السلفية العلمية في منطقة الساحل وموقعها من الخريطة الجهادية

مرجعية السلفية العلمية في منطقة الساحل مرجعية وهابية تيمية، وأزمة الجزائر في تسعينيات القرن الماضي أدت لانتشار الفكر السلفي الحديث في المنطقة. والسلفية العلمية ليست طبعة واحدة، بل تتأثر بالأنساق الاجتماعية المحلية. ولا يمكن الجزم بأن السلفية العلمية تمثل مرجعية التنظيمات المقاتلة، وإن كان من الصعب أيضا تبرئة الفكر السلفي من إنتاج أنماط تفسيرية تؤول في بعض أحيانها لصالح تسويغ "عمليات" المقاتلين الإسلاميين.
2012627103419668734_2.jpg
 لن يكون من الإجحاف القول إن الحركة السلفية الجزائرية تمثل الرافد الأبرز للحركات السلفية في منطقة الساحل الإفريقي

تعيش دول الساحل أزمات متعددة، أبرزها أزمة "الزمن السلفي" الذي وضع بصماته الدامية على حياة هذه الدول، بشكل مخيف منذ عدة سنوات، مثيرا أسئلة كثيرة في السياسة التي أعاد تشكيلها من جديد والأمن الذي استنفره لمحاربة تنظيمات متموجة كسلاسل رمال الصحراء، والدين الذي يجعل منه مقاتلو السلفية وخصومهم على حد سواء ميدانا للتنازع. إن دراسة المشهد السلفي في منطقة الصحراء، يستدعي بالضرورة الحفر حول الجذور التاريخية والفكرية لفلسفة ما بات يعرف بظاهرة التطرف الديني، وروافدها الثقافية ومآلاتها المتوقعة.

لن يكون من الإجحاف القول إن"الحركة السلفية" الجزائرية، تمثل الرافد الأبرز للحركات السلفية في منطقة الساحل الإفريقي، فقد خرج من معطف السلفية الجزائرية أغلب إن لم نقل كل التنظيمات السلفية الموجودة بمنطقة الساحل، حيث مثل قادة السلفية المقاتلة الأساتذة الأول لتنظيمات المسلحة الجهادية.

السلفية العلمية بموريتانيا.. أجنحة متعددة ومرجعية واحدة

مثلت فترة منتصف الثمانينات من القرن المنصرم فترة رواج أو انطلاق للأفكار السلفية، ففي تلك الحقبة بدأ المعهد السعودي في موريتانيا يستقبل مئات طلاب المحاضر، وبدأ الكتاب ذو "الرؤية الوهابية"، تدخل الفضاء المعرفي في موريتانيا بشكل متزايد. والمعهد السعودي في موريتانيا كان قد افتتح سنة 1979 في نواكشوط كواحد من خمسة معاهد تابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود خارج المملكة العربية السعودية، وظل قبلة للطلاب من موريتانيا ودول شمال وغرب إفريقيا، قبل أن يتهمه نظام الرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد الطائع بنشر المذهب الوهابي وثقافة الغلو والتشدد ويغلقه سنة 2003 في أوج صراعه مع الحركة الإسلامية.

ويمكن لدراسة الحالة الموريتانية التمييز بين عدة اتجاهات في الحركة السلفية أبرزها ثلاثة:

السلفية العلمية: وتهتم بشكل خاص بمناكفة الحركات الصوفية والفقهاء الفروعيين، داعية إلى الاستمداد المباشر من الكتاب والسنة مصدرين وحيدين للتشريع. ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه القاضي التقي ولد محمد عبد الله (توفي في أكتوبر 2011)، والشيخ محمد سيديا ولد اجدود المعروف بالنووي، وقد تعرض النووي للاعتقال مرارا في عهد الرئيس الموريتاني السابق ولد الطايع حيث اعتقل سنة 1994 ليطلق سراحه نهاية تلك السنة، ليعتقل مرة أخرى سنة 2005 ضمن اعتقالات عامة شملت الإخوان والسلفيين معا. والنووي أحد أهم الشخصيات السلفية العلمية في العالم؛ حيث تم اختياره نائب رئيس رابطة علماء المسلمين خلال اجتماعها التأسيسي بالكويت في يناير/ كانون الثاني 2010. ورابطة علماء المسلمين هي أبرز واجهات السلفية في العالم. إضافة إلى الدكتور محمد ولد أحمد الملقب الشاعر الذي اعتقل مرارا كما اعتقل معه الأستاذ أحمد مزيد ولد عبد الحق وهو من أبرز وجوه السلفية العلمية في موريتانيا. وتعتبر جمعية البر للدعوة والإصلاح أهم واجهة لهذا التيار حاليا في موريتانيا وقد شغل محمد ولد أحمد الملقب الشاعر إدارتها.

وتتمز السلفية العلمية في موريتانيا بعلاقاتها الوطيدة مع هيئات وشخصيات سلفية في دول الخليج وخصوصا الكويت والسعودية. كما تتميز بانتقادها المتواصل للنهج القتالي الذي يمارسه تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي. وكثيرا ما دخلت في مناكفات ونقاشات مع بعض الجهاديين الموريتانيين، ويوجد جانب من تلك الأدبيات السجالية في بعض المواقع الإلكترونية.

السلفية المتسيسة: وهي الأضعف لحد الآن في الساعة الموريتانية، وينشط أغلب رواد هذا التيار في دعم الأنظمة السياسية المتعاقبة، ويتقاطع خطاب هذا التيار في كثير من مفرداته مع ما بات يعرف بالمدخلية خصوصا فيما يتعلق بالموالاة المطلقة للسلطة. وتجتمع السلفية المتسيسة مع السلفية العلمية في الرافد الفكري والعلمي (الوهابي التيمي) وإن تميزت بانخراطها في العملية السياسية، ومن أبرز منظري هذا الفصيل الشيخ أحمدو ولد لمرابط إمام الجامع السعودي الكبير في موريتانيا الذي يثير بين الحين والآخر جدلا واسعا بسبب مواقفه الداعمة للسلطة، وقد أطلق قبل أشهر اسم "رئيس العمل الإسلامي" على الرئيس الموريتاني الحالي محمد ولد عبد العزيز.

السلفية الجهادية:استهوى الجهاد الأفغاني في وقت مبكر عددا من معتنقي الفكر السلفي في موريتانيا، وانخرط بعض هؤلاء في أعمال قتالية ضد الاحتلال السوفيتي، حيث لقي بعضهم حتفه في تلك المعارك؛ مثل المهندس يحيى ولد حمدات الذي قتل في أفغانستان سنة 2002 في المواجهات المسلحة مع القوات الأمريكية الغازية، وكان قد انضم لحركة طالبان قادما إلى أفغانستان من ليبيا.

وفي الوقت نفسه تسنم بعض الموريتانيين مناصب عالية في تنظيم القاعدة، كما هو الحال بالنسبة لأبي حفص محفوظ ولد الوالد الذي يوصف بالرجل الثالث سابقا في تنظيم القاعدة (أجرى معه يوسف الشولي مقابلة شهيرة بثتها قناة الجزيرة بداية تسعينيات القرن الماضي)، إضافة إلى المهندس المعتقل في غوانتانامو محمدو ولد صلاحي، وهناك الآن أكثر من 40 معتقلا في سجون موريتانيا وجه إليهم الأمن الموريتاني تهما متعددة كالإرهاب والقتل وحمل السلاح والخطف وغير ذلك.

ويعتبر حمادَه ولد محمد خيرو، القيادي بحركة التوحيد والجهاد بغرب إفريقيا وهي حركة حديثة النشأة، أحدَ أبرز قيادات هذا التنظيم، إضافة إلى عدد كبير من الموقوفين حاليا في سجون نواكشوط. ويعتبر الشاب محمد سالم المجلسي، وهو مؤلف وشاعر، أحد أكثر المدافعين بأسلوبه الحاد في الكتابة عن هذا الاتجاه. وتعكس بعض كتاباته، المنشورة في أكثر من موقع سلفي، رفضا للحياة المدنية المعاصرة وقيمها الديمقراطية؛ إذ طالما أعلن: "أن محاولة إدماج السلفيين في سلك الحياة الديمقراطية، دعوة للباطل، يرفضونها ويقفون ضدها، وأن السلفيين ما كانت لتؤثر فيهم الدعوات البراقة التي يطلقها علماء الديمقراطية، بعيدا عن فضاء الشريعة السمحة والرحمة المهداة، فكان الواجب نصر الشريعة، لا مجرد رفع الشعارات"(1).

غير أن الظاهرة الجهادية ستستقطب لاحقا عددا كبيرا من الموريتانيين، منذ بداية العام 2003، ودخول نظام الرئيس معاوية ولد الطايع في مواجهة مفتوحة مع كل أطياف الحركات الإسلامية. ويزداد خطر استقطاب القاعدة للشباب السلفي في موريتانيا مع الأزمة التي تفاقمت أخيرا في إقليم أزواد بشمال مالي، ومع ظهور قيادات موريتانية في المشهد القتالي هنالك. وتذهب مصادر إعلامية إلى أن أكثر من ثلاثين سلفيا موريتانيا لقوا حتفهم خلال السنوات الخمس الماضية في معاقل تنظيم القاعدة أو خلال معارك مع جيوش دول الساحل.

السلفية العلمية بإفريقيا الغربية.. محاربة الصوفية والتشيع

يتميز الإسلام الإفريقي بشكل عام بأنه إسلام صوفي مالكي احتفالي سلطوي مسالم، ويأخذ في أحيان عديدة صبغة الهوية القومية، وهو ما أخر ظهور السلفية بأجنحتها المختلفة في منطقة الساحل الإفريقي وأسهم في توتير العلاقات بينها وبين رموز الإسلام التقليدي ومؤسساته في المجتمع الإفريقي.

وفي النيجر كما في نيجيريا على سبيل المثال برزت حركة "إزالة البدع وإقامة السنة" المعروفة اختصارا بـ"إزالة" والتي أسسها الشيخ إسماعيل إدريس في نيجيريا سنة 1978؛ وهي حركة سلفية تعمل على تطهير العقيدة مما تعتبره شبهات شرك كالتبرك بالأضرحة وبالأولياء، وغير ذلك من المسلكيات الشائعة بين أتباع الطرق الصوفية القادرية والتيجانية في الساحل الإفريقي. وقد امتدت نشاطات هذه الحركة لاحقا إلى النيجر، مثيرة جدلا متواصلا مع الحركات الصوفية في النيجر، ويتمتع أتباع حركة "إزالة" بمستوى من التنظيم؛ حيث يرتدي بعض عناصرها زيا شبه عسكري حينما يشرفون على تنظيم الأنشطة الجماهيرية وإقامات صلوات الأعياد.

وعانت هذه الحركة مثل نظيرتها الأم في نيجيريا من انقسامات كثيرة، حيث تمايزت في بادئ الأمر إلى فصيلين هما:

  • حركة إحياء السنة برئاسة الشيخ أبو بكر إبراهيم.
  • حركة الكتاب والسنة بزعامة ساني دان تودو.

وتتفق الحركتان على نبذ التصوف ومحاربة المراسيم التي يقيمها المتصوفة لدى الأضرحة أو في الاحتفاليات والمواليد في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى مقاومتها المتزايدة لما تعتبره المد الشيعي في إفريقيا.

وفي نيجريا لا يمكن إغفال الظاهرة السلفية خصوصا بعد ظهور تنظيم " بوكو حرام" المتشدد الذي أعاد إلى الإذهان السؤال عن الجذور الإسلامية لظاهرة العنف في إفريقيا. ويعتبر الشيخ أمين الدين أبو بكر رئيس جماعة الدعوة الإسلامية أبرز الوجوه السلفية في نيجريا، ورغم أن أغلب قادة حركة بوكو حرام السلفية درسوا على الشيخ أمين الدين هذا إلا أنه يرى في عملهم الجهادي "فتنة" لا يدري فيها القاتل لم قتل ولا المقتول فيما أريق دمه.

وفي جمهورية مالي وخصوصا منطقة أزواد فإن فضاء الصحراء الممتد هنالك اتسع أكثر للسلفية المقاتلة أكثر من اتساعه للسلفية العلمية. وتحتضن جمهورية مالي اليوم خليطا من الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية التي ظلت أبرز العناوين السلفية المقاتلة في الجزائر منذ سنوات، وخليطا من المجموعات المقاتلة الصغيرة القادمة من دول الساحل وخاصة موريتانيا. وقد بسطت الجماعة سيطرتها على مناطق واسعة في شمال مالي منذ سنوات مستفيدة من حالة الفراغ التي تعرفها المنطقة الصحراوية الساحلية الشاسعة الواقعة على الحدود بين مالي وموريتانيا والجزائر. ويتكون تنظيم قاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بعد استقراره في منطقة الساحل وخصوصا في إقليم أزواد من كتائب وسرايا قتالية من أبرزها:

  1. كتيبة الملثمين:ويقودها مختار بلمختار الشهير بلقبه بلعور؛ وهي الكتيبة الأقدم في المنطقة والأعرف بدروب الصحراء حيث يوجد في صفوفها عدد كبير من الأزواديين بطوارقهم وعربهم كما تضم أمراء حرب مخضرمين عرفتهم المنطقة وعرفوها في تجارة السلاح والمخدرات والوقود حتى قبل ظهور تنظيم القاعدة والجماعة الإسلامية من قبله.
  2. سرية الفرقان: وقائدها يحي أبو الهمام، وهي الكتيبة الأكثر شراسة خلال السنوات الأخيرة ويوجد في عضويتها العشرات من الموريتانيين، وهو ما يفسر تكرار اشتباكها مع الجيش الموريتاني في معارك حاسي سيدي، وعدل بكرو وغابة واغادو.
  3. كتيبة طارق بن زياد ويقودها عبد الحميد أبو زيد وهي الكتيبة الأكثر سلفية وراديكالية، كما أنها الأكثر استفادة من عائدات خطف الرهائن، وهي كتيبة منوعة تضم كل مقاتلين من أغلب دول الساحل الإفريقي والمغرب العربي.

وعلى هامش هذه الكتائب والسرايا الثلاث، والمعروفة في أدبيات تنظيم القاعدة بإمارة الصحراء، والخاضعة لإمرة الجزائري نبيل المخلوفي الملقب نبيل أبو علقمة والذي تم تعيينه خلفا ليحيى الجوادي على رأس إمارة الصحراء، هناك جماعتان تنشطان في الشمال المالي وتتبنيان فكرا قاعديا قتاليا، والجماعتان هما:

  1. حركة التوحيد والجهاد في منطقة غرب افريقيا بقيادة سلطان الأزوادي وحمادة ولد محمد خيرو، وهي حركة حديثة النشأة وتضم في عضويتها مجموعات من المنشقين عن كتائب القاعدة الثلاث آنفة الذكر، ويغلب على عضويتها العنصر العربي.
  2. جماعة أنصار الدين بقيادة إياد غالي، القيادي الطوارقي المخضرم، وهي جماعة تحاول أن تأخذ لنفسها مسافة من القاعدة لكن العارفين بخفايا الأمور في منطقة الساحل يرجحون أن الجماعة التي يقودها قنصل مالي السابق في السعودية، ليست سوى عنوان من عناوين القاعدة في الشمال المالي.
     لكن الحقيقة الماثلة اليوم هي أن السلفية الجهادية في منطقة الساحل باتت عمليا "دولة" من أقوى دول المنطقة، وهي في طريقها على الراجح لتزيد من قوتها وهيمنتها وتوسعها ربما.

سلفية اليوم وسلفية الأمس.. الاتصال والانفصال

رغم أن منطقة الساحل شهدت تجارب عديدة في مجال التجديد الإسلامي وخصوصا في موريتانيا والجزائر ونيجيريا، إلا أنه من الصعب القول إن السلفية العلمية استفادت بشكل كبير من تلك التجارب السابقة. ومن المفارقات أن مدينة بوتلميت الواقعة في الجنوب الغربي الموريتاني التي أنجبت بابا ولد الشيخ سيديا (1860-1924)، وهو صاحب رؤية سلفية؛ قد أنجبت -وربما لا تزال كذلك- عددا من رموز السلفية العلمية المعاصرة. ورغم بعض التقاطع النسبي بين تجربة السلفية العلمية في موريتانيا والتجربة السلفية للعلامة بابا ولد الشيخ سيديا، إلا أوجه الاختلاف كثيرة بين التجربتين، خصوصا على مستوى الرافد والتنظير السلفي، حيث يختلف السلفيون المعاصرون مع بابا ولد الشيخ سيديا وأضرابه في رفضهم الفروعية المالكية بشكل كامل، فيما حاول ولد الشيخ سيديا التجديد من داخل الفقه المالكي، وتجديد التصوف من داخل الطريقة القادرية التي ينتمي إليها.

وإذا كان السلفيون المعاصرون بمختلف مدراسهم وقفوا بقوة في وجه الانفتاح على المنتج الغربي على صعيد الأفكار والمفاهيم أو صعيد التقارب السياسي فإن بابا ولد الشيخ سيديا قد تعامل بعقل منفتح للغاية مع الاستعمار الفرنسي الذي رأى فيه حلا نسبيا "للاضطراب والسيبة" التي ميزت المجال الموريتاني لعدة قرون. بل أكثر من ذلك نظر ولد الشيخ سيديا "للدولة المدنية"، مستثمرا في ذلك "علمانية فرنسا"(2) وكونها لا تتعرض للناس في دينهم، وهو ما لا يتفق دائما مع الطرح السلفي المعاصر الذي ينادي بالمزايلة التامة بين الإسلام والكفر، وقد تضيق حلقة الإسلام في أحيان كثيرة حتى لا تتسع لغير السلفيين، وتتسع حلقة الكفر لتشمل الأنظمة الحاكمة والمجتمع، منتجة بذلك "فكر وممارسة" السلفية القتالية المعاصرة.

ولعل ما قيل عن الفقيه السلفي الموريتاني بابا ولد الشيخ سيديا ينطبق أيضا على التجربة السلفية للإمام النيجيري الشيخ عثمان دان فوديو ( 1754- 1817)، رائد الصوفية المجاهدة في نيجيريا وجوارها. ولعل ازدواجية المشارب الصوفية والفقهية للرجل الذي تصدر في الطريقة الصوفية القادرية على شيخه الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي المختار الكنتي، وتأثره بحركات الإصلاح الديني القادمة في المشرق الإسلامي، جعل سلفية الرجل تختلف بشكل تام عن السلفية المعاصرة. فقد كان الرجل بالفعل شيخا صوفيا، يعطي الأوراد ويربي المريدين على منهج الصوفية، عبر الطريقة القادرية الكنتية، لكنه في المقابل كان رئيس حركة جهادية، أبلت بلاء حسنا في الدفاع عن الإسلام وحوزته الجغرافية وهوية أتباعه في إفريقيا المسلمة.

ولعل أبرز ما يميز عثمان دان فوديو -شأنه في ذلك شأن قادة السلفية الأوائل- هو قدرته على الجمع بين التصوف القائم على تزكية النفس، وبين الأداء الجهادي الواعي معتمدا في جهاده مبدأ التدرج ومنتقلا به بين الدعوة أو "الجهاد القولي" الذي أخذ أكثر من ثلاثين سنة من عمر الحركة الجهادية التي قادها فوديو ومنتهيا إلى الجهاد بالسيف وإقامة إمارة إسلامية، تهتم -عكس السلفية المعاصرة- بالمرأة عضوا نشطا في الحياة، وعنصرا أساسيا من معركة التغيير.

ومن أبرز ما يميز هذا الفقيه السلفي النيجيري هو عقله التركيبي القادر على إنتاج قراءة واعية للواقع، حينما اعتبر بلاد نيجيريا "أرض تخليط، لاهي أرض إسلام محض ولا أرض كفر محض"،(3) وهو موقف سلفي يهز مسلمة "أرض الإسلام وأرض الكفر" الأثيرة في الفكر السلفي المعاصر، ولعل في وفاة الشيخ في الثالثة والستين من عمره وربط أتباعه بين هذا التاريخ وعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدا صوفيا آخرا يباعد الشقة بينه وبين الحركات السلفية المعاصرة، لكن شيئا من ذلك لا يمكن أن ينفي صلة الاستمداد بأغلب المدراس الإسلامية المعاصرة في منطقة النيجر ونيجريا دون أن يعني ذلك التطابق بين سلفية قديمة ولدت من رحم التصوف، وأخرى وجدت في التصوف عدوا لا يقبل المهادنة.

أي مستقبل للسلفية في الساحل الإفريقي في ظل المراجعات الفكرية

مثلت تجربة السلفية الجزائرية منجما ضخما لأغلب أفكار السلفية المعاصرة وخصوصا السلفية بمنطقة الساحل الإفريقي، ومنها بدأت فكرة المراجعات، حيث أسهمت سياسة الحوار والعفو التي انتهجها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، في "عودة آلاف المقاتلين" من الجبال إلى حضن العمل السلمي. وغني عن الذكر أن علماء سلفيين وسجناء ومقاتلين سابقين انخرطوا في تلك المراجعات وأسهموا في تحقيق أهدافها.

وفي موريتانيا بشكل خاص، لم تصدر لحد الآن مراجعات فكرية، معلنة باسم تيار السلفية العلمية في موريتانيا، رغم أن أغلب قادته يصدرون بين الحين والآخر مواقف حادة تجاه التنظيمات المقاتلة في المنطقة(4)، فيما اعتبر القيادي السلفي أحمد مزيد ولد عبد الحق في تصريحات إعلامية إلى أن تراجع وتيرة القمع ضد التيار الإسلامي في موريتانيا ومبادرة بعض العلماء والشخصيات السلفية إلى الحوار مع الشباب المتشدد كفيلة بإنهاء أزمة العنف، وأكثر من ذلك يذهب ولد عبد الحق إلى القول إن الثورات العربية ستدفع كل التيارات الإسلامية بما فيها السلفيون إلى مراجعة مواقفهم تجاه السلطة والمجتمع(5).

وقد أسهم حوار العلماء الموريتانيين مع عدد من السجناء السلفيين في إعلان عدد من هؤلاء تراجعهم عن خط التكفير والتشدد، وهو ما قابلته السلطة، بعفو عن 35 عنصرا من هؤلاء، ومنحهم إكراميات مالية سعيا إلى احتوائهم في حياة المجتمع، ويعتبر السلفي عبد الله ولد سيديا أكثر العناصر التي ساهمت بقوة في دفع وتيرة هذا الحوار إلى النجاح.

أما في مالي فلا شك أن قابلية التنظيمات المقاتلة هنالك لإحداث مراجعات فكرية بات أمرا مرجحا، لكن لا أحد يمكنه التنبؤ بأن هذه المراجعات ستكون لصالح خيار الديمقراطية والتعايش السلمي مع دول الجوار، وذلك لعوامل متعددة أبرزها:

  • أن مراجعات السلفيين تمت في أغلب أحوالها داخل السجون ومن خلال حوار مع العلماء ترعاه السلطة، وهو ما لا يتوفر في حالة سلفية إقليم أزواد ودولة القاعدة الجديدة، حيث يتمتع التنظيم المقاتل هنالك بانتصاراته المتلاحقة، وهو ما سيجعله أكثر تشبثا برؤيته الفكرية.
  • إمكانية الدخول في مواجهات مفتوحة مع عدد من مراكز القوى الغربية ودول الجوار بعد احتلال تنظيمات مسلحة بعضها طوارقي وبعضها منسوب لتنظيم القاعدة لثلث الأراضي المالية، تحقيقا لهدف استيراتيجي للتنظيمات المقاتلة وهو استدراج الغربيين خارج أراضيهم.

لكنَّ عاملين آخرين يجعلان المراجعات الفكرية أمرا واردا وهما:

  1. التغلغل العميق للقاعدة في النسيج الاجتماعي في منطقة أزواد، بفعل علاقات المصاهرة التي ربطت قادة التنظيم ومقاتليه بالمجموعات السكانية وارتفاع عدد المجندين في صفوفه من أبناء القبائل الطارقية، وهو ما يستدعي أسلوبا جديدا في التعامل.
  2. التحالف مع القوى الوطنية في أزواد: حيث يعتبر تنظيم أنصار الدين السلفي طبعة طارقية للقاعدة، يحمل مطالب وطنية ذات لبوس ديني، ويمكن القول إن التقارب القائم بين التنظيم المذكور الذي يرأسه أحد أهم الزعامات السياسية للطوراق، وحركة تحرير أزواد، سيؤدي إلى تخفيف شحن الغلو السلفي لدى "السلفية الوطنية" دون أن يقضي عليها تماما.

أما في النيجر ونيجيريا، فإن مستوى التوتر وضعف الدولة، والتهميش المقصود تجاه المسلمين، والتعامل السلبي مع مشكل الأقليات مضافا إلى مضاعفات الأزمة الليبية سلاحا وأفكارا، كل ذلك قد يؤدي إلى تأخر المراجعات.

ولعل أهم الخلاصات التي يمكن الوصول إليها هي:

  • أن الحركة السلفية المشرقية، وخصوصا حركة الإمام محمد بن عبد الوهاب وروافدها من فقه ابن تيمية، هو الرافد الأساسي للسلفية العلمية في منطقة الساحل والمغرب العربي إجمالا.
  • أن أزمة الجزائر كانت الشرارة الأولى لانتشار قنابل التكفير والقتال في المنطقة.
  • أن السلفية العلمية بإجمال ليست طبعة واحدة، بل تأخذ في الغالب لون أرضها وأنساقها الاجتماعية، فلا تزال السلفية العلمية في موريتانيا مثلا عربية تقل فيها الأسماء الزنجية أو تنعدم، مهادنة في أغلب الأحيان.
  • لا يمكن الجزم بأن السلفية العلمية تمثل الحديقة الخلفية للتطرف، أو الرافد الأساسي للتنظيمات المقاتلة، وإن كان من الصعب أيضا تبرئة الفكر السلفي من إنتاج أنماط تفسيرية تؤول في بعض أحيانها لصالح تسويغ "عمليات" المقاتلين الإسلاميين.

_______________
محمد سالم ولد محمد -  كاتب وصحفي موريتاني

الإحالات
1- محمد سالم المجلسي: العلماء والسلفية الحقيقة المرة دراسة منشورة في موقع التوحيد والجهاد بتاريخ: أبريل/ نيسان 2009.
2-د محمد الحسن ولد اعبيدي: بين السياسي والديني في الموروث الفقهي في موريتانيا موقع الراية الموريتاني 7 أبريل/ نيسان 2004.
3- محمد المختار الشنقيطي مجلة البناء الموريتانية العدد 3 بتاريخ 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2010.
4- محمد ولد احمد الشاعر : مناصحة عن الجهاد في بلاد المسلمين .مقال منشور في عدة مواقع وصحف موريتانية http://www.alwatanrim.net/vb/showthread.php?t=9384
5- أحمد مزيد ولد عبد الحق ..مستقبل التيار السلفي... مقابلة مع موقع إسلام أولاين.

المراجع
1-محمد سالم بن محمد الأمين المجلسي: السلفية و العلماء و الحقيقة المرة، نص منشور في موقع:
www.tawhed.ws
2-د
. محمد الحسن ولد اعبيدى: بين السياسي والديني.. في الموروث الفقهي بموريتانيا، نص منشور في موقع:
www.rayah.info
3-محمد ولد المختار الشنقيطي: مقابلة شاملة مع المفكر الاسلامي محمد ولد المختار الشنقيطي، نص منشور في 4-موقع:ww.chebiba.org
5-محمد ولد احمد الشاعر: مناصحة عن الجهاد في بلاد المسلمين .مقال منشور في عدة مواقع وصحف موريتانية من بينها:
www.alwatanrim.net
6- أحمد مزيد ولد عبد الحق ..مستقبل التيار السلفي... مقابلة مع موقع إسلام أولاين.
7- محمد محمود أبو المعالي: القاعدة وحلفاؤها في الساحل والصحراء، نص منشور في موقع مركز الجزيرة للدراسات:http://studies.aljazeera.net

Mohammad-Mahmoud Ould Mohamedou: Understanding AlQaeda ,Changing War8 and8 Global Politics, Second Edition Pluto Press, June 2011.

ABOUT THE AUTHOR