هل يمكن أن يتحد الصومال؟

قبول الصوماليين بالحكم الفيدرالي مرهون بأن تضمن صلاحيات مهام الأجهزة الاتحادية وعلى رأسها وحدة البلاد، وتعزيز التعاون في جميع أنحاء الجمهورية، والمحافظة على الشخصية الواحدة للدولة، وتعزيز الوحدة الداخلية للسوق والاقتصاد، والمساعدة على تحقيق الانسجام بين الأجهزة الاتحادية وأجهزة الولايات.
201310873250142734_20.jpg
المصدر (الجزيرة)

مقدمة

الدولة في الصومال أمر واقع لا يرقى إليه الشك. إلا أن للدولة في الصومال مفهومًا واهيًا على الرغم من كونها واحدة من عدد قليل من الكيانات أحادية العرق في إفريقيا التي يجمع بين كل أنحائها لغة مشتركة، وثقافة مشتركة، ودين مشترك.

منذ عام 1960، حين نال الصومال استقلاله، وحتى 1969 حكمت الصومالَ ديمقراطيةٌ متعددة الأحزاب. صاغ الدستور والقوانين الانتخابية خبراء أجانب لم يأخذوا بعين الاعتبار خطر التنازع المتأصل بين العشائر الصومالية وفروعها. وشيئًا فشيئًا صارت الحكومة المدنية الممثِّلة للعشائر نسبيًا تدور في فلك العشيرة وفاسدة وغير فعالة.

وحين انهارت الحكومة استولى الجنرال محمد سياد بري على الحكم في انقلاب أبيض، فأسس نظام حكم معاديًا للقبلية ومستوحىً من كارل ماركس وفريدريك إنجلز تحت شعار "الاشتراكية العلمية". علّق النظامُ العسكري، المسمى المجلس الثوري الأعلى، الدستورَ، وألغى المحكمة العليا، وحل البرلمان، وحظر جميع الأحزاب السياسية والنقابات المهنية.

فرح الصوماليون بالإطاحة بالحكومة السابقة، فرحبوا في البداية باستيلاء الجيش على السلطة. ولكن ما لبث المجلس الثوري الأعلى بقيادة سياد بري أن وقع في ذات الأخطاء التي ارتكبتها الحكومة السابقة كالمحاباة والفساد.

اندلعت الحرب الأهلية عام 1980 بانتفاضة مسلحة ضد النظام في جنوب الصومال بقيادة الجبهة الديمقراطية لإنقاذ الصومال. وسرعان ما ظهرت في الشمال جماعةٌ متمردة أخرى، هي الحركة الوطنية الصومالية، عام 1981. أدت حملة النظام الوحشية ضد الحركة الوطنية الصومالية إلى تدمير شبه كامل للمراكز الحضرية في شمال غربي البلاد عام 1988. ظهرت جماعة متمردة أخرى، هي مؤتمر وحدة الصومال عام 1989، في مقديشو والمناطق الوسطى، مُؤذنةً ببداية النهاية لدكتاتورية سياد بري.

اضطُر الرئيس أخيرًا للفرار من مقديشو عام 1991، فوجد ملجأ في غيدو بين أبناء عشيرته، ثم في كينيا، وأخيرًا في نيجيريا حيث توفي عام 1995. وبعد أن فقدت الفصائل الصومالية المسلحة الكثيرة قضيتها المشتركة، ألا وهي تخليص البلاد من سياد بري، صارت تتقاتل فيما بينها؛ ما أدى إلى قتل الآلاف من الصوماليين وتشريدهم وتجويعهم.

تدخلات الولايات المتحدة والأمم المتحدة لوقف الفوضى التي تلت ذلك في أوائل تسعينيات القرن العشرين عجزت كلها عن لجم العنف الذي اجتاح البلاد برمتها، وعجزت كل مؤتمرات المصالحة الوطنية، التي عُقدت في مدن المنطقة، عن إقامة حكومة شرعية في الصومال؛ فأمراء الحرب، والحكومات الانتقالية، والجماعات الإسلامية مرّروا عن غير قصدٍ السلطةَ من واحد إلى الآخر من دون أن يؤسسوا لأنفسهم موطئ قدم ثابتًا في السلطة والتأييد الشعبي.

في 20 أغسطس/ آب 2012، وبعد عقد من الحكومات الانتقالية المتتابعة غير الفعالة جميعًا، أدت حكومة وبرلمان جديدان اليمين الدستورية، فكان ذلك علامة فارقة في إحياء الصومال. لدى الصومال الآن حكومة أكثر شرعية مما قد شهدت في عدة عقود؛ وهذا يوفر فرصة فريدة للشعب الصومالي لإعادة بناء وطنه وبسط سيطرة الحكومة على كافة أنحاء البلاد، ما عساه يمهد الطريق إلى السلام والاستقرار الدائمين.

إن واجب الحكومة الجديدة هو تحسين الأمن، والشروع في المصالحة السياسية، ووضع نظام فيدرالي للحكم، واعتماد دستور دائم يُصادَق عليه في استفتاء عام، والتحضير للانتخابات العامة لسنة 2016.

الدستور المؤقت

يقول أستاذ العلوم السياسية أندرياس كاليـ?ـاس: إن الدستور "يجسد القرارات السياسية التأسيسية لمجتمع سيادي بشأن شكل الحكومة، والقواعد الأساسية التي تنظم ممارسة السلطة السياسية وتحديد مجال اختصاصها، وشكل التمثيل السياسي، والمبادئ العليا والقيم الرمزية لأي تجمع سياسي. إنه، بعبارة أخرى، يدل على الهوية الدستورية للنظام السياسي الديمقراطي".

لكن، وكما يشير و. ف. ميرفي، "إذا كان النص الدستوري غيرَ (منسجمٍ مع) المثل العليا التي تشكّل شعبًا، أو تعيد تشكيله، وبهذا يعبر عن شخصيتهم السياسية، أو تلك التي يحاولون تقمصها، فإنه سيتلاشى بسرعة".

تنص المادة الأولى من الدستور المؤقت للصومال على أن "الصومال جمهورية اتحادية ديمقراطية ذات سيادة تقوم على التمثيل الشامل للشعب ونظام التعددية الحزبية والعدالة الاجتماعية". يُعرِّف الدستورُ المؤقت الفيدرالية على أنها شكلٌ للحكم، لكن كيف سيتم تنفيذها -وهذا يشمل الكيفية التي سيتم بها تقاسم السلطة، والموارد، والعائدات بين الحكومة الاتحادية والولايات أعضاء الاتحاد- فمتروك للمفاوضات المستقبلية.

يبرز غموض الدستور المؤقت الآن باعتباره واحدًا من الأسباب الأساسية المؤججة للصراع في الصومال. ينقسم السكان بين من يرون أن الفيدرالية أداةٌ تقسِّم البلاد إلى ولايات عشائرية ضعيفة، وبين من يرون أن الفيدرالية فرصة أخيرة لإعادة توحيد البلاد واستعادة سيادتها.

ما هي الفيدرالية؟

الفيدرالية، بلغة أرسطو، هي حل وسط بين الوحدة والانفصال؛ فالدولة الفيدرالية هي دولة تتحد فيها عدة وحدات دستوريًّا في ظل حكومة مركزية. ومن السمات المميزة للدولة الفيدرالية أن الوحدات التابعة تحتفظ بسلطات غير قابلة للانتقاص في نطاق أراضيها (Wheare 1963).

الاتحاد هو دولة تتألف على الأقل من مستويين من الحكم الإقليمي المستقل دستوريًا؛ والدستور هو الذي يحدد السلطات ويحميها. إنه شكلٌ من الحكم الذي يسمح بالتنوع وييسره ضمن الوحدة الأساسية. وتتمثل الوحدة بالدستور، أما التنوع فيتمثل في سلطة الحكم الذاتي للمقاطعات أو المناطق أو الولايات التي تتحد (Franck 1968).

بموجب هذا التعريف يتمايز الشكل الفيدرالي للاتحاد السياسي عن غيره من أشكال الاتحاد من حيث أنه في النظام الوحدوي تخضع حكومة الولايات قانونًا للحكومة المركزية، بينما في الكونفيدرالية تخضع الحكومة المركزية قانونًا لحكومة الولايات.

يجب أن يكون هناك تقسيمٌ دستوري للسلطة القانونية داخل الاتحاد، ويجب أن يكون كلٌّ من الحكومات المكونة مستقلةً ضمن نطاق اختصاصها، ويجب أن يكون تقسيم السلطة منصوصًا عليه بوضوح في الدستور، ولا ينبغي تعديل الدستور من قبل مستوى واحد من الحكومة بمفردها، كما يجب أن تكون هناك هيئة تحكيم، عادة تكون المحكمة العليا، لحسم أي خلاف ينشأ.

لكن، هناك ثلاث طرق لتنظيم العلاقات مع الحكومة الفيدرالية المؤقتة: 1) تحتفظ المناطق بمعظم صلاحيات الحكومة، ولا يمارس المركز إلا سلطات محدودة. 2) يحتفظ المركز بمعظم الصلاحيات، بينما تتمتع المناطق بصلاحيات محدودة. 3) تتقاسم المناطق والمراكز الصلاحيات الحكومية مع وجود وسائل محددة للتوسط في حل الخلافات بينهما. ومن الممكن أيضًا منح حكم ذاتي واسع بما في ذلك حق أي منطقة في الانفصال ضمن أي من هذه (Wheare 1963).

التداعي من أجل الفيدرالية

أُثيرت قضية الفيدرالية في تاريخ الصومال الحديث سنة 1947 من قبل عشائر الراحانوين الزراعية الرعوية التي تقطن أجزاء من أرض الصومال الإيطالي حول مدينة بيدوا في محاولة لتجنب هيمنة العشائر الرعوية المجاورة الأقوى (حسين محمد آدم، 1994). خسر الراحانوين مسعاهم الرامي إلى اكتساب صفة الاتحادية حين نال الصومال استقلاله، وفي يوليو/تموز 1960 انضمت أراضي الصومال البريطاني والإيطالي سابقًا لتشكل دولة واحدة موحدة.

عندما اندلعت الحرب الأهلية في الصومال غالبًا ما اضطر السكان للعودة إلى أراضي عشائرهم الأصلية لطلب اللجوء. وحين أصبحوا هناك، أنشأت بعض الجماعات العشائرية المهيمنة في تلك المناطق هياكل إدارية إقليمية فضفاضة. تأسست دولة بونت لاند الصومال لتكون وطنًا لقبيلة دارود تحت شعار هارتينيمو أو وحدة هارتي. هذه الإدارات المحلية تنادي بنظام فيدرالي للحكم بحجة أنه الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تتحد بموجبها الوحدات القائمة.

النخب السياسية من عشائر دارود والراحانوين هم أقوى دعاة الفيدرالية، وذلك لخوفهم من هيمنة بني هَوِيَّة على عاصمة الصومال، مقديشو. هذا الخوف هو نتيجة تجربة سابقة حيث كانت سلطة الدولة متركزة في أيدي الحكومة المركزية التي هيمنت على كل المشاريع الاقتصادية، ومعظم المنظمات الاجتماعية، والنقابات العمالية، والمنظمات التعاونية، والسوق، والحكومة المحلية، والسلطات السياسية التقليدية، والتعليم والمنظمات التطوعية، وحتى الجمعيات الدينية صارت محظورة، أو ممنوعة أو مسيطرًا عليها من قبل الحكومة المركزية.

مرافعة ضد الفيدرالية

القضية الأكثر تحديًا التي تواجه الصومال اليوم هي إنشاء الترتيبات المؤسسية التي يمكنها أن تعالج الانقسامات العشائرية معالجة ناجعة تسمح للمجتمعات أن تتعايش سلميًا.

يقترح كثير من الصوماليين نهجًا للتعايش يستلزم إنشاء مؤسسات قوية ومركزية للدولة. ويحاجون بأن الوحدة الوطنية سيُضحّى بها إذا ترسخت الفيدرالية تمامًا؛ ففي رأيهم سينجم عن الفيدرالية ولايات ضعيفة تعتمد على ولاء العشائر وتروج للصراعات العشائرية على أساس ترسيم حدود الدولة والموارد والعائدات. وهم يرون أن إنشاء دولة مركزية قوية هو الحل الوحيد لتوحيد الجماعات المختلفة في بلد منقسم.

إن من ينادي بنظام الحكم المركزي الوحدوي هم غالبًا النخبة السياسية لبني هَوِيّة الذين يرون الفيدرالية أداةً لبعثرة السلطات على الكيانات الاتحادية التي يهيمن عليها منافسوهم آل دارود. إن انعدام الخبرة بأشكال الحكم اللامركزية والفيدرالية في تاريخ الصومال، بالإضافة إلى تشعب المصالح العشائرية، والشكوك والتصورات بين العشائر يعني حتمًا أن التوصل إلى اتفاق للمضي بالصومال قدمًا لن يكون عملية سهلة.

من شأن عملية صياغة الدستور أن تخلق مخاطر قد تهدد الاستقرار (النسبي) الهش السائد في الصومال حاليًا. في ظل الخلافات الداخلية الشديدة، تهدد التفسيرات الدستورية بإعادة الصومال إلى صراع واسع النطاق، وتُبرز الخلافات بدلاً من جَسْرها. قد يكون الصراع قابلاً للحل، أو غائبًا، إن كان هناك دستور معمول به وكانت الرؤية المشتركة من المسلَّمات.

طالما ظل الدستور مؤقتًا، فمن المرجح أن تندلع الصراعات، وبدلاً من أن يكون الجدل الدستوري وسيلة للتسوية، فمن المرجح أنه سيزيد التوتر.

تحديات التطبيق

على الرغم من الخلاف بين الصوماليين على مسألة الفيدرالية، ينص الدستور المؤقت على أن الصومال دولة فيدرالية. تقليديًا، اتجهت دراسة النظام الفيدرالي نحو التركيز على الإطار الدستوري والتشريعي الذي تتعاون من خلاله دائرتا الحكم: المركزي والإقليمي. لكن لابد من الاعتراف بوجود عدد من التحديات المرتبطة بالفيدرالية في الصومال، مثل آثار ترسيم حدود الدولة، والمصالح العشائرية، والممارسات الإدارية الإقليمية على العلاقات بين الولايات.

كما من المهم أيضًا العلاقات المستقبلية بين المركز والمحيط، التي تتسم إلى حد كبير حاليًا بسوء الفهم، وسوء التواصل، وعدم الثقة. ومن مفارقات شكل الحكم الفيدرالي هو اشتراطه على الحكومة المركزية أن تتعهد بالرقابة والاستراتيجية من دون أن تدخل فيهما.

على ماذا تقوم الشرعية على مستوى الدولة؟ كيف يمكن لسلطات الأمر الواقع المحلية الحالية أن تحسن شرعيتها وعلاقتها مع الحكومة المركزية؟ كيف يمكن للحكومة المركزية أن تدعم بروز الحكومات المحلية وتنظمها؟ هذه أسئلة بلا إجابة. هناك حاجة متزايدة للنقاش العام والحوار الخلاق بين النخب السياسية.

يتضح مما سبق أنه لا توجد صيغة واحدة من الفيدرالية تصلح لجميع الحالات. وأن الإدارة تختلف داخل الاتحاد بناءً على ما إذا كان هناك نظام تنفيذي رئاسي أو مشترك أو برلماني. وأن بعض الاتحادات يقدم الخدمات العامة المزدوجة، وأخرى تتقاسم المسؤولية. كما يختلف حجم مكونات الوحدة الفيدرالية وعددها وتجانسها الداخلي. وأخيرًا، هناك درجات متفاوتة من التعاون التشريعي والإداري بين المركز والأطراف.

خاتمة

شهد الصومال أشكالاً من الحكم المركزي الشديد حيث كانت السياسات والممارسات ترمي إلى الاستيلاء على ثروة البلاد ومواردها لصالح نخبة صغيرة ولكنها قوية سياسيًا. وقد نجمت عن هذا بيئة سياسية قلقة للغاية، وما زادها سوءًا انعدامُ ثقة سائد، ومؤسسات وطنية ضعيفة، وثقافة سياسية يحددها الصراع.

لابد من استعادة الثقة والشرعية التي بُنيت. إن الدولة الخارجة من صراعٍ لتوِّها لا تتمتع بشرعية قوية في جميع أنحاء أراضيها. وهذا في غالب الأحيان نتيجة لعدم وجود عقد اجتماعي بين الدولة والمواطنين بسبب الفساد والتمثيل السياسي الضعيف، وإساءة استخدام القوة العسكرية. إن شكل الدولة في الصومال، ونمط سلطتها، والشروط المسبقة لحكمها تظل قضايا يدور حولها نقاشٌ ساخن في العملية السياسية اليوم. لذلك لابد من تحقيق قدر أكبر من التوافق قبل إحراز أي تقدم.

لن يقبل جميع الصوماليين بشكل الحكم الفيدرالي ما لم تضمن صلاحيات الأجهزة الاتحادية ومهامها وحدة البلاد، وتعزز التعاون في جميع أنحاء الجمهورية، وتحافظ على الشخصية الواحدة للدولة، وتعزز الوحدة الداخلية للسوق والاقتصاد، وتساعد على تحقيق الانسجام بين الأجهزة الاتحادية وأجهزة الولايات.

ومن المفارقات أن بقاء الدولة الفيدرالية المستقبلية في الصومال رهن بإنشاء حكومة مركزية قوية، مع ضرورة تمتع الولايات الأعضاء بحكم ذاتي كافٍ لمنع الميول الانفصالية.
______________________________________
* عبد الرحمن عبد الشكور - خبير وباحث، ووزير التعاون الدولي السابق في الصومال
** ترجم النص من الإنجليزية د. موسى الحالول 

ABOUT THE AUTHOR