اليمن ينزلق شيئا فشيئا نحو الحرب الأهلية. فبؤر التوتر العسكري في كل مكان؛ مواجهات دامية في منطقة أرحب التي لا تبعد عن صنعاء إلا ثلاثين كيلومترا بين قوات الحرس الجمهوري التابعة لنجل الرئيس وقبائل موالية للثورة ذهب ضحيتها حتى الآن مئات القتلى والجرحى، وصراع محتدم بين القوات الحكومية والمسلحين الثوار في مدينة تعز، وتوتر حذر في العاصمة صنعاء بين المجاميع القبلية التابعة للشيخ الأحمر والقوات الحكومية قابل للانفجار في أي وقت، بالإضافة إلى اشتباكات عسكرية مستمرة منذ أكثر من شهرين في محافظة أبين في محاولة لإخراج مقاتلي تنظيم القاعدة من المدن الرئيسية التي يسيطرون عليها، وأخيرا صراع مسلح في محافظة الجوف بين الحوثيين ومقاتلين محسوبين على حزب الإصلاح للسيطرة على مركز المحافظة ومواقع عسكرية بعد انسحاب القوات الحكومية منها.
وفي حين تظهر المواجهات العسكرية في محافظتي أبين والجوف على أنها ناتجة عن انسحاب الدولة من هذه المناطق، ومحاولة أطراف أخرى ملأ الفراغ الناشئ وفرض السيطرة عليها، فإن بؤر التوتر العسكري في مناطق أرحب ونهم ومدينة تعز، والتوتر في العاصمة صنعاء، هي فصل آخر من فصول المواجهة بين الثورة والنظام السياسي في صورة عسكرية، يحاول فيها كلا الطرفين على ما يبدو تطوير خيار المواجهات العسكرية الجزئية بغرض إضعاف الطرف الآخر في بعض المناطق، والقضم من قوته تدريجيا دون الانزلاق إلى خطر المواجهة الشاملة على غرار النموذج الليبي.
والخيار العسكري سواء كان بشكل جزئي أو شامل يحمل مخاطر للطرفين، ومن المستبعد أن يكون مدخلا لتسوية الوضع المتأزم والمسدود في اليمن، لصعوبة أن ينجح أي من الطرفين في إحراز نصر عسكري حاسم على الآخر بأسلوب الحروب الجزئية، أما الدخول في مواجهة عسكرية شاملة يعد بمثابة هرولة سريعة نحو الفوضى والانهيار.
الانزلاق إلى الخيار العسكري
منذ وقت مبكر اتخذ النظام السياسي خيار العنف كأحد أدوات إجهاض الثورة، تجلى ذلك بوضوح في استدراج الشيخ الأحمر والمجاميع القبلية التابعة له إلى مواجهات عسكرية وسط العاصمة استمرت لأسابيع، ثم في توقيت متزامن القيام باقتحام ساحة الاعتصام الرئيسية بمدينة تعز بالقوة العسكرية وطرد المعتصمين وإحراق خيامهم، والذي أدى بدوره إلى تحول الصراع في هذه المدينة بين الثورة والنظام السياسي إلى صراع عسكري شبه يومي.
وكان هدف النظام السياسي من عسكرة الصراع إضعاف الثورة وإنهاكها في مواطن قوتها باستهداف القوى المؤثرة فيها عسكريا؛ ومن جانب آخر رفع تكلفة خيار الثورة بالنسبة لقطاع كبير من الشباب الذين لا يميلون إلى العنف، فيؤدي إلى انفضاضهم عنها إيثارا للسلامة، بما يؤدي في النهاية إلى إجهاض الثورة أو في اقل الأحوال إضعافها لتكون الفجوة بينها وبين النظام السياسي في موازين القوى كبيرة فتقبل بما يفرضه من حلول.
أما بالنسبة لقوى الثورة فيأتي انزلاق بعضها إلى خيار المواجهة العسكرية كردة فعل، من جهة، على العنف الممارس من قبل النظام كما حدث في تعز، ولتنامي مشاعر اليأس والإحباط، من جهة أخرى، لدى قطاع من الثورة، من جدوى وفاعلية الأدوات السلمية في تحقيق أهداف الثورة، وتعنت النظام في الاستجابة للحد الأدنى من هذه المطالب. فقد كانت السمة المشتركة في جميع المناورات السياسية للنظام طوال الأشهر الستة الماضية من عمر الثورة، قيامه بتقليص حجم التنازلات التي يقبل تقديمها، مع شعوره بتغير موازين القوى الداخلية والخارجية لصالحه. ما دفع بعض قوى الثورة إلى تبني الخيار العسكري بشكل محدود لتحقيق مكاسب تكتيكية لإضعاف النظام في بعض المناطق، وتقليص الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها بصورة تدريجية، وكان ذلك واضحا في محاولة القبائل الموالية للثورة السيطرة على بعض معسكرات الحرس الجمهوري في منطقتي أرحب ونهم بغرض تغيير معادلة القوة على الأرض، وإجبار النظام على الاستجابة لمطالب الثورة، وكذلك لتحفيز القوى الدولية والإقليمية لممارسة ضغط أكبر على النظام للاستجابة لهذه المطالب.
جدوى الخيار العسكري
والتقدير الأولي أن تبني الخيار العسكري لا يحقق مكاسب إستراتيجية لأي من طرفي الصراع، بل على العكس يؤدي إلى مزيد من تعقيد الأوضاع وجر الطرفين إلى حافة المواجهة الشاملة. فالملفت للنظر أن نجاح أحد الطرفين في إحراز تقدم عسكري في مواجهة جزئية لا ينعكس – في المدى القصير- على السقف التفاوضي للطرف الآخر كما هو مؤمل، بل على العكس يؤدي إلى مزيد من دفعه لتبني الخيار العسكري، ويجعل أصوات المتطرفين والمتحمسين أعلى لمواجهة ذلك برد أكثر عنفا ولا عقلانية، والعنف يولد مزيدا من العنف.
والخيار العسكري صورة لحسابات خاطئة لدى النظام السياسي، فالمزيد من القتل وسفك الدماء لا يؤدي إلى إضعاف الثورة بل يقويها، إذ يعزز القناعة بشرعية الثورة ضد نظام قمعي لا يتورع عن قتل مواطنيه، كما يورط النخبة الحاكمة في نفس الوقت في مزيد من الجرائم والملاحقات القانونية. وفي بيئة قبلية متدينة كاليمن، يحفز الدفع باتجاه عسكرة الصراع القوى القبلية والإسلامية على استنهاض دور العصبية القبلية والتعبئة الدينية الجهادية في مواجهة النظام، ما يؤدي إلى مزيد من المقاومة والمزيد من تعقيد الصراع. والإيغال في الخيار العسكري يعقد الأوضاع، ويجعل من الصعب الوصول إلى حلول توافقيه بعد ذلك، لأنه يدمر جسور الثقة بين الأطراف الداخلية وربما يحتاج إعادة بنائها كما كانت لسنوات، فضلا عن مشاكل الثارات والاحتقانات التي تتركها فيما بين القبائل والنسيج الاجتماعي إجمالا.
أما بالنسبة للثورة، فإن الخيار العسكري لا يمكن أن يحقق لها مكاسب إستراتيجية في وقت لا يزال النظام يحظى بدعم وقبول القوى الإقليمية والدولية المؤثرة، ولا يزال هو المتفوق في ميزان القوى العسكرية، ويسيطر على الوحدات العسكرية النوعية الأكثر كفاءة وتسليحا، وبيده كامل القوات الجوية، والتي تعد عاملا حاسما يرجح كفته في أي مواجهات عسكرية مع الثورة، وتمكنه من تجريدها من أي مكاسب ميدانية تحرزها على الأرض، كما ظهر بوضوح في محاولة مجاميع قبلية مؤيدة للثورة في منطقة أرحب السيطرة على معسكر الصمع التابع لقوات الحرس الجمهوري، والمطل على مطار صنعاء الدولي، فأجبرت على التراجع والانسحاب إثر ضرب جوي مكثف. كما أن طبيعة المواجهات الجزئية تعطي النظام ميزه نسبية مقارنة بالثورة في قدرته على تركيز قواته في مناطق بعينها وإمدادها وتزويدها بما تحتاجه بسرعة وفاعلية، في حين أن الدخول في مواجهات شاملة تفقده هذه الميزة، وتشتت قواته وجهوده على أكثر من جبهة. ولا يزال بيد النظام من جانب آخر من الموارد والولاءات القبلية والسياسية ما تمكنه من استخدام القبائل في مواجهة بعضها البعض.
ورغم ذلك، من الملاحظ أن قوى الثورة حتى الآن لم تضع بعد كل ثقلها خلف الخيار العسكري نتيجة لانقسامها حوله بين مؤيد ومعارض، تحسباً لتداعياته على منحى تطورات الصراع وتأثيره على الأوضاع شبه المنهارة في البلد، ولاستمرار بعضها في المراهنة على دور الخارج في ممارسة ضغوط جدية على النظام للوصول إلى حلول توافقية تجنب البلاد مخاطر الانزلاق إلى الحرب الأهلية. ويخشى البعض أن وصول قوى الثورة إلى طريق مسدود في خيار الثورة السلمية لإسقاط النظام، أو اليأس من إمكانية الوصول إلى حلول توافقية، قد يدفعها نحو الانزلاق أكثر إلى الخيار العسكري، خصوصا بعد تشكيل المجلس الوطني الانتقالي المزمع الإعلان عنه 17 الشهر الجاري.
خطر الانزلاق إلى الحرب الشاملة
الخيار العسكري بشكل عام ليس في صالح النظام السياسي ولا الثورة في اليمن، ولا يمكن أن يكون مدخلا لتسوية الوضع المتأزم والمسدود، لصعوبة أن ينجح أي منهما في حسم الصراع عسكريا لصالحه وإخراج الطرف الأخر من المشهد تماماً. فالنظام السياسي في وضع منهك ولا يستطيع السير في خيار الصراع العسكري الشامل دون أن يجر الأوضاع نحو الانهيار؛ ورغم قوته في بعض المناطق إلا أنه ضعيف في مناطق أخرى، ولا يمتلك القدرات العسكرية الكافية ليظل محتفظا بالسيطرة على كامل الرقعة الجغرافية، وسيضطر حتما لترك بعض المناطق تخرج عن سيطرته ليتركها للفوضى أو لسيطرة قوى أخرى.
قوى الثورة، أيضا، لا تستطيع حسم الصراع عسكريا لصالحها، فلازالت الأضعف عسكرياً، بالإضافة إلى كونها متعددة وليست كتلة واحدة متجانسة. وانسحاب سلطة الدولة من بعض المناطق ومن الأطراف إلى المركز، سيؤدي إلى ظهور صراعات فرعية بين قوى أخرى في محاولة لملئ الفراغ كما يحدث حاليا في محافظات الجوف وأبين. وهناك مشاريع فرعية لبعض القوى المحلية، كالحراك الجنوبي والحوثيين والقاعدة، تفضل خيار الحرب لإضعاف القوى الرئيسية في الساحة، وتتمكن من تنفيذ مخططاتها؛ الحراك الجنوبي في الانفصال وفك الارتباط، والحوثيون في إقامة كيان شيعي شبه مستقل في محافظات شمال الشمال، والقاعدة في بسط نفوذها على المحافظات التي تتواجد فيها بكثافة (أبين، شبوه، مأرب). وإضعاف النظام السياسي وكذلك إضعاف القوى الوطنية الأخرى يخدم هذه المشاريع.
وبشكل عام فإن الانزلاق نحو الخيار العسكري في ظل الأوضاع العامة المتردية التي تعيشها اليمن هو سير محتم نحو الفوضى والانهيار، فالاقتصاد في وضع شبه منهار، والفقر والبطالة في أعلى مستوياتها. ومع استمرار التوتر وإعادة الفرز السياسي والاجتماعي، هناك مخاوف أن يتحول الاقتصاد اليمني إلى اقتصاد حرب، حيث يكون الانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك مصدرا للرزق، ويكون الحصول على الغنائم والنهب وسيلة لإعادة توزيع الثروة في المجتمع. والمؤشرات متوافرة تؤيد بوادر تحول المجتمع اليمني تدريجياً إلى مجتمع حرب، في ظل انقسام حاد بداخله، وظهور معالم فرز قبلي ومذهبي في بعض المناطق، ومراكز قوى مجتمعية مسلحة في مناطق أخرى أشبه بأمراء الحرب في الصومال. بالإضافة إلى ظهور بوادر انفلات أمني وعصابات مسلحة وسطو تحت تهديد السلاح بشكل لم يكن موجودا من قبل، وبالتأكيد فإن الانزلاق إلى حرب شاملة سيجعل هذه الأوضاع أكثر سواء.
وحسب مراقبين فإن الخيار الأفضل للثورة في ظل هذه الأوضاع المعقدة، هو القيام بإعادة توحيد نفسها، ووضع كل ثقلها خلف خيار الثورة السلمية والذي يعد أجدى لها من المراهنة على الخيار العسكري، فالثورة تحمل قضية عادلة لا تتوفر لدى النظام، وتطالب بمطالب مشروعة في الديمقراطية والحرية والعدالة، هي حديث المنطقة في الوقت الراهن، وستستمر كذلك لسنوات قادمة، كما أن أوضاع اليمن المتردية، والمتغيرات الجديدة التي فرضتها الثورة، بالإضافة إلى الزخم الثوري القادم من المحيط الإقليمي، من الثورات الناجحة في مصر وتونس، أو الثورات النشطة في ليبيا وسوريا، سيجعل من الصعب على النظام تجاوز متغير الثورة أو العودة بالأوضاع إلى ما كانت عليه قبل انطلاقها. واستمرار فعاليات الثورة السلمية مهما طالت مدتها ستجبر النظام السياسي في الأخير على الاستجابة الطوعية نتيجة تفسخه الداخلي، أو تحت الضغط القادم من الخارج.