رئيس وزراء باكستان السابق وزعيم حزب الرابطة الإسلامية نواز شريف أثناء حملته الانتخابية في إسلام آباد (الفرنسية) |
فاجأ الناخب الباكستاني المحللين واستطلاعات الرأي حين خيّب التوقعات ومنح حزبًا سياسيًا واحدًا أغلبية بسيطة تمكّنه من تشكيل حكومة بمفرده، وصوّت لحزب الرابطة الإسلامية بزعامة نواز شريف. حاز الحزب على 127 مقعدًا في الجمعية الوطنية الفيدرالية، وسيحصل بموجب هذه النتيجة على 30 مقعدًا آخر مخصصة للأقليات والمرأة، وهو ما يعني أن عدد مقاعده ستصل إلى 157 ويحتاج حينها إلى 15 مقعدًا فقط يستطيع تأمينها من المستقلين وأحزاب صغيرة بسهولة.
كانت التحليلات واستطلاعات الرأي تتحدث عن برلمان معلق وأن الناخب الباكستاني لن ينتخب حزبًا واحدًا بأغلبية بسيطة تمكّنه من الحكم لوحده وهو ما سيجعل الحكومة المقبلة ضعيفة أمام المعارضة. لكن الشعب الباكستاني منح تفويضه الكبير لحزب شريف كرسالة انتقامية لحكومة حزب الشعب وحلفائها على أدائهم السيئ خلال سنوات الحكم الماضية. وتستعيد هذه الرسالة ما دأبت على قوله زعيمة الحزب الراحلة بي نظير بوتو: "إن الديمقراطية أفضل وسيلة للانتقام". أما رسالة الناخب إلى حزب شريف فتقول: لا عذر لكم اليوم من عدم التمتع بالأغلبية البرلمانية التي تسهّل عليكم الإبحار في حل مشاكلنا المستعصية.
اللافت في هذه الانتخابات أن الليبراليين والعلمانيين، شركاء الحكم سابقًا، وهم حزب الشعب وحركة المهاجرين القومية وحزب العوام القومي يساري التوجه، تراجعت نسبة مقاعدهم في الجمعية الوطنية إلى 25% بعد أن كانت نسبتهم في انتخابات 2008 حوالي 75%، وقفزت نسبة المحافظين من جماعات شريف وعمران خان وأحزاب إسلامية إلى نسبة 75%، في حين ذهبت نسبة مقاعد إقليمي البنجاب وبختون خواه وعاصمته بيشاور بالإضافة إلى مناطق القبائل وإسلام آباد في 90% منها للمحافظين، بينما سيطر الليبراليون على 80% من مقاعد بلوشستان والسند وهو ما يعكس انقسامًا أيديولوجيًا جغرافيًا في البلد يراه البعض مؤقتًا في ظل تراجع الأحزاب اليسارية واختراق الأحزاب المحافظة لمعاقلها.
وتعزيزًا للنزعة المناطقية هذه كان حزب الشعب الباكستاني بزعامة آصف زرداري ولأول مرة منذ تأسيسه عام 1970 يُطرد من إقليم البنجاب ويعود إلى معقله في إقليم السند، وهو ما زاد من مخاوف ارتفاع نبرة المناطقية والعرقية في باكستان. لكن اختراق حزب الإنصاف بزعامة عمران خان لمعاقل الليبراليين في بيشاور وفوزه بالأغلبية يشكّل تطورًا سيمكّنه من تشكيل حكومة فيها، كما أن التصدعات في حركة المهاجرين القومية وفوز حزب الإنصاف في كراتشي التي تعتبر معقل الحركة التي ينحدر أتباعها من المهاجرين الأوردو، يشي بعكس هذه المخاوف.
هل تغير نواز شريف؟
يتمحور السؤال بقوة بين الساسة والخبراء وكل المعنيين بالشأن الباكستاني حول التغيير الذي طال تجربة نواز شريف على مدى فترتي حكمه السابقتين 1990-1993، و1997-1999. يعود شريف إلى السلطة بعد 14 عامًا من الابتعاد عن الحكم ويعود أيضًا بعد أن دخل في صراعات مزمنة أيام حكمه مع أقطاب الترويكا الباكستانية الذين يمسكون بتلابيب السلطة وصناعتها، وهم المؤسسة العسكرية حين انقلب عليه قائدها آنذاك برفيز مشرف فسجنه وأبعده إلى منفاه بالسعودية فمكث هناك حوالي سبع سنوات، ودخل أيضًا في صراع مع المؤسسة القضائية، وكذلك في صراع مع الرئاسة وإن كانت ليست مؤسسة بالمعنى المؤسساتي البيروقراطي في صناعة القرار كما هو الحال مع المؤسستين الأخريين.
يشير بعض من يعرف نواز شريف إلى أنه تغير كثيرًا ولن تحكم السياسة الصدامية توجهاته، ولن يكون أسيرًا لمرحلة سابقة، سيما وهو الذي يدرك بعقلية التاجر، حيث يُصنف كرابع أغنى باكستاني، حسابات الربح والخسارة وأن التصويت له كان من أجل وعوده وتعهداته بتقديم خدمات عجز حزب الشعب عن تقديمها وأولها حل مشكلة انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة، وهو انقطاع شل الحياة الباكستانية بكافة مجالاتها. وجاء لقاء قائد الجيش الباكستاني الجنرال إشفاق كياني في مقره بلاهور ليؤشر على أن التغير حصل.
عكست تصريحات شريف بأنه سيحترم التفويض الذي منحه الشعب للأحزاب الأخرى تغيرًا في العقلية إذ لم يخضع لقواعد اللعبة السياسية الحزبية القديمة ويبرهن على ذلك رفضه الخضوع لابتزازات جمعية علماء الإسلام بزعامة فضل الرحمن وسعيها للحصول على تفويض منه بتشكيل حكومة بختون خواه ببيشاور على حساب الحزب الفائز بالأغلبية وهو حزب الإنصاف بزعامة لاعب الكركيت العالمي، عمران خان، وأصر شريف على منحها لخان وشفّعها بدعوته إلى لعب مباراة ودية بلعبة الكركيت المشهورة بباكستان.
وفي المقابل يرى بعض المتشائمين أن شريف لم يتغير مستدلين على ذلك بتصريحه لوكالة رويترز حين قال: "سنلتقط الخيط من المكان الذي تركناه عام 1999"(1)، إضافة إلى قناعتهم بأن شريف ليس من الطينة التي تتغير بسهولة ولذلك لجأ إلى تعيين شقيقه شهباز شريف للتعامل مع ملف العسكر كونه أقرب إليهم من نواز.
لكن يبدو أنه وقبل نهاية العام الحالي سيتم الإجابة على هذا السؤال فيما إذا كان نواز شريف قد تغير أم لا؟ ستنتهي ولاية رؤساء المؤسسات الثلاث في باكستان، القضاء والجيش والرئاسة قبل نهاية العام الحالي، وحتى ذلك الحين ستظهر كيفية تعامل شريف مع أصحابها في فتراتهم المتبقية، وكيف سيتم ملء الفراغات التي سيخلّفونها، وعادة ما تحتدم الخلافات الباكستانية مع هذه المؤسسات وهو ما يعزز دوره في السلطة أو العكس.
الإقلاع الاقتصادي لـ "النمر"
يبرز التحدي الحقيقي لنواز شريف في الوعود التي أطلقها خلال حملته الانتخابية والمتمثلة بإقلاع اقتصادي عكسه رمزه الانتخابي "النمر" في إشارة إلى تحويل باكستان إلى دولة من مجموعة دول النمور الآسيوية، ويدرك شريف أن الأساس في الإقلاع الاقتصادي هو عودة الكهرباء إلى بلد تُقطع عنه لعشر ساعات وأحيانًا في بعض المناطق لعشرين ساعة وهو ما ألجأ رجال الأعمال إلى إقفال مصانعهم ومعاملهم وألقوا بمئات الآلاف من العاملين والموظفين إلى أسواق البطالة. وأعاد انتخاب شريف، وهو من طبقة رجال الأعمال، الثقة لدى رجال الأعمال في الحكومة المقبلة ووعودها، ومع هذا لم يشأ شريف تحديد جدول زمني لوقف قطع التيار الكهربائي إلا أنه تعهد بتحقيق اختراقات في هذه الملفات خلال المائة يوم الأولى من حكومته(2).
عكس اختيار شريف لفريقه الحكومي من الشخصيات المالية والاقتصادية المعتبرة داخليًا وخارجيًا طبيعة التركيز الذي ستعمل عليه حكومته إذ برز من بين الفريق "سرتاج عزيز وإسحاق دار، وهما وزيرا مالية سابقان، وأحسن إقبال ودستكير خان، وهما من الشخصيات الاقتصادية المعروفة أيضًا".
أما ثاني التحديات التي تواجه شريف فهو تحدي ملف الفساد الذي ضرب أطنابه في باكستان خلال السنوات الخمس الأخيرة من حكم حزب الشعب. وستقرر طبيعة تركيبة فريق عمل شريف في لجنة المحاسبة ما إذا كان سيلاحق الفاسدين والمرتشين أم لا، فإن خضع تشكيل الحكومات وفريق العمل لقواعد اللعبة القديمة من قبول ابتزاز مجموعات الضغط العرقية والمناطقية والحزبية والمصلحية وغيرها فذلك معناه صعوبة معالجة ملف الفساد، فالضغط يعني الرشوة بالمنصب أو بالمال أو بكليهما.
يسود شعور ومزاج لدى الشارع الباكستاني بأن اتفاق مدينة "مري" بين شريف وزرداري في 8 مارس/آذار 2008 نص في أحد بنوده السرية على السماح لكل طرف بإكمال فترته بالحكم دون العمل على إسقاطه أو ملاحقته بقضايا الفساد من الطرف الآخر، وعليه فإن الأيام المقبلة ستحسم دقة هذا الشعور ووجاهته. وهنا يُطرح السؤال شعبيًا: هل سيتحرك شريف ضد زرداري ومؤيديه خصوصًا وأن حجم الفساد المالي يُقدر في ظل حكم زرداري بـ 6-7 تريليونات روبية باكستانية أي ما يعادل 600- 700 مليون دولار(3)، أما منظمة الشفافية الدولية فقد قدرت حجم الفساد في السنوات الثلاث الأولى من حكم زرداري بثلاثة تريليونات روبية أي ما يعادل 300 مليون دولار أميركي(4). يُذكر أن أحد شعارات حملة شريف الانتخابية كان "الحملة على علي بابا والأربعين حرامي" والمقصود به زرداري وحزبه.
ويتمثل التحدي الثالث في التعاطي مع خصومه الحزبيين، فهل سيبتعد عما اصطُلح عليه في باكستان بـ "سياست" وتعني سياسة الابتزاز والفساد وإرضاء الآخرين على حساب المصلحة العليا؟
بدا شريف خلال خطابه أمام أعضاء برلمانه الفائزين بلاهور أنه بعيد عن قواعد اللعبة القديمة سيما حين قال إنه سيحترم التفويض الشعبي الممنوح للأحزاب الفائزة بالأقاليم وسبق ذلك زيارته إلى المشفى الذي يرقد فيه عمران خان من جرّاء إصابته خلال سقوطه من المنصة بحملته الانتخابية، وتأكيده على العمل سويًا في حكومة بختون خواه، ورفضه منح فضل الرحمن حق تشكيل حكومة بختون خواه، ويعكس ذلك إدراكًا لديناميات السياسة الباكستانية المتغيرة.
يعي شريف -وربما غيره- أن الشارع الباكستاني اليوم يريد توفير الخدمات بالدرجة الأولى؛ لذا ركزت حملة شريف الانتخابية على الاقتصاد تأسيًا بما تردد بشعار الحملة الانتخابية لكلينتون "الاقتصاد يا غبي"، ومعه يدرك عمران خان أن الشعب الباكستاني لم يعد يعنيه المعارضة من أجل المعارضة بقدر ما يعنيه معارضة تعين الحكومة في تحقيق الأفضل أو تمنعها من الوقوع بالأسوء ولعل هذا يفسر نجاح اثنين من مرشحي مشرف المقاطعين أصلاً للانتخابات بالفوز في جترال شمال باكستان حيث يُجمَع على أن سبب انتخاب الشعب لهما هو بناء مشرف نفق لواري المهم للمنطقة والذي حلّ كثيرًا من مشاكلها الحياتية.
يجري التعويل الآن على التنافس الإيجابي بين شريف وعمران خان في تقديم خدمات أفضل للعامة سيما وقد وعد عمران خان بتحويل إقليم بختون خواه إلى أنموذج يأمل أن يشكّل جذبًا للناخبين في الانتخابات المقبلة بعد أن حقق هذا الاختراق الكبير في المشهد السياسي الباكستاني وهو المشهد الذي كان أسيرًا لحزبين تقليديين طوال العقود الأربعة الماضية.
ستكون حكومة إقليم البنجاب الذي يشكّل الثقل السكاني الأضخم بباكستان من نصيب شريف وسيتمكن شريف أيضًا من تشكيل حكومة بلوشستان، بينما سيتم تشكيل حكومة بختون خواه من قبل عمران خان، أما إقليم السند فسيظل بيد حزب الشعب وحركة المهاجرين، وتعاني الأخيرة من مشاكل في بنك أصوات ناخبيها بعد أن حقق حزب الإنصاف اختراقًا بفوز مرشحيه في معاقلها وهو ما تسبب في توتر بالمدينة حين اتهمت أحزاب كالجماعة الإسلامية وحزب الإنصاف حركة المهاجرين بتزوير الانتخابات فتم إعادتها ببعض الدوائر فقاطعتها الحركة وفاز مرشح حزب الإنصاف، ترافق ذلك مع قتل مسلحين مجهولين لنائبة حزب الإنصاف زارة حسين والتي اتهم عمران خان حركة المهاجرين بقتلها وهو ما نفته الحركة، وسيظل التوتر يطبع المشهد في كراتشي بعد أن دخل مهدد حقيقي للحركة وفي معقلها الذي استأثرت به لعقود.
يحتم هذا الواقع على نواز شريف أن يوجد توافقًا وطنيًا على مستوى الأقاليم سيما وأن التعديل السابع عشر من الدستور منح الأقاليم سلطات في القرار السياسي والاقتصادي وجعل من باكستان دولة فيدرالية فعليًا وحقيقة، وبالتالي فإن هذا الانسجام أو علاقة التعاون بين المركز ممثلاً بحكومة شريف وحكومات الأقاليم سيوفر دعمًا لسياسات شريف حتى على مستوى علاقاته الخارجية، وإلا فسيدفع ثمنه داخليًا وخارجيًا.
ويتمثل التحدي الرابع في العلاقة مع أقطاب الترويكا، والممثلة بالرئاسة وقيادة الجيش والمؤسسة القضائية سيما وأن شريف دخل في فترتي حكمه السابقتين بصراعات وخلافات مع أقطاب هذه الترويكا فتسبب في إقالة حكومته وحل البرلمان حينها، غير أن الأمر الإيجابي في الأمر هذه المرة هو التغيير الكبير الذي طرأ على هذه المؤسسات حيث تراجع تغول المؤسسة العسكرية بعد تفعيل دور القضاء خلال السنوات الماضية، وتجلى ذلك باعتقال قائد جيش باكستاني سابق لأول مرة وهو برفيز مشرف والحكم عليه بالسجن الاحتياطي، وإن كان قد تم الإفراج عنه بكفالة لاحقًا، وبرزت المؤسسة القضائية كقوة فاعلة على الأرض من خلال القضايا والإشكاليات الخدمية والسياسية وغيرهما، وفوق هذا لم يعد يُنظر إلى المؤسسة القضائية على أنها خادم عند العسكر عملا ًبمبدأ الضرورة التي يلجأ إليه العسكر لتنفيذ انقلاباتهم العسكرية على الحكومات المدنية.
أشاعت زيارة قائد الجيش الباكستاني إشفاق كياني لنواز شريف في لاهور ومكوثه معه لثلاث ساعات ونصف الساعة والبحث معه في القضايا الداخلية والخارجية جوًا تفاؤليًا بقدرة الطرفين على ردم فجوات الماضي، لكن يظل الأمر مرهونًا بطريقة تعاطي شريف مع الملفات الشائكة التي تتداخل فيها مصالح المؤسسة العسكرية، أما مؤسسة الرئاسة فيظهر زرداري المنهزم في الانتخابات أقل من بطة عرجاء إذ لم يتبق له سوى أشهر على فترته ومن الصعب التجديد له في ظل امتلاك شريف ومعارضي زرداري بشكل عام لأغلبية كبيرة في البرلمان تحول دون عملية التجديد. ينطبق الأمر على رئيس المحكمة العليا افتخار تشودري الذي ستنتهي فترته قبل نهاية العام الحالي وهو ما سيوفر لشريف فرصة لتكون له الكلمة في اختيار أقطاب الترويكا الثلاث.
يتعلق التحدي الخامس بقضية الحوار مع طالبان فقد حسم شريف خياره بالدعوة إلى الحوار مع طالبان باكستان من أجل وقف العنف الذي يضرب البلاد ودمر كثيرًا من اقتصادها منذ سنوات وكان ذلك أحد عناصر حملته الانتخابية، ترافق مع عنصر آخر ركز عليه في حملته الانتخابية وهو وعده بوقف غارات طائرات بلا طيار على مناطق القبائل الباكستانية والتي أصدرت محكمة بيشاور العليا حكمًا بأنها "جريمة حرب وغير قانونية، وعلى الحكومة الباكستانية الرد على هذه الغارات"(5)
ينسجم نزوع شريف إلى التفاوض مع طالبان ووقف الغارات الأميركية بلا طيار تمامًا مع موقف حزب الإنصاف بزعامة خان الذي يعتزم تشكيل حكومة بختون خواه وعاصمته بيشاور والمعنية بشكل أساس بالحد من الغارات والتي كانت أساس حملته الانتخابية وحصل بموجبها على هذا التفويض الشعبي الكبير في الإقليم، ويبدو أن المؤسسة العسكرية تسير على نفس هذا الخط خصوصًا وأنه يأتي مع قرب الاستحقاق الأميركي من أفغانستان والدعوة الأميركية للتفاوض مع طالبان أفغانستان.
التحديات الخارجية
حين الحديث عن التحديات الخارجية لحكومة شريف الجديدة تبرز الإشكالية مع الولايات المتحدة الأميركية فالأخيرة لم تكن مرتاحة له كثيرًا كونه يمثل تركة الرئيس الراحل ضياء الحق المؤيد للمجاهدين الأفغان ويعد أقرب إلى الجماعات الإسلامية ومنها إلى حركة طالبان أفغانستان وكذلك إلى الحزب الإسلامي بزعامة قلب الدين حكمتيار وكلاهما يقاتلان التحالف الغربي منذ 13 عامًا، وقد سارع وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى الاتصال به عقب فوزه بالانتخابات قائلاً له: "سنعمل من أجل مصالحنا المشتركة"(6).
يأتي شريف اليوم بتفويض شعبي قوي أولاً، ويأتي ثانيًا في سياق دولة باكستان التي تعزز فيها دور المؤسسات عبر إكمال سلطة منتخبة فترة حكمها دون الانقلاب عليها -لأول مرة-، يُضاف إليه المشاركة الشعبية الضخمة في الانتخابات التي وصلت نسبتها لأول مرة أكثر من ستين بالمائة وهو ما عكس المزاج الشعبي الداعم للتغيير.
لكن العلاقة الباكستانية-الأميركية كانت دائمًا علاقة اضطرارية -تكتيكية تفتقر إلى البعد الاستراتيجي- لحاجة الطرفين لبعضهما البعض؛ فإن كانت حكومة نواز شريف تطالب بوقف الغارات الأميركية بطائرات بلا طيار وتصفها بالاعتداء على السيادة الباكستانية كما جاء في خطابات شريف أثناء حملته الانتخابية، وتحتاج حكومته أيضًا إلى دعم اقتصادي لمعافاة اقتصادها أو لدعم أميركي في المؤسسات الدولية المالية من أجل الحصول على القروض فإن واشنطن أيضًا بحاجة إلى باكستان من أجل المساعدة في التفاوض مع طالبان وتأمين أفغانستان في مرحلة ما بعد الانسحاب الغربي منها باستخدام نفوذها لدى حركة طالبان والقوى الأفغانية المحاربة لها، بالإضافة إلى المساعدة في تأمين انسحاب قواتها وقوات حلفائها بعد 22 شهرًا من الآن عبر ممر خيبر إلى موانئ كراتشي ثم إلى بلدانهم.
وتدرك حكومة نواز شريف الفيدرالية المركزية وحكومة عمران خان في إقليم بختوان خواه أن التحدي الكبير يتمثل في الإيفاء بتعهداتهم أمام ناخبيهم بشأن وقف الغارات الأميركية بلا طيار، خاصة وأن الرئيس الأميركي باراك أوباما أكد على مواصلة ذلك رغم نقل صلاحيات استخدام هذه الطائرات من المخابرات المركزية الأميركية إلى البنتاغون وهو ما قد يجعلها خاضعة إلى المشرعين الأميركيين.
وكان تقرير مجموعة الأزمات الدولية الذي جاء بعنوان "طائرات بلا طيار: الأساطير والحقيقة في باكستان" قد حض كلاًّ من باكستان وأميركا على المساعدة لبسط سلطة الدولة الباكستانية في مناطق القبائل بسبب التداعيات السلبية على مواصلة استخدام هذه الطائرات، علمًا بأن هذه العمليات لم تؤثر على شبكة طالبان والقاعدة في مناطق القبائل بالإضافة إلى سقوط قتلى في صفوف المدنيين(7).
وتأتي العلاقة مع الهند كتحد ثان. يدرك شريف تمامًا أن منشأ التطور الاقتصادي داخلي وإقليمي وليس دوليًا؛ وبالتالي لابد من التركيز على تحسين العلاقات مع الهند من أجل تحقيق الإقلاع الاقتصادي الباكستاني الذي يعد به، لكن ذلك سيكون بالمشي على خيط رفيع ومشدود كون مصالح المؤسسة العسكرية ستكون في عين العاصفة فالتحسن أو التطبيع في العلاقة مع الهند يعني تقليص موازنة الجيش وسحب ورقة كشمير منه؛ وهو الأمر الذي ينبغي أن يتم التعاطي معه بحساسية فائقة، وربما تفطن إلى ذلك قائد الجيش الباكستاني إشفاق كياني حين تردد أنه نصح شريف خلال لقائه الأخير معه بلاهور بأن يكون "التطبيع مع الهند بطيئًا لكن ثابتًا وراسخًا"(8)؛ وهي نصيحة دفع شريف ثمنها من قبل ويُفترض أن يكون قد استوعب درسها حين أطيح به على خلفية أحداث كارغيل عام 1999 بعد أن تورط الجيش الباكستاني في عمليات داخل الهند فنسف جهوده في التطبيع حينها مع الهند، وشعر يومها أنه طُعن بالظهر من قبل مؤسسته العسكرية، وبقدر ما كانت الهند تنظر إليه على أنه جاد وقادر على صنع تقارب معها بقدر ما رأت فيه ضعفًا عن تحقيق ذلك لعجزه عن ضبط عسكره.
يعني التطبيع مع الهند دخول استثمارات هندية إلى باكستان، ويعني أيضًا تحقيق مشروع مد أنابيب الغاز الطبيعي من تركمانستان وإيران عبر باكستان إلى الهند ثم إلى الشرق الأقصى وهو ما سيوفر لباكستان عائدات مالية أولاً وثانيًا: تأثيرًا في السياسة المنطقوية وربما الدولية من خلال ديبلوماسية أنابيب الغاز.
مع هذا فإن نواز شريف يعود إلى السلطة للمرة الثالثة وهي المرة الأولى التي تحصل لرئيس وزراء باكستاني يعود وهو مسلح بتفويض شعبي قوي وارتياح خليجي -وتحديدًا سعودي- بسبب ما يُنظر إليه على أنه انحياز من قبل سلفه في الحكم حزب الشعب وحلفائه لإيران على حساب الخليج والسعودية تحديدًا، وعلاوة على ذلك يعود شريف بدعم تركي وهو الذي زار تركيا العام الماضي ونُقل عنه حينها أنه معجب برئيس وزرائها رجب طيب أردوغان وسياسته.
__________________________
د. أحمد موفق زيدان - مدير مكتب الجزيرة في باكستان
الهوامش والمراجع
1- مقابلة مع وكالة رويترز بُثت يوم 4 مايو/أيار 2013، ونشرتها صحيفة ذي نيوز الباكستانية يوم 5 مايو/أيار 2013.
2- تصريحات نواز شريف في لاهور خلال لقائه يوم 20 مايو/أيار 2013 مع أعضاء برلمان حزبه الفائزين ونشرتها الصحف الباكستانية في اليوم التالي.
3- شاهين سيباي ..صحيفة ذي نيوز الباكستانية الصادرة بتاريخ 17 مايو/أيار 2013.
4- _ Corrupt Zardari’s Govt break all records of corruption, Rs3,000 billion in 3 years, columnpk.com, 13 July, 2011:
http://www.columnpk.com/corrupt-zardaris-govt-break-all-records-of-corruption-rs3000-billion-in-3-years/
5- صحيفة ذي نيشن الباكستانية الصادرة بتاريخ 10 مايو/أيار 2013.
6- تصريحات جون كيري نشرتها صحيفة ذي نيشن الباكستانية الصادرة بتاريخ 14 مايو/أيار 2013 .
7- crisisgroup, Drones: Myths And Reality In Pakistan, Asia Report N°247 21 May 2013:
http://www.crisisgroup.org/en/regions/asia/south-asia/pakistan/247-drones-myths-and-reality-in-pakistan.aspx
8- صحيفة الدون الباكستانية الصادرة بتاريخ 19 مايو/أيار 2013.