"محاكمة الجنرال مشرف": استحضار باكستاني خطر لتجربة أردوغان

تشهد باكستان خطوات قضائية تمهد لمحاكمة الرئيس الباكستاني الأسبق الجنرال برفيز مشرف بتهمة الخيانة العظمى وفقًا للمادة السادسة من الدستور، لكن محاكمة مشرف لن تكون بالأمر الهيّن، فهي محاكمة للمؤسسة العسكرية كلها. تعالج هذه الورقة جدية المحاكمة و الخيارات المطروحة بشأنها اضافة إلى تبعاتها.
20137155435220734_20.jpg
الرئيس الباكستاني الأسبق وقائد الجيش السابق الجنرال برفيز مشرف (أسوشيتد برس)

أخيرًا أخرج رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف القطة من الكيس كما يُقال، حين أعلن عن عزمه محاكمة الرئيس الباكستاني الأسبق وقائد الجيش السابق الجنرال برفيز مشرف بتهمة الخيانة العظمى وفقًا للمادة السادسة من الدستور الباكستاني. وبات يتعين على مشرف أن يدفع القرض التاريخي الذي أقرضه لغريمه نواز شريف حين انقلب عليه وسجنه ثم نفاه. يدور الزمن الباكستاني دورته ويتحول السجان إلى سجين وبالعكس.

يطل نواز شريف من خلال قبة البرلمان يوم 24 يونيو/حزيران 2013 ويعلن عن محاكمة مشرف بتهمة الخيانة العظمى بتعطيل الدستور وفرض حالة الطوارئ في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2007، ووضع قضاة المحكمة العليا رهن الإقامة الجبرية وإزاحة رئيس المحكمة من منصبه، وهي التهمة التي إذا ما ثبتت فإن حدّها الإعدام، ويترافق ذلك مع إبلاغ محققين باكستانيين حكوميين محكمة مكافحة الإرهاب التي تُحاكم مشرف بأنهم عثروا على أدلة تدينه بحياكة مؤامرة للتخلص من رئيسة وزراء باكستان السابقة بي نظير بوتو والتي قُتلت في تفجير براولبندي 27 ديسمبر/كانون الأول 2007.

ويبدو أن خصوم مشرف باتوا كثرًا هذه الأيام؛ فحزب الشعب لديه معه ثأر بتهمة قتل زعيمته بي نظير بوتو، ونواز شريف سيلاحقه بسبب بالانقلاب عليه عام 1999، وطالبان باكستان لم ينسوا العمليات العسكرية التي لاحقتهم في زمنه ولا تزال، ولن تغفر القاعدة له تعاونه مع الأميركيين في ملاحقة واعتقال قادتها، فيما تعود إلى السطح قصة اقتحام المسجد الأحمر وقتل مئات من الذين كانوا متحصنين في داخله بالإضافة إلى مساسه بالمؤسسة القضائية وإقالة زعيمها افتخار تشودري.

في المقابل فإن محاكمة مشرف ليست بالأمر البسيط، فهي محاكمة عصر حقيقية ومحاكمة للمؤسسة العسكرية كلها، وربما ستفتح ما يسمى بصندوق المفاجآت التاريخي عن شرعية الانقلابات العسكرية منذ انقلاب أيوب خان عام 1958، ودور المؤسسة القضائية التاريخي في شرعنتها ودعمها؛ ولذا فقد حرص شريف في خطابه داخل البرلمان الباكستاني أخيرًا على إظهار أن المحاكمة ستكون بتهمة فرض حالة الطوارئ وتعطيل الدستور عام 2007 متجاهلاً انقلاب 1999 كونه سيُظهره في وضع من يريد أن ينتقم ويثأر لنفسه من مشرف.

وفي ظل تعقيدات المشهد الباكستاني وانهماك الحكومة في مشاكل داخلية مزمنة على رأسها أزمة الطاقة حيث تُقطع الكهرباء في البلد لساعات طويلة شلّت الاقتصاد بشكل شبه كامل يرى البعض أن المحاكمة الآن هروب إلى الأمام، ومحاولة بائسة لاستنساخ النموذج الأردوغاني في ملاحقة العسكر. في حين أن أردوغان أقدم على هذه الخطوة بعد سبع سنوات من وصوله إلى السلطة عام 2002 وبعد نجاح اقتصادي وتعديلات دستورية مهدت الكثير له قبل الإقدام على خطوة جريئة كهذه.

مشرف.. سنوات الغليان

توصف فترة حكم مشرف بأنها كانت سنوات الغليان الباكستاني؛ حيث كانت البلاد في عين العاصفة تمامًا، فنواز شريف الذي كان رئيسًا للوزراء حين كان مشرف قائدًا للجيش يتهم الأخير بأنه خذله وطعنه بالظهر حين شنّ هجومه على كارغيل عام 1999 بينما كان يقود حالة التقارب مع خصمه الهندي وهو ما اعتبره رئيس الوزراء الهندي آنئذٍ آتال بيهاري فاجبايي طعنة في الظهر أيضًا. وكادت كارغيل تشعل حربًا بين البلدين لولا توجه شريف إلى واشنطن وطلبه تدخل الرئيس الأميركي حينها بيل كلينتون، وبينما كان مشرف بالطائرة قادمًا من رحلة رسمية له إلى سري لانكا أقدم شريف على إقالته وتعيين الجنرال ضياء الدين بت محله، لكن مشرف وبالتنسيق مع قادة الفيالق أطاحوا بشريف وألقوه في قلعة أتك التاريخية قرب بيشاور ليُرسَل لاحقًا بوساطة سعودية إلى المملكة ليقضي ثماني سنوات منفيًا.

ويواجه مشرف الآن قضايا كثيرة في المحاكم الباكستانية بتهمة الخيانة العظمى وتعطيل الدستور وفرض حالة الطورائ عام 2007، وكذلك هجومه على المسجد الأحمر وسط إسلام آباد ومقتل مئات المتحصنين في داخله من جماعة الشيخ عبد العزيز غازي، وقتله لزعيم بلوشي معروف هو نواب أكبر بوجتي، إضافة للاتهامات التي تلاحقه الآن عن تورطه بمقتل بي نظير بوتو وهو ما وجهه رسميًا محققو مكتب التحقيقات الفيدرالية الباكستانية أخيرًا(1).

وبخصوص قضية بوتو ترد شهادة وكيل وزارة الداخلية الباكستانية السابق لتُضعف موقفه؛ حيث قال: "لقد كتبت رسالة إلى مشرف حين كان رئيسًا أطلب فيها توفير الحماية الأمنية لثلاثة وزراء سابقين، وهم: تشودري شجاعت حسين، وشوكت عزيز، وبي نظير بوتو؛ فتمت الاستجابة للأول والثاني ولم يُردّ على طلب الحماية لبوتو(2)".

والظاهر أن بوتو كانت تستشعر نوايا مشرف بالتخلص منها حيث كشف الكاتبان: الأميركي مارك سيغل والبريطاني فيكتور روشفيلد حين التقيا بوتو قبل عودتها إلى باكستان أنها أبلغتهما أنه في حال تم قتلي فإن المسؤول هو برفيز مشرف(3).

ويزيد سيغل: "حين علمت بوتو أن مشرف رفض توفير الحماية لها كرئيسة وزراء سابقة بدا عليها القلق، وقالت لي: إذا ما قُتلت فإن المسؤول مشرف"(4).

جديّة المحاكمة

إن السؤال المهم اليوم: ما إذا كانت المحاكمة مطلب شريف أم أمرًا مفروضًا عليه سيما وأن المحكمة الباكستانية منحت المدعي العام الباكستاني منير ملك ثلاثة أيام فقط من أجل تقديم لائحة الاتهام الحكومي  لمشرف وهو ما رد عليه المدعي بأن الأمر بحاجة إلى شهر كامل.

تبع هذا إعلان شريف عن محاكمة مشرف من خلال البرلمان، فرئيس الوزراء الباكستاني يدرك تمامًا أنه يسير على حبل مشدود طرفه الأول: المحكمة التي تضغط عليه لتسريع عملية محاكمة مشرف، سيما وأن رئيسها سيتقاعد نهاية العام الحالي، بينما يخشى شريف من الافتقار إلى الإجماع الحزبي على الرغم من دعم وتأييد معظم الأحزاب للمحاكمة الآن لكن هذا الدعم قد يتبخر إذا ما تعرضت هذه الأحزاب للضغوط أو رأت أن مصالحها تتصادم مع العسكر.

أما الطرف الثاني من الخيط فهو المؤسسة العسكرية صاحبة "الدولة العميقة" في باكستان والتي تتمتع برأي مجمع عليه تمامًا تجاه كل القضايا الداخلية والخارجية، في حين تفتقر المؤسسات الباكستانية الأخرى من حزبية وقضائية وغيرها- تفتقر إلى هذا الإجماع.

لا يزال بعض السياسيين مرتبطًا بالمؤسسة العسكرية ارتباطًا عضويًا، وربما يخشى بعضهم أن تتدحرج رؤوسهم في حال فُتح ملف الانقلابات العسكرية الباكستانية الشائك منذ أيوب خان 1958 ومرورًا بيحيى خان 1971، ثم ضياء الحق 1977 ومشرف 1999؛ ومما لا شك فيه أن نخبًا قضائية وسياسية وحزبية وبيروقراطية وغيرها كلها كانت جزءًا من هذه الانقلابات، ورغم أن الأحزاب السياسية بما فيها حزب الشعب أيدت شريف بمحاكمة مشرف إلا أن الأخير يخشى أن تتراجع هذه الأحزاب عن مواقفها عندما تأخذ إجراءات المحاكمة بعدها العملي، برز ذلك بتعليق رئيس جمعية علماء الإسلام -مولانا فضل الرحمن- على خطوة شريف الداعية للمحاكمة بوصفه أنه "فاقد للرؤية"(5)، وإن كان يُعتقد أن تصريحات فضل الرحمن أتت بعد استبعاد شريف له من المشاركة في حكومته.

وتلتزم المؤسسة العسكرية الصمت إزاء قضايا سياسية حساسة كهذه، وعادة ما يُعبّر عنها حلفاؤها السياسيون أو جنرالات متقاعدون؛ فقد وصف قائد الجيش الباكستاني الجنرال المتقاعد أسلم بيغ خطوة شريف بأنها "حاقدة وثأرية؛ تريد النيل من مشرف لأنه انقلب عليه"(6)، كما حذر بيغ في موطن آخر من أن المحاكمة ستقود إلى نزاع وصدام بين المؤسسات(7).

وتوقع شيخ رشيد أحمد وزير الإعلام السابق أيام حكومة مشرف أن يُطاح بشريف خلال أشهر قائلاً: "في البداية أعطيت عامين لبقاء شريف في الحكم، ولكن الآن بعد إعلانه عن محاكمة مشرف أعطيه ستة أشهر فقط"(8).

أما المعنيّ بالأمر وهو مشرف فقد علّق مكتبه بالقول: إن المحاكمة تهدد باستقرار باكستان(9)، وحذّر أحمد رضا قصوري محامي مشرف في لقاءاته مع عدد من الفضائيات المحلية من أن ثمة 500 شخصية من الجنرالات والسياسيين والقضاة مشتركون في قرارات مشرف وليس وحده الذي اتخذ هذه القرارات، وبالتالي فإن صندوق مفاجآت سيُفتح إن تمت محاكمته(10).

وأشار إعجاز الحق وزير الأوقاف في حكومة مشرف ونجل الرئيس الراحل ضياء الحق إلى أن مثل هذه المحاكمات لن تقفل الباب أمام تدخلات عسكرية مقبلة تمامًا كما أن المادة السادسة من الدستور التي يُحاكم بموجبها مشرف الآن لم تقفله من قبل(11).

وذكرت تسريبات صحافية أن المؤسسة العسكرية لم تكن راغبة بعودة مشرف وأنه رفض خروجًا آمنًا حين التقى قائد الجيش الحالي إشفاق كياني مع نواز شريف، في حين أصر مشرف على المحاكمة(12).

خيارات مطروحة

ويمكن الحديث عن ثلاثة خيارات باكستانية مطروحة للتعاطي مع محاكمة الرئيس الباكستاني السابق، هي:

  1. خيار المحاكمة مهما كان الثمن: إذ إن ذلك سيردع بنظرهم الجيش المتحكم بالسياسة الخارجية والقرارات الداخلية عن تعطيل الحياة الديمقراطية وستنعم باكستان بحياة ديمقراطية حقيقية بعيدًا عن العسكر وتدخلاتهم. ولهذا الخيار محاذيره وتداعياته السلبية أيضًا.

    والظاهر أن المحكمة هي التي تدفع بهذا الاتجاه، بينما تحاول الحكومة التبواطؤ في تقديم لائحة الاتهام، أولاً: كي لا تظهر وكأنها تريد أن تتحرك بدافع ثأري وحقدي ردًا على انقلاب مشرف عليها عام 1999، وثانيًا: لأنها ترغب بالتركيز على معالجة الأزمات الداخلية المزمنة وعلى رأسها أزمة الطاقة التي شلّت الحياة الباكستانية بكافة أبعادها، وثالثًا: لا تود الدخول بصدام مع المؤسسة العسكرية على الأقل في بداية حكمها، لإدراكها أن المؤسسة العسكرية ورغم عدم موافقتها، على ما يبدو، على عودة مشرف في هذا الوقت بالذات إلا أنها لن تقوى على الصمت إزاء إذلال زعيمها السابق، وهي تراه خلف القضبان، وهو ما سينعكس سلبًا على معنويات الجيش وأفراده التي تضررت أصلاً بسبب معاركه مع المسلحين في مناطق القبائل، ويؤكد نائب قائد سلاح الجو السابق المارشال شاه زاده تشودري بالقول: "الجيش سينظر إلى المحاكمة من زاوية التأثير على معنويات أفراده، ولن يقبلوا بالإهانة"(13).

    وإذا ما أصرت الحكومة على اللجوء إلى هذا الخيار فحينها سيبرز مدى حنكة وحكمة السياسيين؛ فإن نجحوا في إجراء محاكمة جراحية لمشرف بعيدًا عن توريط العسكر أو تلويث سمعتهم وإذلالهم، وهذا سيتجلى بطريقة تعاطي الإعلام الباكستاني مع القضية وهو ما سيؤثر بالرأي العام وصورة العسكر لدى الشارع، حينها ربما يبتلع العسكر الإهانة المقبولة، أما إن تحولت إلى محاكمة للمؤسسة حاضرًا وتاريخًا وتحولت إلى محاكمة إعلامية فحينها سيكون موقف العسكر مختلفًا، وهو ما اختزله جنرال مقرب من مشرف بقوله: "إن تم قيادة مشرف إلى المسلخ لوحده دون إذلال العسكر وبلا محاكمات سياسية وإعلامية للمؤسسة، فحينها سيلتزم الجيش الصمت"(14).

    غير أن المحللة عائشة صديقة لا تستبعد وجود صفقة بُحثت بين نواز شريف وقائد الجيش الحالي كياني خلال لقائهما بلاهور بعد فوز شريف بالانتخابات، وتتضمن تفاصيل الصفقة، كما تقول، أن يسمح كياني لشريف بمحاكمة مشرف مقابل التمديد لفترته كقائد للجيش والتي تنتهي في ديسمبر/كانون الأول المقبل(15).

    ويثار الكثير من التساؤلات حول ما إذا كان العسكر سيقبلون تجرع السم بمحاكمة مشرف ويصمتون أم أنهم سيردون على تحدي الحكومة لهم ولزعيمهم السابق. وربما يجد نواز شريف المسكون بالنموذج الأردوغاني في التعاطي مع الاقتصاد والعسكر نفسه مجبرًا على إعادة حساباته اليوم بعد عودة الانقلابات العسكرية من خلال الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي، وهو ما يعني أن العالم لا يزال يتقبل حكم العسكر ومستعد للتعاون معهم ومع انقلاباتهم.

    وتبرز إشكالية أخرى تعاني منها الحكومة وستعاني منها المحكمة نفسها، وهي أن الانقلابات على الشرعية لا تتجزأ؛ فحين تدعو الحكومة والمحكمة إلى محاكمة مشرف على فرضه حالة الطوارئ وتعطيل الدستور عام 2007 وتصمت على انقلاب 1999 الذي كان سببا لما جرى في 2007 وهو الذي تم شرعنته من قبل نفس رئيس المحكمة العليا فهذه ازدواجية كما يعتقد البعض(16).

    ويرى البعض أن هذا الخيار سيضع حدًا لتدخلات العسكر وسيضع البلاد على سكة المسار الديمقراطي الحقيقي بمنع تدخل العسكر في السياسة، وسيرسل رسالة قوية لكل الجنرالات الحاليين والمستقبليين بالحذر من الإقدام على ما أقدم عليه مشرف، سيما وأنه خيار مدعوم الآن من معظم الكتل السياسية والحزبية إذ دعت حكومة حزب الشعب المغادرة للسلطة وحلفاؤها في 19 إبريل/نيسان إلى محاكمة مشرف بتهمة الخيانة العظمى، لكن السياسة الباكستانية كالرمال المتحركة ومن غير المستبعد أن يُصار إلى تغيير في هذه المواقف.

  2. خيار الحقيقة والمصالحة: هو خيار جنوب إفريقيا بتشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة والعفو عن الماضي والانطلاق نحو المستقبل. وطرح هذا الخيار مشاهد حسين أحد قادة حزب الرابطة الإسلامية جناح قائدي أعظم الموالي لمشرف، لكنه لم يلق ردًا من الحكومة ولا حتى من المعارضة السياسية التي لا تزال علنيًا متمسكة بخيار المحاكمة(17)، ويُعتقد أن عدم اللجوء إلى هذا الخيار سيدفع البلاد إلى حالة من التوتر قد تكون عاقبته في صالح المؤسسة العسكرية إن اصطفت خلف مشرف كونها الأكثر تنظيمًا بالإضافة إلى أن السوابق التاريخية عادة ما تكون في صالحها، فقد تراجعت حكومة زرداري أمام ضغط العسكر في قضيتين حساستين، أولاهما: قانون "كيري-لوغر" والمتضمن تقليص مساعدات العسكر لصالح الساسة، والثانية: قضية ما وُصف بـ "ميمو غيت" وهي رسالة من زرداري عن طريق سفيره بواشنطن حسين حقاني يطالب فيها الأميركيين بالتدخل لمنع انقلاب عسكري باكستاني ضده.

    ويعول أصحاب هذه الفكرة على أنه لا الوضع الداخلي ولا الخارجي يسمحان بمثل هذه المحاكمات الفاصلة والحاسمة فالبلد أسير لمشاكل مزمنة وعلى رأسها الطاقة. وخارجيًا لديه مشاكله مع الولايات المتحدة وأبرزها الغارات التي تشنها الطائرات بلا طيار وتسبب حرجًا للحكومة التي تعهدت بوقفها وفقًا لبرنامجها الانتخابي، يضاف إلى ذلك كله استحقاق الانسحاب الأميركي من أفغانستان والمنافسة الهندية-الباكستانية على ملء الفراغ على غرار ما حصل أيام رحيل السوفيت عام 1989.

    كان قائد الجيش السابق الجنرال المتقاعد أسلم بيغ واضحًا في دعم فكرة الحقيقة والمصالحة، ولا يستبعد أن يكون يعكس بذلك نبض المؤسسة العسكرية نفسها؛ إذ يرى أن: ".. أفضل خيار هو تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة للبحث في أخطاء الماضي دون حفر للقبور القديمة، والعمل على تصحيح العلاقة بين العسكريين والمدنيين فنحن لدينا تاريخ مشوه ولابد من تصحيح"(18).

    وسيكون لنصائح أو تدخلات دول مهمة ومؤثرة في باكستان دور في تحديد طبيعة وكيفية التعاطي الحكومي مع محاكمة مشرف وعلى رأس هذه الدول الولايات المتحدة، والصين، والسعودية، فالأخيرة لها تأثير كبير في السياسة الباكستانية أو في صنع قرار نواز شريف وهو ما قد يظهر في ما بعد زيارة الأخير إلى الصين.

  3. خيار التسويف والمماطلة في المحاكمة: هو خيار إطالة أمد المحاكمة، لعل الوقت يجد مخرجًا يحفظ ماء وجه الحكومة ومشرف ومن ورائه العسكر. ويعتقد البعض أن شريف قد يستخدم المحاكمة كمشجب يعلق عليها عجزه في التصدي للمشاكل المزمنة التي تواجهها البلاد، طبعًا في حال لم يتمكن من حلها، وهو ما عكسه تباطؤ الحكومة في تقديم لائحة الاتهام للمحكمة وطلبها لشهر كامل حتى تعد اللائحة، بينما كانت المحكمة أكثر استعجالاً، وطلبتها خلال ثلاثة أيام، يُضاف إلى ذلك خشية شريف من أن يدوس على ألغام قد تنفجر به سريعًا، وأكبر لغم يواجه أي سياسي في باكستان هو لغم العسكر.

    ما يعزز هذا الخيار هو تسريبات إعلامية تتحدث عن أن الحكومة الحالية فوجئت بحجم المشاكل التي خلّفتها لها الحكومات السابقة والتي عليها معالجتها، وبالتالي فالهروب منها قد يستدعي وجود قضية كبيرة مثل محاكمة مشرف لإلهاء الرأي العام عن مشاكله اليومية الضاغطة. وهذا التفسير تذهب إليه بقوة المحللة صديقة المتخصصة بشؤون الجيش الباكستاني حين تقول: "قضية مشرف ستكون شعارًا جيدًا لحكومة شريف كلما أرادت تغطية أدائها السيء"(19).

    ويتفق معها نائب قائد سلاح الجو السابق المارشال شاه زاده تشودري: "أخشى أن تركيز الحكومة سيتحول من المشاكل الحقيقية التي تواجهها باكستان إلى قضايا غير مهمة ولا تخدم البلاد؛ ولذا فعلى الحكومة أن تعالج المشاكل الضاغطة على المواطن والوطن"(20).

 العلاقة بين المدني والعسكري

طالما كانت العلاقة بين المدني والعسكري في باكستان محكومة بالشك والحذر والتعاون المفروض من قبل  الطرفين؛ فحين كان رئيس الوزراء الباكستاني السابق ذو الفقار علي بوتو يفاوض نظيره الهندي لال بهادور شاستري في طشقند بشأن انفصال بنغلاديش توفي الأخير بنوبة قلبية، فهُرع مساعد بوتو ليخبر رئيس وزرائه بقوله: القذر تُوفي؛ فرد بوتو: أي واحد تقصد: شاستري أو أيوب خان؟ الذي كان رئيسه حينها وقاد أول انقلاب عسكري في باكستان عام 1958(21).

تواصلت هذه العلاقة المشوبة بالحذر ولم تكن حكرًا على العلاقة مع حزب الشعب بزعامة بوتو الذي كان ضحية الانقلابات العسكرية وإنما حتى على مستوى نواز شريف الذي كان أول من اختاره الجنرال ضياء الحق كوزير للمالية في حكومة البنجاب الإقليمية، ثم رئيسًا لوزراء الإقليم تمامًا كما اختار أيوب خان بوتو وزيرًا في حكومته.

توصف باكستان -التي حُكمت لأكثر من نصف تاريخها من قبل العسكر بشكل مباشر والنصف الآخر بشكل غير مباشر- بالقلعة العسكرية نظرًا إلى عوامل تاريخية معقدة حيث كان البريطانيون يعتمدون في جيشهم على الباكستانيين وتحديدًا البنجابيين؛ ففي الفترة الواقعة بين أغسطس/آب 1914 ونوفمبر/تشرين الثاني 1981 كان عدد الجيش الهندي التابع للبريطانيين 683.149 و60% منه من البنجابيين"(22).

لا تزال هذه العلاقة غير المريحة بين المدني والعسكري قائمة ورغم إكمال حكومة زرداري لفترتها لأول مرة في تاريخ باكستان دون انقلاب عليها إلا أنها اصطدمت أكثر من مرة مع العسكر وتحديدًا في ملفي مخصصاتها، وتحريضها الأميركيين على العسكر من خلال الترويج لكونها ضحية انقلاب متوقع كما أسلفنا؛ فالعسكر في باكستان لا يزالون هم المؤسسة الأعرق والأكثر تنظيمًا؛ ولذا فإنها تمسك بملفات السياسة الخارجية والأمن الداخلي وهو ما يظهر من خلال حرص الأميركيين دائمًا على بحث الملفات الشائكة مع الجيش الباكستاني.

أخيرًا، وبينما كان نواز شريف يعلن بعد فوزه بالانتخابات عن عزمه إطلاق علاقات جيدة مع الهند؛ كان العسكر يطردون صحافيًا هنديًا، وهو ما أعاد إلى الأذهان علاقة المدني بالعسكري فإذا كانا غير متفقين على قضية تخص صحافيًا هنديًا فكيف سيتفقان على قضايا أكبر.

وتأسيسًا على هذا فإن محاكمة مشرف وجرّ العسكر إليها قد تؤزم العلاقة بين المدني والعسكري وتخلط كثيرًا من الأوراق، وتُظهر كثيرًا من السلبيات المزمنة في علاقة الطرفين. ومن الواضح أن القيادة الأميركية تفضّل التعاطي مع حكومات العسكر كونها الطريق الأسهل والأقصر لقبول مطالبها كونها متحللة من كل قيود الانتخابات والمسؤولية الشعبية التي عادة ما تكبّل الحكومات المنتخبة.
_________________________________________
د. أحمد موفق زيدان - مدير مكتب الجزيرة في باكستان

المصادر والهوامش 
1- صحيفة ذي نيوز الصادرة في إسلام آباد بتاريخ 27 يونيو/حزيران 2013 .
2- صحيفة ذي نيشن الباكستانية الصادرة في لاهور بتاريخ 27 يونيو/حزيران 2013 .
3- صحيفة ذي نيشن الباكستانية الصادرة في لاهور بتاريخ 27 يونيو/حزيران 2013.
4- الديلي تايمز الصادرة في لاهور بتاريخ 27 يونيو/حزيران 2013.
5- ذي نيوز الصادرة في إسلام آباد بتاريخ 27 يونيو/حزيران 2013.
6- الديلي ميل الصادرة في إسلام آباد بتاريخ 3 يوليو/تموز 2013. 
7- صحيفة ذي نيشن الصادرة في لاهور 24 يونيو/حزيران 2013.
8- ذي نيوز الباكستانية الصادرة في إسلام آباد بتاريخ 27 يونيو/حزيران 2013.
9- ذي نيشن الصادرة في لاهور بتاريخ 25 يونيو/حزيران 2013 .
10- صحيفة ذي نيوز الصادرة في إسلام آباد بتاريخ 25 يونيو/حزيران 2013 .
11- الديلي تايمز الصادرة بلاهور بتاريخ 1 يوليو/تموز 2013.
12- صحيفة ذي نيوز الباكستانية الصادرة في إسلام آباد 25 يونيو/حزيران 2013.
13- مقابلة مع المؤلف في إسلام آباد بتاريخ 1 يوليو/تموز 2013 .
14- صحيفة ذي نيوز الباكستانية الصادرة بتاريخ 25 يونيو/حزيران 2013 .
15- لقاء مع الكاتبة المقيمة في واشنطن عبر سكايب بتاريخ 1 يوليو/تموز 2013.
16- الديلي تايمز الصادرة بلاهور بتاريخ 27 يونيو/حزيران 2013.
17- Omar warrich ‘the PM’s revenge ;Sharief charges former Gen Musaharaf with treason, the TIME 27 
18- الديلي ميل الباكستانية الصادرة بتاريخ 3 يوليو/تموز 2013.
19- لقاء مع الكاتبة المقيمة في واشنطن عبر سكايب يوم 2 يوليو/تموز 2013 .
20- لقاء مع المؤلف في إسلام آباد بتاريخ 1 يوليو/تموز 2013.
21- Ishitiaq Ahmed ‘ Pkaistan the Garisson state” pp155-156, Oxford 2012
22- Ishtiaq Ahmed “Pakistan the garrison state “pp52, oxford2012

ABOUT THE AUTHOR