تعيش تونس منذ مفتتح الشهر الحالي على وقع الحملة الانتخابية للمجلس الوطني التأسيسي، وذلك في ظل تنافس بين مئات القائمات المترشحة، حيث ناهز إجمالي عدد المترشحين 12 ألفا من أجل عدد مقاعد يزيد قليلا على المائتين. ورغم أن الحملة تبدو فاترة إلى حد الآن بسبب الممنوعات الكثيرة التي فرضتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وتمركز النخبة السياسية في المناطق الحضرية بعيدا عن المناطق الداخلية التي كانت منطلق الثورة وقلبها، إلا أن أخبار الانتخابات وتطوراتها طغت على كل شيء في الساحة التونسية، بما في ذلك بعض الأحداث السياسية الهامة (زيارة رئيس الحكومة المؤقت إلى الولايات المتحدة الأميركية) والأمنية (مصادمات متفرقة بين الأهالي في بعض الجهات وبين الأهالي والأمن في جهات أخرى).
ورغم أن الشكوك قد حامت في الفترة الماضية حول مدى صدق الحكومة وبعض الأطراف الفاعلة من وراء الحجاب في أن تتم الانتخابات في وقتها وبالشفافية المطلوبة، فإن بعض المؤشرات تدل على أن هناك اتجاها قويا بدأ في التبلور منذ أسبوعين على الأقل لترك الأمور تأخذ مجراها الطبيعي. من بين أهم الأدلة على ذلك، الحملات الأمنية التي شرعت وزارة الداخلية مدعومة بعناصر من الجيش في تنفيذها في مداخل المدن وفي الأحياء لإلقاء القبض على مئات المشبوهين وخاصة المدانين بأحكام ثقيلة والذين فروا من السجون في شهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط الماضيين، في عمليات فرار منظمة ومتناسقة.
ومع أن هذه الحملات طالت أحيانا عددا قليلا من مناضلي بعض الأحزاب اليسارية الراديكالية، إلا أن الإحصائيات المقدمة من قبل المصالح الأمنية بينت بالأرقام أن المقصود من تلك الحملات هو الاحتياط من التشويش على الانتخابات من طرف مطلوبين للعدالة من السهل تجنيدهم لإفساد الانتخابات وبث الفوضى.
على المستوى الداخلي أيضا، تسعى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات لضمان نزاهة وشفافية العملية الانتخابية عن طريق انتداب الملاحظين والمراقبين، حيث صرح السيد كمال الجندوبي رئيس الهيئة المذكورة في السادس من أكتوبر/تشرين الأول الجاري أن هيئته انتدبت حوالي 35 ألف مواطن من أجل إنجاز العملية الانتخابية في أقصى درجات الشفافية. بالإضافة إلى هذه التطمينات، فإن العمليات التقنية التي وضعت الهيئة خطة لها ستجعل من عملية تزوير الانتخابات أمرا صعبا للغاية، حيث سيتكفل الجيش بتأمين مكاتب الاقتراع من الخارج، كما أن الفرز سيتم في نفس المكاتب ودون إخراج الصناديق منها وبحضور ممثلي المترشحين واشتراط إمضائهم على المحاضر وتضمين ملاحظاتهم أو اعتراضاتهم على مجريات عملية الاقتراع.
فضلا على أن المراقبين بدؤوا يلاحظون ميل الأحزاب المتنافسة إلى القبول بنتائج الاقتراع والرضا بأن يشكل الإسلاميون الأغلبية النسبية في المجلس التأسيسي المرتقب، المتوقع فوزهم بها كما توضح ذلك كل استطلاعات الرأي، طالما أن أية نتائج ستمنعهم من الأغلبية المطلقة وهو أمر احتاطت له "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة" بأغلبية أعضائها العلمانيين منذ أن وضعت قانون الانتخابات الحالي.
من هنا فإن الخطر الذي يمكن أن يهدد الانتخابات هو تنفيذ انقلاب على النموذج الذي شهدته الجزائر في مطلع التسعينيات، وهو سيناريو كان ممكنا قبل أشهر عندما صرح السيد فرحات الراجحي وزير الداخلية السابق بتفاصيله وأثار ذلك تخوفات جدية على حالة الاستقرار وعلى مسار العملية الديمقراطية. غير أن عوامل عديدة تجعل ذلك غير وارد الآن. وأول هذه العوامل التغيير الطارئ على موقف الولايات المتحدة الأميركية التي صرحت خارجيتها منذ أيام بأنها لا ترى ضيرا في وصول الإسلاميين إلى الحكم في مصر شرط احترامهم الحريات. في نظر كثير من المتابعين لم تكن الرسالة موجهة لمصر فحسب، وإنما بالخصوص لتونس حيث تبدو الحركة الإسلامية أكثر استعدادا لقبول العملية الديمقراطية. في هذا الإطار أطلقت حركة النهضة في تونس إشارات واضحة بأنها ستقبل نتائج الانتخابات وإن لم تكن تلبي طموحاتها، وآخر هذه الإشارات تصريح رئيسها السيد راشد الغنوشي لصحافة يوم الجمعة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
ملامح نظام توافقي
ينبغي التذكير بأن التخوف الأساسي الذي كان يحرك تلك الأطراف، وكذلك بعض الأحزاب المشاركة في الانتخابات المنتمية للطيف العلماني، كان الفوز المنتظر "لحركة النهضة" الإسلامية، بالرغم من أن القانون الانتخابي قد صيغ بطريقة تمنع اكتساح هذه الحركة للمجلس التأسيسي ولا تمنحها في أقصى الحالات سوى ثلث المقاعد.
لكن هذه النسبة ليست بالأمر الهين، حيث من المتوقع أن يشكِّل النواب الإسلاميون أكبر كتلة داخل المجلس المرتقب في ظل تشرذم خصومهم. وسيفرض ذلك على حركة النهضة أن تبني تحالفات داخل المجلس من أجل تشكيل الحكومة المقبلة، إذا ما رغبت في ذلك.
والحقيقة أن حركة النهضة نجحت في تقديم تطمينات أفشلت العديد من السيناريوهات التي وضعها منافسوها، فقد قبلت بالإمضاء على وثيقة "إعلان المسار الانتقالي" التي اتفق الموقّعون عليها على أن يكون الرئيس المقبل شخصية توافقية من خارج المجلس، وبدأت في جذب رئيس حزب "التكتل من أجل العمل والحريات" الدكتور مصطفى بن جعفر، وهو سياسي مخضرم كان معارضا للنظام السابق، حيث إنه وعلى خلاف رئيس "الحزب الديمقراطي التقدمي" السيد أحمد نجيب الشابي والسيد أحمد إبراهيم رئيس "حركة التجديد" (الحزب الشيوعي سابقا) لم ينضم إلى حكم الرئيس المخلوع بن علي بعد خطابه في الثالث عشر من يناير/كانون الثاني الماضي ، واختار الانسحاب من حكومة السيد محمد الغنوشي التي اعتبرت امتدادا للعهد البائد. بذلك تكون حركة النهضة قد ضربت أكثر من عصفور بحجر واحد:
-
منع رئيس الديمقراطي التقدمي من الوصول إلى الرئاسة، وإضعاف حزبه الذي بدأ في التقهقر في استطلاعات الرأي واستنزفته الخلافات العميقة بين مناضليه القدامى والمنخرطين الجدد.
-
طمأنة الرأي العام الداخلي والخارجي بأن الحركة لا تعتزم حكم البلاد وإنما المشاركة في الحكم دون تغييرات جذرية على النظام التونسي.
-
تعبيد الطريق أمام تحالف واسع مع الأحزاب التي لا تختلف معها جوهريا حول قراءتها لطبيعة المرحلة المقبلة وضرورة القطع مع النظام البائد مثل: حزب التكتل، المؤتمر من أجل الجمهورية، حركة الوحدة الشعبية وحزب العمال الشيوعي التونسي.
غير أن ما يجب إثارة التساؤلات حوله هو مدى استعداد الحركة لتقاسم السلطة مع الأحزاب المتفرعة عن التجمع الدستوري الديمقراطي، الحزب الحاكم سابقا، وهو أمر ألمحت إليه بعض التقارير الأجنبية.
هل يمكن إدراج زيارة رئيس الحكومة المؤقت إلى أميركا في هذا الجو العام؟
دعم قطري أميركي
أثناء زيارته إلى الولايات المتحدة الأميركية تعمد السيد الباجي قايد السبسي عدم التخويف من مشاركة الإسلاميين في الحكم، بل وقدم تلميحات إلى إمكانية لعبه دورا سياسيا في أعلى هرم السلطة المؤقتة المقبلة أيضا بعد انتخابات التأسيسي.
على أرض الواقع، يبدو المحور الأميركي أكثر فعالية من المحور الفرنسي الذي لا يزال متمسكا بالتحالف مع أصدقائه من الشيوعيين والليبراليين، وهؤلاء لا يتوقع أن تمنحهم الانتخابات سوى مقاعد محدودة جدا في المجلس القادم بحسب استطلاعات الرأي الأخيرة. وقد بدأت قوة المحور الأميركي في التصاعد في الفترة الأخيرة بفضل الدور الذي يقوم به الجيش التونسي من أجل رعاية المسار الديمقراطي، وخاصة دوره في دعم المجهود العسكري ضد نظام القذافي في ليبيا، وهو دعم كان خفيا إلى حد كبير لكن بعض تفاصيله بدأت في الظهور الآن، ويبدو أنه كان حاسما في معارك الجبل الغربي بالخصوص التي مهدت لهزيمة القذافي في طرابلس. وبذلك، فإنه بعد تحرير شمال ليبيا من أنصار العقيد تنفَّس الجيش التونسي الصعداء وأصبح بإمكانه التركيز على الشأن الداخلي، وخاصة حفظ الأمن وحماية عملية الاقتراع المرتقبة في الثاني والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الجاري وامتصاص أية احتجاجات قد تنشأ بعد الإعلان على نتائجها. ومن المؤشرات على ضمان الجيش للعملية الانتقالية مدعوما بالموقفين الأميركي والقطري خصوصا، ذلك الكم الكبير من المعدات اللوجستية التي تحصّل عليها أخيرا من دولة قطر، وهي معدات ستسمح له بالتواجد في كل الأماكن التي يحتاج إليها بمناسبة الانتخابات. في الوقت نفسه يتراجع دور الجهاز الأمني الذي يبدو أنه أصبح أكثر من أي وقت مضى رديفا للمؤسسة العسكرية، بما يعني تراجع النفوذ الفرنسي الذي كان مركزا بالأساس على مؤسسة الداخلية.
ضمانات أقوى من المخاوف
يبدو بالنظر إلى الظرفية الراهنة، بعناصرها الداخلية والخارجية، أن تونس مقبلة على انتقال سلس للسلطة عبر انتخابات يتضح أن ضمانات كبيرة قد وضعت لتتم بالشفافية المطلوبة. وبما أنه لم يعد هناك للأحزاب المتنافسة من أمل في أن تحصل تغييرات دراماتيكية على توجهات الناخبين خاصة مع المنافسة القوية التي يُبديها المرشحون المستقلون (حوالي نصف القائمات المترشحة مستقلة)، فإن معظمها أصبح موافقا على المشاركة في اللعبة دون أن يكون له بمفرده القرار الأخير في توجيهها الوجهة التي يريد. كل ذلك تحت حماية المؤسسة الأقوى في البلاد، وعبر جملة من الاتفاقات السياسية التي تجعل من الطرف الإسلامي المتمثل في حركة النهضة شريكا أساسيا ومقبولا في إدارة البلاد من جانب القوى المؤثرة في الوضع التونسي. يحمي كل ذلك حرصٌ من حركة النهضة على عدم منح خصومها أية فرصة للتخويف منها، وعدم استعجالها للمسيرة نحو الحكم.
على أن أكبر تحدٍ يواجه الساحة السياسية التونسية يبقى دون شك ضمان مشاركة الناخبين الواسعة في الاقتراع، وهناك دلائل على أن هذه النسبة قد لا تتجاوز الستين في المائة في أفضل الحالات. مع ذلك، فإن هناك مؤشرات على قبول كل الأطراف السياسية المشاركة في المسار الحالي بأن يسفر انتخاب المجلس المرتقب عن تأسيس شرعية جديدة، وأن يتم تأسيس النظام الجديد بدرجة كبيرة من الهدوء والسلاسة، مع دور لمختلف الفرقاء في صياغة توجهات الدستور الجديد في مجلس سيكون عبارة عن فسيفساء من مختلف التيارات الناشطة على الساحة. سيضمن ذلك فرص استقرار كبيرة للنظام المقبل، رغم أنه سيطرح على هذا المجلس تحديات كبيرة، مثل تحدي تشكيل الحكومة الأولى، لكن من المفترض أن إعلان المسار الانتقالي وضع تصورات لحل هذه المشاكل قبل وقوعها.