من المستبعد أن يستعيد الماليون شمالهم المنفصل منذ شهر مارس/ آذار 2012 ما لم يجدوا حلا لمشكلة الجنوب نفسه (الجزيرة) |
ليست الأزمة الأمنية والسياسية مقصورة على شمال مالي الخاضع لنفوذ جماعات جهادية مسلحة وأخرى طارقية انفصالية فحسب بل إن لجنوبه أيضا حظا من التأزم لا يقل عما في الشمال، ومن المستبعد أن يستعيد الماليون شمالهم المنفصل منذ شهر مارس/ آذار 2012 ما لم يجدوا حلا لمشكلة الجنوب نفسه. بل إن الحفاظ على ما تبقي في الجنوب حتى لا يضيع هو الآخر صار أولوية تتطلب وضع حد للانهيار الذي عرفته الدولة سياسيا وإداريا، ووضع حد لسيطرة المؤسسة العسكرية على مفاصل الشأن السياسي في بماكو.
انهيار الدولة وتزايد نفوذ المؤسسة العسكرية
لا شيء أشد تعقيدا من الوضع السياسي والأمني في مالي، تلك الدولة الواقعة في غرب إفريقيا والتي ظلت حتى شهر مارس/ آذار 2012 دولة ديمقراطية يقودها رئيس منتخب، وتوجد بها تعددية حزبية وحرية تعبير عز وجودها في محيطها الإفريقي. لكن تلك الديمقراطية وذلك التعدد صارا في خبر كان بعد أن تمت الإطاحة بالرئيس آمادو توماني توري في انقلاب عسكري قاده الرائد آمادو هيا سنوغو، متزعما مجلسا عسكريا يدعى اللجنة الوطنية للإنقاذ الديمقراطي وتأهيل الدولة.
انسحبت كتيبة الرائد آمادو هيا سنوغو وغيرها من كتائب الجيش المالي أمام هجمات مسلحي الطوارق من منتسبي الحركة الوطنية لتحرير أزواد في الشهور الأولى من سنة 2012؛ حيث لم يكن ميزان القوى متكافئا بين الطرفين: فالمسلحون الطوارق، وأغلبهم يحمل الجنسية الليبية بالإضافة إلى جنسيته المالية ممن كان في الجيش الليبي وظل نشطا ضمن كتائب القذافي، انسحبوا غداة الإطاحة بالقذافي من ليبيا بمعداتهم وعتادهم الحربي مرورا بالنيجر والجزائر ليجدوا أمامهم جيشا ماليا ضعيف البنية وسلاح قديم يعود إلى سبعينات القرن الماضي كما أن كفاءته القتالية واستعداده الميداني محدودان جدا. انهزم الجيش المالي بسرعة أمام مسلحي الحركة الوطنية لتحرر أزود تاركا وراءه منطقة تشكل أكثر من 66% من مساحة الأراضي المالية في يد المسلحين الطوارق ثم ما لبثت المجموعات السلفية الجهادية أن استخلصتها من الحركة الطارقية.
ومع كثرة تمرد الطوارق في شمال مالي منذ استقلال البلاد عن فرنسا سنة 1960، ورغم كثرة الاتفاقيات التي رعتها الجزائر وأشرفت على إبرامها بين مسلحي الطوارق وبين حكومة مالي، فإن هذه هي المرة الأولى التي ينسحب فيها الجيش المالي بشكل تام من إقليم أزواد تاركا تسييره بكل مطلق للتنظيمات المسلحة.
تحت الضغط الخارجي المتمثل أساسا في عقوبات مجموعة الإكواس على الرائد سنوغو ورفاقه من الانقلابيين، ومع تجميد عضوية مالي في هذه المجموعة تم تعيين رئيس البرلمان ديونكوندا تراوري في 6 إبريل/ نيسان 2012 رئيسا مؤقتا لجمهورية مالي، وقد قام ديونكوندا بتعيين الشيخ موديبو جارا رئيسا للوزراء، وهو الرجل المحسوب على رئيس مالي الأسبق موسى تراوري (1968-1991). لكن يبدو أن تسليم الحكم للمدنيين لم يكن سوى إجراء تكتيكي وقناع سطحي فنفوذ الانقلابيين وتحكمهم في الشأن السياسي المالي ظل أمرا ملموسا؛ فقد صادروا السلطة بشكل تام منذ اليوم الأول للانقلاب، وما زالوا يتحكمون في تفاصيل الشأن السياسي بكل جزئياته. تمت الإطاحة برئيس الوزراء الشيخ موديبو جارا يوم 11 ديسمبر / كانون الأول 2012 وتعيين ديانغو سيسكو مكانه وهو أمر دبره الرائد آمادو هيا سنوغو وزملاؤه الانقلابيون من قاعدتهم العسكرية في كاتي بضاحية ماكو مما يؤكد مدى سيطرة الانقلابيين –رغم ابتعادهم العلني عن تسيير الشأن العام- على كل ما يدور في بماكو.
وللخروج من تعقيدات الأزمة في الجزء الجنوبي من مالي تقدر العديد من الجهات وعلى رأسها الولايات المتحدة أنه بات من الضروري تنظيم انتخابات رئاسية تعددية في شهر أبريل/ نيسان 2013، قد تؤدي –لو تمت- إلى إعطاء النظام السياسي شرعية دستورية، كما ستسمح بعودة الجيش إلى ثكناته وبالتالي ستنفرج المشكلة في جنوب البلاد وستتفرغ القيادة الجديدة والمنتخبة ديمقراطيا لحل المشكل الشمالي.
وفي انتظار هذا الحل الذي ما زال بعيد المنال، والذي يتطلب وقتا طويلا قد يكون أكثر من ثلاثة أشهر وهي المدة تفصلنا عن التاريخ المحدد للانتخابات؛ فإن الوضع في الجنوب مرشح لمزيد من تجاذب النفوذ والتنافس بين المؤسسة العسكرية وبين الأجنحة المدنية المتعددة في بماكو. وهذا يعني أن المسلحين الجهاديين في شمال البلاد سيجدون فرصة أكثر لترسيخ وجودهم وإحكام قبضتهم على إقليم أزواد. ومع توزع مراكز النفوذ في مالي بين عدة أطراف متنافرة ومتنافسة، منها ما هو عسكري وهو الأقوى والأكثر تحكما، ومنها ماهو مدني، فإن مراكز النفوذ هذه ستبقى عاجزة في ظل انقاسمها عن إيجاد حل لأزمة شمال البلاد، وسيبقى الانقلابيون هم المتحكمين في كل صغيرة وكبيرة في الشأن العام.
كما أننا نجد تباينا في المواقف الإقليمية والدولية حول الحلول المقترحة لهذه الأزمة. وهذا التباين في المقاربات يزيد المشكل تعقيدا ويجعل الحل أبعد منالا.
خياران لحل الأزمة.. الدبلوماسية أم الحرب؟
من الواضح لمن يتابع أزمة شمال مالي أن المواقف الإقليمية والدولية حول هذه الأزمة يتوزعها موقفان: الموقف الديبلوماسي الساعي إلى تغليب الحوار والجمع بين الأطراف المتصارعة حول طاولة واحدة، ومن أهم الدول الإقليمية الداعية إلى هذا التوجه الجزائر وموريتانيا وبوركينافاسو، وإلى حد ما الولايات المتحدة التي تقف موقفا متناغما مع هذا الموقف دون أن يكون متطابقا معه تماما.
أما الموقف الثاني فهو الداعي إلى حسم عسكري ويسعى إلى قيام حرب "سريعة" من شأنها –نظريا- طرد المسلحين الجهاديين من الشمال واستعادة مالي سيطرته على كامل ترابه. ويتحمس بعض أعضاء مجموعة الأكواس لهذا الموقف وعلى رأسهم النيجر والتشاد وكوت ديفوار ونيجيريا، وتساند فرنسا وجنوب إفريقيا والمملكة المغربية هذه المقاربة الداعية إلى الحسم العسكري.
تقوم المقاربة الدبلوماسية لحل مشكل شمال مالي على استراتيجية من الممكن قراءة بعض ملامحها؛ فهي استراتيجية تقوم في بدايتها على أساس سياسي يؤول إلى خيار عسكري في مرحلة لاحقة. فالمقاربة تقوم على تشجيع تنظيمات الطوارق المسلحة (جماعة أنصار والحركة الوطنية لتحرير أزواد) على الدخول في مفاوضات مباشرة مع حكومة بماكو في إطار اعتراف هذه التنظيمات بشرعية الدولة المالية، واعتراف بماكو بالمقابل، وبالسعي عبر المفاوضات، إلى إيجاد حلول سياسية واجتماعية لمظالم الطوارق التي طال عليها الأمد وظلت تراوح مكانها دون حل منذ استقلال مالي سنة 1960 لحد الساعة. ويمكن أن نصف هذه المقاربة بأنها تفعيل وتنشيط للعبة السياسية المالية من الداخل. وقد بدأت تطبيقات هذه المقاربة تظهر ميدانيا؛ فمنذ 4 ديسمبر/ كاون الأول 2012 جمع الرئيس البوركينابي بليز كومباوري، وسيط مجموعة الإكواس في أزمة مالي، بالعاصمة البوركينابية واغادوغو ثلاثة أطراف تمثل الحكومة المالية وجماعة أنصار الدين والحركة الوطنية لتحرير أزواد. وقد غابت عن حوار واغادوغو الأطراف المحسوبة على التنظيمات الجهادية؛ سواء تعلق الأمر بالقاعدة ببلاد المغرب الإسلامي المتولدة أواخر عام 2006 من الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية لتصبح تنظيما مرتبطا فكريا بتنظيم القاعدة الأم. كما أبعدت حركة التوحيد والجهاد بغرب إفريقيا التي أعلن عنها لأول مرة في أكتوبر/ تشرين الأول 2011 عن هذا الحوار. نجح كومباوري حتى الآن في جمع الأطراف الثلاثة وجها لوجه وإقناعهم بضرورة وضع حد للعنف بإقليم أزواد. ومن الواضح أن اجتماعات وغادوغو التي ما زالت في بداياتها لا تهدف إلى خلق تفاهم بين حكومة بماكو وبين المسلحين الطوارق بقدر ما تهدف إلى عزل العناصر الجهادية المحسوبة على تنظيم القاعدة في شمال مالي.
وقد عزز هذا التوجه نحو تشجيع الحل السياسي ولقاء أطرف الأزمة على طاولة واحدة ما دار ويدور في أروقة مجلس الأمن الدولي، وما جاء على لسان الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الذي حذر من العواقب الوخيمة لأي حرب قد تشتعل في أزواد.
وتؤكد الدبلوماسية الجزائرية والموريتانية، وهو أمر يبدو أن الدوائر الدبلوماسية الأمريكية تتفهمه، على أن الخسائر البشرية لأي حرب ستقوم في شمالي ستكون خسائر هائلة خصوصا وأنه منذ اشتعال الأزمة وحتى الآن تشرد أكثر من 370 ألف شخص من بينهم 167 ألف شخص داخل مالي، كما فر آلاف اللاجئين الأزواديين إلى النيجر وموريتانيا وبوركينا فاسو وجنوب الجزائر. وقد نجم عن هذا التطور وضع إنساني صعب تمثل في حدة الوضع الغذائي والصحي والتعليمي لهؤلاء المشردين واللاجئين. وفي حالة قيام الحرب فإن الوضع الإنساني سيتفاقم أكثر وسيزداد عدد المشردين في الداخلين وعدد اللاجئين إلى الخارج وهو أمر لن يكون في طاقة دول فقيرة كدول الساحل أن تستوعبه.
وموازاة مع التحرك الدبلوماسي الساعي إلى الجمع بين بعض أطراف أزمة شمال مالي فإن مجموعة الإكواس ومعها فرنسا وجنوب إفريقيا تسعى إلى تحقيق حل عسكري حاسم وسريع، وهو أمر من شأنه –لو نجح- أن يجعل بماكو تستعيد سيطرتها على الشمال المتمرد. وفي هذا السياق اتفقت قمة الإكواس المنعقدة بأبوجا في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 على خطة تدخل عسكرية سيتم بموجبها إنشاء قوة إقليمية مكونة من 3300 جندي، سيتم الاعتماد عليها لتحرير شمال مالي على أن تعزز وتساعد ميدانيا وقتاليا الجيش المالي. ومن المتوقع أن تقوم الدول الغربية وخصوصا فرنسا بدعم لوجيستي لهذه القوة، كما يتوقع أن تساهم بالمعلومات الاستخباراتية الضرورية بواسطة طائرات بدون طيار من شأنها أن توفر من المعلومات الاستخبارية ما تحتاجه القوة الإفريقية والمالية الموجودة على الأرض.
وسواء وجدت المقاربة الدبلوماسية الساعية لتغليب الحوار طريقها إلى أن تكون هي المعتمدة وهو أمر متوقع أكثر من غيره، أو تم اختيار المقاربة العسكرية لحل أزمة شمال مالي؛ فإنه بات من الواضح أن استرجاع مالي لجنوبه ما زال بعيد الوقوع؛ فلا السبيل الدبلوماسي الذي ما زال في بداياته قد استطاع أن يخلق جوا من التقارب والتفاهم والمصارحة، بين الأطراف الأزوادية نفسها وبينها مجتمعة وبين الطرف المالي، من شأنه أن يجعل الأزواديين يقبلون بالرجوع إلى الشرعية المالية في مقابل إصلاحات من شأنها أن ترفع من مستوى الاعتناء بالإقليم وساكنته. كما لا نجد أن الحل العسكري –رغم تحمس العديد من الدول له- قد تحددت ملامحه. فالدول الداعمة لحل عسكري في شمال مالي لم تصرح بعد بعدد الجنود الذي ستدفع به كل دولة إلى ساحة المعركة كما لم تتحدد الجهات التي ستمول هذه الحرب فضلا عن اختلاف حاد حول قيادة القوة الإفريقية. فالماليون يريدون أن يكونوا هم من يتولى القيادة العامة للقوة الإفريقية وللجيش المالي، في حين ترى دول الإكواس الأخرى أن يكون كل طرف قياته الخاصة مع إمكانية تنسيق بعض العمليات. فضلا عن أن الأمم المتحدة، التي يفترض أن تساهم بقسط كبير من التكاليف المادية للخطة العسكرية لم تبد بعد استعدادها للقبول بخوض غمار هذه الحرب.
هل تنجح الإكواس في طرد الجهاديين من شمال مالي
صرح رئيس الأركان في ساحل العاج الجنرال سومايلا باكايوكو يوم الأحد 16 ديسمبر/ كانون الأول 2012 أن قادة أركان جيوش مجموعة الإكواس قد استكملوا تفاصيل الخطة المنسقة المشتركة والمتعلقة بالتدخل العسكري في شمال مالي والهادفة إلى طرد الجماعات التي سماها بالإرهابية؛ إلا أن القوى المشتركة الإفريقية والمالية ستجد أمامها في إقليم أزواد مجموعات جهادية منظمة تعرف صحاري أزواد وجباله معرفة تامة وقد نسجت علاقات اجتماعية مع ساكنة الإقليم، وهو أمر يجعل عمل هذه القوة العسكرية الإفريقية في غاية الصعوبة. ومن الجلي أن الجماعات الجهادية قد استفادت من الوضع غير المستقر في شمالي مالي ومن البطالة المستشرية في صفوف الشباب الأزوادي مما مكن الجماعات المسلحة من جذب العديد منهم إلى صفوفها.
ويعتبر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، التنظيم السلفي الذي خرج من عباءة الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية، من أقدم التنظيمات في أزواد. فمنذ أواخر 2006 ومسلحو هذه الجماعة، التي تعرف كذلك بإمارة الصحراء، يسعون إلى جعل شمال مالي منطقة للاحتماء وملاذا لجمع الرهائن الغربيين ممن يتم اختطافهم في دول الساحل الإفريقي أو المغرب العربي، وممرا آمنا كذلك لقوافل تهريب البضائع والمخدرات، فضلا عن كونهم قاعدة خلفية للضغط على الجزائر وموريتانيا. ومنذ انسحاب الجيش المالي يتركز مسلحو إمارة الصحراء في تنبكتو إلى جانب مسلحي حركة أنصار الدين التي تشكل الوجه الطارقي للجماعة السلفية في أزواد. ويتزعم حركة أنصار القنصل المالي السابق في السعودية والزعيم القبلي والسياسي إياد آغ غالي، وهو أحد أكثر الأسماء حضورا في الأزمة الراهنة وهو الذي كان قائدا ميدانيا قاد التمرد مرارا ضد حكومة بماكو، كما تصالح معها أحيانا بفضل وساطات الجزائر المتكررة. وتعتبر حركة أنصار الدين –على الرغم من توجهها السلفي الجهادي- ذات صلة وثيقة بالجزائر.
وفي الوقت الذي تنتشر فيه عناصر أنصار الدين في منطقة كيدال وتنتشر معها عناصر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في منطقة تنبكتو نجد أن عناصر جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا تبسط نفوذها في منطقة غاوة. ولم يأت هذا التوزيع المناطقي صدفة بل إن من أسبابه الروابط القبلية والاجتماعية بين قادة بعض هذه التنظيمات مع قبائل ومجموعات في هذه المناطق. فمن الطبيعي أن تتولى حركة أنصار الدين السيطرة على منطقة كيدال حيث قبيلة الأيفوغاس الطارقية التي ينحدر منها إياد أغ غالي. كما أن قبيلة الأمهار العربية توجد بكثافة في مدينة غاوة، ومن هذه القبيلة ينحدر سلطان ولد بادي المكنى أبو علي وهو زعيم جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا. ويوجد ضمن جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا مسلحون جاؤوا متطوعين من بلدان مختلفة منها ما هو عربي كموريتانيا والجزائر وتونس والمغرب كما يوجد من بينها عناصر من جماعة بوكو حرام من نيجيريا وعناصر من التشاد والنيجر وغيرها.
ومن الصعب معرفة عدد مسلحي الجماعات الجهادية في إقليم أزواد، ذلك أن عددهم ما فتئ يزداد منذ اندلاع الأزمة في بدايات سنة 2012. ومن تقاليد منتسبي تنظيم القاعد المتعارف عليها أن يهبوا لنجدة إخوانهم في الفكر والتوجه. فكثيرا ما تداعت عناصر تنظيم القاعدة من مختلف الجهات لنصرة إحدى الجماعات الجهادية عندما تتعرض لخطر، ومن هنا تصعب معرفة عدد مسلحي هذه الجماعات في إقليم أزواد؛ حيث إنهم في ازدياد مطرد منذ أن بدأت الأزمة. فإذا كانت بعض التقارير تقول إن عناصر الحركات الجهادية الثلاث لم تكن تتجاوز الثلاثة آلاف قبل الأزمة فإن هذا العدد قد تضاعف وقارب الستة آلاف حيث انضمت إليهم عناصر من نيجيريا (بوكو حرام) ومن التشاد والسودان والنيجر وبوركينافاسو فضلا عن عناصر من بلدان المغرب العربي الخمسة. ومع صعوبة تحديد عدد هؤلاء المسلحين فإنه من المؤكد أنهم يمتلكون كمية من الأسلحة المتطورة التي جاؤوا بها إلى المنطقة بعد سقوط الزعيم الليبي معمر القذافي. كما أن الفديات التي حصلوا عليها بعد الإفراج عن رهائن غربيين فضلا عن السيطرة عن شبكات تجارية محرمة وغير محرمة قد وفرت لهم أموالا طائلة.
وبالإضافة إلى الحركات الجهادية الثلاث توجد حركة طارقية ذات توجه علماني وهي: الحركة الوطنية لتحرير أزواد (MNLA)، التي أعلنت عن استقلال إقليم أزواد في أبريل/ نيسان 2012 بعد انتصاراتها الميدانية ضد الجيش المالي. وينتسب أغلب عناصر الحركة إلى الطوارق مع تمثيل أقل للعنصر العربي الأزوادي. ومع أن عدد مسلحيها يقدر بألفي جندي عمل أغلبهم في ليبيا وعبروا الجزائر بعد سقوط القذافي ليكونوا أول من يواجه الجيش المالي ويبسطوا سيطرتهم على أغلب مناطق أزواد. غير أن الحركات الجهادية السلفية ما لبثت أن طردت الحركة من جميع المناطق الأزوادية الواقعة تحت سيطرتها ليصبح وجودها العسكري شبه معدوم في الميدان، لكن جناحها السياسي النشط، والموجود أساسا في فرنسا وبلجيكا، ظل يسجل حضورا في بعض المنابر الإعلامية والدبلوماسية في الوقت الذي ضعف الوجود الميداني للجناح العسكري. ولا يبدو أن المشروع الانفصالي لهذه الحركة سيرى النور حيث بات وجودها الميداني منعدما عندما أزاحتها بقوة الحركات الجهادية التي لها مقاربة مختلفة خصوصا حركة أنصارا لدين التي ترى ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية في إقليم أزواد بل وتوسيعه ليشمل مختلف التراب المالي مما يعني أنها لا تريد الانفصال. ويظل مشروع الانفصال التي أعلنت عنه هذه الحركة عرضة لتحديات أخرى منها أن الجزائر –وهي أقوى وأبرز دول الإقليم- وكذلك النيجر، لن تسمحا بقيام دولة طارقية على حدودها إذ من شأن ذلك أن يهدد أمنها خصوصا وأن ساكنة الجنوب الجزائري وكذلك الغرب النيجيري كلهم من الطوارق.
وتتفق العديد من التقارير على أن القوة العسكرية لمجموعة الإكواس قد يمكنها –لو نشبت الحرب- أن تستعيد السيطرة على مدن أزواد الثلاث: كيدال وتنبكتو وغاوة؛ لكنها ستبقي عاجزة عن السيطرة على صحارى أزواد الشاسعة والتي ستكون مأوى آمنا للحركات الجهادية المسلحة. فتضاريس إقليم أزواد مواتية للعصابات المسلحة؛ فهي توفر مجموعة متنوعة من الملاجئ (الأخاديد والكهوف والصخور المتدلية) وستكون مواقع بديلة ومنيعة قد يستعصي اختراقها على قوة الإكواس. فالمنطقة الجبلية الموجودة بشمال غرب مرتفعات آدرار أيفوغاس بشرق وشمال أزواد مثلا تشكل ملاذا حقيقيا؛ فتلك المرتفعات الجبلية تشكل مراكز ممتازة للمراقبة والإنذار المبكر تجاه أي حركة مشبوهة.
إقليم أزواد في قلب الاهتمامات الاستراتيجية
ليس من قبيل الصدفة أن يستقطب إقليم أزواد اهتماما دوليا؛ فمن غير المستبعد، كما يرى الرئيس المالي السابق آمادو توماني توري، أن تكون القضايا المتعلقة بالموارد المعدنية والموقع الجغرافي لشمال مالي سببا في اهتمام القوى العظمى بهذا الإقليم. وبالفعل تم الكشف عن احتياطيات من النفط واليورانيوم والغاز والفوسفات وكل هذه الثروات تزيد من رغبة القوى الأجنبية في شمال مالي.
ثم إن التحريات التي تقوم بها الآن شركة توتال الفرنسية في حوض تاودني الموجود بموريتانيا والمتوغل شرقا نحو إقليم أزواد أثبتت وجود احتياطات هامة من النفط. وقد منحت الحكومة المالية في عهد توماني توري عقود تنقيب لست شركات أجنبية مختلفة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الأميركيين يسعون إلى السيطرة على المنطقة بشكل فعال لمكافحة تجار المخدرات الكولومبية التي تمر عبر صحراء أزواد التي تشرف عليها في الوقت الراهن التنظيمات الجهادية المسلحة. أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن السيطرة على هذا المجال قد يسمح برصد ومراقبة أفضل لتدفق الهجرة السرية التي تمر عبر البحر الأبيض المتوسط.
وعلى المستوى الإقليمي ظهر تمايز واضح بين الموقف الجزائري وبين الموقف المغرب من الأزمة؛ ففي الوقت الذي تدعم فيه الجزائر المسعى التفاوضي وتحاول أن تجر حلفاءها الأزواديين (جماعة أنصار الدين) إلى التحاور مع بماكو فإن الدبلوماسية المغربية تقف بنشاط إلى جانب مجموعة الإكواس في ضرورة التعجيل بالحرب.
وتتهم بعض المصادر الإعلامية الجزائرية المملكة المغربية بأن لها علاقة بجماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا وهو أمر لم تؤكده مصادر محايدة. ومعلوم أن جميع عمليات هذه الجماعة قد استهدفت المصالح الجزائرية بدءا بعملية أكتوبر/ تشرين الأول 2011، عندما نفذ عناصر تابعين لها عملية اختطفوا خلالها ثلاثة رهائن غربيين (إسبانيين وإيطالية) من مخيمات اللاجئين الصحراويين قرب مدينة تيندوف جنوب الجزائر. وكان من آخر عملياتها اختطاف القنصل الجزائري وستة من معاونيه في مدينة غاوة.
خاتمة
من الواضح أن الأزمة السياسية والأمنية الراهنة في شمالي مالي ترتبط ارتباطا وثيقا بالثورة الليبية وما نتج عنها من تهريب للسلاح الليبي إلى شمال مالي بعد مقتل القذافي، وأنها ما فتئت تأخذ أبعادا تثير القلق على الصعيدين الإقليمي والدولي.
فإقليم أزواد الذي يشكل نقطة تواصل بين بلدان المغرب العربي وغرب إفريقيا أوشك أن يصير "إمارة إسلامية" تتحكم فيها مجموعة من الجماعات الجهادية. وعلى الرغم من وجود علاقات وثيقة بين هذه الجماعات وبين بعض الواجهات الاجتماعية بأزواد؛ حيث نسجت هذه الجماعات خلال السنوات الماضية علاقات حميمة مع السكان المحليين ووفرت لهم الدواء والنقل والإعانات الغذائية كما وقعت زيجات بين عناصر الجماعات الجهادية وبين بعض الأسر الأزوادية. غير أن تعامل هذه الجماعات قد تغير مع السكان بعد سيطرتها على الإقليم حيث قامت الجماعات بهدم القبور، خصوصا في تنبكتو المشهورة بأنها مدينة الثلاث مائة وثلاثة وثلاثين وليا، مما أثر في مشاعر العديد من السكان من ذوي التوجهات الصوفية، هذا فضلا تحريم الألعاب وتغيير عادات اللبس بفرض الحجاب على الطريقة الأفغانية على نساء سكان الإقليم. كما تحمل تقارير عديدة على تطبيق هذه الجماعات لحد الجلد وقطع يد السارق على أساس أنها لا تراعي بشكل دقيق للحيثيات الشرعية المطلوبة في هذه المسائل وخصوصا التمكين. وهي أمور يتوقع أن ينتج عنها، مع اطرادها وتماديها، تبرم وسخط وقطيعة بين الحركات الجهادية وبين السكان المحليين.
ثم إن مجوعة الإكواس تسعى جاهدة لإيجاد حل عسكري عاجل لطرد الجماعات الجهادية من أزواد واستعادة مالي لشماله. غير أن تدخل الإكواس، في حالة وقوعه، سيجر الإقليم إلى حرب أهلية بين المجموعات الزنجية وبين الطوارق والعرب، حيث يرى هؤلاء أن جنود الإكواس ما جاؤوا إلا لنصرة الزنوج من السونغاي والفولان على حساب الطوارق والعرب.
واشتعال الصراع في إقليم أزواد سيؤثر على منطقة الساحل كلها التي كانت تعرف اضطرابات عديدة في ليبيريا وسيراليون وتوغو وغينيا وكازامانس (جنوب السنغال) وأزمة دارفور بغرب السودان، وسيبقى المسرح مفتوحا على مختلف احتمالات العنف كما سيكون أزواد مصدرا لتصدير القلاقل نحو دول المنطقة.
وفي انتظار موقف مجلس الأمن من خطة مجموعة الأكواس فإن الخيارات ستظل مفتوحة أمام خيار التفاوض الذي تدعمه أمريكا وترعاه الجزائر وبعض دول المنطقة وتعززه حتى الآن تصريحات السيد بان كي مون، وبين خيار الحرب الذي تدعو إليه أغلب دول مجموعة الإكواس معززة من طرف فرنسا وجنوب إفريقيا.
______________________________
سيدي أحمد ولد أحمد سالم - مركز الجزيرة للدراسات