محددات الموقف الإيراني من مصر بعد الثورة

رأت إيران في الربيع العربي "صحوة إسلامية" تشكّل امتدادًا لثورتها الإسلامية، إلا أن السياسيين المصريين بمن فيهم الإخوان والسلفيون، رفضوا هذا التصنيف الإيراني، فيما أجمع العديد من القوى المصرية على أن ثورة يناير ثورة شعبية تتشكّل من كافة أطياف وأديان الشعب المصري، وأنها لا تهدف إلى إقامة نظام ديني في مصر.
20131810124722580_20.jpg
رفض السياسيون المصريون بمن فيهم الإخوان والسلفيون التصنيف الإيراني للربيع العربي بأنه "صحوة إسلامية" تشكّل امتدادًا لثورتها الإسلامية (الجزيرة)

ما إن أطاحت ثورة 25 من يناير المصرية بنظام الرئيس السابق حسني مبارك، حتى بدأت تلوح في الأفق  احتمالات بدء مرحلة جديدة من العلاقات بين إيران ومصر بعد أكثر من ثلاثة عقود من القطيعة بين البلدين. وفي يونيو/حزيران العام الماضي رحبت النخبة السياسية الإيرانية بتصريحات وزير الخارجية المصري آنذاك نبيل العربي والتي أعلن فيها أن مصر "بصدد فتح صفحة جديدة مع جميع الدول بما فيها إيران"، مؤكدًا أنها ليست عدوًا لمصر، ومشيرًا إلى أنه تم تجاوز عقدة اسم "شارع الإسلامبولي". وسافر بعدها وفد دبلوماسي شعبي مصري لطهران بغرض التمهيد لعودة العلاقات، ليصب مزيدًا من الآمال والتوقعات  الإيرانية بانفراج قريب في العلاقات بين البلدين.

رحبت طهران كذلك بحكم الإخوان المسلمين لمصر، بل إن ثمة في إيران من صوّر انتخاب محمد مرسي  رئيسًا لمصر على أنه انتصار للصحوة الإسلامية التي أطلقتها الثورة الإسلامية الإيرانية قبل أكثر من ثلاثة عقود، لكن هذا التفاؤل الإيراني سرعان ما تبدد، بسبب الكثير من الوقائع والتطورات المستجدة التي أخذت تؤثر على السعي الإيراني للتقرب من القاهرة، وخاصة فيما يتعلق باختلاف موقف البلدين الحاد من تطورات الأوضاع في سوريا، فضلاً عن تقرب إخوان مصر من المملكة العربية السعودية وهو ما لا يروق لطهران.

مصر الجديدة في الإدراك الإيراني

مثّل سقوط نظام حسني مبارك صاحب العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة الأميركية المعادية لإيران ووصول الإخوان المسلمين إلى حكم البلاد، فرصة لعلاقة جديدة بالنسبة لطهران على الرغم من التعارض المذهبي وحتى الأيديولوجي والسياسي بين الثورة الإسلامية وإخوان مصر. ولكن المصالح الإقليمية قد تتطلب الصبر عندما يتعلق الأمر بكسر جليد العلاقات المصرية-الإيرانية، وهذا ما يراه قطاع واسع من النخب الإيرانية، فتطوير العلاقات مع القاهرة يعني كسرًا للحصار الدولي وفكًا للعزلة الحالية المفروضة على إيران، ما قد يحمل تحسينًا لموقع البلاد الإقليمي والدولي، وصولاً إلى احتمال قيام علاقات تعاون جادة بين البلدين ستنعكس دون شك على مجمل الوقائع في الشرق الأوسط.

وبناء على هذا الهدف بدأت الرؤية الإيرانية لمصر الجديدة تتبلور وفق الآتي:

  • يسود اعتقاد إيراني بأن عدم وجود علاقات طبيعية بين مصر وإيران طوال العقود الثلاثة الماضية كان بسبب ضغوط أميركية وإسرائيلية على النظام السابق، وهذا هو ذاته رأي العديد من القوى السياسية المصرية، وكثير من مرشحي الرئاسة من الإسلاميين وغيرهم، الذين اعتبروا  تدهور العلاقات المصرية-الإيرانية شكلاً من أشكال التبعية السياسية للولايات المتحدة، وأن تحقيق الاستقلال بالمقابل يقتضي إعادة النظر في هذه العلاقات(1).
  • تنظر إيران إلى مصر على أنها أهم دولة عربية، متوقعة أن تسعى في وقت ما من المستقبل لاستعادة "قرارها المستقل"، ومكانتها السابقة العربية والإقليمية والدولية، وهذا لابد أن يعني التخلص من التبعية للولايات المتحدة، وإلغاء المعاهدات مع إسرائيل -أي إضعاف إسرائيل في الإقليم، كون المعاهدات أخرجت مصر من الصراع، ووفّرت بالمقابل الأمن لإسرائيل، وحدّت من نشاط ودور حركات المقاومة الفلسطينية- وكل هذا إن حدث سيقدم هدايا بالجملة لإيران(2).
  • ترى إيران أن أي تحسن في علاقاتها مع مصر سيكون على حساب النفوذ الإقليمي القوي لدول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة السعودية. فإذا ما تفاهمت مع القاهرة، فإن ذلك سيغير كثيرًا من موازين القوى الراهنة في المنطقة. هذا الرأي تبنته غداة انتصار الثورة ثم تراجعت عنه قوى شاركت في الثورة المصرية كالناصريين والإسلاميين، فقد اعتبر هؤلاء أن تطوير العلاقات مع إيران يمنح مصر هامش مناورة إقليمية أكبر لحماية أمنها القومي ومصالحها العليا(3)
  • إن اعتبار إيران ما يجري في مصر ثورة إسلامية أو دعمًا "للصحوة الإسلامية"، يعني لقطاع واسع من النخبة الإيرانية تقاربًا حتميًا مع نموذج الدولة الإسلامية في إيران، ما سيشكّل بالتالي حافزًا لدى الجانبين لبناء علاقات وثيقة؛ فمرشد الثورة الإسلامية علي خامنئي اعتبر ما يحدث في مصر "صحوة إسلامية" كما أطلق هذا المصطلح على ثورات الربيع العربي، داعيًا الإسلاميين المنتصرة ثوراتهم في الدول العربية إلى عدم مسايرة الفكر الليبرالي العلماني الغربي والمسارعة لتطبيق نظام إسلامي(4).
  • بدت إيران مرتاحة لوصول الإخوان المسلمين إلى الرئاسة المصرية، ورأت أن حكم حزب له غالبية شعبية كبيرة في الشارع المصري كالإخوان المسلمين، لابد أن يُسرّع من الوصول إلى لحظة استحقاق استقلال القرار المصري واستعادة المكانة القيادية العربية؛ الأمر الذي لن يتوفر لأي مرشح رئاسي آخر غير مرشح الإخوان(5).

يتضح مما سبق مدى إدراك إيران لأهمية مصر بعد الثورة كدولة مؤثرة عربيًا وإقليميًا ودوليًا، أمّا أن تصبح مصر الجديدة في مواجهة أميركا وإسرائيل ألدّ أعداء إيران فهذا أمر آخر.

ورغم توزع مراكز صنع القرار في إيران إلا أن القرار الأخير في الانفتاح على مصر يبقى بيد المرشد الأعلى، وحتى الآن لا يوجد في نظام الحكم الهرمي الذي يرأسه المرشد ما يمنع هذا الأمر، و لو كانت هناك تحفظات  قوية على العلاقة مع مصر فقد كان من الأولى أن تظهر بعد خطاب الرئيس المصري محمد مرسي في الجلسة الافتتاحية لقمة دول عدم الانحياز التي انعقدت في طهران في أغسطس/آب 2012؛ حيث تعمّد الرئيس المصري في خطابه من على المنبر الإيراني أن يشن هجومًا عنيفًا على الرئيس السورى بشار الأسد الحليف الأهم لطهران، مجددًا دعمه القوي للثورة السورية، ومعتبرًا الأسد فاقدًا لشرعية البقاء في الحكم.

ورغم بعض الانتقادات التي ظهرت في الصحف الإيرانية لخطاب مرسي "المثير للإحباط أو ربما الاستفزاز بالنسبة لبعضها" (6)؛ حرص المسؤولون الإيرانيون على تجنب الصدام مع مصر، معتبرين أن ما يجمع البلدين أكثر مما يفرقهما، وأن "الخلافات على بعض النقاط كأحداث سوريا لا تؤثر على إرادة طهران في تعزيز التقارب مع الإخوان المسلمين، حيث النقاط المشتركة بينهما أكبر وأهمها الاتفاق على نصرة القضية الفلسطينية ودعم المقاومة" (7)

كما رحبت طهران بقوة بمبادرة الرئيس المصري الخاصة بتشكيل لجنة الاتصال الرباعية لبحث سبل إنهاء الأزمة السورية والتي تضم مصر والسعودية وتركيا وإيران، وكانت الأكثر حماسة لحضور الاجتماع الأول  للجنة في القاهرة منتصف سبتمبر/أيلول الفائت.

سياسات وأزمات تحدد مستقبل العلاقات

بين قوسي التنافس والتكامل ترتسم ملامح العلاقات المستقبلية بين إيران ومصر الجديدة، وحتى في حال عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، فكل واحد منهما يتطلع للعب دور إقليمي بارز، وكلاهما محكوم   بمصالحه وأزماته أكثر مما هو محكوم بالأيديولوجيا، ولا شك أن تفاعلات النظام الإقليمي للشرق الأوسط  ستعكس نتائجها على مساعي توثيق العلاقات بينهما فتبدو الصورة أكثر من مجرد سعي للتقارب لأسباب تتعلق بإسلامية كل من الطرفين الحاكمين.

ولكن يجب عدم إغفال أنه لا شيء يمنع مستقبلاً اصطدام النموذجين المختلفين للإسلام السياسي، اللذين يتبناهما كل من الثورة الإسلامية الإيرانية وجماعة الإخوان المسلمين المصرية، هذا الاصطدام قد يحدث   بسبب الاختلاف المذهبي والتحشيد الطائفي الجاري في المنطقة، وبسبب وجود نموذج ثالث للإسلام السياسي والمعروض بقوة في الإقليم، وهو "الإسلام السياسي التركي" تحت مظلة الدولة العلمانية والنموذج الديمقراطي الغربي التعددي، وهو أقرب إلى نموذج الإسلام السياسي المتعلق بإخوان مصر مما هو مطروح في إيران(8).

إلا أن مصر خلال هذه المرحلة ترغب في استعادة دور إقليمي قيادي فقدته إبان حكم النظام السابق، لكنها تتحرك بما يتوافق وشروط المرحلة، وهذا يتطلب إعادة صياغة علاقاتها العربية والدولية بتروٍ وحكمة،  ولقد هيأت لها موجة الثورات العربية الفرصة المناسبة لهذا التحول  إلى حد ما.

وهنا يكمن سرّ التنافس الإقليمي على استقطاب مصر الجديدة بأطرافه الثلاثة: تركيا، وإيران، والسعودية (بصفتها الدولة الأكبر في مجلس التعاون الخليجي)، أما الطرف الإقليمي الرابع فهو إسرائيل التي لا تُخفي قلقها من المستقبل، ولا تزال تنتظر آثار الربيع العربي على مسارات الصراع والتسوية في المنطقة، والانعكاسات المحتملة لذلك على اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر.

أما إيران فتعتبر نفسها لاعبًا إقليميًا أساسيًا في مرحلة الربيع العربي، وإذا كانت قد نجحت في مرحلة سابقة في رعاية مشروع إقليمي يمتد ما بين العراق وسوريا وفلسطين ولبنان، فإنها تواجه الآن احتمال خسارة حليفها الرئيس في هذا المشروع المتمثل بسوريا بشار الأسد، فضلاً عن خسارة أقل تأثيرًا لحليفها الفلسطيني الأبرز المتمثل بحركة حماس، وهو ما قد يعني اختلال مكانة إيران في المنطقة بشكل غير مسبوق، وانكفاء حدود الجغرافيا السياسية لتأثيرها إلى الحدود العراقية، بعيدًا عن جغرافيا معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي المؤثرة كثيرًا في الأدوار والتنافسات الإقليمية، وهو ما قد تعوضه طهران في حال تطوير علاقاتها مع القاهرة(9).

ولكنّ طرفًا مؤثرًا ومهمًا يقف في الجهة المقابلة للعلاقات بين البلدين، وهو دول مجلس التعاون الخليجي، والتي قد تتأثر وبشدة من أي تقارب مصري-إيراني، فتطوير العلاقات يعني استعادة إيران -صاحبة الخصومة الشديدة مع جيرانها الخليجيين على ملفات عدة- لمكانة لا بأس بها في الشرق الأوسط، ومن الواضح حتى اللحظة أن القاهرة ترفض أن تكون علاقاتها مع إيران على حساب دول مجلس التعاون الخليجي، ولاسيما أن أمن الخليج يعني مصر إستراتيجيًا واقتصاديًا.

وبالنسبة لطهران فهي تعرف جيدًا أن مصر ما بعد الثورة لن تضحي بعلاقاتها مع دول مجلس التعاون   الخليجي(10)، فهي وجهة مصر الرئيسية للحصول على الدعم الاقتصادي الخارجي والذي تساهم فيه كذلك الولايات المتحدة الأميركية بحصة كبيرة، ويشار في هذا السياق إلى أن طهران بادرت على لسان رئيس جمهوريتها محمود أحمدي نجاد بعرض تقديم دعم مالي واقتصادي يتعلق بالتجارة والاستثمار لمصر عساها تشكّل بديلاً(11).

ويتحدث المسؤولون الإيرانيون بدورهم عن هذا الأمر معتبرين سياسة الرئيس مرسي تجاه الرياض سياسة براغماتية، وبالتالي فإنها لن تشكّل عائقًا أمام الرغبة الإيرانية في التقدم نحو علاقات أفضل مع مصر(12)، هذا في وقت يعتقد فيه محللون إيرانيون أن مصر الراغبة في العودة إلى مكانة القوة العربية الأكبر، لن تكون في هذه الحال إلا منافسًا لأهم الدول الخليجية، أي المملكة العربية السعودية، والمستفيد الأول والأخير من ذلك سيكون إيران(13).

العامل الآخر الذي تعتبره طهران مؤثرًا على مساعيها لتطوير علاقاتها مع القاهرة، هو مستقبل العلاقات المصرية-الإسرائيلية ومعاهدة كامب ديفيد، التي ترتفع أصوات كثيرة في مصر ما بعد الثورة مطالبة بإلغائها، فضلاً عن ملف المصالحة الفلسطينية وفك الحصار عن قطاع غزة، فتحرص إيران في هذا السياق على إبراز تقاطعها ومصر الجديدة في هذا الملف(14)؛ فالحوار الهاتفي الذي دار بين الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد والرئيس المصري محمد مرسي خلال الحرب الأخيرة على غزة وقبل توقيع اتفاق التهدئة بغرض مناقشة الأوضاع في القطاع، يبدو جهدًا حثيثًا تبذله طهران لزيادة خطوط التقاطع مع مصر ما بعد ثورة يناير.

مستقبل العلاقات على مفترق الأزمة السورية

تكاد الأزمة السورية أن تكون الملف الحاسم بأثره على مستقبل العلاقات المصرية-الإيرانية، بل إن هذه الأزمة كانت السبب الرئيس في تأخر تحسن هذه العلاقات كونها شكّلت نقطة استقطاب إقليمية بدت فيها  إيران على رأس محور داعم للنظام السوري، ومصر بالمقابل ومعها دول مجلس التعاون الخليجي تدعم الثورة السورية وإسقاط نظام الأسد.

ليس في وارد أي مسؤول أو محلل إيراني احتمال أن تتخلى إيران عن أهم حلفائها في المنطقة لصالح الاستجابة لاستحقاقات الربيع العربي، حتى ولو كان المقابل كسب أصدقاء جدد في الإقليم كمصر(15)، فسوريا ليست فقط صلة الوصل الجغرافية والسياسية لإيران مع حزب الله في لبنان والفصائل الفلسطينية التي تضمها (أو ما يسمى في طهران ودمشق بمحور الممانعة)، بل إنها وفرت لإيران ذراعًا طويلة للرد على إسرائيل في لبنان وغزة إذا ما قررت إسرائيل توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، وعلى الأقل فقد نجح هذا المحور حتى وقت قريب في تحقيق حد ما من الردع الذي أجّل هذه الضربة حتى اللحظة.

لا شك أن سقوط نظام الأسد يعني أن تفقد طهران أهم حلفائها؛ ما يعني اختلالاً إستراتيجيًا للتوازنات الإقليمية لغير صالح إيران، حيث ستتحول سوريا إلى دولة حليفة لألد خصوم إيران في المنطقة أي السعودية، كما أن تغيير النظام السوري سينعكس سلبًا على قوة حزب الله العسكرية، وعلى حجمه وتأثيره في المعادلة السياسية الداخلية اللبنانية.

أما الفصائل الفلسطينية الحليفة لطهران، وتحديدًا حركة حماس، فقد انحازت إلى الثورة السورية وأعادت ترتيب علاقاتها الإقليمية بعيدًا عن طهران، ويبدو واضحًا الآن أن وصول الإخوان إلى الرئاسة في مصر سيقلّل من الدور الإيراني في الملفات الفلسطينية لصالح القاهرة.  

مصر الإسلامية وإيران.. تفاؤل فخيبة أمل فالتعامل بواقعية

رأت إيران في الربيع العربي "صحوة إسلامية" تشكّل امتدادًا لثورتها الإسلامية، و"تُنهي عهد الاستكبار والوجود الصهيوني-الأميركي في المنطقة"، واتجهت نحو مصر بالذات بحماسة بالغة عندما بدأت تلمس التغيير هناك مع إرهاصات الثورة، إلا أن السياسيين المصريين بمن فيهم الإخوان والسلفيون، رفضوا هذا التصنيف الإيراني، فيما أجمع العديد من القوى المصرية على أن ثورة يناير ثورة شعبية تتشكّل من كافة أطياف وأديان الشعب المصري، وأنها لا تهدف إلى إقامة نظام ديني في مصر(16).

أما عن موقف إخوان مصر من عودة العلاقات مع إيران فلا يزال متذبذبًا، ويراعي موقف التيار السلفي الحليف الأساسي لحزب (الحرية والعدالة) والرافض لتحسين العلاقات مع إيران لأسباب مذهبية وسياسية، وإيران تدرك هذا الكلام جيدًا وتعتبره عائقًا قد يؤخر الوصول إلى مرادها في كسر جليد العلاقات، وفي الوقت ذاته تربط قيادات إخوانية عديدة موضوع عودة العلاقات مع إيران بموقف هذه الأخيرة من الثورة السورية. أما ما يسمى بالقوى المدنية في مصر وبعضها كان شديد الحماسة حتى للتحالف مع إيران، فقد فتر حماسها أيضًا بسبب الأزمة السورية(17).

وبالتالي فإن طهران الآن؛ وبسبب التطورات والمواقف المذكورة ورغم حماستها لإحياء علاقاتها مع القاهرة، إلا أن بعض الأطراف تلمّح إلى أن الحماسة الإيرانية لوصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر كانت حماسة شكلية، وأن طهران توقعت انحياز إخوان مصر إلى دول الخليج(18)، أما أمل طهران بمعاداة الإخوان للولايات المتحدة وإسرائيل فيبدو في نظر البعض حلمًا مؤجلاً، فيما يتحدث آخرون عن رضا أميركي-غربي لصعود الإسلام السياسي السني إلى الحكم في الدول العربية، كونه سيقدم نموذجًا نقيضًا لنموذج الإسلام السياسي الإيراني إن لم يكن منافسه الرئيسي في الشرق.

ومع الوقت تحولت حماسة طهران نحو مصر إلى خيبة أمل تزامنت وزيارة الرئيس مرسي القصيرة لطهران للمشاركة في قمة دول عدم الانحياز وخطابه الحاد اللهجة، جعلت أحلامها بتحقيق شراكة متينة مع القاهرة تتكسر قبل تحققها، فالمسار الإيراني التفاؤلي والذي طالب بإعطاء الإخوان فرصة عساهم يتفقون مع طهران على ملفات إستراتيجية تراجعت أسهمه، ليدرك الإيرانيون الواقع بعد ذلك ويتحدثوا عن شروط قد تمليها مصر عليهم تحت حكم الإخوان المسلمين، فانتظار قطع العلاقات مع أميركا وإسرائيل لم يتحقق، والمعابر مع غزة لم تُفتح بالكامل، واتفاقية كامب ديفيد لا تزال قائمة، والأهم من ذلك هو تحالف السلفيين مع الإخوان ما يعني تقاربًا مصريًا-سعوديًا، وهو ما لا يصب في مصلحة طهران، وبالتالي إن بدا الملف السوري حاسمًا في موضوع العلاقات بين البلدين إلا أنه لا يصل لأهمية قلق إيران من نموذج جديد قريب من الرياض ومدعوم أيضا من واشنطن(19).

إلا أن خروج المعارضة ضد الرئيس مرسي في الشارع المصري وأزمة الدستور نقلت طهران إلى واقعية أكثر في التعامل مع القاهرة، وعُبّر عن هذه الواقعية إعلاميًا من قبل مؤسسات محسوبة على إيران خاصة تلك الناطقة باللغة العربية لتزيد الانتقاد للإخوان المسلمين، إلا أن وسائل الإعلام المحلية الإيرانية بقيت ملتزمة بحدود الموقف الرسمي المعلن بتجنب انتقاد مرسي والإخوان المسلمين في المعركة الداخلية المصرية، لكنها في الوقت ذاته تنتقد مصر في ملفات إقليمية أخرى.

وتُقرأ هذه المعادلة على أن موقف إيران من مصر بحكم الإخوان إستراتيجي، فليس لطهران مصلحة في دعم من يريدون إسقاط مرسي؛ فهي ترى في قدوم الإخوان للسلطة أمرًا إيجابيًا ومصلحة إيرانية ولو على المدى البعيد، إلا أن اتخاذ خطوات ضاغطة على السلطة في مصر قد يؤدي إلى اقترابها أكثر من السياسات الإيرانية، رغم أن طهران ما زالت تتبنى حتى الآن سياسة محاولة إنجاح العلاقات بناء على قاعدة التصالح وليس التصادم. 

خلاصة وسيناريوهات

ومع كل هذه المستجدات لا يبقى على الإيرانيين إلا أن يكونوا براغماتيين، وهم بالفعل يتصرفون بهذه الطريقة، فرغم خيبة الأمل لا تركز إيران على هذه الاختلافات بقدر ما زالت تسعى بنخبها وبأوساطها الإعلامية المحلية بالتشجيع على التقرب من إسلاميي مصر، ويمكن ترجيح أن إيران لا تريد أن تخسر مصر في هذه المرحلة في وقت قد تخسر فيه حليفها السوري(20).

وبالنتيجة ستحاول إيران جاهدة تحسين علاقاتها مع مصر ولكن لا يبدو هذا الأمر سهل المنال في المدى القريب بسبب عدة محددات أهمها: الخلافات القديمة بين الجانبين وهي كثيرة، والأولويات الداخلية الاقتصادية والأمنية المصرية التي تدفع القاهرة نحو مزيد من الابتعاد عن طهران، وتعزيز علاقاتها بدول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن التعقيدات الناشئة عن الموقفين المتباينين من الأزمة السورية، وحتى إذا استؤنفت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين فإن هذه المحددات ستمنعها من التحول إلى قاطرة لتعزيز نفوذ إيران الاقليمي.

ويمكن طرح ثلاثة سيناريوهات لمستقبل العلاقات الإيرانية-المصرية:

  1. الأول: استمرار العلاقات المتوترة بين البلدين، إن لم يُصبّ مزيد من الزيت على نار الأزمة الممتدة بينهما منذ ثلاثة عقود، وهذا السيناريو ستجهد طهران لتجنبه، مع الإشارة الى أن كلاً من مصر وإيران حريصتان على عدم انزلاق الأمور الى هذا المنحدر السحيق، والدليل هو المخرج الذي وفرته المبادرة المصرية الرباعية لحل الأزمة السورية(21).
  2. الثاني: وهو السيناريو الأقرب للواقع الراهن، أي عودة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، مع الاتفاق على خطوط حمراء تشكّل إطارًا عامًا يوضح حدود هذه العلاقات ويضبط مسارها بشكل يرضي الجانبين. وهنا لن يكون التقارب الإيراني-المصري خصمًا من رصيد العلاقات القوية بين مصر ودول الخليج.
  3. الثالث: وهو سيناريو بعيد الأجل يتطرق لعودة العلاقات بين الطرفين بعد تجاوزهما توابع الأزمة السورية وتعزيز هذه العلاقات تدريجيًا. مثل هذا السيناريو يصلح في حال نجحت إيران بإقناع مصر بأن تكون شريكًا اقتصاديًا بالدرجة الأولى ومن ثم الاتفاق على نقاط تضمن شراكة سياسية تسمح لإيران بالتقرب من مصر الساعية لتعزيز دورها المنافس للقوى الكبرى على قيادة المنطقة، ولكن مثل هذا السيناريو يبقى بعيد المنال إلى حد كبير، ولكنه ما تتمناه إيران وستعمل على دفع الأمور باتجاهه، أو بالأحرى تراهن طهران على تحقيقه رغم تعارضها في بعض الأمور مع الإخوان.

_______________________________
فرح الزمان أبو شعير - باحثة متخصصة بالشأن الإيراني

الهوامش
(1) مزاحمتهاي سياسي مرسي براي أميركا و عربستان (مضايقات مرسي السياسية لأميركا والسعودية)، موقع وكالة أنباء فارس، 15 مهر 1391، 6 أكتوبر/تشرين الأول 2012
http://www.farsnews.com/newstext.php?nn=13910714000074

(2) درخواست اخوان المسلمين براي گفتگوي مصر وإيران (مطالبة الإخوان المسلمين بحوار بين مصر وإيران)، موقع قناة العالم الإخبارية، 29 أرديبهشت 1390، 19 مايو/أيار 2011
http://fa.alalam.ir/news/16811

(3) موضع إيران در قبال إخوان مسلمين مصر چيست؟ (ما هو موقف إيران من الإخوان المسلمين في مصر؟)، موقع عصر إيران، 22 اذر 1391، 12 ديسمبر/كانون الأول 2012، إضغط هنا 

(4) من كلمة المرشد الأعلى علي خامنئي في افتتاح مؤتمر الصحوة الإسلامية المنعقد في طهران في سبتمبر/أيلول2011. للمزيد الاطلاع على
http://www.bidarieslami-90.blogfa.com/category/3

(5) مهرداد فرهمند، حمايت إيران از اسلامگرايان مصر زيركانه يا آرماني؟ (دعم إيران لإسلاميي مصر أمر مدروس أم رفع للشعارات؟)، موقع بي بي سي الفارسية، 16 خرداد 1391، 5 يونيو/حزيران 2012
http://www.bbc.co.uk/persian/world/2012/06/120605_l44_egypt_election_iran.shtml

(6) رأي إحدى الصحف الإيرانية بخطاب الرئيس المصري محمد مرسي نُشر تحت عنوان: سخنان ناپخته مرسي درباره سوريه در اجلاس نم (كلمة مرسي غير المدروسة فيما يتعلق بسوريا في جلسة دول عدم الانحياز)، نشرت بتاريخ 9 شهريور 1391، 30 أغسطس/آب 2012. للمزيد انظر موقع جهان نيوز
http://www.jahannews.com/vdchiznii23nkwd.tft2.html

(7) واكنش لاريجاني به اظهارات مرسي: إيران از بيان نظرات مخالف ابايي ندارد، (رد فعل لاريجاني على خطاب مرسي: إيران لا تمانع سماع وجهات نظر وآراء تخالفها)، موقع همشهري، 10 شهريور 1391، 31 أغسطس/آب 2012
http://www.hamshahrionline.ir/details/182944

(8) صادق زيبا كلام، مسأله سوريه مانع روابط إيران ومصر، (الأزمة السورية تقف بوجه العلاقات الإيرانية-المصرية)، موقع إيران ديبلوماسي، 113 شهريور 1391، 3 سبتمبر/أيلول 2012، للاطلاع إضغط هنا

(9) راجع المصدر (5)

(10) مرسي: فعلا إيران نه أول عربستان، (مرسي: الآن ليس وقت إيران، السعودية أولاً)، موقع تابناك، 31 خرداد 1391، 20 يونيو/حزيران 2012، للاطلاع إضغط هنا.

(11) راجع المصدر (1)

(12) إخوان المسلمين: عجله براى روابط با إيران ندارد، (الإخوان المسلمون: لا حاجة لاستعجال العلاقات مع إيران، موقع إيران ديبلوماسي، 24 تير 1391، 14 يوليو/تموز 2012، للاطلاع إضغط هنا.

(13) راجع المصدر(10)

(14) سرنوشت كامپ ديويد در رفراندوم مصر، (مستقبل كامب ديفيد في إصلاحات مصر)، موقع مشرق نيوز، 12 دي 1390، 2 يناير/كانون الثاني 2012
http://www.mashreghnews.ir/fa/news/89151/سرنوشتکمپ-ديويددر-رفراندوم-مصر

(15) راجع المصدر (8)

(16) واكنش اخوان المسلمين مصر به اظهارات ايت الله خامنه اى، (ردّ فعل الإخوان المسلمين في مصر على كلام آية الله خامنئي)، موقع يورونيوز الفارسية، 4 فبراير/شباط 2011
http://persian.euronews.com/2011/02/04/iran-tells-arab-nations-to-unite-against-west/

(17) گروههاي سياسي مصر در مورد رابطه با إيران چگونه مي انديشد؟، )كيف تنظر التيارات السياسية المصرية للعلاقات مع إيران؟)، موقع ازاد نگار، 20 ارديبهشت 1391، 9 مايو/أيار 2012
http://fa.azadnegar.com/reza/news/81591.html

(18) راجع المصدر (12)

(19) پايان بسته اى اخوان المسلمين وسلفى ها، (طريق مغلق أمام الإخوان المسلمين والسلفيين)، موقع ازاده باش، 14 اذر 1391، 4 ديسمبر/كانون الأول 2012
http://azadehbash.blogfa.com/post-7717.aspx

(20) زهرا خدايي، اختلافات ايديولوژيك ميان إيران و أخوان المسلمين همچنان وجود دارد، )الاختلافات بين إيران والإخوان المسلمين لا تزال قائمة)، موقع خبر اونلاين، 14 شهريور 1391، 4 سبتمبر/أيلول 2012
http://khabaronline.ir/detail/240456/World/middle-east

(21) راجع المصدر(1)

ABOUT THE AUTHOR