث عاصفة، فقدمت المصالح على حساب العقائد.

أطاح عام 2011 بافتراضات وتوقعات هيمنت لعقود خمسة ماضية، ويبدأ عام 2012 دون يقينيات ما عدا توقع الترددات التي أحدثها زلزال الثورات العربية في العام المنصرم.
________________________________
صفوت الزيات-خبير في الشؤون الإستراتيجية 

ABOUT THE AUTHOR