عودة الإصلاحيين ومستقبل برنامج إيران النووي

تناقش هذه الورقة عودة التيار الإصلاحي إلى الحكم في إيران، كمتغير له دلالاته فيما يتعلق بمفاوضات برنامجها النووي، وتبحث أيضا المدى الذي وصل إليه هذا البرنامج، وطبيعة الخيارات التي يمكن اعتمادها لمقاربة القضايا العالقة. وتوصي الورقة بعقد مؤتمر دولي حول القضية.
20137181202126734_20.jpg
المصدر (الجزيرة)

يمكن القول: إن ثمة متغيرًا يشق طريقه الآن إلى السياسة الإيرانية، مجسدًا بعودة التيار الإصلاحي إلى دفة السلطة في طهران. وعلى الرغم من كونه غير حاسم، فإن هذا المتغير له دلالته ومغزاه، وهناك تجربة تاريخية توحي بذلك. ومن بين مسائل عدة، يبدو الملف النووي الإيراني في طليعة القضايا التي تمثل اختبارًا للقوى الإصلاحية العائدة للسلطة في طهران.

لا تختلف هذه القوى عن منافسيها المحافظين، من حيث القول بحق امتلاك الطاقة النووية السلمية، لكنها تتباين معهم في الخطاب العام، وطريقة إدارة الخلاف، والإيمان بمبدأ الحلول الوسط، التي لا ترى فيها إضاعة للحقوق الوطنية. هذا المناخ السياسي والنفسي الجديد، يمكن للمجتمع الدولي ملاقاته في منتصف الطريق، والبناء على معطياته، والإفادة منها قدر المستطاع. والواضح أن هذا الأمر هو محل إدراك القوى الرئيسية في العالم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، التي باركت التطور الجديد، وأكدت أهمية التفاعل البنّاء معه.

هذه الورقة، تناقش ماهية وحدود المتغير الإيراني، والمفاوضات الدائرة بين طهران والمجتمع الدولي بخصوص برنامجها النووي، والمدى الذي وصل إليه هذا البرنامج في الوقت الراهن، وطبيعة الخيارات التي يمكن اعتمادها لمقاربة القضايا العالقة.

وتقدم هذه الورقة توصية، تتضمن الدعوة لمؤتمر دولي حول البرنامج النووي الإيراني. 

أولاً: عودة الإصلاحيين

على نحو مبدئي، أشاع فوز المرشح الإصلاحي، الشيخ حسن روحاني، في انتخابات الرئاسة الإيرانية، التي أُجريت في 14 يونيو/حزيران 2013، جوًا من التفاؤل حول إمكانية تحسن علاقات إيران مع الغرب، وانعكاس ذلك على فرص التوصل إلى تسوية سياسية لملفها النووي.

وعلى الرغم من تعدد المستويات في هيكل الدولة الإيرانية وصناعة القرار فيها؛ الأمر الذي يحد من سلطة أي رئيس للبلاد، فإن توجهات الرئيس لابد وأن تسفر عن تحول ما في مسارات السياسة الإيرانية، فهو من يعين الوزراء وكبار موظفي الدولة، بمن في ذلك الكوادر الأساسية لوزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي.

وبالنسبة لروحاني، فهو لا يزال، إضافة لذلك، عضوًا في مجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس الخبراء. كما أن وصول روحاني إلى السلطة بتفويض شعبي واسع، وتقدمه الكبير على أقرب منافسيه من التيار المحافظ، يمنحه هامشًا مريحًا للحركة، واعتماد خيارات جديدة، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. وقد يكون هذا تحديدًا هو رهان التيار الإصلاحي في عودته الجديدة للسلطة.

وفي أول أحاديثه الصحفية، بعد انتخابه رئيسًا، شدّد روحاني على أن إيران مستعدة لإبداء شفافية أكبر فيما يتعلق ببرنامجها النووي، على الرغم من كونها لا تتجه لوقف تخصيب اليورانيوم(1). وأشار إلى أن حكومته سوف تبدي انفتاحًا على مختلف الدول الإقليمية والدولية(2).

واعتبر الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في السابع عشر من يونيو/حزيران 2013، أن انتخاب الإيرانيين رئيسًا معتدلاً هو مؤشر على أنهم يريدون التحرك في اتجاه مختلف. وأكد أن الولايات المتحدة وحلفاءها على استعداد لإجراء محادثات مع طهران. و"ما دام هناك فهم لأساس الحوار، لا أرى مبررًا لعدم المضي قدمًا، وهناك تعطش في إيران للتعامل مع المجتمع الدولي بطريقة أكثر إيجابية"(3).

ثانيًا: مستقبل المباحثات

كان روحاني قد ترأّس محادثات مع الثلاثي الأوروبي (بريطانيا وفرنسا وألمانيا)، أسفرت عن موافقة إيران عام 2003 على تعليق أنشطة تتصل بتخصيب اليورانيوم، لحين إجراء مزيد من المفاوضات بشأن امتيازات تجارية ودبلوماسية مقابلة، بيد أن غياب الضمانات الكافية حينها أعاق تنفيذ الاتفاق، الذي مثّل اختراقًا مهمًا في مسار الأزمة.

وكانت مقاربة المجتمع الدولي التفاوضية للملف النووي الإيراني قد بدأت بالمباحثات التي خاضها الثلاثي الأوروبي مع طهران، وتواصلت على مدى سنوات، قبل أن تقرر الوكالة الدولية للطاقة الذرية إحالة الملف إلى مجلس الأمن الدولي. وفي هذه الأثناء، كان الثلاثي الأوروبي قد تحول إلى سداسي دولي، ضم الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى ألمانيا. وقد عقد هذا السداسي آخر جولة تفاوضية له في منتصف مايو/أيار 2013.

وبصفتها دولة موقعة على معاهدة حظر الانتشار النووي، ترى إيران أنها تمتلك الحق في إجراء عمليات التخصيب وفقًا للمادة الرابعة من معاهدة حظر الانتشار، وتطالب بحق التخصيب لغايات مدنية، حتى 5% لإنتاج الكهرباء، و20% للأبحاث العلمية.

وهذا العام، قدّم السداسي الدولي عرضًا لطهران ينص على "تعليق" بدلاً من "وقف" أنشطة تخصيب اليورانيوم بنسبة 20%، مقابل تخفيف بعض العقوبات المفروضة على تجارة الذهب، وقطاع البتروكيميائيات(4). وكان السداسي الدولي قد طالب أيضًا بإغلاق موقع "فردو" لتخصيب اليورانيوم قرب قم، وإرسال مخزون البلاد من اليورانيوم المخصب بنسبة 20% إلى الخارج.

وبطبيعة الحال، لم يُقدّر للعرض أن يرى النور؛ إذ لم تر فيه إيران ما يمس جوهر العقوبات المفروضة عليها. في المقابل، تقدم الإيرانيون بمشروع حل يتكون من تسع خطوات متسلسلة، تبدأ بتفكيك تدريجي للعقوبات، مقابل وقف العمل في واحد من موقعي تخصيب اليورانيوم إلى درجة 20%(5). ووفقًا لهذه الخطة، فإن وقف التخصيب بموقع فردو، الموجود في عمق بعيد داخل الأرض، لن يتم إلا بعد أن يصل جميع الأطراف إلى الخطوة التاسعة.

وتتضمن الخطة تحريك الوقود النووي، مع الاحتفاظ به داخل البلاد، كما تضمن لإيران استئناف برنامج التخصيب كاملاً في أي وقت متى فشلت المفاوضات(6).

هذه المقاربة لم يقدر لها هي الأخرى أن ترى النور، وذلك لكون الضمانات المقدمة فيها غير متوازنة، كما أنها تبدأ بانطلاقة طموحة، لا يحملها الواقع السياسي القائم. وفي مرحلة مبكرة نسبيًا من مسار المفاوضات الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني، وتحديدًا في العام 2006، عرض الأوروبيون على إيران سلسلة حوافز لحثها على وقف تخصيب اليورانيوم.

وفي 14 يونيو/حزيران 2008، قدم الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي حينها، خافيير سولانا، صيغة مطورة من هذه الحوافز باسم السداسي الدولي؛ بحيث يمكن للدولة الإيرانية الإفادة منها في حال "علّقت بصورة متثَبَّت من صحتها النشاطات المتصلة بالتخصيب والتصنيع"، عملاً بالفقرتين العمليتين 15 و19(أ) من قرار مجلس الأمن الدولي الرقم (1803)، الصادر في الثالث من مارس/آذار 2008(7).

وتضمنت هذه الحوافز مساعدات تقنية ومالية لاستخدام إيران السلمي للطاقة النووية، واستئناف مشاريع التعاون التقني في إيران من قبل وكالة الطاقة الذرية، ودعم تشييد مفاعلات تعمل بالماء الخفيف، واتخاذ خطوات دافعة باتجاه تطبيع العلاقات التجارية والاقتصادية، مثل تحسين قدرة إيران على الوصول إلى الأسواق والاستثمارات الدولية، من خلال دعم عملي للدمج الكامل في مؤسسات دولية، بما فيها منظمة التجارة العالمية، وإنشاء إطار لرفع حجم الاستثمارات المباشرة في إيران(8).

وفي شقها السياسي، نصت الحوافز على تحسين علاقات إيران بدول اللجنة السداسية والاتحاد الأوروبي، وبناء ثقة متبادلة، وتشجيع الحوار والاتصالات المباشرة مع إيران، ودعم دور إيراني "مهم وبنّاء في الشؤون الدولية والأمن الإقليمي، والتشجيع على إجراءات بناء الثقة في المنطقة، وتأسيس آليات ملائمة للتشاور والتعاون"، وتأييد عقد مؤتمر يتناول قضايا الأمن الإقليمي.

كذلك، نص عرض الحوافز على "التأكيد مجددًا على الامتناع عن التهديد باستخدام القوة ضد السلامة الإقليمية والاستقلال السياسي لأية دولة، أو بأية صورة لا تنسجم مع ميثاق الأمم المتحدة"(9)، وكانت هذه الفقرة رسالة طمأنة لإيران.

في سياق موازٍ، جرى بلورة سيناريو منفصل، يقوم على تخصيب اليورانيوم الإيراني خارج إيران، بمشاركة فنيين إيرانيين. وطرحت الولايات المتحدة وروسيا تصورًا مشتركًا لإقامة مركز دولي، أو مجموعة مراكز دولية، لإنتاج الوقود النووي، وجعله متاحًا للدول غير النووية، الراغبة في تطوير مرافق مدنية للطاقة الذرية.

وتم التأكيد على ضرورة إنشاء نموذج لبنية تحتية عالمية لتخصيب اليورانيوم، تضمن الوصول المتكافئ لجميع البلدان إلى الطاقة الذرية، في ظل التزام صارم بنظام منع الانتشار. وجرت الإشارة أيضًا إلى ضرورة أن تلتزم شبكة المراكز الدولية بتقديم كافة خدمات دورة الوقود النووي، التي تتضمن تخصيب اليورانيوم، وأن تتعهد في الوقت نفسه بمهمة معالجة الوقود النووي المستنفد. 

وأسس الروس، في مدينة أنغارسك، في أكتوبر/تشرين الأول 2006، مركزًا لتخصيب اليورانيوم، هدفه توفير الوقود النووي للدول غير النووية. وفي العاشر من مايو/أيار 2007، وقّعت روسيا وكازاخستان، اتفاقية رسمية لإنشاء "المركز الدولي لتخصيب اليورانيوم". واعتبر البلدان هذه الاتفاقية خطوة أولى على طريق إنشاء بنى تحتية عالمية للطاقة النووية. وعلى نحو فوري، أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تأييدها لهذه المبادرة، التي انضمت إليها كذلك أرمينيا، في فبراير/شباط 2008.

واقترح الروس على الإيرانيين المشاركة في المركز الدولي في أنغارسك والحصول منه على كامل الوقود النووي، الذي يحتاجونه لتوليد الطاقة الكهربائية. واعتُبر هذا التصور الدولي  نوعًا من الالتزام بنظام معاهدة حظر الانتشار، الذي يقوم على ثلاثة أعمدة، هي: منع الانتشار النووي، ونزع السلاح النووي، والاستخدامات السلمية للطاقة النووية(10).

وهناك سببان رئيسيان لمعارضة القوى الكبرى للانتشار النووي: أولاً: لأن القنبلة الذرية هي السلاح الوحيد ذو القوة التدميرية الهائلة الذي يكلف الحصول عليه جهدًا صناعيًا محدودًا. وثانيًا: لأن الحاجز النفسي بين الأسلحة النووية والتقليدية يبقى ضخمًا، رغم ازدياد القوة التدميرية للأسلحة التقليدية الحديثة.

من جهة أخرى، تُطرح مسألة تأثير الأزمة النووية الإيرانية، على الميزان الاستراتيجي المركزي (بين أميركا وروسيا) بالارتباط مع خطر تصعيد الصراع، ومستوى خطر أن تنحرف هذه الأزمة لتتحول إلى أزمة مركزية.

إن المسألة المطروحة هنا هي ما إذا كانت تصرفات فرقاء آخرين "أطراف ثالثة"، وهي هنا إيران،  يمكن أن تؤدي إلى انجرار الولايات المتحدة أو روسيا إلى التورط في أحداث مجهولة العواقب.

ومن الزاوية النظرية، فإنه في حال تدهور أزمة في مكان ما فإن على الولايات المتحدة وروسيا أن تلجآ إلى المادة الرابعة من اتفاقية منع الحروب النووية، الموقعة في 22 يونيو/حزيران 1973، التي تتناول هذه الحالة الطارئة: "إذا بدا في أي وقت أن العلاقات بين الفريقين، أو بين أحدهما وبين دول أخرى، تتضمن خطر صراع نووي، أو إذا بدا أن العلاقات بين دول غير مشتركة في هذا الاتفاق تتضمن خطر حرب نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، أو بين فريق آخر ودول أخرى، فإن الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، تمشيًا مع نصوص هذا الاتفاق، سيدخلان فورًا في مشاورات استثنائية عاجلة، وسيبذلان كل جهد لتفادي هذا الخطر"(11).

ثالثًا: إيران والعتبة النووية

هل باتت إيران فعلاً قاب قوسين أو أدنى من السلاح النووي؟

على نحو مبدئي، هناك ثلاث خطوات لابد من اجتيازها للوصول إلى القنبلة النووية، وهي: امتلاك اليورانيوم المخصب بالدرجة الكافية للتصنيع العسكري، وحيازة المعرفة الخاصة بتصميم الرأس الحربي النووي، والحصول على وسيلة إيصال حاملة لهذه الرأس، أي طائرات قاذفة أو صواريخ بالستية أو جوالة، قادرة على حمل رأس نووي.

بالنسبة لإيران، ربما تكون امتلكت الخبرات العلمية اللازمة لتصنيع القنبلة النووية؛ وهذا هو الراجح في التقديرات الدولية المختلفة.

من جهة أخرى، من الثابت أن لدى إيران مخزونًا من اليورانيوم منخفض التخصيب يقترب من كونه كافيًا لصنع قنبلة نووية واحدة على الأقل، وذلك في حال خضع لمزيد من المعالجة.

وبحسب تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية، صدر في 22 مايو/أيار 2013، فإن طهران أنتجت في الإجمال 324 كيلوغرامًا من اليورانيوم المخصب بنسبة 20%، أي بكمية أكبر من الـ 240 كيلوغرامًا الضرورية لصنع قنبلة نووية، إذا تمت تنقيته إلى درجة أعلى(12). وقد حولت إيران، حسب الوكالة، نحو 40% من هذا المخزون لإعداد وقود لمفاعلها الخاص بالأبحاث الطبية(13).

هذا التقرير، أعقب إعلان إيران، في فبراير/شباط 2013، أنها بدأت في تركيب جيل جديد من أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم. وأبلغت طهران الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنها تزمع نقل الجيل الجديد من أجهزة الطرد المركزي (IR2-m) إلى منشأة التخصيب الرئيسية قرب بلدة نطنز(14).

ويمكن لأجهزة الطرد المركزي الجديدة تنقية اليورانيوم بسرعة أكبر عدة مرات من الجيل الذي كانت تستخدمه إيران(15)، ومن شأن هذه الأجهزة تحويل اليورانيوم المخصب بنسبة تقترب من 20% إلى يورانيوم مخصب بمعدل عال في غضون أسبوع تقريبًا.

وفي حال جمعت إيران ما يكفي من اليورانيوم المخصب على مستوى عسكري، فإن عملية التصنيع اللاحقة قد لا يمكن رصدها إلا بعد أن تقوم  بتجربة نووية تحت الأرض، أو أن تعلن رسميًا عن امتلاكها للسلاح النووي.

وبموازاة هذا المسار، الخاص بتخصيب اليورانيوم، تحرز إيران تقدمًا في بناء مفاعل أبحاث، قد يتيح لها طريقًا ثانيًا لإنتاج مواد تستخدم في صناعة السلاح النووي، إن هي قررت ذلك، فقد أكملت في يونيو/حزيران 2013، تركيب دائرة تبريد وتنظيم في محطة نووية تعمل بالماء الثقيل، بالقرب من بلدة آراك(16). وسوف يجري اختبار المفاعل بوقود افتراضي حتى نهاية السنة الإيرانية، التي تنتهي في مارس/آذار 2014. ويفترض أن يبدأ بالعمل فعليًا في الربع الثالث من العام ذاته.

وهذا النوع من المفاعلات يمكنه إنتاج بلوتونيوم يُستخدم في صناعة أسلحة نووية، إذا أعيدت معالجة الوقود المستنفد. ويمكن لهذا المعمل إنتاج حوالي تسعة كيلوغرامات من البلوتونيوم سنويًا، وهو ما يكفي لإنتاج قنبلتين نوويتين. 

رابعًا: المؤتمر الدولي

إن السؤال المطروح اليوم هو: ما هي المقاربة المثلى لتسوية النزاع القائم بشأن الملف النووي الإيراني، الذي قد يتطور على نحو خارج عن نطاق السيطرة؟

هناك تجربتان على مستوى المقاربات السياسية، تمثلت الأولى في المفاوضات التي قادها الثلاثي الأوروبي، وتجلت الثانية في المحادثات السداسية. جسدت الأولى إطارًا حواريًا محدودًا، دار في المجمل حول تسويات وسط.

وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه التسويات لم يكن من الممكن الأخذ بها سوى بتفويض أوسع. وهنا، جاء السداسي الدولي ليعبّر عن حاجة سياسية وإجرائية. بيد أن خطوات هذا السداسي لم تتقدم، وذلك لسببين، الأول: أنه أتى متأخرًا، بعد تطور متسارع في البرنامج النووي الإيراني. والثاني: لكون حركته تزامنت مع وصول المحافظين إلى السلطة في طهران؛ حيث تمسك هؤلاء بمقاربة أيديولوجية، تفتقد إلى الفضاء السياسي.

اليوم عاد التيار الإصلاحي للسلطة في إيران، إلا أن البرنامج النووي الإيراني قد وصل قريبًا من غاياته النهائية، مع مستوى تخصيب قدره عشرون في المائة. ونحن هنا بصدد معادلة ذات بعدين متقابلين: الأول منهما ذو قوة دافعة للتسوية، والثاني ذو معطيات ضاغطة عليها، إن لم نقل في الأصل طاردة لها. هذا الواقع، المستجد في أحد معانيه، أو لنقل: دلالاته، يتطلب مقاربة متقدمة في مضمونها وعريضة في تفويضها السياسي. وهنا تحديدًا، تكمن الحاجة إلى المؤتمر الدولي.

ما الذي نعنيه بالمؤتمر الدولي؟

المؤتمر الدولي حول البرنامج النووي الإيراني، الذي توصي به هذه الورقة، هو اجتماع موسع للسداسي المفاوض، مضافًا إليه بقية بلدان النظام الإقليمي الخليجي (أي العراق وأقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية)، ومصر وتركيا، وربما دول رئيسية أخرى في الشرق الأوسط.

يمكن لهذا المؤتمر أن ينطلق من مبادرة عام 2008، التي قدمها للجانب الإيراني الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، على أن تجري صياغتها على نحو يلحظ المتغيرات التي حدثت منذ ذلك التاريخ، ويأخذ في اعتباره، في الوقت ذاته، الهواجس والتحفظات التي قد تكون مثارة لدى بعض دول الإقليم.

على مستوى البرنامج النووي الإيراني ذاته، قد تكون هناك حاجة لمقاربة توليفية، تجمع بين التخصيب في الداخل بنسبة 5% لأغراض الطاقة الكهربائية، والتخصيب في الخارج بنسبة 20% للأغراض البحثية. وقد يتم ذلك على سبيل المثال في روسيا أو فرنسا، في إطار المبادرة الأميركية-الروسية المشتركة.

وبالنسبة لمخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة 20%، يمكن وضعه كليًا أو جزئيًا في دولة تحددها إيران، أو يجري تحديدها بالتوافق، على أن تكون دولة محايدة، مثل سويسرا. ويتم نقل المقادير المتفق عليها وفق آليات وجداول زمنية واضحة، وتجري استعادة ما يلزم منها للأغراض البحثية.

وهذا المسار، يمنح الأطراف المختلفة قدرًا مجزيًا من المرونة، ويزيل الهواجس المتبادلة. 

على صعيد مستقبل العقوبات، يمكن البدء بتفكيك تدريجي للإجراءات المتخذة بعد العام 2008، وصولاً إلى التسوية النهائية المتزامنة؛ فهذه الإجراءات جاءت معززة لعقوبات قائمة في الأصل، وارتبطت غالبًا بقضايا تلامس الحياة اليومية للمواطنين، واستمرارها يضعف موقف الإصلاحيين، الداعي للانفتاح على الغرب، وعلى المجتمع الدولي عامة.

فيما يرتبط بالبنود المتعلقة بالأمن الإقليمي للخليج، يبدو من الأجدر إعادة صياغتها، أو إضافة محاور جديدة لها، على نحو يأخذ بعين الاعتبار هواجس مختلف دول المنطقة، التي من المنطقي أخذ ملاحظاتها في الإطار الكلي للتسوية.

إن المؤتمر الدولي، بصيغته سابقة الذكر، يمكن أن يشكّل إطارًا لبحث قدر متزايد من القضايا التقنية ذات الصلة بالبرنامج النووي الإيراني، ومستقبل العقوبات المفروضة على إيران، والرؤى والتصورات السياسية لدول المنطقة، وسوف تكون توصياته وقراراته ذات تفويض سياسي واسع، إقليميًا ودوليًا؛ الأمر الذي من شأنه أن يساهم في نجاحها، وتجسيدها على أرض الواقع.

كذلك، فإن أصل عقد هذا المؤتمر سيكون بمثابة عامل دفع قوي للتيار الإصلاحي في إيران، يشجعه على اعتماد خيارات مرنة ومنفتحة، ويساهم في إشاعة أجواء الثقة لدى الأطراف المختلفة.
__________________________________________
عبد الجليل زيد المرهون - خبير بحريني في الشؤون الاستراتيجية

المصادر والهوامش
1- Louis Charbonneau, Rohani once spoke approvingly of hiding Iran atomic work, Reuters, Jun 19, 2013, at:
http://uk.reuters.com/article/2013/06/19/uk-iran-election-rohani-idUKBRE95I05Q20130619 
2- Yeganeh Torbati and Jon Hemming, Iran's Rohani hopes all will seize chance of friendly ties, Reuters, Jun 17, 2013, at:
http://uk.reuters.com/article/2013/06/17/us-iran-election-relations-idUKBRE95G0G920130617  
3-Steve Holland, Obama sees Iran's election of moderate as hopeful sign, Reuters, Jun 18, 2013, at:
http://uk.reuters.com/article/2013/06/18/uk-usa-obama-iran-idUKBRE95H02A20130618
4- Justyna Pawlak and Fredrik Dah, Powers to offer sanctions relief if Iran curbs nuclear program, Reuters, February 26, 2013, at:
http://uk.reuters.com/article/2013/02/26/iran-nuclear-usa-idUKL6N0BPC5B20130226
5-DAVID E. SANGER, Iran Offers Plan, Dismissed by U.S., on Nuclear Crisis, The New York Times, October 4, 2012, at:
http://www.nytimes.com/2012/10/05/world/middleeast/iranians-offer-9-step-plan-to-end-nuclear-crisis.html?_r=0 
6- Ibid. 
7-Statement, Letter by P5+1 Partners on New Incentives Package for Iran .U.S., European partners offer Iran new incentives to build mutual trust, U.S. DEPARTMENT OF STATE, Office of the Spokesman, June 17, 2008, at:
http://www.america.gov/st/texttrans- english/2008/June/20080617165530eaifas0.1855738.html
8- Ibid.
9- Ibid  
10- Josef Joffe and James W. Davis, Less Than Zero, Foreign Affairs, Vol. 90, No. 1,  January/February 2011, pp. 7-13; Gregory L. Schulte, Stopping Proliferation Before It Starts, Foreign Affairs, Vol. 89, No. 4, July/August 2010, pp. 85-95, and Graham Allison, Nuclear Disorder, Foreign Affairs, Vol. 89, No. 1, January/February 2010, pp. 75-85.
11-Ivo Daalder and Jan Lodal, The Logic of Zero: Toward a World Without Nuclear Weapons, Foreign Affairs, Vol. 87, No. 6, November/December 2008, pp. 81-95; David J. Karl, Proliferation Pessimism and Emerging Nuclear Powers, International Security, Vol. 21, No. 3, Winter 1996/97, pp. 87-119, and Marc Dean Millot, Facing the Emerging Reality of Regional Nuclear Adversaries, The Washington Quarterly, Vol. 17, No. 3, Summer 1994, pp. 41-71.
12-The International Atomic Energy Agency ,Implementation of the NPT Safeguards Agreement and relevant provisions of Security Council resolutions in the Islamic Republic of Iran, GOV/2013/27, Geneva, May 22, 2013, at:
http://graphics8.nytimes.com/packages/pdf/world/2013/IAEAreportiran.pdf 
13- Ibid. 
14-ALAN COWELL, Iran Upgrades Devices at Nuclear Plant as Talks Resume, The New York Times, February 13, 201, at:
http://www.nytimes.com/2013/02/14/world/middleeast/iran-nuclear-talks.html?ref=worldwww.nytimes.com/2013/02/13/opinion/notes-on-german-scandal.html?hpw&_r=0 
15- Fredrik Dahl, Iran's nuclear advance may be no empty boast, Reuters, February 4, 2013,at: http://uk.reuters.com/article/2013/02/04/uk-nuclear-iran-enrichment-idUKBRE9130I520130204
16-Fredrik Dahl, Iran move to speed up nuclear program troubles West, Reuters, February  22, 2013, at:
http://uk.reuters.com/article/2013/02/22/uk-nuclear-iran-iaea-idUKBRE91K0XH20130222

ABOUT THE AUTHOR