الجزائر: مرحلة انتقالية بأفق مسدود

قطعت الجزائر شوط الانتخابات التشريعية، كخطوة تمهد لترتيبات أخرى قبل موعد الانتخابات الرئاسية في 2014، لكن الحصيلة الأولية تكرس التوازنات السابقة التي تستبعد أي دور حقيقي للشعب الجزائري في إدارة بلده.
201210495240705734_20.jpg
جاء تشكيل الحكومة الجديدة ليؤكد أن بوتفليقة ما زال يعتبر أنه ليس مضطرًّا أن يأخذ نتائج الانتخابات بعين الاعتبار، بل إنه يفضل أن يعاكس نتائجها حتى يؤكد أن سلطته فوق البرلمان (الجزيرة)

تستعد الجزائر لتنظيم انتخابات محلية نهاية نوفمبر/تشرين الثاني القادم 2012، وهي آخر محطة قبل الانتخابات الرئاسية التي ستعين خليفة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة سنة 2014. وتدخل الجزائر هذه المرحلة في ظرف متميز، مع برلمان جديد ورئيس حكومة جديد، لكن الشارع الجزائري يبقى في غليان مستمر رغم البحبوحة المالية التي تعرفها البلاد. هل ستستغل السلطة الجزائرية هذه الظروف الملائمة للشروع في إقامة نظام جديد، أم أنها ستعتبر أنه لا داعي للتغيير ما دامت الأموال متوفرة، وما دامت البلاد قد صمدت أمام موجة "الربيع العربي"؟

بعد الانتخابات التشريعية التي جرت في 12 مايو/أيار الماضي 2012، كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أمام خيارين: إما أن يحاول أن يقترب من نتائج الانتخابات، ويأخذ منها العبرة لتعيين رئيس حكومة جديد من الحزب الذي فاز بالانتخابات، وإما أن يؤكد نظرته للسياسة، وهي النظرة التي تحتقر الأحزاب وتعتبرها متطفلة على السياسة وتدفع الرئيس بوتفليقة إلى العمل على تهميشها وحصرها في دور تزيين السلطة لا أكثر.

وبقيت البلاد بدون حكومة لمدة أربعة أشهر، إلى غاية بداية سبتمبر/أيلول 2012، لما قرر الرئيس بوتفليقة تعيين عبد المالك سلال مكان الوزير الأول الأسبق أحمد أويحيى. وجاء تشكيل الحكومة الجديدة ليؤكد أن بوتفليقة ما زال يعتبر أنه ليس مضطرًّا أن يأخذ نتائج الانتخابات بعين الاعتبار، بل إنه يفضل أن يعاكس نتائجها حتى يؤكد أن سلطته فوق البرلمان. ولم يكتف بوتفليقة بعدم تعيين أحد قادة الأحزاب الفائزة بالانتخابات على رأس الحكومة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك فأقصى زعماء الأحزاب الثلاثة التي فازت بالانتخابات من الحكومة.

وكان بوتفليقة قد تصرف بنفس الطريقة في الماضي، حيث اختار رئيس الحكومة من جبهة التحرير الوطني لما فاز التجمع الوطني الديمقراطي بالانتخابات، وعكس ذلك اختار وزيرًا أولاً من التجمع الوطني الديمقراطي لما فازت جبهة التحرير بالانتخابات. وفي مايو/أيار 2012، حققت جبهة التحرير فوزًا عريضًا بفضل قانون انتخابات تم تحضيره لذلك، لكن الرئيس بوتفليقة اختار وزيرًا أولاً لا يُعرف له انتماء حزبي.

فكر معاد للأحزاب

ينبع هذا الفكر السياسي المعادي للأحزاب من قبل الاستقلال الوطني. وقد كانت الساحة السياسية الجزائرية قبل ثورة التحرير تتميز بوجود عدة أحزاب تنادي بالاستقلال، لكنها فشلت في تنظيم الكفاح المسلح، قبل أن تدخل أزمة حادة أثرت سلبًا على الحركة الوطنية. في تلك الظروف، ظهرت مجموعة بادرت إلى الكفاح المسلح تحت لواء حزب واحد هو جبهة التحرير الوطني، واستطاعت أن تحقق تجنيدًا واسعًا في صفوف الشعب، فنجح الحزب الواحد حيث فشلت الأحزاب العديدة.

ومنذ ذلك العهد، انتشرت في الجزائر فكرة بسيطة ذات أبعاد كبيرة، وهي أن تعدد الأحزاب لا ينفع، وأن التعددية الحزبية نظام فاشل، وأن الأحزاب يمكن الاستغناء عنها لأنها تؤدي حتما إلى الانقسام والتمزق، وأن وجودها يعكر الحياة السياسية، وأنها لا تخدم المصلحة العليا للبلاد. وإذا استثنينا بعض الشخصيات القليلة، فإن أغلبية رجال السياسة الذين عاشوا حرب التحرير الجزائرية والفترة الأولى للاستقلال تقاسموا هذه الفكرة ولم يقبلوا التعددية الحزبية، خاصة وأنهم يعرفون أن السلطة الحقيقية في البلاد لا تنبع من الانتخابات بل من قرار المنظومة العسكرية والأمنية.

والرئيس بوتفليقة من أنصار هذا الرأي، بل إنه من أبرز العاملين لانتصاره، فهو لا يكتفي بعدم التعامل مع الأحزاب، بل إنه لا يضيع فرصة للتعبير عن احتقاره لها. ولا يرى في التنظيمات السياسية إلا وسيلة لتنظيم حملته الانتخابية بعد أن يكون قد اتفق مع السلطة الحقيقية على تعيينه أو بقائه في السلطة. وباستثناء الفترات الانتخابية، لم يقم الرئيس بوتفليقة بأية مبادرة للقاء الأحزاب أو التحاور معهم.

ومن هذا المنظور، فإن الانتخابات بدورها تفقد معناها التقليدي؛ حيث إن الرئيس بوتفليقة لا يعتبر نفسه مضطرًّا أن يأخذ نتائج الانتخابات بعين الاعتبار عند تشكيل الحكومة أو عند اتخاذ أي قرار سياسي. وفعلاً، لما قرر سياسة المصالحة الوطنية، فإنه اتفق على مضمونها مع السلطة الحقيقية قبل أن يطلب من الأحزاب أن تجند الشارع للمصادقة عليها عن طريق الاستفتاء. وحتى الأحزاب التي كانت معروفة بعدائها للهدنة مع الجماعات المسلحة، فإنها شاركت في الحملة الدعائية.

وقد جرى نفس السيناريو لما أراد الرئيس بوتفليقة أن يحصل على عهدة ثالثة؛ حيث اتفق مع السلطة الحقيقية على القرار، ثم جاءت الأحزاب لتقوم بحملة دعائية لتعديل الدستور، رغم أنه كان من الواضح أن الحالة الصحية لبوتفليقة لا تسمح له بقيادة البلاد من جديد لكنه لا يبالي بذلك لأنه يعتبر أن مشروعه السياسي هو الأسمى، وليس على الأحزاب أن تناقشه أو تشارك في اتخاذ القرار، بل عليها أن تكتفي بتزكيته وتطبيقه، حتى إذا كانت تلك الأحزاب غائبة عن الحكومة مثلما هو الوضع حاليًا بالنسبة لحركة حمس وجبهة التغيير التي انشقت عن حمس، فكلاهما يؤكد يوميًّا أنه يساند برنامج رئيس الجمهورية رغم أن الحزبين لا يشاركان في الحكومة.

وزير أول في دور ثانوي

عند تشكيل الحكومة، لا يراعي الرئيس بوتفليقة ميزان القوى السياسي المنبثق عن البرلمان. لذلك، لم تكن تشكيلة أية حكومة متطابقة مع تشكيل البرلمان خلال ثلاث عشرة سنة من حكم الرئيس بوتفليقة. والحكومة في النظام الجزائري تخضع لمقاييس وتوازنات أخرى، خاصة بعد المصادقة على الدستور الجديد الذي لا يسمح للبرلمان أن يرفض أو يعارض برنامج الحكومة. ويكتفي الوزير الأول بقراءة برامجه على البرلمان بغرفتيه، ثم يتم تنظيم نقاش حول البرنامج، لكن تصويت النواب لصالح البرنامج مضمون، وتصويتهم افتراضيًّا ضد البرنامج لا يترتب عليه شيء.

ولم تخرج الحكومة الجديدة التي يترأسها عبد المالك سلال عن هذه القواعد؛ فهي حكومة يقودها رجل قضى كل حياته في الإدارة ثم في الحكومة، وقد كان مديرًا للحملة الانتخابية للرئيس بوتفليقة مرتين سنة 2004 و2009. ولا يُعرَف لسلال نشاط حزبي يُذكر، لكنه من الرجال المعروفين بقربهم من قلب السلطة الجزائرية، فهو ينتمي إلى تلك المجموعة المتخرجة من المدرسة الوطنية للإدارة التي أعطت عددًا كبيرًا من الموظفين السامين ومن الوزراء.

ولا يعرف  سلال بأفكار سياسية أو مبادرات كبرى، ولا يعرف عنه أنه يتبنى أيديولوجيا معينة، لكنه يجمع بين خصلتين أساسيتين: فهو لم يخرج أبدًا عن الخط الذي رسمته السلطة، كما أنه تميز بوفاء مطلق للرئيس بوتفليقة وللنظام الجزائري الذي صنعه وقلّده أعلى المناصب. وبفضل هذه الخصال، سيلعب سلال دورًا شكليًّا مهمًّا في عملية خلافة الرئيس بوتفليقة؛ حيث يُنتظر منه أن يقوم بالدور الضروري لمباركة الرجل الذي ستختاره السلطة لرئاسة الجمهورية بعد سنتين، مع ضمان خروج مشرف للرئيس بوتفليقة.

امتصاص غضب المواطنين

وفي هذه المرحلة التي تفصلنا عن سنة 2014، ستقوم حكومة سلال بمهمتين أساسيتين:

  • أولهما: تسيير شؤون البلاد في انتظار تنظيم خلافة بوتفليقة.
  • الثانية: محاولة تحسين الأداء العام للإدارة بعد تراكم الأزمات التي عجزت الحكومات السابقة عن مواجهتها.

أما عن خلافة الرئيس بوتفليقة، فإن دور الحكومة سيكون شكليًّا؛ حيث عليها أن تملأ الفراغ وتقوم بالإجراءات التقنية والإدارية. أما عن التسيير، فسيحاول سلال تنشيط الحياة السياسية والاقتصادية للبلاد، كما سيحاول معالجة النقائص الكبرى التي حولت الحياة اليومية في الجزائر إلى جحيم رغم ارتفاع دخل الجزائريين وتحسين حياتهم المادية، ورغم الأموال الطائلة التي تخصصها الدولة الجزائرية لذلك. ومن الواضح أن سلال يعرف جيدًا ما هو منتظر منه، حيث حصر دوره في إطار واضح ومحدود، قائلاً: إن حكومته ستعمل على تطبيق برنامج رئيس الجمهورية لا أكثر ولا أقل.

ومباشرة بعد تعيينه، أطلق سلال حملة ضد التجارة الموازية التي اجتاحت البلاد، إلى جانب محاولة لتنظيف المدن. وقال: إنه سيتكفل بالخدمة العمومية التي تراجع مستواها إلى حد بعيد، رغم أنها تبتلع أموالاً هائلة. وسيحاول سلال أن يقضي على بعض المظاهر التي تشوه المدن، وأن يخفف عبء الحياة اليومية التي أصبحت صعبة جدًّا، لا لأسباب اقتصادية أو بسبب انعدام المال أو بسبب ضعف دخل المواطنين، بل بسبب سوء التنظيم والفوضى العارمة التي تسود الإدارة والشوارع وأماكن العمل.

ومن المنتظر أن تؤدي الإجراءات التي أعلن عنها سلال إلى تحسين في المحيط العام، كما أنها ستلقى ترحيبًا عند المواطنين. وعرف السيد سلال كيف يشير إلى أولويات يعاني منها كل المواطنين، فكلهم يعانون من عدم نجاعة الخدمة العمومية ومن انعدام النظافة في المدن. ومن جهة أخرى، ستتمكن الدولة بفضل هذه العمليات من استعادة الفضاء العام، حيث إن الشعور السائد حاليًا هو أن الدولة غائبة، وأنها لا تستطيع أن تفرض قانونها لا في الشارع ولا في الرصيف ولا في المساحات العمومية ولا في ملاعب كرة القدم، حيث كل واحد يفعل ما يشاء بصفة فوضوية.

ارتفاع الدخل وبؤس العيش

لعل هذه الظواهر تشكِّل أبرز التحديات التي يجب على الحكومة أن تواجهها؛ فرغم سوء التسيير واللامبالاة وانتشار الرشوة في التعاملات الاقتصادية، إلا أن دخل الجزائريين ارتفع بصفة ملحوظة خلال السنوات الأخيرة، بفضل ارتفاع أسعار المحروقات التي تصدرها الجزائر، فقد تجاوزت واردات الجزائر 60 مليار دولار السنة الماضية (2011)، مما يعني أن الواردات بلغت ألفي دولار لكل مواطن، مع الإشارة إلى أن أغلبيتها موجهة للاستهلاك.

لكن ارتفاع دخل الفرد الجزائري لا يعني تحسن في مستوى المعيشة، لأن الحياة اليومية شاقة في الجزائر، بسبب انهيار الخدمات العمومية. وفي الصيف الماضي (2012) مثلاً، تكرر انقطاع التيار الكهربائي وانقطاع الماء في كل أنحاء البلاد، مما دفع المواطنين إلى تنظيم مظاهرات للاحتجاج ضد هذه الظواهر. وفعلاً، ماذا يفيد ارتفاع الدخل وشراء مكيفات الهواء إذا انقطع التيار الكهربائي في الساعات التي تشتد فيها الحرارة؟ ما الفائدة من تراكم الأموال عند المواطنين إذا كان الإنترنت غير متوفر؟

وكانت الحكومات المتتالية لا تبالي بهذه الجوانب، حيث يكتفي الوزراء عادة بنوعين من الخطاب: خطاب ديماغوجي يغطون به فشل أداء الحكومة، وأحيانًا قليلة خطاب يؤكد العمل من أجل ضمان التوازنات السياسية والاقتصادية الكبرى، لكن ذلك لا يفيد المواطن البسيط في حياته اليومية. فيمكن للوزير مثلاً أن يؤكد أن الحكومة تدعم سعر البنزين، لكن ما الفائدة من ذلك إذا كانت الحافلة التي تنقل الأطفال إلى المدرسة متأخرة؟

أجيال جديدة بأحلام مختلفة

بالإضافة إلى ذلك، فإن الجيل الذي يحكم البلاد لا يدرك أن المجتمع تغير، وأن طلباته تغيرت كذلك، وأنه يطمح إلى حياة وأحلام مختلفة؛ حيث تغير المجتمع الجزائري جذريًّا، ويكفي أن نذكر أن الجيل الذي عاش أو شارك في حرب التحرير يتجاوز السبعين سنة، ليظهر الفارق الشاسع بين الخطاب حول الوطنية النابع من أهل السلطة وبين ما تنتظر الأجيال الجديدة.

ومثل باقي البلدان، فقد عرفت الجزائر ظهور جيل الإنترنت، لكن هذا الجيل نفسه يتشعب إلى فئات اجتماعية مختلفة، كل منها مرتبط بأفكار وسلوكيات متناقضة. ومن أشهر هذه الفئات، تلك التي تريد العودة أو التمسك بالإسلام، مع رفض كل ما يأتي به الفكر العصري، سواء كانوا سلفيين أو تقليديين أو محافظين. عكس ذلك، يوجد تيار آخر مرتبط بقوة بالغرب وما يمنحه من حريات وفكر إباحي وحرية جنسية، في بلد أصبح فيه معدل سن الزواج 32 سنة. ولعل أحسن من يمثل هذه الفئة أولئك "الحراقة"، وهم شباب من فئات مختلفة يقطعون البحر الأبيض المتوسط على متن زوارق للوصول إلى إسبانيا أو إيطاليا بطريقة غير قانونية، مع العلم أن الكثير منهم يغرق أو يتم القبض عليه إما من السلطات الجزائرية أو سلطات البلدان الأوربية المعنية.

وقد ظهرت فئة أخرى، وهي الأكثر عددًا وخطرًا، وهي تلك الفئة الشعبية العريضة التي جاءت إلى الوجود في مرحلة العنف والاضطرابات و"الإرهاب"، وهي فئة تعتبر أن العنف يشكل القاعدة الأساسية لتنظيم العلاقات الاجتماعية. ورغم أنها غالبًا ما تشارك في أعمال العنف والمظاهرات وقطع الطرق والإجرام وتتحدى السلطة، إلا أن السلطة الجزائرية تستعملها من حين لآخر، سواء لتنظيم مظاهرات مضادة، أو لتشويه عمليات الاحتجاج الشعبية، أو للقضاء على الخصم خلال الصراعات داخل الأحزاب، وهذا ما يحدث بصفة متكررة في صفوف جبهة التحرير الوطني التي تلجأ إلى هؤلاء "البلطجية" مثلاً لمواجهة المعارضة في صفوف الحزب.

هذه الأجيال الجديدة لا تعترف بالسلطة، بل تعتبرها عائقًا أمام تحقيق أهدافها وأحلامها، وكثيرًا ما تدخل في مواجهة معها، سواء في ملاعب كرة القدم أو عند قطع الطريق للاحتجاج ضد انقطاع التيار الكهربائي. لكن رغم عددها، فإنها تبقى ضعيفة لأنها لا تؤمن بالعمل السياسي، ولا تنضم إلى صفوف أحزاب أو منظمات قادرة على "تحويل فوضى الغوغاء والعامة إلى مشروع سياسي واضح الملامح"، مثلما قال الباحث الطاهر بن عائشة.

استغلال "البلطجية" ضد العمل السياسي

رغم أنها تشكّل عامل إزعاج في الحياة السياسية، إلا أن هذه الفئات لا تشكل تهديدًا حقيقيًّا على السلطة الجزائرية. عكس ذلك، يعتبر البعض أن العنف الذي انتشر بين فئات واسعة من الشباب أصبح يلعب دورًا مكملاً لـ"الإرهاب". وقد اتضح منذ سنوات طويلة أن المجموعات المسلحة التي كانت تريد أن تستولي على السلطة قد فشلت في ذلك، ولن تتمكن أبدًا من تحقيق هذا الهدف. لكن بقاء "إرهاب" هامشي في الجزائر يعطي السلطة الحجة الضرورية لفرض إجراءات قمعية، كما يبرر رفضها بناء نظام ديمقراطي عصري ومتفتح. ولا شك أن العنف الجديد الذي انتشر في المجتمع يعطي السلطة حجة أخرى لرفض التفتح بل يدفعها إلى تشديد القبضة الحديدية التي فرضتها على البلاد.

ومع اقتراب سنة 2014 وضرورة اختيار من سيخلف الرئيس بوتفليقة، فإن النظام الجزائري سينظم صفوفه، ويلتف حول نواته الصلبة للوصول إلى إجماع جديد، مما يجعله بعيدًا عن كل تأثير؛ فلا المعارضة الداخلية تستطيع أن تنافسه، ولا الاضطرابات تشكل تهديدًا حقيقيًّا، ولا الضغوطات الخارجية سيكون لها أثر، خاصة وأن البلاد توجد في بحبوحة مالية لم تعرفها منذ الاستقلال.

وعند اتخاذ القرار الحاسم، سيكون من الطبيعي أن يختار النظام الجزائري رجلاً يحافظ على النظام القائم، لكن ذلك سيكرس الانسداد والمأزق السياسي. ستختار السلطة هذا المسعى، رغم أن تجربة السنوات الماضية أعطت بعض الدروس الأساسية، من أهمها أنه لا يمكن للجزائر أن تبقى على هذا الوضع مع اقتصاد جامد، ومجتمع في حالة فيضان دائمة، ومؤسسات عاجزة عن تسيير شؤون البلاد.

علاوة على أن القادة الحقيقيين للبلاد، من رئيس الجمهورية ووزير الداخلية وقادة الجيش وقادة المنظومة الأمنية، تجاوزوا السبعين عامًا، ولابد لهم من اتخاذ قرارات تفتح للبلاد آفاقًا وأبوابًا جديدة حتى تتمكن الجزائر من تنظيم مرحلة انتقالية في أحسن الظروف. ويمكن فعلاً فتح هذا الباب لأن الظروف مواتية، حيث إنه لا توجد منظمات راديكالية تهدد استقرار البلاد، ولا توجد ضغوط خارجية تمنع ذلك، بينما تكسب الجزائر من المال ما يسمح لها بتمويل كل متطلبات المجتمع خلال المرحلة الانتقالية، عكس ما حدث بداية التسعينيات لما حاولت الجزائر أن تدخل الديمقراطية وهي تواجه أزمة اقتصادية خانقة.

محيط دولي مضطرب

ومهما يكن، فإنه لا يمكن للجزائر، وهي تدخل هذه المرحلة الحاسمة، أن تتجاهل واقعًا آخر يتمثل في محيط جهوي صعب جدًّا، حيث إن كل الحدود الجزائرية توجد تحت الضغط، فنجد في الشرق أن تونس لم تعد بعدُ إلى الاستقرار، بينما ما زالت ليبيا لم تخرج من ثورتها. وفي الجنوب، ظهرت بؤرة توتر ستدوم سنوات طويلة في بلدان الساحل، خاصة في مالي، مما يضع الحدود الجزائرية في حالة استنفار دائم. وفي الغرب، ما زالت الحدود بين الجزائر والمغرب مغلقة رغم الضغوط التي تمارَس على الجزائر من أجل فتحها، سواء من طرف المغرب أو من طرف أصدقائه التقليديين، مثل فرنسا والولايات المتحدة والسعودية وتونس وغيرهم.

ورغم أنها صمدت أمام موجة "الربيع العربي"، فإن الجزائر لم تتمكن من فرض وجهة نظرها في الأزمات التي اجتاحت البلدان المجاورة، سواء في ليبيا أو تونس أو مالي. وسيأتي امتحان جديد عن قريب مع الحرب التي يتم التحضير لها في شمال مالي، حيث تريد الجزائر تجنب الحرب، بينما تدفع فرنسا نحو تدخل بلدان غرب إفريقيا لاستعادة الوحدة الترابية لهذا البلد. فكيف ستتعامل الجزائر مع هذه الجبهة الخارجية وهي لم ترتب بعد كل الجبهات الأخرى؟
___________________________
عابد شارف - صحفي وكاتب في الشؤون الجزائرية

ABOUT THE AUTHOR