تندرج قراءة الخارطة السلفية في اليمن في النسق المعرفي العام المرتبط بالمرجعية السنّية، إلى جانب الإضافات التي تشكّلت قبل ما يربو على مائتي عام على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي، وانعكست آثارها المعرفية والسلوكية -ولو بعد حين- على أقطار كثيرة في المشرق والمغرب، لعل من أقربها على المستوى المشرقي: اليمن، نظرًا لعلاقة التماس الجغرافية مع السعودية.
السلفية اليمنية: الأصول والفروع
أولاً: السلفية التقليدية (الماضوية)، وفصائلها
تمثل السلفية التقليدية بزعامة الشيخ الراحل أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي (ت:2001) النواة الأولى للدعوة السلفية باليمن؛ وقد بدأت مطلع الثمانينيات مع عودة المؤسس الوادعي من السعودية، وتتسم باهتمامها التقليدي بمباحث العقيدة وصراع الفرق الإسلامية الغابرة؛ هذا إلى جانب مساندة النظام السياسي، وتقديم فتاوى تحريم المعارضة السياسية وآلياتها الحزبية، أو مظاهرها الاحتجاجية والجماهيرية، بوصف ذلك كله خروجًا على الحاكم الشرعي، ومنازعة لأولي الأمر. وبعد وفاة الشيخ الوادعي بمكة المكرمة، إثر مرض عضال، حدث انقسام في جماعته شقّها إلى قسمين: أحدهما يتزعمه الشيخ أبو عبد الرحمن يحيى الحجوري، الذي زعم أن لديه وصية من الشيخ بالقعود على كرسيه من بعده، والخلافة على الجماعة عقب وفاته؛ والآخر تولاه الشيخ أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني المأربي (ذو الأصل المصري). وكان كلاهما يستمد مشروعية زعامته من خارج الحدود اليمنية، أي من قبل الشيخ ربيع بن هادي المدخلي الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وراعي الدعوة السلفية التقليدية في السعودية وخارجها؛ لكن الحجوري تمكّن لأسباب عدّة، من بينها ربما سبقه إلى المدخلي قبل خصمه المأربي، وإلصاقه أقوالاً بالمأربي تبدو شنيعة عند أرباب الدعوة وداعميها، من مثل ما ورد في بيان أصدره الحجوري (بتاريخ 3 من ربيع الآخر 1423هـ أي 14 يونيو/حزيران 2002)، وفيه أن أبا الحسن المأربي أقدم على فواقر في منهج أهل السنّة خرج بها عن أصولهم المعروفة؛ حيث يسعى ليجمع كل الطوائف في إطار أهل السنة، ويستغل أموال جمعية البرّ في تكتيل أنصاره، ونحو ذلك من التهم الفكرية والسلوكية (راجع: الحجوري، هذا بيان للناس "منشور منفصل" 3 من ربيع الأول 1423هـ).
أما أبو الحسن المأربي فلم يستسلم لاتهامات الحجوري، بل أصدر عددًا قارب العشرين من أشرطة (الكاسيت)؛ وهي عبارة عن جلسات مسجلة مع بعض أنصاره، أطلق عليها عنوان «القول الأمين في صد العدوان المبين»، وصف فيها خصومه بأنهم حدَّادية مُغالية (نسبة إلى داعية غالٍ من أتباع المدخلي ظهر بالمدينة المنورة قبل سنوات يُدعى محمود الحدَّاد). كما دافع المأربي عن نفسه وفكره، موجهًا اتهامات مقابلة للحجوري ومن يشايعه، معلنًا -بعد أن أدرك أن الحجوري سبقه إلى المدخلي- عن اختلافه الكلي مع الشيخ ربيع المدخلي. ويمكن تلخيص أبرز اتهاماته للحجوري بحسب مقالة صحفية نشرت في صحيفة البلاغ اليمنية (23 يوليو/تموز2002، ص4)، بعنوان "شبهة فاسدة والرد عليها"، بشق الصف السلفي، والاستسلام للشيخ ربيع المدخلي، والتقليد الأعمى لتوجيهاته وأوامره، مع وصف المأربي خصومه من أتباع الحجوري بأنهم يتميزون في خلافهم بالنفس القومي الجاهلي.
وعقب ذلك الانقطاع في العلاقة، بدا أن المأربي يبحث له عن ظهر جديد، مما دفعه ليتجه نحو جمعية الحكمة اليمانية الخيرية، فعقد معها تحالفًا معلنًا في وادي حضرموت، 22 من جمادى الآخرة 1425ه/ أي 8 أغسطس/آب 2004، كتبه الشيخ سعد الحميد (من علماء العربية السعودية) بتوقيع الشيخ أبي الحسن المأربي، من طرف، والشيخ أحمد المعلّم، أمين عام جمعية الحكمة بحضرموت، من الطرف الآخر، وبحضور أبرز قيادات الجمعية في محافظتي إب وتعز. وظهرت آثار ذلك التحالف بعد ذلك من خلال الأنشطة المشتركة بين الجهتين، وبلغت إلى حدّ التماهي أحيانًا.
ويُلاحَظ أن لقيام الثورة الشعبية السلمية منذ منتصف فبراير/شباط 2011 انعكاساتها على كل مكونات العمل السلفي، ومنها الفصيل الحسني (نسبة إلى أبي الحسن المأربي، وإن كانوا قد أطلقوا على أنفسهم مؤخرًا عنوان "رابطة أهل الحديث")؛ حيث تذبذبت مواقف أتباعه تبعًا للاضطراب العام لدى قيادته في أكثر من محطة ومنعطف، ويبدو أن ذلك يُعزى -بالنسبة للأتباع- إلى ضعف الرابط الفكري بين أفراد التيار؛ إذ لوحظ أن بعضهم ظل متجهًا نحو جمعية الحكمة، فيما اتجه بعض آخر محدود نحو جمعية الإحسان، وغدا خمسة منهم من ضمن قوام اتحاد "الرشاد السلفي" الجديد، الذي يكاد يسيطر عليه تيار الإحسان بالكلية؛ كما أصبح بعضهم واحدًا من مكونات الساحات الثورية في بعض المحافظات، فيما غدا بعضهم الآخر جزءًا من الخطاب الوعظي الرسمي، الذي تجسد أكثر ما يكون في الحملة الإعلامية الرسمية المنظمة للنظام السابق ضد خصومه السياسيين وشباب التغيير.
ويلاحظ حضور الفصيل السلفي التابع لأبي الحسن المأربي بصورة عامة في محافظة مأرب؛ حيث معقل انطلاقة دعوة أبي الحسن ومركزه، ثم محافظة الجوف، كما أن لهم دورًا في المواجهة المسلحة التي تدور في منطقة كتاف بمحافظة صعدة مع الحوثيين، وهي منطقة على تماس مع الجوف.
وإذا كان فصيل المأربي قد استطاع أن يحقق حضورًا على ذلك النحو وخاصة في محافظة مأرب، وإن بدا متشتتًا ومختلفًا مع كثير من فصائل السلفية، القديم منها والجديد؛ فإن فصيل الحجوري قد اصطدم بجميع الفصائل السلفية التقليدية الأخرى، وانحصر حضوره في مركزه الرئيس بدماج، حيث كان المؤسس الوادعي، مع فارق أن الوادعي كان مسيطرًا على كل الفروع بالمحافظات، على حين يفتقد الحجوري لتلك السيطرة، نظرًا لما يُوصف به من حدّة غير محتملة في المزاج، وغلو في الموقف، حتى إن وصف الغلو صار شارة تُطلق عليه من قبل غلاة آخرين ممن كانوا رفاقًا أو أتباعًا له عقب وفاة الشيخ الوادعي وتسلمه مقاليد مركز دماج، لكنهم أضحوا اليوم مختلفين معه، مثل الشيخ محمد الإمام (الريمي) أحد أبرز دعاة السلفية التقليدية بمدينة مَعْبَر التابعة لمحافظة ذمار، والشيخ عبد الرحمن بن مرعي العدني (اللحجي) في قرية الفيوش بين محافظتي لحج وعدن، وهو رجل ذو حضور وتأثير، وكذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب الوصابي الداعية الأقدم من السلفيين في مدينة الحديدة عاصمة محافظة الحديدة، وهو أكبر رموز السلفية سنًّا، وداعية متجول، وإن ظل مركزه بمدينة الحديدة.
وإذا كانت هذه هي تراتبية الفصائل السلفية التقليدية في بعض المحافظات اليمنية وأوزانها النسبية؛ فإنّه يظل للشيخ الحجوري الحضور الأول في المرحلة الراهنة، من حيث عدد أتباعه ومؤيديه، ولعل ذلك يُعزى إلى ملاحقة جماعة الحوثي له ولأتباعه في محافظة صعدة، مما دفع إلى توسيع التعاطف مع الرجل وجماعته. وبعد أن كان حضور الحجوري قد شهد تراجعًا في السنوات الأخيرة على مستوى المشهد السلفي التقليدي على خلفية الخلاف مع جميع فصائل السلفية التقليدية؛ يمكن القول: إنه استعاد حاليًا موقع الصدارة على جميع أقرانه، نظرًا لدخول متغيّر الحوثي على خط المواجهة.
مستقبل السلفية التقليدية
يبدو أن تيار السلفية التقليدية ينتقل من ضعف إلى ضعف على المدى المتوسط، بسبب التشرذم العاصف في داخله من جهة، ولأنّه -من الجهة الأخرى- يستند في العادة إلى دعم معنوي ومادي، غالبًا ما يرد من وراء الحدود، وهو مرهون بمصالح الداعمين ومدى تحقيق هذه المصالح على يد هذا الفصيل (الديني أو السياسي) أو ذاك. كما أن خروج حليف السلفية التقليدية الأكبر: رأس النظام السياسي السابق، من السلطة، وتحول فلوله إلى دعم خصوم السلفية من الحوثيين؛ أحدث تغييرًا في موازين القوى لصالح الخصم الحوثي. كما تقف السلفية التقليدية اليوم أمام امتحان صعب لأدبياتها النظرية التي تأمر بالسمع والطاعة للحاكم حتى وإن وصل إلى الحكم بطريقة غير شرعية، وإن خالفها الاعتقاد، درءًا للفتنة.
ثانيًا: السلفية الجديدة
تمثل السلفية الجديدة انقلابًا في الرؤى والمفاهيم على مقولات السلفية التقليدية. ويمكن إيجاز أبرز فصائل السلفية الجديدة على النحو التالي:
1- جمعية الحكمة اليمانية الخيرية
وتمثل أقدم نموذج للسلفية الجديدة الخارجة من عباءة السلفية التقليدية؛ حيث أعلنت عن نفسها في 21 أغسطس/آب1990 بقيادة بعض الوجوه التي تتلمذ بعضها على يدي الشيخ المؤسس للدعوة السلفية بعامة، مقبل بن هادي الوادعي، ومن أبرزهم: عبد المجيد الريمي ومحمد المهدي وعقيل المقطري وسواهم. وللجمعية العديد من المناشط والفعاليات والدورات العلمية والتربوية، تقوم بها عبر معاهد ومراكز علمية وإعلامية منتشرة عبر محافظات إب وصنعاء وعدن وحضرموت والحديدة وسواها، ناهيك عن تعز التي تمثل منطلقها الأساس.
أعلنت جمعية الحكمة منذ الأيام الأولى أن مهمتها بالدرجة الأساس خيرية ثم علمية دعوية تربوية، أي لا صلة لها تُذكر بالعمل السياسي من حيث الإعلان الرسمي، وامتازت منذ ذلك الحين بمتابعتها شبه المؤسسية لجمعية إحياء التراث بالكويت في اجتهاداتها، غير أن المفارقة الأكبر تبدو في أن أبرز الشخصيات تأثيرًا في مسار الجمعية في السنوات الأولى لنشأتها الشيخ الكويتي (ذو الأصل المصري)، عبد الرحمن عبد الخالق، وفقهه ورؤاه، وهو صاحب الاجتهادات الأكثر إثارة للجدل في الوسط السلفي منذ وقت مبكر؛ حيث دعا قبل نحو ثلاثة عقود إلى خوض العمل السياسي بكل تبعاته. وتبرز تلك المفارقة في أنه على حين تميز الشيخ عبد الخالق وجمعيته في الكويت بالسبق في المشاركة السياسية فقد ظلت جمعية الحكمة تنأى بنفسها علانية عن الدخول في الساحة السياسية، مع ممارستها للسياسة مواربة -كما يقال-. وفي سياق الأداء السياسي للجمعية، وعلى خلاف أهدافها، مارست الجمعية السياسة، ولكن ليس على نحو متسق بين قياداتها جميعًا. ولعل أبرز شاهد على ذلك أن بعض أبرز قيادات الجمعية في كل من تعز وصنعاء وإب، مثل: عقيل المقطري ومراد القدسي وعبد الله بن غالب الحميري، وقفوا صراحة مع الثورة الشعبية السلمية ومطالب شبابها منذ الأيام الأولى لقيامها، كما انخرط بعض أفراد الجمعية ضمن شباب الثورة تحت عناوين ائتلافية عدة في بعض المحافظات. ولكن قيادات أخرى للجمعية، مثل الشيخ محمد المهدي في إب، والشيخ عبد العزيز الدبعي في تعز -على تفاوت بينهما- وقفت مع الاتجاه الآخر الهادف إلى إبقاء نظام الرئيس السابق علي صالح، وعدم مشايعة اتجاه الثورة والتغيير. وتجدر الإشارة إلى أن الشيخ المهدي وقف أثناء الثورة إلى جانب العلماء الموالين للسلطة تحت عنوان "جمعية علماء اليمن"، وهم ممن ناصروا رئيس الجمهورية السابق، وأيدوا شرعيته، وسوّغوا له وجنوده ومن عُرفوا بـ"البلاطجة" ممارساتهم ضد المتظاهرين، وأصدروا بيانًا شهيرًا بهذا الخصوص في 29 سبتمبر/أيلول2011. وعلى حين تحفظ الشيخ المهدي على بيان "هيئة علماء اليمن" بقيادة الشيخ عبد المجيد الزنداني، الصادر في 6 أكتوبر/تشرين الأول2011م، المناصر للثورة، وهي جبهة عريضة تضم علماء من الإصلاح والسلفية الجديدة بشقيها الحكمة والإحسان وشخصيات مستقلة؛ لم يجد الشيخ حرجًا في التوقيع على البيان الآخر لجمعية علماء اليمن الموالية للسلطة ورأس نظامها السابق، مع ما في البيان من إباحة قمع المتظاهرين ووصفهم بالبغاة وتحريم المسيرات والتظاهرات، ووصف قتل الجنود للمتظاهرين بالجهاد، ولم يَفُت المهدي القول بأن هذا موقف أغلبية السلفيين في جمعية الحكمة أو الائتلاف السلفي اليمني (راجع حوار الشيخ المهدي مع صحيفة الشموع، 15 أكتوبر/تشرين الأول2011).
2- حركة الحرية والبناء
ثمة فصيل جديد محدود ظهر في مدينة إب يُدعى حركة الحرية والبناء السلفية، يرأسه الشيخ يحيى الوجيه، أحد وجوه سلفية الحكمة، وتهتم حركته الوليدة بالعمل الاجتماعي، كما أن لها اتجاهًا سياسيًا تبلور من رحم ائتلافات الثورة، ونلمس هذا التوجه من خلال جملة من الفعاليات والمناشط والكتابات لعل من آخرها حديث الناطق باسمها محمد أمين عز الدين، الذي يعلن وقوفه مع قائد الجيش المناصر للثورة اللواء علي محسن الأحمر، ويدحض في مقالة له بهذا الخصوص كثيرًا من الإشاعات التي يطلقها خصومه (صحيفة أخبار اليوم، 18 أكتوبر/تشرين الأول2012م، ص 16). والواقع أن من غير العسير استنتاج أن ثمة اختلافًا بين حركة الحرية وتوجهات جمعية الحكمة، رغم أن الحركة محسوبة على الجمعية.
المستقبل
ويمكن القول بشأن المستقبل: إن جمعية الحكمة معرضة لانقسامات، وذلك بالنظر إلى الاختلاف البيّن بين قياداتها في قضايا كلية كالموقف من الثورة الشعبية السلمية، ولاسيما بعد انتصار الثورة وخسارة الرهان على بقاء نظام علي صالح لدى بعض أطرافها.
3- جمعية الإحسان الخيرية
بعد مرور نحو عامين على تأسيس جمعية الحكمة في 1990، أعلنت جمعية الإحسان الخيرية تأسيسها في 1992 من مدينة المكلّا بحضرموت. ويبدو أن ما دفع إلى انقسام الإحسان عن الحكمة، يعود بالدرجة الأساس إلى متابعة الحكمة لاجتهاد جمعية إحياء التراث في الكويت ورمزها الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، بما في ذلك القبول النظري بالمشاركة في العملية السياسية والعملية الديمقراطية، وتأسيس حزب سياسي، ومرونة عامة في التعاطي السياسي ونحو ذلك، على خلاف قناعة المؤسسين لجمعية الإحسان، الذين تابعوا اجتهاد الشيخ محمد سرور بن نايف زين العابدين (السوري الجنسية)، حتى إنهم يوصوفون بـالسروريين. وقد كان للشيخ سرور في مرحلة من المراحل موقف سلبي حاد إزاء دخول الإسلاميين العملية السياسية والمشاركة في العملية الديمقراطية، أو أيّ من مستلزماتها. وكان مؤسسو جمعية الإحسان على هذا الموقف منذ زمن التأسيس وإلى سنوات قريبة.
بدأت جمعية الإحسان انطلاقتها من محافظة حضرموت بحكم التأسيس، حيث كانت تُعنى بشؤون المحافظة في البداية، ثم تم افتتاح عدة فروع في شبوة وأبين وعدن ولحج، إلى أن اتسع نطاق عملها حتى شمل بعض المحافظات الشمالية، مثل صنعاء وتعز وإب والحديدة والبيضاء. وقد بلغ عدد الفروع والمكاتب الفرعية 26 فرعًا ومكتبًا. ويمكن القول: إنها تمتد على ربوع الأراضي اليمنية، سواء في صورة جمعية أو عبر شخصيات تابعة لها.
وتضم قيادات جمعية الإحسان ورموزها بعض طلبة الشيخ الوادعي الكبار، مثل: عبد المجيد الريمي، وعبد الله اليزيدي، ومحمد بن موسى العامري وسواهم. على أن هناك مفارقات لافتة بالنسبة للحكمة والإحسان، فبالنسبة للحكمة فمع أنها لاتُخفي متابعتها لجمعية إحياء التراث ورمزها المؤسس عبد الرحمن عبد الخالق فإنها لاتوافقه في اجتهاداته، وأبرزها الانخراط في العمل السياسي، أما الإحسان فالمفارقة تبرز في أن السبب الجوهري لانفصالها عن الحكمة هو اعتراضها على قبول الحكمة (نظريًا) لأطروحات الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق الداعية للمشاركة الفاعلة في العمل السياسي على حين أن الإحسان هي التي برزت في هذه المشاركة عمليًا، ويكاد يكون ثمة إجماع بين قياداتها باستثناءات لا تُذكر على ضرورة المشاركة السياسية وإنشاء حزب علني، وهو ما تبلور في صيغة "اتحاد الرشاد السلفي".
4- اتحاد الرشاد السلفي
في 14 مارس/آذار2012، وعقب يومين من الاستماع إلى مسوغات إنشاء كيان سياسي للسلفيين، أعلن المؤتمِرون في اللقاء السلفي العام إنشاء حزب سياسي باسم اتحاد الرشاد السلفي. شارك في ذلك الإعلان وجوه إحسانية معروفة، أبرزهم: محمد بن موسى العامري، وعبد الوهاب الحميقاني، وعبدالله الحاشدي، وعبد الرب السلامي، كما شارك إلى جانبهم وجوه من جمعية الحكمة، مثل: عقيل المقطري، ومراد القدسي، وعبد الله بن غالب الحميري، وهؤلاء خرجوا عن رأي قيادات أخرى في جمعية الحكمة أبدت تحفظًا على المشاركة. بيد أن المفاجأة أنه ما لبث هؤلاء المشاركون من جمعية الحكمة أن أعلنوا استقالتهم احتجاجًا على خلل في عملية التمثيل داخل الهيئة العليا للاتحاد، بل إن بعضًا ممن هو محسوب على تيار الإحسان أيضًا أعلن استقالته كذلك؛ كما أعلن عبد الرب السلامي -وهو شخصية جنوبية- كذلك انسحابه، ومعه شباب من الجنوب لعدم قيام الاتحاد بتقديم حل جدي برأيهم لحل المشكلة الجنوبية، وأعلنوا بعد ذلك قيام حركة النهضة السلفية في الجنوب، مما دفع أمين عام اللجنة التحضيرية للاتحاد، الشيخ عبد الوهاب الحميقاني، إلى اتهام بعض أولئك بأن لديهم ميولات سياسية منسجمة مع الطرح الحراكي المتشدد (صحيفة الأهالي، 27 مارس/آذار2012). ولئن تم التسليم بما صرح به الأمين العام للجنة التحضيرية للحزب وقت ذاك، في الحوار الصحفي ذاته، من أن الملتقى السلفي المشار إليه مثّل كل أطياف السلفية؛ فإن من المتعذر أن يقال ذلك بالنسبة للجنة التحضيرية، ناهيك عن الهيئة الإدارية للحزب، لاسيما بعد أن حدثت عمليات الانسحاب.
وفي بيان صادر عن المؤتمر في 14 مارس/آذار2012، أعلن الاتحاد رغبته في المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني، الذي كان من المزمع عقده في نوفمبر/تشرين الثاني2012 ثم تأجل، وبالفعل صار رئيس هيئة الاتحاد ضمن قوام اللجنة الفنية التحضيرية للمؤتمر. كما أعلن بيان الاتحاد وقوفه الصريح مع ثورات الربيع العربي، ولم يغب عن البيان إدانة أعمال العنف سواء صدرت من القاعدة أم من الحوثيين، ودعاهما إلى المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني.
5- حركة النهضة في الجنوب
سبقت الإشارة إلى أن ثمة احتجاجًا حدث عقب الملتقى السلفي العام الذي انبثق عنه الإعلان عن اتحاد الرشاد، وأن بعض ممثلي الجنوب من المنتمين في أغلبيتهم إلى إطار جمعية الإحسان، اتهموا اللجنة التحضيرية بعدم إيلاء القضية الجنوبية ما تستأهله من الاهتمام وتقديم المعالجة الجادة، بل صرّح السيّد صالح يسلم قدار، رئيس حركة النهضة السلفية الجنوبية في يافع وأبين، أن أبرز خلاف مع اتحاد الرشاد السلفي هو الموقف من القضية الجنوبية، حيث رأى أن موقف الرشاد غير مختلف عن موقف النظام السابق (صحيفة أخبار اليوم، 21 يونيو/حزيران2012). وعقب ذلك، تداعى أولئك المشاركون في الملتقى وسواهم لإعلان ما وصفوه بـحركة النهضة في الجنوب، وذلك في مارس/آذار2012.
وفي حوار صحفي مع الأمين العام المساعد للحركة، والناطق الرسمي باسمها، السيد علي الأحمدي، 25 مارس/آذار2012، أكد على خيار الانفصال عن الدولة المركزية في الشمال، مشيرًا إلى مشاركة حركته في حوار القاهرة الذي تم في وقت سابق مع كبرى الفصائل الجنوبية المعروفة بـالحراك الجنوبي بشأن الموقف من الوحدة اليمنية، وبرأيه أن مسألتي الوحدة أو الانفصال أمر خاضع لمقياس المصالح والمفاسد. ويتحدث في شأن الوحدة بمفردات الحراك الانفصالي (الضم–الإلحاق–القيد)، مصرّحًا بأن الوحدة اليمنية الاندماجية التي تمت في 1990 انتهت في حرب 1994. أما عن وجود الحركة الجغرافي والاجتماعي، فبحسب الأحمدي فإن للحركة فروعًا ستة، لكنها لا تزال منحصرة في عدن وما جاورها، ولعله يشير بذلك إلى لحج وأبين ويافع والضالع؛ وأقرّ بأن الحركة لم تصل بعد إلى حضرموت، لكنه وعد بتحقيق ذلك في المستقبل القريب. وبحسب الأحمدي، ستعمل الحركة على توسيع قاعدتها، وإعادة هيكلتها، إلى جانب التنسيق الحثيث مع بقية الفصائل الجنوبية تجاه الاستحقاقات المرتقبة (راجع: صفحة عدن تجمعنا، 25 مارس/آذار2012).
المستقبل
يُتوقع أن تواجه جمعية الإحسان، ومن ضمنها اتحاد الرشاد، تحديات عدة في المستقبل القريب والمتوسط، لاسيما في المحافظات الجنوبية، وما لم يفلح مؤتمر الحوار الوطني في امتصاص غضب الشارع الجنوبي، ومن ضمنه حركة النهضة السلفية هناك، فإن كل الجهود التي بنتها الجمعية عبر العقدين الماضيين ستذهب هباء، وسيشكّل الانفصال الجنوبي زلزالا، سواء في جمعية الإحسان أم الحكمة أم على مستوى العمل الإسلامي بصورة عامة.
اصطفافات ما بعد الثورة
وحاصل القول: إن أهم ما يميز القوى السلفية في علاقاتها مع القوى الخارجية هو المراوحة بين التبعية السياسية لأنظمة نافذة في المنطقة أو محاولة الفكاك منها، ولذلك تأثيره على عملية التحول السياسي التي يشهدها اليمن؛ حيث يسهم بعضها في محاولة إعاقته كحال السلفية الماضوية، نظرًا لارتباطها بجهات إقليمية لا تخفي تحفظها إن لم يكن انزعاجها من عملية التحول تلك. وإذا استثنينا -ويصعب الاستثناء العملي هنا بما لا يخلو من تجوّز- بعض الشخصيات القيادية ذات التأثير في مسار جمعية الحكمة اليمانية ورسم خارطة حركتها وتفاعلها؛ فإن اتجاه أغلب أفرادها كان –ولا يزال- مع عملية التحوّل السياسي في البلاد. أما خيار جمعية الإحسان فلم يدع مجالاً للشك بأنه مع عملية التحول تلك، مع وجود فرد أو بعض أفراد يعارضون هذا المسار لكن أثرهم محدود لا يغير من سلامة ذلك الاستنتاج. ولا شك أن لذلك التباين في المواقف من عملية التحول الكلية في البلاد تأثيره السلبي على علاقة كل جماعة من تلك الجماعات ببعضها، حيث أسهم في تشرذمها. ولقد كان الراحل الشيخ مقبل بن هادي الوادعي يردد لخصومه من جمعية الحكمة أن عبد الرحمن عبد الخالق قد اشتراهم بدنانيره، فيرد عليه الشيخ محمد المهدي بأن فصيل الشيخ الوادعي اشتراه ربيع بن هادي المدخلي بريالاته. كما أحدث ذلك تأثيرًا يتراوح بين الإيجابية والسلبية، فيما يتعلق بالقوى السياسية الأخرى على الساحة الوطنية، فمن زاوية الإيجابية دفع ذلك بعض تلك القوى إلى التأثر الإيجابي بما جرى ويجري في بعض دول الربيع العربي كحال اتحاد الرشاد السلفي -على سبيل المثال- الذي لم يُخْفِ إعجابه وتأثره بحزب النور السلفي في مصر، وهو ما دفعه لإعلان حزب سياسي غدا مسجّلاً ضمن قيد الأحزاب السياسية اليمنية. أمّا التأثير السلبي فيتمثل في علاقة بعض تلك القوى السلفية بالقوى السياسية الأخرى، من حيث إصرار خطاب السلفية الماضوية وما في حكمها على البقاء في خانة الرفض لمسار الثورة والاصطفاف مع النظام السياسي السابق، ضد خصومه من شباب الثورة، والأحزاب السياسية المناصرة لها (أحزاب اللقاء المشترك).
________________________________
أحمد محمد الدغشي - أستاذ بجامعة صنعاء مختص بالحركات الإسلامية