مفاوضات الحكومة الباكستانية مع طالبان باكستان

ثمة معوقات عديدة أمام مسار التفاوض بين الحكومة الباكستانية وحركة طالبان باكستان، منها تعدد جماعات طالبان الباكستانية وافتقارها لقيادة موحدة. كما لا تود باكستان أن تظهر أمام أميركا وكأنها تصالح طالبان، خوفًا من أن تُتهم بالتصالح مع "أعداء أميركا".
2012216125139174734_2.jpg

جرت خلال الأسابيع القليلة الماضية لقاءات ومفاوضات مهمة بين قيادات طالبانية باكستانية والحكومة الباكستانية من أجل وضع حد للهجمات والاقتتال المتواصل بين الطرفين منذ سنوات، وأوقع آلاف القتلى والجرحى وتسبب في تهجير مئات آلاف المدنيين من مناطق القبائل خلال السنوات الماضية. 

وتزداد أهمية هذه المفاوضات بغضِّ النظر عن نجاحها أو فشلها لتزامنها مع المفاوضات الأميركية-الطالبانية الأفغانية الجارية في الدوحة، ولقرب موعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان الذي سيكون له نتائج وتداعيات بالغة الأهمية على الشأن الباكستاني.

المسار التفاوضي

أكدت كل من مصادر طالبان والحكومة الباكستانية حصول اجتماعات بين الطرفين بشكل مباشر أو عبر وسطاء قبليين، وتأكد حدوث جولتين من المحادثات قادها مندوبان اثنان عن نائب زعيم حركة طالبان باكستان القائد فقير محمد، المسؤول عن منطقة باجور القبلية المجاورة لولاية كونار الأفغانية، أما عن الحكومة فقد حضر مسؤولون أمنيون باكستانيون.

وقد أكد لاحقًا فقير محمد هذه المحادثات، ويتردد أنه عقد بنفسه جولات محادثات مع المخابرات الباكستانية، ووفقًا للمعلومات فإن طالبان تشجعت وتحمست للمفاوضات بعد أن رأت عدة مؤشرات إيجابية على الأرض تدعم خيار التصالح، من أبرزها: وقف الغارات الجوية الأميركية لفترة طويلة من 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 وحتى مطلع يناير/ كانون الأول من العام الحالي 2012 -على الرغم من أنها عادت مؤخرًا لتضرب من جديد، ومنها كذلك وقف الحكومة لطرق الإمداد الأطلسية عبر باكستان إلى داخل أفغانستان، ومقاطعة باكستان لمؤتمر بون رغم الضغوط الأميركية التي تريدها أن تشارك في ترتيبات مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، إضافة إلى إخلاء قاعدة شمسي الجوية التي كانت منطلَقًا لطائرات أميركية بدون طيار جُلُّ عملها قصف مواقع طالبان والقاعدة.

وردّت طالبان على هذه الإشارات بإيجابية من خلال وقف العمليات الانتحارية، بل أرسل فقير محمد إشارات عدة بالمقابل، منها أنهم مستعدون للقتال إلى جانب الجيش الباكستاني إن تعرض لهجوم أميركي، وذلك ردًّا على القصف الأميركي لمواقع الجيش الباكستاني أواخر العام الماضي 2011.

وصاحَب هذا التحرك التفاوضي تحرك طالباني آخر يصب في مصلحة انفراج العلاقة بين الطرفين،  تمثل في تحرك القاعدة وطالبان أفغانستان للَمِّ شمل الفئات الطالبانية الباكستانية الممزقة والمفتقرة إلى قيادة موحدة، تمهيدًا لنقل المعركة من باكستان إلى أفغانستان، وهو ما قد يريح باكستان من هجمات المسلحين.

وعُقد لهذه الغاية اجتماع في نهاية العام الماضي 2011 في مكان سري من مقاطعة وزيرستان المتاخمة لأفغانستان، ضم قيادات بارزة من حركة طالبان باكستان المفككة بمشاركة مندوب من حركة طالبان أفغانستان كممثل عن زعيم حركة طالبان الملا محمد عمر، وكذلك مندوب عن تنظيم القاعدة  وهو أبو يحيى الليبي الذي كان يومًا ما معتقلاً لدى القوات الأميركية في بغرام قبل أن يهرب مع عناصر قاعدية أخرى.

ووفقًا لما تسرّب من اللقاء فإن مندوبي القاعدة والملا عمر ركزوا على ضروة توحيد الجهود بين فئات مقاتلي طالبان باكستان الذين تشرذموا بعد مقتل زعيمهم المؤسس بيت الله محسود أواسط أغسطس/آب 2009، ويؤكد المطلعون على خفايا الاجتماع أن وصية الملا محمد عمر كانت واضحة جدًّا وتتضمن ضرورة توفير الجهد والقدرات من أجل "المعركة الأهم والتي تدور داخل أفغانستان حاليًا"، لاسيما مع اقتراب الانسحاب الأميركي الكامل من أفغانستان.

ويتردد أن مندوب الملا عمر أبلغ قادة طالبان باكستان المشاركين بالقول: "إن البوصلة تشير إلى أفغانستان،  وإلا لكنّا نحن أول من يحق له أن ينتقم من الحكومة والجيش الباكستانيين كونهما شاركا في ضربنا وتدمير مدننا بالصواريخ الأميركية المنطلقة من أراضيهم، والسماح للطائرات الأميركية أيضًا بشن هجمات علينا، ولكن تبقى البوصلة تشير إلى مقاتلة الأميركيين والقوات الأجنبية في أفغانستان، وينبغي ألا نسمح لأحد أن يحرفنا عن ذلك". كما دعا أبو يحيى الليبي بدوره قادة طالبان باكستان إلى توحيد الصفوف، وقال: "من أجل الله وحّدوا جهودكم ووفروا قوتكم، وركزوا قتالكم على القوات الأميركية في أفغانستان، وأرسلوا عناصركم إلى داخل أفغانستان من أجل إكمال هزيمة الأميركيين التي أصبحت وشيكة".

وتم الاتفاق في هذا الاجتماع على وقف عمليات الخطف مقابل الحصول على فدى مالية، والتنسيق المكثف بين الفصائل الطالبانية الباكستانية في هذا السياق، وقد سبق هذا الاجتماع اجتماعان آخران عُقدا في أماكن سرية من وزيرستان وذلك في27 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وفي ديسمبر/كانون الأول 2011.

أطراف التفاوض.. واقعها وطموحاتها

إن الحركات المسلحة الطالبانية وغير الطالبانية في مناطق القبائل ليست كتلة صماء ولا تنتظم تحت قائد واحد أو قيادة موحدة، فكل مجموعة منها لها ديناميكياتها وطموحاتها الخاصة، وتأثير الملا محمد عمر زعيم الحركة عليها ما هو إلا تأثير معنوي فحسب.

الحركات المسلحة الطالبانية وغير الطالبانية في مناطق القبائل ليست كتلة صماء ولا تنتظم تحت قائد واحد أو قيادة موحدة، فكل مجموعة منها لها ديناميكياتها وطموحاتها الخاصة (الجزيرة)

تتنازع الحركة الطالبانية الباكستانية عدة مجموعات كل منها تخدم وتلبي احتياجات منطقتها، وتنطلق من خلفية تاريخية ومصلحية واجتماعية خاصة بها، ومن أبرزها: طالبان جنوب وزيرستان وهي على قسمين، الأول منهما: جماعة طالبان المنتشرة في أقصى الجنوب من مقاطعة جنوب وزيرستان، ويغلب عليها النزعة المتشددة، ويقودها حكيم الله محسود الذي خلف مؤسسها بيت الله محسود، وهي التي خاضت معارك ضد الجيش الباكستاني؛ لذا فقد تشدد معها الأخير. والقسم الثاني منهما: جماعة طالبان المنتشرة في الجزء الشمالي من نفس المقاطعة أي "جنوب وزيرستان"، ويرأسها محمد نذير وتقطنها قبائل "وزيري"، وهؤلاء لم يكونوا على عداء مع الحكومة أو الجيش بل على العكس فقد رفضوا حتى منح لجوء وحماية في أراضيهم لمن يهرب من مقاتلي طالبان محسود المنخرطين في حرب مع الجيش، كما طردوا مقاتلي الشيشان من مناطقهم، إلا أنهم ظلوا على علاقة جيدة مع مقاتلي القاعدة دون أية إثارة إعلامية. وتمتاز هذه المنطقة من الناحية الجغرافية بقربها من منطقة "شمال وزيرستان" التي تربطها علاقة جيدة مع الجيش الباكستاني.

ويوجد في منطقة "شمال وزيرستان" ميليشيات طالبانية يقودها غل بهادر، وهو من المقربين إلى شبكة القائد جلال الدين حقاني الأفغانية التابعة للملا عمر، والمدعومة باكستانيًّا حسب التصنيف الأميركي. ونادرًا ما دخل غل بهادر في صراع مع الحكومة أو مع الجيش الباكستاني، وكان دأبه الانخراط إلى جانب شبكة حقاني في معارك بشرقي أفغانستان ضد الأميركيين، رغم أنه تعرض لغارات أميركية أو لبعض الهجمات من قِبل الجيش الباكستاني.

وهناك أيضًا في إقليم "سوات" حركة طالبانية ظهرت في أواسط الثمانينيات على يد المؤسس صوفي محمد، وتولى قيادتها من بعده صهره وزوج ابنته مولوي فضل الله. وكانت الحركة قد أطلقت على نفسها عند انطلاقها اسم "حركة تطبيق الشريعة الإسلامية"، وهي تحرص على تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتفتقر إلى نظرية شاملة للحكم، وعادة ما تكون مطالبها محلية وتلبي احتياجات محلية فحسب.

وثمة أيضًا مجموعة يرأسها القائد ملا فقير محمد في باجور، ويعود في أصوله السياسية إلى الجماعة الإسلامية الباكستانية، ما يفسر براغماتيته أكثر من الآخرين، وهي التي اتضحت في مفاوضاته التي أعلن عنها مع الحكومة الباكستانية.

وبالإضافة إلى كل هذا تظهر من حين لآخر مجموعات طالبانية جديدة في مناطق قبلية أخرى، لكنها تتبع في النهاية المجموعات الأساسية آنفة الذكر.

وطموحات هذه المجموعات من الناحية السياسية غير واضحة المعالم بل ربما ليس لديها أيٌّ منها من حيث التفصيل سوى التأكيد بالمجمل على ضرورة سحب القوات الباكستانية ووقف الغارات الأميركية على مناطق القبائل، والسماح لها بمقاتلة الأميركيين.

العوائق والتحديات أمام مسار التفاوض

ثمة معوقات داخلية وخارجية أمام مسار التفاوض بين الحكومة الباكستانية وحركة طالبان باكستان، أما عن المعوقات الداخلية وسط حركة طالبان فيعد من أبرزها تعدد جماعات طالبان الباكستانية، وافتقارها للخبرة السياسية والتنظيمية التي تحول دون تقديم نفسها كقوة موحدة مفاوضة؛ قادرة على ضبط مجموعاتها بما يوحي بالثقة للطرف المفاوض الآخر؛ فلا وجود لقوة طالبانية واحدة بقيادة واحدة وبآلية قرار معروفة، تكشف ما تريده مرحليًّا وإستراتيجيًّا، وتُلزم بالتالي عناصرها ومجموعاتها به.

ففي الوقت الذي كان التفاوض جاريًا بين مجموعة فقير محمد والحكومة الباكستانية كانت هجمات مجموعة حكيم الله محسود على الحكومة متواصلة، وهو ما يُضعف موقف طالبان ويشكِّك الحكومة بقدرة المتفاوضين على تنفيذ ما يتم التعهد به.

لكن هذا المعوق ليس مقتصرًا على طالبان وحدها؛ فالحكومة الباكستانية أيضًا ليست راغبة كإدارة سياسية بالتفاوض، فحكومة بيشاور التي يسيطر عليها حزب عوامي القومي يساري التوجه، لديها مصلحة في مواصلة القضاء على طالبان ربما أكثر من الأميركيين، وبالتالي نرى كيف أن القيادة السياسية متشددة إزاء فتح قنوات التفاوض مع طالبان، وذلك بخلاف الجيش والاستخبارات التي تود تبريد الجبهة الباكستانية وإشهار ذلك بوجه الأميركيين لاسيما في ظل التوتر القائم بين البلدين.

هذا الأمر يقود إلى المعوقات الخارجية وتحديدًا الأميركية؛ إذ إن باكستان لا تود أن تظهر أمام الأميركيين كأنها تصالح طالبان، خوفًا من أن تُتهم بشكل واضح بالتصالح مع "الإرهابيين" وأعداء أميركا، وإن كان ذلك الخوف سيتراجع مع بدء المفاوضات بين الأميركيين وأعدائها من طالبان أفغانستان، وربما سيتعزز الموقف الباكستاني مع شطب "قائمة الإرهابيين" الطالبانيين الأفغان من القائمة الدولية الأميركية، ومع الإفراج عن قادة طالبان في أميركا وأفغانستان إذا تم وهو ما يتم تدواله في هذه الآونة.

تدرك باكستان أن التصريحات والتحركات الأميركية الأخيرة: تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في فبراير/شباط 2010 حين أبدت استعدادها للتفاوض مع طالبان، ثم إعلان نائب الرئيس الأميركي جون بايدن في نهاية ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي 2011 أن واشنطن لم تعلن في أي بيان رسمي أن حركة طالبان عدوة لواشنطن، إضافة إلى ترحيب واشنطن بفتح طالبان مكتبًا لها في قطر والذي سيساهم في كونه همزة وصل بين الأميركيين وطالبان، كل ذلك يفرض على باكستان أن تسعى إلى ترتيب أوراقها وبيتها الداخلي من أجل حجز مكان لها في تلك المفاوضات، وفي مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان؛ وذلك أملاً في الإمساك بمزيد من الأوراق التفاوضية في أيديها بغية مضاعفة مكاسبها الإقليمية في تلك المنطقة، وهذا لا يتأتى إلا من خلال علاقات قوية مع طالبان أفغانستان القادرة بكل تأكيد على التأثير على طالبان باكستان.

التوقعات والتداعيات

تنتظر الأطراف المعنية بالشأن الطالباني في باكستان ما ستسفر عنه محادثات الدوحة بين طالبان أفغانستان والأميركيين؛ فالحبل السُّري الطالباني-الباكستاني بات مرتبطًا بحركة طالبان أفغانستان وليس بتنظيم القاعدة. وتعزز ذلك بعد مقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن وبعد تراجع تأثير القاعدة بفعل مقتل العديد من قياداتها التاريخية وكوادرها، إضافة إلى أن الثورات العربية أدت إلى تراجع نموذج "بن لادن" لصالح نموذج الثورات العربية، كما عاد كثير من كوادر القاعدة إلى بلادهم بعد نجاح ثورات تونس ومصر وليبيا.

إذن فحركة طالبان باكستان -التي استمدت قوتها العملياتية من تنظيم القاعدة- ستتراجع الآن بسبب تراجع تنظيم القاعدة على المستوى العملياتي والرمزي، وحركة طالبان باكستان التي استمدت قوتها الرمزية والشرعية من الملا محمد عمر لن تجد هذا الدعم -الذي قد تريده بعض مجموعاتها- في استمرار الحرب ضد الجيش الباكستاني وهو الذي يدعوها إلى تركيز قوتها وعملياتها في أفغانستان. فالمتوقَّع أن تنقسم قوى طالبان والمسلحون بشكل عام إلى ثلاث مجموعات:

  • الأولى منها ستكون موالية للملا محمد عمر، وستدفع بكل قواها في المعركة التي يُتوقع أن تحتدم بأفغانستان بغضِّ النظر عما يجري من مفاوضات في قطر، وهي مجموعة غل بهادر وملا نذير.
  • وثمة مجموعات أخرى مثل مجموعة ملا فقير محمد في باجور قد تدخل في حوار حقيقي مع الحكومة وتؤمِّن مناطقها بعيدًا عن الضغط والعمليات العسكرية.
  • وأخيرًا ثمة مجموعات مثل مجموعة حكيم الله محسود إضافة إلى مجموعات صغيرة قرب بيشاور، قد تواصل عملياتها البسيطة وربما اليائسة ضد الجيش الباكستاني، لكن ستفتقر حينها للغطاء الشرعي الممثَّل بموافقة وربما بصمت الملا محمد عمر في أدنى الأحوال لتستمر في نهجها.

__________________________
د.أحمد موفق زيدان-مدير مكتب الجزيرة في إسلام أباد

ABOUT THE AUTHOR