التعاون القطري-الأوكراني في مجال الطاقة: خصوصياته وآفاقه

ترجع أهمية هذا التقرير إلى حدة التوتر في قضية إمدادات الغاز إلى دول الاتحاد الأوروبي ودول الاتحاد السوفيتي السابق؛ حيث تهيمن شركة "غاز بروم" الروسية بشكل مطلق على هذه الأسواق، مما جعل موسكو عمليًا محتكرًا رئيسًا لتوريد الغاز إلى هذه الدول.
2012122463523611734_20.jpg
تعزيز التعاون القطري-الأوكراني في مجال الطاقة كفيل بإعادة صياغة العناصر المؤثرة على الساحة الدولية، وربما قد يؤدي ذلك إلى تغييرات كبيرة في الخريطة السياسية للعالم (الجزيرة)

ترجع أهمية هذه الدراسة إلى حدة التوتر في قضية إمدادات الغاز إلى دول الاتحاد الأوروبي ودول الاتحاد السوفيتي السابق؛ حيث تهيمن شركة "غاز بروم" الروسية بشكل مطلق على هذه الأسواق، مما جعل موسكو عمليًا محتكرًا رئيسًا لتوريد الغاز إلى هذه الدول. وقد أدى هذا الاحتكار الروسي إلى انقطاع لإمدادات الغاز مرات عديدة عن دول الاتحاد الأوروبي ودول الاتحاد السوفيتي السابق (أزمتي الغاز عام 2006 و2009)؛ مما  اضطر الاتحاد الأوروبي للبحث عن مصادر وطرق متنوعة لإمدادات الغاز.

وفي الوقت نفسه، وبسب اعتماد دول الاتحاد السوفيتي السابق، بصورة خاصة أوكرانيا، على الغاز الروسي، فقد بلغ قيمة كل 1000 متر مكعب من الغاز الروسي لأوكرانيا 430 دولارًا في عام 2012، وبذلك تمكن الاتحاد الروسي من استخدام وسائل الضغط على جيرانه ليس فقط اقتصاديًا بل سياسيًا أيضًا. ينبغي الإشارة إلى أنه، مقابل خصم 100 دولار من قيمة كل 1000 متر مكعب من الغاز اضطرت أوكرانيا إلى إقرار قانون لتمديد بقاء أسطول البحر الأسود الروسي على أراضيها (شبه جزيرة القرم) حتى عام 2042 مع إمكانية التمديد، وذلك خلافًا للدستور الأوكراني، الذي يحظر تواجد القوات الأجنبية في البلاد.

باستخدام "مسألة الغاز" تهدف روسيا إلى السيطرة على خطوط أنابيب الغاز الأوكرانية من خلال تحديثها ولاحقًا شرائها، لتصبح من ممتلكات الدولة الروسية، كما سبق في السيناريو مع دولة بيلاروسيا. وتُعد خطوط أنابيب الغاز الأوكرانية إلى يومنا هذا أكبر خطوط للغاز في أوروبا، ولها قدرة بضعف قدرة "نورد ستريم". وبناء على ذلك، فإن لروسيا مصلحة اقتصادية كبيرة في السيطرة على هذه الخطوط. ويدرك المسؤولون الأوكرانيون أن فقدان هذه الخطوط يهدد أمن وسيادة بلدهم، لذلك -كما في الاتحاد الأوروبي وأيضًا في أوكرانيا- تعد مسألة تقليص الاعتماد على الطاقة من روسيا من الأولويات.

إن أحد أهم عوامل معالجة هذه المسألة، هي توريد الغاز الطبيعي المسال وانتعاشه في محطات الغاز الطبيعي المسال (LNG). وتعتبر دولة قطر أكبر مصدِّر للغاز الطبيعي المسال في العالم، حيث عمدت الدوحة إلى تطوير قدراتها لإنتاج الغاز المسال على مدار السنوات الماضية؛ لذلك بدأت أوكرانيا بحثها عن المصادر المتنوعة لإمدادات الغاز، بهدف الحد من الاعتماد على روسيا، لضمان أمنها الاقتصادي وسيادتها، وبذلك فإنَّ لدولة قطر إمكانية الدخول لسوق الطاقة الأوكراني ويمكنها أيضاً تعزيز دورها في سوق الطاقة الأوروبية على حد سواء.

إن هذه العملية متعددة الأوجه، فبالإضافة إلى المجال الاقتصادي، هناك أيضًا العنصر السياسي، الذي لا يقل أهمية، وذلك بسبب الخلاف بين روسيا وقطر حول الربيع العربي وتحولات الانتقال الديمقراطي التي يشهدها العالم العربي، والموقف من الأزمة في سوريا.

1- التعاون القطري الأوكراني الثنائي: تاريخه وخصائصه

إن تاريخ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين دولة قطر وأوكرانيا يعود إلى 13من إبريل/نيسان عام 1993، وفي يناير/كانون الثاني2002 وقّعت قطر وأوكرانيا اتفاقية حول التعاون الاقتصادي والتجاري والتقني (دخل حيز التنفيذ في ديسمبر/كانون الأول2004)، وفي مارس/آذار2009، وقّع البلدان مذكرة تفاهم بشأن التعاون بين وزارتي الخارجية القطرية والأوكرانية. في 19أكتوبر/تشرين الأول2011 في كييف، برعاية الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش وأمير دولة قطر حمد بن خليفة آل ثاني، تم التوقيع على عدد من الاتفاقيات بين البلدين منها اتفاقية حول تبادل المعلومات بين الوكالة الوطنية الأوكرانية (أوكر إينفورم) ووكالة الأنباء القطرية، والرحلات الجوية بين البلدين. 

وقد وصلت العلاقات السياسية بين البلدين إلى مستوى جديد عندما قام رئيس الوزراء الأوكراني ميكولا أزاروف في 8-9من مايو/أيار2012 بزيارة رسمية لدولة قطر، التي مهدت لزيارة الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش إلى الدوحة (27 و28من نوفمبر/تشرين الثاني2012)، وخلال المحادثات القطرية-الأوكرانية تم تحديد أهم توجهات التعاون الثنائي، خاصة في مجال الطاقة، والقطاع الزراعي، والمجال العسكري والتقني، ومشاريع البنى التحتية. وتم التوقيع على عدد من الاتفاقيات للتعاون بين البلدين. وأكد الرئيس الأوكراني أن التعاون الإستراتيجي مع دولة قطر يُعد من إحدى أهم أولويات إستراتيجية بلاده(1). الجانب القطري بدوره أعرب عن أمله في الانتقال بالعلاقات بين البلدين إلى مستوى الطموحات وترجمة الاتفاقيات إلى مشروعات تحقق قيمة مضافة لاقتصاد البلدين(2).

الدوحة وكييف عاصمتان، عمليًا لم تكونا يومًا من عِداد عواصم مراكز القوة، مثل بروكسل وموسكو وواشنطن، ولكن من المرجح أن تصبحا خلال العقد القادم من أبرز اللاعبين تأثيرًا في أسواق الطاقة في العالم.

ووفقًا لاتفاقيات وُقِّعت بين البلدين قد تصبح قطر بوابة للحبوب الأوكرانية إلى منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، كونها أبدت الاستعداد للاستثمار في زراعة الحبوب العلفية ومبيعات القمح الأوكراني في الدول العربية(3). بالمقابل تحصل أوكرانيا على الغاز المسال من قطر، والأهم من هذا أن تكلفة هذا الغاز القطري (140 دولار لكل 1000 متر مكعب، أقل بثلاث مرات من سعر الغاز الروسي)، وعلى المدى الطويل سيتم بناء محطة طرفية في ميناء بالقرب من مدينة أوديسا (أوكرانيا) لاستقبال الغاز الطبيعي المسال، التي ستسمح بالحصول على 10 مليارات متر مكعب من الغاز لتلبية، ليس فقط حاجة أوكرانيا، بل وللتصدير إلى بلدان أوروبية أخرى. ومن المقرر أن تستلم أوكرانيا أول كمية من هذا الغاز المسال في بداية عام 2015. وبهذا المشروع تكون دولة قطر ضمنت تصدير الغاز (مستقبلاً) عبر خطوط أنابيب الغاز الأوكرانية. وبالتالي تقديم أسعار تنافسية لتكلفة الغاز، وتصبح منافسًا قويًا لروسيا في أوروبا.

إن التعاون القطري-الأوكراني يتجاوز نطاق التعاون الثنائي الضيق، كذلك له تأثير إقليمي وعالمي:

  1. يساهم في تخفيف الضغط والحد من النفوذ الروسي على أوكرانيا.
  2. يضمن للاتحاد الأوروبي عدم تكرار أزمة الغاز، كأزمتي 2006 و2009، ويقلّل من تكلفة الغاز إلى الدول الأوروبية.
  3. يحد من اتساع نفوذ روسيا كـ"مركز للقوة" ويكبدها خسائر اقتصادية بسبب فقدانها، جزئيًا للأسواق الأوكرانية والأوروبية.
  4. يعزز الوجود القطري في أسواق أوروبا، ويرقي بالتعاون بين أوكرانيا وقطر والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة (كون الأخيرتين مهتمتين بخروج أوكرانيا من منطقة النفوذ الروسي).

 2- التعاون القطري-الأوكراني: موقف الأطراف الأخرى

الاتحاد الأوروبي
خلال أزمة الغاز، عام 2009، عندما وصلت المحادثات الأوكرانية-الروسية حول سعر الغاز إلى طريق مسدود، ووقع معظم دول الاتحاد الأوروبي أسير البرد القارص، إثرها صدر بيان حاد من مفوضة  العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي بنيتا فيريرو فالدنر "بعد أزمة الغاز الروسية-الأوكرانية: ماذا بعد؟"(4). ووصفت فالدنر أوكرانيا ببلد الترانزيت، الذي لا يمكن الاعتماد عليه، وروسيا بالمورد غير الموثوق به للغاز الطبيعي. وأعلنت فالدنر أن الاتحاد الأوروبي يعتمد على الغاز الروسي بنسبة 25 بالمئة فقط، وأكدت على ضرورة إيجاد سبل لتنويع مصادر الغاز، واعترفت بإنجازات محدودة للاتحاد الأوروبي في هذا الشأن. إلا أن الاتحاد الأوروبي، إلى يومنا هذا، يعاني من الاعتماد على الطاقة الروسية، لذلك عرضت المفوضية الأوروبية مشروع قانون في 17سبتمبر/أيلول2012، وفقًا لهذا القانون تقوم جميع دول الاتحاد الأوروبي بتوحيد نظمها في مجال الطاقة قبل نهاية عام 2014 وذلك لأجل الحصول على مصادر متنوعة، بديلة للغاز الروسي، ومن ضمن هذه المصادر البديلة كانت دولة قطر في المقدمة(5). وانطلاقًا من ذلك فإن التعاون القطري-الأوكراني يصب في مصلحة الاتحاد الأوروبي، وعامل أساسي للحد من الاعتماد على الطاقة من روسيا.

الولايات المتحدة
التعاون الأوكراني-القطري مرحَّب به من قبل الولايات المتحدة؛ فالمسؤولون الأميركيون أعربوا مرات عديدة عن خشيتهم من تعميق وتعزيز التعاون بين أوكرانيا وروسيا، خصوصًا في عامي 2010 و2011، عندما مددت أوكرانيا بقاء أسطول البحر الأسود الروسي على أراضيها وفي مياهها (البحر الأسود)، كما أن واشنطن لم تُخْفِ قلقها إزاء الضغط الروسي على أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الجمركي (روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان). إضافة إلى ذلك رفض الرئيس الأوكراني يانوكوفيتش الاستمرار في نهج سلفه (الرئيس السابق فيكتور يوشينكو) مواصلة جهود الانضمام لحلف شمال الأطلسي. في ظل تلك المتغيرات، قامت الولايات المتحدة بجهود حثيثة لمساعدة أوكرانيا لضمان استقلالها في مجال الطاقة والحد من الهيمنة الروسية. ورأت واشنطن أن ضمان أمن الطاقة في أوكرانيا يُعتبر مفتاحًا لوقف عمليات التكامل (الاقتصادي والسياسي) بين كييف وموسكو. ومن بين هذه الجهود والخطوات موافقة الوكالة الأميركية للتجارة والتنمية في أغسطس/آب2012 على تمويل البحوث لتطوير حقول الغاز الخاصة في أوكرانيا (لتغطية احتياجات السوق المحلية)(6). وبالتالي، فإن التعاون بين أوكرانيا وقطر الذي يُعد واحدًا من أقوى العوامل في تنويع إمدادات الغاز، للحد من الهيمنة الروسية في فضاء دول الاتحاد السوفيتي السابق سيكون إشارة مهمة للبيت الأبيض. إلى جانب ذلك وقّع الأوكرانيون عقدًا مع شركة أميركية تُدعى (Excelerete Energy) لإيجار منصة عائمة لاستقبال وتخزين الغاز الطبيعي المسال. ولم يُخْفِ المسؤولون الأميركيون يومًا قلقهم من اعتماد أوكرانيا على الطاقة من جارتها الشمالية. كما اعتبر نائب رئيس مجلس الأطلسي في الولايات المتحدة ويلسون دامون، أن الحد من هذا الاعتماد، سيكون عاملاً إيجابيًا في علاقات أوكرانيا مع جيرانها، وسيساعد في تقدم أوروبا(7). إذًا، فالتعاون القطري-الأوكراني يتماشى، لا بل يتطابق مع إستراتيجية أمن الطاقة الأميركية في أوروبا. 

روسيا الاتحادية وفضاء دول الاتحاد السوفيتي السابق
ما هو موقف الكرملين من التعاون القطري-الأوكراني؟ حتى الآن فإنّ المسؤولين في موسكو يلتزمون الصمت، وكذلك، لا تصريحات لممثلي شركة "غاز بروم" حول الاتفاقيات الأوكرانية-القطرية في مجال الغاز. يظهر انطباع، أن روسيا ما زالت حتى الآن في موقف المراقب، وتأمل أن تتمكن من تغيير الأمور قبل حلول عام 2015، عندما تتلقى أوكرانيا الدفعة الأولى من الغاز القطري(8). للتذكير، فأن مبدأ "خُذْ أو ادفعْ" ينطبق على الاتفاقيات والعقود المجحفة، بين الشركة الأوكرانية (نافتو غاز) و(غاز بروم) الروسية، وبموجب هذه العقود لا يستطيع المستورد الأوكراني شراء كمية من الغاز أقل من تلك المحددة في تلك العقود.

في الوقت نفسه، ظهرت عدة مقالات نقدية في وسائل الإعلام الروسية والأوكرانية الموالية لروسيا، حول التعاون الأوكراني-القطري في مجال الطاقة، يجب الإشارة إلى أن معظم هذه المقالات موجه ضد المسؤولين الأوكران(9).

إن الدور النشيط لدولة قطر في دول الاتحاد السوفيتي السابق، ولاسيما دول البلطيق، (زيارة رئيس ليتوانيا دالي غريبا وسكايتي إلى الدوحة في إبريل/نيسان2012)، والاتفاقيات بين قطر وجمهوريتي طاجيكستان وقرغيزستان حول دعوة العمال من هاتين الدولتين إلى قطر، وكذلك قيام دولة قطر بإنشاء صندوق استثماري بمبلغ 100 مليون دولار لتحسين الاقتصاد الطاجيكي، كل ذلك جعل العديد من الخبراء الروس يعتبرون أن دولة قطر، بسياساتها الخارجية في فضاء دول الاتحاد السوفيتي السابق، إنما تقف في وجه الاتحاد الروسي، وذلك إثر تدخلات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط. فمثلاً، يقول الخبير فيغان أكوبيان في إحدى مقالاته: إن قطر، الطموحة، تفرض القتال على جميع الجبهات(10)، ويعتبر أن دولة قطر، وبدعم من الولايات المتحدة، ترغب في بناء ممر يمتد من قطر إلى تركيا مرورًا بالسعودية والأردن وسوريا، لكن، إنشاء هذا الممر، وممارسة عمله الطبيعي، يتطلب بالضرورة، تغيير النظام في سوريا. هذا النظام المدعوم من روسيا وشريكها (الظرفي) إيران. إذًا فبتعاونها مع أوكرانيا، قد تخاطر دولة قطر بتوتير علاقاتها مع روسيا، لكن هذا التعاون يستحق المجازفة للأسباب التالية: أولاً: الفوائد الاقتصادية التي ستجنيها قطر من أوكرانيا، ومن خلالها ستتمكن من تعزيز وجودها في سوق الطاقة الأوروبي. وثانيًا: إضعاف النفوذ الروسي في فضاء دول الاتحاد السوفيتي السابق، وهذا له أثره في الساحة الدولية.

ولا يخفى على أحد أن روسيا، ومنذ فترة طويلة، تتعرض لانتقادات لاذعة من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية بسبب:

  • الحد من الديمقراطية وحقوق الإنسان في روسيا.
  • قمع  المعارضة، واعتقال زعمائها.
  • الاحتكار في إمدادات الغاز إلى أوروبا.
  • افتعال المواجهة مع دول الناتو، وخاصة من خلال اعتدائها على الأراضي الجورجية.

ومع ذلك، فإن الوضع النووي والقوة الاقتصادية لروسيا تجبر المجتمع الدولي، على الاقتصار فقط على البيانات التي تكون أحيانًا شديدة اللهجة، عند وجود أسباب يعتبرها المجتمع الدولي جوهرية. إن القوة الاقتصادية لروسيا تقوم أساسًا على الدخل من صادرات الطاقة. لذلك، في حال فقدانها دورها الريادي في أسواق الطاقة (خاصة الغاز)، سيكون هناك انخفاض وعجز كبيران في ميزانيتها، ووفقًا لهذا سيصعب عليها الحفاظ على تحديث قوتها العسكرية. إضافة إلى ذلك، ستقوى الحركات المناهضة لسياسة الدولة، كما حدث بالفعل عام 2011.

إن روسيا الاتحادية مهددة بشكل دائم، بفصل العديد من أعضائها عن هذا الاتحاد (المجبر)، ورغبة العديد من شعوب الاتحاد الروسي في نيل الاستقلال، كجمهوريات القوقاز مثلاً. لذلك يدرك المسؤولون في روسيا أن إضعاف القوة الاقتصادية لبلدهم سيؤدي إلى نمو النزعات الانفصالية لدى معظم شعوب هذا الاتحاد، والتي تظهر بين الفينة والأخرى، وخصوصًا في ظروف الأزمات الاقتصادية، وفراغ خزينة الدولة، وحرمان المواطنين من الضمانات الاجتماعية -وهذا هو سيناريو انهيار الاتحاد السوفيتي السابق-؛ لذا لا يخفى على الخبراء أن دخول قطر أسواق الطاقة الرئيسية في دول الاتحاد السوفيتي السابق سيحد من دور روسيا، ليس فقط اقتصاديًا بل وسياسيًا أيضًا.

 3- التعاون القطري-الأوكراني ودور تركيا

تلعب تركيا دورًا مهما في التعاون القطري-الأوكراني. وبالرغم من بعض المخاطر البيئية المتعلقة بمرور ناقلات النفط عبر مضيق البوسفور، إلا أنه يُنتظر من اجتماعات مندوبي الدول الثلاثة: (قطر، أوكرانيا، تركيا) أواخر شهر ديسمبر/كانون الأول الجاري، نتائج إيجابية. تركيا أيضًا تعد من الدول التي تُولِي بالغ الأهمية لتنويع إمدادات الغاز، كونها في المرحلة الحالية تتلقى الغاز من إيران. ففي حال مرور الغاز القطري المسال عبر أراضيها (البوسفور)، ستعاني إيران (الداعمة للنظام السوري) من خسائر اقتصادية كبيرة. تدرك روسيا أنها لا تستطيع عرقلة التعاون القطري-الأوكراني في مجال الطاقة ومنعه من اختراق الأسواق الأوروبية دون مساعدة تركيا، وجرّ الأخيرة إلى جانبها. إلا أن تركيا، في الحالة هذه، لا ترغب بالوقوف إلى جانب روسيا لعدة أسباب: أولاً: التاريخ المتداخل للشعبين الأوكراني والتركي على مدار عدة قرون، والمواجهات (الحروب) بين الإمبراطوريتين: العثمانية والروسية من أجل السيطرة على الأراضي الأوكرانية (شبه جزيرة القرم، والمناطق المحاذية لها). ثانيًا: روسيا لم تتعود قيادة اللعبة الدبلوماسية على قدم المساواة، وفي أغلب الأحيان تتعامل مع جيرانها بنبرة إمبراطورية. أما تركيا اليوم فهي ليست تلك الدولة التي يمكن الضغط عليها، فهي عضو في حلف الناتو. ثالثًا: لا يوجد في تركيا لوبي روسي، ذو قدرة على التأثير على القرارات الحكومية. رابعًا: التعاون القطري-الأوكراني يصب في المصلحة التركية، كونه عاملاً مهمًا في إزالة اعتماد أنقرة على الغاز الإيراني، وبالتالي سيساهم في اتخاذ خطوات عملية لإيجاد حل سريع للأزمة، التي طال عمرها في سوريا.

4- تأثير التعاون القطري-الأوكراني على الفضاء السياسي في العالم العربي

إن تأثير التعاون القطري-الأوكراني في مجال الطاقة لن يقتصر على دول الاتحاد السوفيتي السابق والدول الأوروبية، بل سيصبح عاملاً مهمًا لضمان الأمن في الخليج العربي والشرق الأوسط. وإن دخول قطر أسواق الطاقة الأوروبية سيساهم في الحد من تهديدات إيران لجيرانها في الخليج العربي، وذلك من خلال تحييد الدعم الروسي لإيران، وهذا أمر ممكن، وذلك بسبب المشاكل الاقتصادية، التي ستظهر إثر المنافسة القطرية-الروسية في الأسواق الأوروبية. أما في ما يتعلق بالأزمة في سوريا، فدولة قطر، مثل أغلبية الدول العربية ومعها أغلبية دول المنظومة الأممية، ترى أن الوقت حان لتغيير النظام في سوريا -كاستمرار منطقي للعملية الديمقراطية والتحولات السياسية، التي أفرزها الربيع العربي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا- وأن إهمال المسألة السورية سيشكّل تهديدًا للأمن والاستقرار الإقليميين. بينما ترى روسيا وإيران في النظام السوري، حاميًا لمصالحهما؛ لذا تقدمان الدعم العسكري والمالي لنظام الأسد، انطلاقًا من مصلحتيهما، التي تهدف إلى تعطيل المصدر الأساسي لتزويد العالم بأصناف الطاقة في منطقة الخليج العربي وإشغاله بأزمات داخلية وصراعات إقليمية، لبسط نفوذهما في أسواق الطاقة العالمية، وبالتالي فإن إحراق المنطقة من خلال البوابة السورية قد يكون منقذًا لهذا المخطط. إضافة إلى ذلك، فإيران (الشيعية) ترى في نظام الأسد امتدادًا لها.  وفي ظل هذه الظروف، أصبح الصراع من أجل سوريا له أهمية كبيرة لمعظم الدول العربية؛ فانتصار الثورة في سوريا وسقوط نظام الأسد، سيكون ضربة قوية لروسيا وإيران.

الخلاصة

وهكذا، فإن تعزيز التعاون القطري-الأوكراني في مجال الطاقة كفيل بإعادة صياغة العناصر الفاعلة الرئيسية، المؤثرة، على الساحة الدولية، وربما قد يؤدي ذلك (في المستقبل) إلى تغييرات كبيرة في الخريطة السياسية للعالم. إن هذا التعاون له أهمية كبيرة بالنسبة لدولة قطر، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، ولكن أيضًا من الناحية السياسية. تحولت دولة قطر إلى قاعدة لحرية الفكر والرأي في العالم العربي بفضل استضافتها لقناة الجزيرة، وعززت موقعها اقتصاديًا، وفعّلت دورها وتأثيرها في المنظمات الإقليمية والدولية. إن منافسة دولة قطر لروسيا الاتحادية في أسواق الطاقة الأوروبية ستحول الدوحة مستقبلاً إلى أحد مراكز "صناعة القرار" إقليميًا ودوليًا.

إن "اقتلاع" أوكرانيا من حضن روسيا، التي لا ترى تطورها دون الوحدة التاريخية للدول السلافية الثلاث (روسيا، أوكرانيا، بيلاروسيا) يُعد ضربة قوية في "كعب أخيل" الروسي.

إن ضمان أوكرانيا أمنها في مجال الطاقة، وبذلك خروجها من التبعية لروسيا وريثة الاتحاد السوفيتي، يُعد من القضايا الأساسية للمسؤولين الأوكران وذلك منذ استقلال البلاد عن الاتحاد السوفيتي عام 1991، لذلك فإن استيراد أوكرانيا الغاز المسال من قطر سيضمن الازدهار الاقتصادي والصناعي وسيعطي قدرة تنافسية للصناعات الثقيلة في أوكرانيا.

إن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يوليان اهتمامًا عميقًا للتعاون القطري-الأوكراني، وذلك من أجل تنويع مصادر إمدادات الغاز. كما قرّر الاتحاد الأوروبي توحيد أنظمة دوله في مجال الطاقة قبل نهاية عام 2014 وذلك لأجل الحصول على مصادر بديلة للغاز الروسي.

إن دولة قطر، بالإضافة إلى المكاسب التي ستجنيها من التعاون مع أوكرانيا في الثروة الزراعية، والمجالات الأخرى، بإمكانها أن تضمن لنفسها، المرتبة الأولى في تصدير الغاز إلى أوروبا، وبالتالي التحكم في الأسعار.
_________________________________
فريد علوش - باحث

المراجع
1- أوكرانيا تبني صوامع للحبوب في قطر. جريدة "الشرق" القطرية. 28-11-2012.
       ( http://www.al-sharq.com/ArticleDetails.aspx?AID=220065&CatID=105&Title  )

2- أوكرانيا تبني صوامع للحبوب في قطر. جريدة" الراية" القطرية. 29-11-2012 المصدر السابق.
 (http://www.raya.com/news/pages/2fbeafd0-5bb6-4772-96cf-fbeac829753c )

3- أوكرانيا تبني صوامع للحبوب في قطر. جريدة" الشرق". المصدر السابق.

4- Benita Ferrero-Waldner, Commissioner for External Relations and European Neighbourhood Policy «After the Russia / Ukraine gas crisis: what next? Chatham House, London, 9 March 2009 http://europa.eu/rapid/press-release_SPEECH-09-100_en.htm

5- www.segodnya.ua/.../Evropa-pridumala-kak-izbavitsya-ot-Gazproma.html
  (أوروبا توصلت إلى التخلص من غاز بروم..). "باللغة الروسية"- جريدة "segodnya" الأوكرانية، بتاريخ 19-09-2012. 

6- Steven Woehrel. Ukraine: Current Issues and US Policy. September 10, 2012. http://www.fas.org/sgp/crs/row/RL33460.pdf

7- (الولايات المتحدة مستعدة لمساعدة الشعب الأوكراني العريق). "باللغة الروسية". موقع روسي "روس بالت"
 http://www.rosbalt.ru/ukraina/2010/03/17/720955.html

8- http://www.segodnya.ua/politics/pnews/Araby-zahoteli-ukrainskiy-yachmen-a-po-gazu-eshche-torguemsya.html
 (العرب يريدون شراء الشعير الأوكراني، ما زلنا نفاوض بشأن الغاز)، "باللغة الروسية"- جريدة "segodnya" الأوكرانية، بتاريخ 28-11-2012.

9- (ألكساندر كاربيتس. قطر بحرًا عبر تركيا أو شبح تنويع الغاز لأوكرانيا)، "باللغة الروسية"- موقع"خفيليا" موالٍ لروسيا. 
hvylya.org/analytics/economics/katar-turetskih-morskih-putej-ili-o-fantomah-ukrainskogo-gazovoj-diversifikatsii.html

10- (فيغان أكوبيان. روسيا– قطر: "القزم الطموح" يفرض الحرب على جميع الجبهات)، "باللغة الروسية"- موقع "أوكا بلانيتي"
 http://oko-planet.su/politik/politikmir/117752-rossiya-katar-ambicioznyy-karlik-navyazyvaet-borbu-po-vsem-frontam.html

ABOUT THE AUTHOR