أين يتجه المشهد السياسي والأمني التونسي؟

صارت الهيئة العليا في تونس، الفضاء الوحيد الذي يضمن حدًا أدنى من التعايش السياسي بين مختلف الفرقاء؛ لتحضير مشاريع قوانين تُسيِّر المرحلة الانتقالية. من هنا فإن المسار السياسي الراهن مرتبط بقدرة هذه الهيئة على المحافظة على التوافق الذي نشأت على أرضيته.
20 July 2011
201172010736995580_2.jpg

يرتبط المسار السياسي في تونس منذ منتصف مارس/آذار الماضي بجملة من المكونات، غير المنتخبة، التي لم يتسن ترسيخها إلا بالاعتماد على صيغ من التوافق؛ فقد أدى سقوط حكومة محمد الغنوشي واتجاه البلاد إلى انتخاب مجلس تأسيسي لإعداد دستور جديد إلى توسيع لجنة الإصلاح السياسي لتصبح "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"، كما أدى ذات المسار إلى تشكيل حكومة جديدة تحقق حولها قدرا لا بأس به من الإجماع لتتسلم قيادة المرحلة الانتقالية؛ لذلك فإن المسار السياسي الحالي شديد الارتباط بهاتين المؤسستين وخاصة بأولاهما وهي الهيئة العليا.

وبالنظر إلى ما طرأ على دور "الهيئة العليا" مؤخرا من تغير أدى إلى تحولها لما يشبه "البرلمان المؤقت غير المنتخب"، فإنها صارت، تقريبا، الفضاء الوحيد حاليا الذي يضمن حدًا أدنى من التعايش السياسي بين مختلف الفرقاء؛ فضاء لازم لتحضير مشاريع قوانين تُسيِّر المرحلة الانتقالية الحالية. من هنا فإن المسار السياسي الراهن مرتبط إلى حد كبير بقدرة هذه الهيئة على المحافظة على التوافق الذي نشأت على أرضيته، واحتفاظها كذلك بحد معقول من رضا مختلف الأطراف المكونة لها.

ومعلوم أن تأجيل الانتخابات إلى أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول 2011 قد أدى إلى إطالة الفترة الانتقالية، مع كل ما يعنيه ذلك من المحافظة على وجود الهيئة العليا إلى حين الموعد الجديد وكذلك الحكومة المؤقتة. وهكذا، فبعد أن كانت مهمة الهيئة تهيئة الظروف المناسبة للانتخابات، وخاصة فيما يتعلق بإصدار القانون الانتخابي الجديد، وتشكيل لجنة مستقلة للإشراف على الانتخابات، باتت تسعى لضبط قوانين جديدة للحياة السياسية، مثل سنِّ قانون جديد للأحزاب، وقانونين آخرين للصحافة والجمعيات. هذا المسعى أدى إلى توتير الأجواء بفعل ما رآه عديد من الأطراف من ميل الهيئة، التي يسيطر عليها اليساريون، إلى تكبيل المجلس التأسيسي القادم، ومصادرة صلاحيات أول هيئة تمثيلية منتخبة انتخابا حرا وديمقراطيا في تاريخ البلاد. أدى ذلك إلى إثارة التساؤلات من جديد حول شرعية "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"، وإلى انسحاب حركة النهضة منها في خضم جلسة عاصفة عقدتها الهيئة المذكورة يوم الأربعاء 22 يونيو/حزيران الماضي. وكانت تلك الجلسة قد خُصصت لمناقشة مشروع قانون جديد للأحزاب، واعتقد البعض أن خروج الحركة كان بسبب تخوفها مما جاء في بعض بنود مشروع القانون المقترح من نصوص متعلقة بالمراقبة المالية، وهذا غير دقيق، لأن الحركة أعلنت أنها ليست ضد قانون الأحزاب الجديد من ناحية مضمونه، ولكنها ضد أن تتولى هيئة "غير منتخبة" التدخل في صلاحيات المجلس التأسيسي المقبل، وهو نفس موقف الحزب الديمقراطي التقدمي المنافس القوي لحركة النهضة على الساحة.

وبعيدا عن طريقة تقبل الفرقاء السياسيين والرأي العام لقرار حركة النهضة بالانسحاب من الهيئة العليا؛ فإن الملاحظ هو بداية اتباع الإسلاميين مسارا يهدف إلى مزيد من إضعاف الهيئة المذكورة عبر مهاجمتها بطريقة مفتوحة وعلنية، والدعوة إلى إنهاء مهامها بأسرع وقت ممكن. هذا الموقف يتبناه أيضا حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" الذي يرأسه الدكتور منصف المرزوقي، وقد تغيب ممثلوه عن اجتماع الهيئة ليوم الأربعاء 29 يونيو/حزيران. وكان هذا الحزب قد عقد في الأسبوع المنقضي مؤتمره الأول الذي تواصل لثلاثة أيام؛ حيث كانت مشاركة ممثلين له في الهيئة العليا إحدى أهم النقاط التي تمت مناقشتها بين المؤتمرين. وتشير دلائل قوية على اعتزام حزب المؤتمر تعليق عضويته في الهيئة العليا، وهو ما سيتم الإعلان عنه قريبا. أما "الحزب الديمقراطي التقدمي" فإنه، بالرغم من اعتراضه على نظر الهيئة في مشاريع قوانين يقول: إنها خارجة عن نطاق صلاحياتها، وبالرغم أيضا من التصريح الناري الذي أدلى به رئيسه أحمد نجيب الشابي ضدها مؤخرا والذي دعا فيه إلى إنهاء وجودها في أسرع وقت ممكن، إلا أن ممثليه لا يزالون يحضرون اجتماعات الهيئة ولم يبدوا أية دلائل على اعتزامهم الانسحاب منها.

غير أن بعض المسؤولين في حركة النهضة -وإن لم ينفوا سعيهم إلى إضعاف الهيئة العليا- فإنهم ينفون رغبتهم في إسقاطها تماما؛ ذلك أن إسقاطها دون وجود بديل آخر جاهز لها ربما سيؤدي إلى حالة من الفراغ تنعدم معه فضاءات الحوار المنظم بين الأطراف السياسية، وهو أيضا موقف "الحزب الديمقراطي التقدمي"، خصم الإسلاميين القوي في الانتخابات القادمة، وكذلك موقف "حزب المؤتمر من أجل الجمهورية"؛ فلا أحد من الفرقاء السياسيين الكبار يريد انهيار هذه الهيئة إذن، ولكن انهيارها يبقى مع ذلك أحد الاحتمالات الواردة بالنظر إلى الرفض الشعبي المتعاظم إزاءها. فمنذ منتصف شهر يونيو/حزيران يعتصم عدد محدود (ولكن متزايد) من المواطنين في ساحة حقوق الإنسان بالعاصمة التونسية في حركة أسمَوْها "اعتصام المصير" تنادي بإسقاط الهيئة العليا أو تغيير تركيبتها على الأقل بالشكل الذي يحد من سيطرة اليساريين عليها، ويحسِّن تمثيلية الفئات الشابة في تركيبتها.

لكن المسار الذي انخرط فيه الإسلاميون يمكن أن يفلت من سيطرتهم، وقد يفضي إلى الإطاحة بالهيئة، بل وأكثر من ذلك فقد يتسبب في انفلاتات أمنية تبدو الأوضاع الحالية في تونس مهيأة لها بدرجة غير مسبوقة؛ فبعد الجدل المحتدم الذي سببه نقاش الهيئة العليا لمسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني بمناسبة مناقشة وثيقة "العهد الجمهوري"، ثار جدل آخر بدأ يأخذ أبعادا كبيرة بعد مهاجمة مجموعة من السلفيين لعرض شريط سينمائي مثير للجدل بإحدى قاعات العاصمة (حادثة قاعة أفريكا-آرت ليوم الأحد 27 يونيو/حزيران) لمخرجة تعمدت فيه المجاهرة بالإلحاد وازدراء الدين الإسلامي. وقد حاولت الأغلبية اليسارية داخل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة إصدار بيان يندد بذلك الهجوم وينحاز للفيلم، وهو ما يثير مجددا الريبة حول الدور الذي تقوم به الهيئة العليا، والاتجاهات التي تريد الأغلبية اليسارية أن تدفع فيها البلاد. كما أخذ حوار إذاعي بين الشيخ عبد الفتاح مورو والدكتور محمد الطالبي (الأربعاء 29 يونيو/حزيران) منحى غير متوقع بتصريح الأكاديمي التونسي ذي التسعين عاما (الطالبي) بأفكار اعتبرها الشارع مستفزة بشكل حاد لمعتقداته الدينية؛ مما زاد في توتير الساحة أكثر فأكثر. وأهمية هذين الحدثين تكمن في أنهما زادا من توتير الأوضاع بما قد يؤدي إلى خروجها عن سيطرة المؤسسات الموجودة التي عبّرت عن عجزها عن ضمان مسار توافقي وهادئ نحو الانتخابات.

تطرح كل هذه المعطيات تساؤلات جدية حول الاتجاهات المستقبلية للمشهد السياسي في تونس؛ وهي اتجاهات لا تخرج عن إحدى الفرضيتين التاليتين:

  1. الفرضية الأولى: انهيار المؤسسات الحالية، وخاصة "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة" تحت ضغط الشارع، والانسحابات المتكررة لأعضاء آخرين منها، وتحت وطأة المواقف الانتقائية والمنحازة التي تأخذها فيها الأغلبية العلمانية داخلها. في هذه الحالة لن يمكن الوصول إلى موعد الانتخابات باليسر المتوقع في البداية، وستزداد رقعة الاحتكاكات والصدامات بين أنصار الهوية العربية الإسلامية ودعاة العلمانية انتشارا، وهذا التقسيم ليس فكريا وثقافيا فقط بل هو أيضا تقسيم سياسي يشق الساحة السياسية والحزبية بشكل عمودي وحاسم. في الوقت نفسه تحاول بعض القوى الاستفادة من التوتر السياسي لزيادة الاضطرابات ذات الطابع الأمني؛ مثلما حصل في مدينة المتلوي المنجمية جنوب غربي البلاد في أوائل شهر يونيو/حزيران، وفي مدينة قابس جنوب شرقي البلاد في الأسبوع المنقضي. كثير من هذه الأحداث تقتات على التوتر السياسي. وقد أكدت التجربة قدرتها على التحول السريع إلى أحداث دامية مما كان يؤدي باستمرار إلى فرض حالة الطوارئ في المناطق التي اندلعت بها. ويرى بعض المراقبين أن الأمر يتعلق بسيناريو مصغر لما يمكن أن يحدث لاحقا بالاقتراب من موعد الانتخابات ما سيعطي الذريعة لإعادة تأجيلها وربما إلغائها. هذه التخوفات هي ما يجعل الأحزاب الرئيسية في المشهد التونسي تتمسك ببقاء الهيئة العليا درءا للفراغ، ولكن مع العمل على إضعافها بما يحول دون اتخاذها مبادرات جديدة تصادر صلاحيات المجلس التأسيسي.
  2. الفرضية الثانية: محافظة المؤسسات الحالية على وجودها وتحسين أدائها عن طريق العودة إلى وفاق وطني حقيقي. وبالفعل فقد ظهر في أوساط الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي تململ من جانب عدد من الشخصيات الوطنية المستقلة التي أصدرت بيانا بتاريخ 4 يونيو/حزيران كان له صدى كبير في الساحة السياسية حيث انتقد طريقة أداء الهيئة، واتهم رئاستها بالانحياز للطرف اليساري المسيطر على تركيبتها. وتستعد نفس المجموعة مع شخصيات أخرى لإطلاق مبادرة ترمي إلى رأب الصدع الموجود حاليا في الساحة السياسية التونسية بالدعوة إلى عودة الأطراف المنسحبة من الهيئة العليا، وتنظيم ندوة وطنية تشارك فيها الهيئات الموجودة والأحزاب والحكومة يكون الهدف منها وضع خارطة طريق لاجتياز ما تبقى من المرحلة الانتقالية بأكثر ما يمكن من الوفاق، بما يسمح بالوصول إلى الانتخابات بطريقة آمنة عبر التخفيض من التوتر الحالي بين الإسلاميين والعلمانيين خصوصا، وإعادة النجاعة لعمل الهيئة العليا. وتعطي استقلالية الشخصيات التي ستطلق هذه المبادرة ضمانات كبيرة لتعامل إيجابي معها من قبل الفرقاء السياسيين بما قد يساهم في تحسين الثقة بينها. لكن هناك صعوبات سيكون على أصحاب هذه المبادرة التعامل معها، أهمها توجس اليساريين من كل ما من شأنه أن يسحب البساط من تحت أقدام الهيئة التي يسيطرون عليها، ويأس بقية الفرقاء من إمكانية تغيير اليساريين لسلوكهم السياسي في الفترة المقبلة. مع ذلك فإن المبادرة المذكورة تبقى العمل الوحيد الممكن في الوضع الحالي كما أن مطلقيها يتمتعون باحترام كبير في الرأي العام.

    وفي الفرضيتين فإن ما يثير القلق هو ارتباط بعض الفرقاء السياسيين بأجندات أجنبية (فرنسية بالخصوص) تعتبر أن أية انتخابات ستفرز أغلبية إسلامية، وأن إطالة الفترة الانتقالية يجب أن يُستغل لإضعاف الإسلاميين، بافتعال أحداث ثم تحويلها إلى صدامات أمنية يتم استغلالها عبر مجهود دعائي كبير لتشويه خصوم اليساريين. وهنا فإن بعض الدلائل تشير إلى تورط بقايا جهاز البوليس السياسي والإطارات المتنفذة في وزارة الداخلية (التي توجه تحركات نقابة الشرطة) فيما يجري من انفلاتات. كما أن السرعة القياسية التي تم بها نقل حادثة "أفريكا آرت" إلى المجلس الأوربي (بضع ساعات فقط بعد حدوثها) يشير إلى طبيعة الأهداف الكامنة وراء تلك الاستفزازات. من هنا فإن المشكل الحقيقي يتمثل في جدية التزام العلمانيين بأية مبادرات تُطلَق من أجل الحد من الاحتقان الموجود، وفي الاستعداد الدائم لقوى الماضي لاستغلال التوترات السياسية لتحويلها إلى توترات أمنية تؤجل الانتخابات أو تلغيها.

    هناك إذن مصلحة مشتركة وضمنية بين القوى المتنفذة في أجهزة الدولة والتابعة للنظام القديم (من أجل تأجيل المحاسبة) وبين اليساريين (تأجيل فقدان السيطرة على الوضع وما بحوزتهم من مكتسبات)، وهو ما يثير التساؤل مجددا عن حظوظ نجاح أي مسار لا يبدأ بالتخلص من قوى الشد إلى الوراء التي لم تفقد منذ 14 يونيو/حزيران إلا القليل من مواقعها في جهاز الدولة وخاصة في وزارتي العدل والداخلية. الوضع إذن، وبغض النظر عن أية مبادرات، متجه إلى مزيد من التوترات السياسية والأمنية بما يهدد تنظيم الانتخابات في وقتها المعلن في 23 أكتوبر/تشرين الأول المقبل.