الانقلاب العسكري في مالي وتبعاته الداخلية والخارجية

ساهم الانقلاب العسكري بمالي في تقوية المتمردين وحلفائهم الإسلاميين رغم أنف دول المنطقة الساحلية التي التزمت بمحاربة التشدد والتطرف كالجزائر والنيجر وموريتانيا فهل سيفضي هذا التطور إلى تحول الصحراء الكبرى إلى منطقة خارجة عن السيطرة والقانون تمرح فيها وتسرح الجماعات المسلحة.
20124514210671734_2.jpg
ساهم الانقلاب العسكري بمالي في تقوية المتمردين وحلفائهم الإسلاميين رغم أنف دول المنطقة الساحلية التي التزمت بمحاربة التشدد والتطرف (الجزيرة)

يعيش مالي منذ يوم 22 مارس/ آذار 2012 في ظل نظام عسكري. فقد استولت طغمة عسكرية على السلطة مطيحة بالرئيس أمادو توماني توريه بعد اشتباكات مع موالين له في محيط القصر الرئاسي. وسمت الطغمة نفسها "اللجنة الوطنية لتقويم الديمقراطية وإرساء الدولة"، وهي تتكون من ضباط ثانويين وضباط صف وجنود عاديين ويرأسها النقيب أمادو أيا سانوغو. وقد بادرت بالإعلان عن حل جميع المؤسسات وتعليق العمل بالدستور.

لماذا تمت الإطاحة بالرئيس المالي أمادو توماني توريه

بررت اللجنة انقلابها بما سمته سوء تسيير الرئيس أمادو توماني توري لملف تمرد الطوارق في شمال البلاد، وذلك من خلال بيان قصير بثته هيئة الإذاعة والتلفزيون المالية التي احتلتها الطغمة غداة الانقلاب.

والحقيقة أن انقلاب 22 مارس/ آذار 2012 جاء في وقت تشهد فيه البلاد تمردا حقيقيا. وانضاف إلى حالة الإهمال التي تعيشها القوات المسلحة شعور بمذلة لا تطاق أمام التقدم المستمر لمتمردين في غاية التسلح.

وزاد من حدة التوتر شكاوى الرأي العام المتزايدة من "سلبية" الرئيس أمادو توماني توري عندما ترك مسلحين يتدفقون من ليبيا بعد سقوط القذافي إلى مالي دون أن تنزع منهم أسلحتهم كما جرى في النيجر المجاور.

وزاد من تبرم الجيش بهذه "السلبية" هجوم وقع يوم 24 يناير/ كانون الثاني 2012 على حامية عسكرية في الشمال وقضى فيه سبعون جنديا أو أكثر بعد أن باغتهم مسلحون بينهم عناصر من الحركة الوطنية لتحرير أزواد، وجماعات تنتمي لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي كثيرا ما أطلق عليها في بعض التقارير "الجماعات الإرهابية"، وجهاديون من جماعة أنصار الدين التي يقودها إياد آغ غالي أحد وجوه تمرد التسعينيات.

وبعد هذه الفظائع تظاهرت أمهات وأرامل الجنود المقتولين أمام بوابة القصر الرئاسي حيث استقبلهم أمادو توماني توري رغم نعتهم له "بالمتمرد رقم 1" واتهامهم له بالتراخي وعدم الكشف عن حقيقة الأوضاع في شمال البلاد.

وقد تصاعدت الانتقادات الموجهة للرئيس أمادو توماني توري ولم تعد تقتصر على اتهامه بالتقصير في الجانب الأمني بل باتت تشمل تخاذله في مواجهة الفساد المستشري في البلاد.

وحرصا نته على الاحتفاظ كامل نفوذه، لم يعين توريه قط رئيس وزراء ينتمي إلى حزب سياسي أو أغلبية برلمانية؛ بل ظل على الدوام يعتمد على أغلبية خيالية وينكر وجود معارضة حقيقية لنظامه مرسيا بذلك حكما فرديا سلطويا تباركه ضمنيا الطبقة السياسية.

وبطبيعة الحال انزلق النظام شيئا فشيئا نحو الظلم والحيف وخاصة في معالجة الملفات الحساسة. وزاد الطين بلة التراخي الناجم عن "التسيير التوافقي للسلطة" الذي طالما تبجح به الرئيس المخلوع.

فالديمقراطية لا تنمو في جو الفساد ولا تثمر في ظل الزبونية والكسب غير المشروع. ففي المحيط العائلي للرئيس توريه كان هناك رجال ونساء مشهورون في باماكو بتلقي الرشى لقاء تسهيلهم الحصول على عقود وصفقات عمومية. وقد راجت في الآونة الأخيرة إشاعة تقول إن أحد هؤلاء المرتشين المقربين من الرئيس قد صرف أثناء زيارة لأوروبا في سبتمبر/ أيلول 2011 نقودا مشبوهة تمثلت في أوراق نقدية سبق للحكومتين الألمانية والفرنسية أن احتفظت بأرقامها لكونها دفعت ضمن فدية لتحرير رهائن كان يحتجزهم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.

وقبل ذلك وفي عام 2010 أعلن مكتب الرقابة العامة، وهو جهاز رقابة مستقل أنشأه الرئيس توريه نفسه عام 2004، عن اختفاء مبلغ 380 مليار فرنك إفريقي من أموال الدولة. وحتى ذلك الحين كان الرئيس توري يبدو غير عابئ ولا مكترث بالفساد المستشري من حوله بشكل صارخ ووقح.

ولم تزد الإجراءات التي اتخذت يومها لمحاربة الفساد أن اقتصرت على اقتراح آليات تضمن تسديد مختلسي أموال الدولة للمبالغ التي استولوا عليها بشكل غير شرعي دون أن ينالوا عقابا حرصا على عدم إذلال المتحكمين في الاقتصاد كما كان يردد الرئيس المخلوع.

ولهذا نفهم لماذا حرص رئيس الطغمة العسكرية الجديدة في أول خطاب يوجهه للأمة على استنكار استشراء الفساد في البلاد وتأكيده العزم على مواجهته.

وبكلمة واحدة فإن انهيار الدولة وعجزها عن تأدية جميع وظائفها الحيوية قد هيأ الأرضية لهذا الانقلاب العسكري الذي ستنعكس تبعاته قبل كل شيء على الوضع الأمني في شمال البلاد.

شمال البلاد أو متأثر بالانقلاب

لا شك أن الانقلاب العسكري الذي شهده مالي يوم 22 مارس/ آذار 2012 سيترك أثرا نفسيا كبيرا على مختلف الحركات المسلحة التي احتلت أغلب مناطق شمال البلاد وتمركزت بها، وأعني متمردي الحركة الوطنية لتحرير أزواد، والحركة الإسلامية المتشددة المعروفة اختصارا بـ"أنصار الدين" والتي تدعو إلى أسلمة مالي كله، فضلا عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.

وقد أكد قائد الانقلابيين النقيب أمادو آيا سانوغو في مقابلة مع جريدة محلية أن 70% من أهداف الانقلاب تتمثل في تحرير شمال مالي من سيطرة هذه الجماعات المسلحة غير النظامية.

ولن يكون تعاطي الانقلابيين سهلا مع متمردي الحركة الوطنية لتحرير أزواد الذين يحتلون المدن والبلدات في شمال مالي تباعا ويستغلون؛ فيما يبدو؛ حالة الارتباك السائدة في باماكو، و"الانسحاب الاستراتيجي للجيش النظامي"، لبسط نفوذهم على مزيد من المناطق وتعزيز مواقعهم القتالية في انتظار الهجوم الذي توعد به الانقلابيون. وأبرز مثال على ذلك هو استيلاؤهم على المركز العسكري في "تساليت" المجهز بمدرج لهبوط الطائرات لأنه سيشكل بوابة للمتمردين على العالم الخارجي ومنفذا يضمن تزويدهم بالأسلحة والذخائر والمؤن المختلفة.

وإذا كان الجيش المالي يفتقد بشكل صارخ إلى وسائل القتال فمن البديهي أن الانقلاب العسكري ليس هو الطريقةَ الأسرعَ لحل هذا المعضل. فالانقلابيون ليسوا معروفين لدى الجمهور ولا يملكون عصى سحرية لجلب ما يلزم الجيش من معدات وتجهيزات. بل لا يستبعد أن يواجهوا مصاعب مالية جمة نظرا لما يتهددهم من عقوبات.

وترى الطغمة العسكرية في المقابل أن هذا الانقلاب يشكل فرصة سانحة لتشخيص أوضاع الجيش المالي واتخاذ الإجراءات اللازمة لاستئصال شأفة الحركات المسلحة. وقد أعلن الانقلابيون عزمهم الشروع في إعادة تنظيم الجيش المالي الذي أنهكته الهزائم المتتالية التي مني بها في شمال البلاد، والعائدة أساسا إلى الفساد المستشري في دوائره القيادية. واستهدفت التعيينات الأولى بعد الانقلاب تجديد الهيئات القيادية من خلال إقالة الحرس القديم وضخ دماء جديدة في قمة المؤسسة العسكرية.

ولا يتردد الكثير من الضباط والجنود داخل الجيش في التعبير عن رفضهم لفحوى اتفاقات السلام التي يتذرع المتمردون الطوارق بعدم تطبيقها في حملهم للسلاح من جديد. ومن أحدث هذه الاتفاقات ما يعرف باتفاق الجزائر الموقع يوم 4 يوليو/ تموز 2006. وينص هذا الاتفاق المثير للجدل على انسحاب الجيش من بعض مناطق الشمال وإنشاء وحدات أمنية خاصة تتكون غالبيتها من الطوارق ويتم دمجها في الجيش. وتكرس ترتيبات هذا الاتفاق نوعا من التقسيم الفعلي لأراضي البلاد.

منظمة الإيكواس.. مالي والتهديد الإفريقي القادم

وهناك معطى جديد ينبغي أن لا يغفل وهو موقف المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) التي عبرت عن إدراكها أخيرا لتردي الأوضاع الأمنية في الشمال المالي. فقد قرر رؤساء دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، التي تضم خمس عشرة دولة بغرب إفريقيا، في القمة الاستثنائية التي عقدوها في أبدجاه يوم 27 مارس/ آذار 2012 حول الأزمة في مالي بعد الانقلاب الذي أطاح بأمادو توماني توريه وتعاظم تمرد الطوارق أنه "في حال عدم انصياع حركات التمرد ، فإن المؤتمر سيتخذ جميع الإجراءات اللازمة، بما فيها استخدام القوة، لوضع حد نهائي للتمرد والحفاظ على وحدة مالي الترابية".

وبعد أن عينت قمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) وسيطا لإرساء قناة اتصال بين طرفي النزاع المسلح هو رئيس بوركينافاسو بليز كومباوريه، أعربت عن تنديدها "بتوظيف حركات التمرد المسلحة غير المقبول للأزمة الدستورية في مالي من خلال تكثيف هجماتها لإحكام سيطرتها على مزيد من مناطق الشمال".

وأكدت الإيكواس في ختام قمتها تصميمها على اتخاذ جميع التدابير اللازمة لدعم جهود الحكومة المالية الرامية إلى صيانة وحدة البلاد الترابية. ولكن السؤال الذي يحير العقول الآن هو: هل يمكن أن يتحول خطاب حسن النوايا الذي أعربت عنه هذه المنظمة الإقليمية إلى التزام فعلي وملموس لحل الأزمة المالية؟

ولعل السبب الأبرز لاهتمام الدول المجاورة لمالي بالأزمة الحالية هو أن آثار انقلاب العقيد سانوغو تمس هذه البلدان في العمق.

دول جوار مالي.. حسابات معقدة مع أزمة عميقة

هناك مستويان أمني وإنساني لتبعات انقلاب مالي على دول منطقة الجوار مثل موريتانيا والجزائر و ليبيا والنيجر. فهذه البلدان فضلا عن بوركينافاسو تعتبر الأكثر تضررا بالانقلاب العسكري الذي أطاح بأمادو توماني توريه يوم 22 مارس/ آذار 2012.

فقد اغتنم المتمردون وحلفاؤهم الإسلاميون انشغال باماكو بتعقيدات الانقلاب ليشنوا هجوما عسكريا كاسحا مكنهم من الاستيلاء على مدينة كيدال قرب الحدود مع الجزائر وهي أكبر مدن الطوارق في الشمال. ومع سقوط كيدال إثر انسحاب الجيش المالي النظامي الاستراتيجي يكون خطر تقسيم البلاد بات محدقا فعلا. وسيؤدي هذا الأمر على المدى الطويل إلى إعادة تشكيل الخارطة الاجتماعية والجيوسياسية للمنطقة مع احتمال سريان العدوى إلى البلدان التي يوجد بها سكان من البربر كالجزائر والنيجر.

ومن نافلة القول أيضا إن الانقلاب الذي حدث في باماكو قد ساهم في إضعاف الجبهة العسكرية النظامية لحساب المتمردين وحلفائهم الإسلاميين رغم أنف دول المنطقة الساحلية التي التزمت بمحاربة ما بات يعرف اصطلاحا بالإرهاب كالجزائر والنيجر وموريتانيا. وسيفضي هذا التطور إلى تحول الصحراء الكبرى إلى منطقة خارجة عن السيطرة والقانون تمرح فيها وتسرح الجماعات التي يطلق عليها في الأوساط "الجماعات الإرهابية" والعصابات المسلحة. ولهذا بادرت دول الجوار، على غرار باقي دول المنطقة والمنظمات الإفريقية بل والدولية، إلى التبرم بالانقلاب وإدانته.

ورغم كل المآخذ على تسيير أمادو توماني توريه للأزمة في شمال البلاد، فإن الجيران ظلوا يعتبرون مالي نموذجا للديمقراطية في المنطقة. ولهذا توالت من كل حدب وصوب التنديدات بإقحام الجيش لنفسه في اللعبة السياسية والمناشدات له بالعودة إلى الوضع الدستوري.

فبالنسبة للدول الإفريقية المجاورة والبعيدة لا يوجد ما يبرر تدخل الجيش في الشأن السياسي بعد أن نجح مالي في عملية التناوب الديمقراطي عام 2002، وهو اليوم على بعد ثلاثة أشهر فقط من عملية تناوب جديدة. ولهذا فعندما يتحدث الانقلابيون عن "تقويم الديمقراطية" فإنهم لا يقنعون الكثير من الماليين.

وينبغي أن لا ننسى أن مواقف الجزائر وموريتانيا من الرئيس المخلوع لم تتسم في الماضي بالليونة بل إن صحافة البلدين لم تترد بوصفه بـ"المتخاذل" في مواجهة ما بات يعرف اصطلاحا بالإرهاب. فهل نتوقع مثلا أن يغير هذان البلدان موقفيهما من الطغمة العسكرية إن هي أبدت تصميما أكبر على مواجهة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الذي يقاتل إلى جانب متمردي الحركة الوطنية لتحرير أزواد؟ بعبارة أخرى هل يمكن أن يتحول الانقلابيون إلى شريك ذي مصداقية في الحرب على ما يعرف بالإرهاب؟

وعلى كل حال يبدو أن رئيس الطغمة العسكرية النقيب سانوغو ورجاله مصممون على تحرير شمال مالي من الحركات المسلحة التي تتمركز فيه ويعتبرون الأمر قضية شرف. لكن الانقلابيين مطالبون أولا بمقاومة تهديدات المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا بفرض حظر دبلوماسي وسياسي ومالي على البلد.

وفضلا عن التعقيدات الأمنية فإن الآثار الإنسانية للانقلاب المتمثلة في مشكلة اللاجئين باتت مصدر معاناة لبلدان الجوار كموريتانيا والجزائر وليبيا والنيجر. فانقلاب النقيب سانوغو فجر الأوضاع الأمنية في الشمال وتزامن مع كارثة غذائية مخيفة في منطقة الساحل. فعلى طول الحزام الصحراوي الذي يربط مالي بالنيجر مرورا بموريتانيا تهدد المجاعة الملايين من الناس نتيجة العجز الفادح في الحبوب. وتقدم منظمة "أوكسفام ـ جي بي" أرقاما مقلقة حيث تشير إلى أن 13 مليون شخص مهددون بالمجاعة في الساحل منهم 5 ملايين في النيجر و3 ملايين في مالي.

ويعلم الجميع أن العنف المتولد عن نقص الغذاء هو بمثابة قنبلة موقوتة في منطقة الساحل. وينبغي أن نتنبه إلى أن انقلاب مالي جاء في وقت كادت فيه مخازن الغذاء أن تنضب. أما اللاجئون الذين نزحوا من شمال مالي بعد احتدام المعارك هناك، فإن أول المتضررين من مأساتهم هي دول الجوار. فقد اضطرت المواجهات العنيفة نحو مائتي ألف شخص إلى الفرار من مواطنهم الأصلية. وقد استقر بعضهم في مالي بينما نزح بعض إلى بوركينافاسو وموريتانيا والنيجر والجزائر.

ولم تثر هذه المأساة الإنسانية وثبة تضامن واسع ونظرا لغياب الأمن الغذائي في المنطقة كلها فإن اللاجئين يعيشون أغلب الأحيان في "ظروف غالبة الصعوبة" حسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
___________________________

سيكوبا ساماكيه - صحفي
ترجمة: محمد بابا ولد أشفغ