مركز الجزيرة للدراسات
سارت المواقف الدولية المنددة بالنظام السوري وفق خط متكسر، يصعد حينا ويهبط حينا لكنها تعرف تصاعدا نوعيا في الأيام الأخيرة؛ ففي بداية الاحتجاجات ارتفعت الأصوات المنددة بسلوك النظام السوري حيال المحتجين السوريين في شهر إبريل/نيسان، وبلغت ذروة أولى في مايو/أيار؛ حيث توالت العقوبات الأوربية والأميركية على النظام ورجاله الأمنيين والماليين، مع مواقف حادة من قبل تركيا التي أعلن رئيس وزرائها أن بلده لا يريد رؤية مذبحة حماه ثانية في سوريا، وهيأ ظروفا مناسبة لاستقبال فوق 10 آلاف لاجئ سوري. اصطدمت هذه الموجة الأولى من المواقف الناقدة للنظام بالجدار الروسي الصيني في مجلس الأمن، فكان أن أخذت تراوح مكانها في شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز اللذين شهدا خفوت النبرة التركية العالية، خاصة بعد الانتخابات العامة التركية في 12 يونيو/حزيران.
موجة جديدة من التحركات
واليوم ومنذ مطلع شهر أغسطس/آب الجاري الذي وافق أيضا مطلع شهر رمضان نلحظ موجة صاعدة جديدة من التفاعل الدولي مع القضية السورية، بالتوازي مع تصعيد النظام المعالجة الأمنية للانتفاضة السورية المشتعلة منذ خمسة أشهر. وبينما كانت الموجة الأولى غربية-تركية أساسا، فإن الجديد في الموجة الحالية هو دخول أطراف عربية وغير غربية على خط التحركات الدولية المعنية بالشأن السوري؛ فقد أصدر مجلس التعاون الخليجي بيانا واضحا في لومه للنظام، تعبر دوله فيه عن "قلقها البالغ وأسفها الشديد لتدهور الأوضاع في الجمهورية العربية السورية الشقيقة، وتزايد أعمال العنف، والاستخدام المفرط للقوة". ودعا البيان إلى "الوقف الفوري لأعمال العنف وأية مظاهر مسلحة، ووضع حد لإراقة الدماء واللجوء إلى الحكمة، وإجراء الإصلاحات الجادة والضرورية، بما يكفل حقوق الشعب السوري". وتلاه بيان من العاهل السعودي عبد الله، تضمن فوق التشكيك في رواية النظام استدعاء السفير السعودي من دمشق للتشاور. وهو ما قامت به الكويت والبحرين في اليوم التالي. ولم تلبث الجامعة العربية والخارجية المصرية والجزائر أن أصدرت بيانات عن الوضع في سوريا تندرج في موجة الضغوط العربية والدولية المتصاعدة على النظام.
قبل الدول العربية، كان الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف قد حذَّر من مصير حزين لنظيره السوري بشار الأسد إن ثابر نظامه على نفس النهج في مواجهة الاحتجاجات الشعبية. وهذا تطور مهم بالنظر إلى أن روسيا بخاصة، ومعها الصين، هي التي حالت دون تبني قرار من مجلس الأمن الدولي يدين النظام السوري. وبلغت التحركات الدولية ذروتها بزيارة وزير الخارجية التركي داوود أوغلو إلى سوريا قرب نهاية الثلث الأول من رمضان، وكلامه بعد ذلك عن مهلة أيام أو أسبوعين ينتظر خلالها أن ينسحب الجيش السوري من المدن، وأن يباشر النظام إصلاحات جدية. وبعد الوزير التركي بيوم واحد وفد إلى دمشق وزراء خارجية كل من الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، وهي دول أعضاء حاليا في مجلس الأمن، وكانت أقرب إلى النظام السوري، أو لنقل: أميل إلى التشكك في دوافع المواقف الغربية من النظام. لكن يبدو أنها اقتربت من الانخراط في تشكيل إجماع دولي يحمِّل نظام الأسد المسؤولية عن العنف ضد شعبه وعن أزمة بلده.
ظلت المواقف الغربية هي الأقوى؛ فقد قالت الخارجية الألمانية: إن المستقبل السياسي للرئيس السوري أمسى خلفه، ورأت الخارجية الهولندية أن الرئيس السوري فاقد تماما للشرعية، وهو ما صرحت به وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون التي رأت أيضا أن سوريا ستكون أفضل حالا من دونه. هذا وتصاعدت المواقف إلى أن الرئيس الأميركي أوباما الرئيس بشار الأسد إلى التنحي في وقت قريب، واتخذ نفس الموقف الاتحاد الأوربي واليابان وكندا واستراليا.
في المجمل سجَّل الشهر الجاري ظهور شيء جديد في موجة التحركات الدولية الخاصة بالشأن السوري، يتمثل في ظهور ما يقارب الإجماع ضد النظام، مع مشاركة عربية لافتة في صنع هذا الإجماع النسبي. ويحتمل أن يكون المؤدَّى العام لهذا الإجماع هو رفع الغطاء عن النظام بما قد يمهد لإدانته من مجلس الأمن، وتصعيد العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية عليه، وربما رفع قضية ضده أمام المحكمة الجنائية الدولية، وفي النهاية معاملته كمنبوذ دولي. وبينما يصعب التكهن بما يمكن أن تثمره هذه الإجراءات المحتملة، إلا أنها تدفع نحو تدويل الأزمة السورية أو تحولها إلى مسألة دولية، تحاكي بصورة ما مسألة لبنانية سابقة، ومسألة عراقية، ومسألة فلسطينية.
مفارقة التعامل الدولي مع الأزمة السورية
على أن جملة المواقف العربية والدولية اتسمت بمفارقة، وهي أن غضبها من النظام يتناسب مع حجم الفظائع التي يرتكبها، لكن أفعالها تظل أقل من غضبها، ولا تكاد تقترح شيئا يتجاوز دعوة النظام إلى القيام بإصلاحات جدية. وقد يبدو أن موجة الضغوط الجديدة مرشحة لمزيد من التصاعد في الأيام والأسابيع القادمة، لكن ليس من المؤكد أنها بلغت نقطة اللاعودة التي قال وزير الخارجي المصري، محمد كامل عمرو، إن الأوضاع السورية توشك أن تبلغها، أو أن المواقف الغربية القوية منذ مطلع الشهر لن تخفت من جديد.
ولكن كيف نفسر هذا السمة اللافتة؟ الحقيقة أننا يمكننا تفسيرها بأمرين، أولهما: أن منظور القوى الدولية في التعامل مع الشأن السوري، والمنطقة العربية ككل، متمركز حول الاستقرار، وليس حول الديمقراطية والحريات. وما يغضبها في النظام ليس أنه ديكتاتوري قمعي، فقد كان كذلك على الدوام، وإنما أنه يتصرف بصورة زعزعت الاستقرار وأوقعتهم في حرج. لكنها في نفس الوقت ليست متأكدة من أن النظام سيفشل في إخماد الانتفاضة وفرض كلمته؛ لذا فهي لا تريد أن تقطع على نفسها "طريق الرجعة" معه. كما أنها لا تعرف بديله المحتمل، وما يمكن أن تكون عليه الأحوال السورية بعد رحيله؛ لذا فهي تحتاط في التعامل معه إلى حين تتضح الصورة أكثر. الأمر الثاني: هو أنه ليس للقوى الدولية والعربية أوراق تأثير حاسمة على مسارات الوضع السوري، خلافا لما كان عليه الحال في مصر وتونس، وحتى في اليمن وليبيا؛ فهي لا تأثير لها على الجيش السوري، ولا تأثير كبير على الاقتصاد السوري. وبعض محدودية التأثير هذه تعود إلى طبيعة النظام السوري؛ فهو نظام فئة مغلقة، مثلت الحاسة الأمنية حاضنتها الداخلية والخارجية.
ولا يحد من سياسته القمعية إلا تخوفه من تأثير الانتفاضة عليه، المتمثل في الانكشاف السياسي والأخلاقي، وبدرجة ما الإستراتيجي، الذي أنقص كثيرا من نفوذه في لبنان والعراق وفلسطين؛ فاليوم مثلاً يبدو مستبعدا أن يفجر حزب الله حربا ضد إسرائيل لتخفيف الضغط عن النظام السوري. ومن المستبعد كذلك أن تفجر إيران حربا إقليمية دفاعا عنه. أما حماس فقد نأت بنفسها في وقت مبكر من الانتفاضة عن النظام.
على أن الشيء الحاسم في شأن المواقف الدولية هو ذلك المتغير المستقل الذي لا تتحكم به هي ولا النظام، أي الانتفاضة الشعبية السورية التي تدخل هذه الأيام شهرها السادس.
الآثار المحتملة للضغوط الدولية على سلوك النظام
لا يبدو أن النظام قادر على اتباع نهج مغاير في التعامل مع أكبر انتفاضة شعبية وأوسعها قاعدة اجتماعية وأخلاقية منذ نشوئه قبل أكثر من أربعة عقود، والأولى في عهد الرئيس بشار الأسد. ولا يبدو كذلك أنه كان لتصاعد الضغوط الدولية عليه تأثير على نهجه الحربي في التعامل مع الانتفاضة. بالعكس، فبعد أيام قليلة من زيارة وزير الخارجية التركي الذي حمل ما يشبه إنذارا ومهلة نهائية، بدا النظام في سباق مع الوقت لسحق الانتفاضة. كانت المهلة -كما هي في تصرفاته- مهلة لمحاولة سحق الانتفاضة لا لمباشرة "إصلاحات".
هذا على كل حال ما فهمه المحتجون في بلدة الحراك بدرعا حين رفعوا لافتة تقول: خمسة عشر يوما تكفي لقتلنا يا أردوغان! لكن جاء رد وزير خارجية تركيا أوغلو ينفي أن يكون أعطى لنظام بشار مهلة لوقف إطلاق النار، مؤكدا أنه طلب وقفه فورا. وعلى كل حال، فإنه ليس هناك ما يؤشر على أنّ ما لم يستطعه النظام خلال خمسة أشهر سيقدر عليه خلال نصف شهر.
لكن لماذا يبدو أن النظام على هذه الدرجة من المعاندة أمام الضغوط الدولية؟
ربما نجد التفسير في تعاضد العاملين التاليين، وأولهما: أن النظام لا يستطيع تحمل مسؤولية الأزمة الوطنية ودفع الثمن السياسي لحلها، وهو بالتحديد انتهاء الحكم الأبدي الوراثي ورفع الحصانة عن الأجهزة الأمنية، وهما أمران لا معنى لأي إصلاح من دونهما؛ لذلك يشعر أن ظهره إلى الجدار ويخوض معركة حياة أو موت؛ فالفئة الحاكمة، وهي تعرف ما فعلت، تريد أن يبقى مصيرها بيديها وربما تحارب حتى النهاية لهذا الغرض. والعامل الثاني: هو ضعف احتمال التدخل العسكري الدولي في سوريا لأسباب متنوعة، منها أن النظام السوري يعتقد أنه قوي جدا كما جاء في حديث بشار الأسد الأخير.
ومع اعتقاد النظام أنه يخوض معركة حياة أو موت، وأن القوى الدولية، وإن أدانته وحاصرته، لن تغامر بتدخل عسكري لوقف آلته الحربية، فإنه سيظل يراهن بالأساس على الحل الأمني لوقف الاحتجاجات، لكنه سيواجه في المقابل مزيدا من العزلة الخارجية التي تقلل موارده مع الوقت، فتتهالك قواه الأمنية.