عودة إلى صهوة الجواد: النخبة العسكرية وحسابات السلطة في مصر

تسعى القيادة العسكرية المصرية، بعد الإنقلاب، إلى صياغة النظام السياسي بحيث يكون الرئيس المقبل من بينهم أو موال لهم ليحافظ على امتيازاتهم الإقتصادية بشكل خاص.
2013114105126392734_20.jpg
القيادة العسكرية المصرية حريصة على امتيازاتها الإقتصادية ]وكالة الأنباء الفرنسية [

 

ملخص
السؤال المركزي في سياسات مصر على المدى المنظور هو تحديد هوية الرئيس القادم؛ فالنخبة العسكرية المصرية تبدو قادرة على فرض مرشح من صفوفها، أو بالحد الأدنى، موال لها. وغالب الظن أن انتخاب وزير الدفاع وقائد القوات المسلحة عبد الفتاح السيسي رئيسًا -أو أي رئيس آخر يحركه العسكر من وراء الستار- لن يفعل سوى اجترار سياسات نظام مبارك الاقتصادية، التي لم تنجح طوال عقود ثلاثة في توسيع الطبقة الوسطى عبر مشاركة أعداد أكبر من المصريين بالثروة الوطنية، بل أنتجت العكس تمامًا. وغالب الظن، أيضًا، أن العسكر، ضيقو الصدر بالانتقادات، وإن جاءت من اعلامي كوميدي كباسم يوسف، أطنب في نقد الإخوان، سيلجؤون إلى قمع حركات الاحتجاج الناتجة عن استمرار الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية، وتجذرهما، وسيستعينون بنفس الوسائل القمعية التي استعملتها السلطة القديمة وأدت إلى ثورة 25 يناير.

تعيش مصر منذ الإطاحة بالرئيس محمد مرسي عن سدة الحكم مرحلة سياسية انتقالية ستستمر حتى انتخاب رئيس جديد للبلاد. والى أن يخرج الرئيس المؤقت عدلي منصور من قصر الاتحادية ويحل مكانه رئيس جديد، ستتمحور ديناميكيات السياسة في القاهرة حول سؤال مركزي: من سيكون الرئيس المقبل؟ وإن كان الجزم بهوية هذا الرئيس لمصر غير ممكن حتى الساعة، فمن الواضح، بالمقابل، أن توازنات المرحلة الجديدة تعطي نخبة مصر العسكرية الدور الراجح في ترسيم معالم السياسة المصرية، بما فيها الانتخابات الرئاسية. في حدها الأقصى، تهدف استراتيجية جنرالات مصر إلى إعادة وصل ما قطعته ثورة 25 يناير/كانون الثاني وتداعياتها، أي عودة الرئاسة المصرية إلى عهدة المؤسسة العسكرية، ليكون وزير الدفاع وقائد القوات المسلحة، الفريق أول عبد الفتاح السيسي، خامس رئيس عسكري لمصر منذ سقوط الملكية عام 1952، بعد محمد نجيب، وجمال عبد الناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك. وفي الحد الأدنى، سيسعى قادة الجيش المصري إلى انتخاب رئيس مدني يفهم قواعد اللعبة وحدودها كما تراها المؤسسة العسكرية، لاسيما احترام مصالح النخبة العسكرية الاقتصادية، ودورها في السياستين الخارجية والداخلية لمصر. وفي هذه الحالة كما في تلك سيبقى التوتر قائمًا، وحتميًا، بين طموحات العسكر وتصورهم لدورهم في الداخل المصري، والاحتمالات النظرية والفعلية للتحول الديمقراطي في مصر.

ستحاول هذه الورقة مقاربة الأزمة المستمرة في مصر، ودور النخبة العسكرية فيها، انطلاقًا من تحليل الدور التاريخي لضباط مصر في سياساتها.

                                                                                                                                               
من ناصر إلى مبارك: مصر "مجتمع عسكري"

في العام 1968 نشر البحاثة الراحل أنور عبد الملك كتابًا بات من كلاسيكيات الدراسات التي يقرأها المهتمون بالشأن المصري كان عنوانه لافتًا، ورؤيويًا: مصر: مجتمع عسكري. فصّل عبد الملك امتيازات العسكر، وتوسع دورهم في السياسة والإدارة خلال الحقبة الناصرية، وخلص إلى نتيجة مفادها أن تعزيز نفوذ الضباط المصريين حوَّل مصر إلى "مجتمع عسكري". ورغم التحولات العميقة التي عاشتها مصر خلال العقود الأخيرة، والانتقال من المعسكر السوفيتي إلى المعسكر الغربي خلال الحرب الباردة، ومن نظام الإنتاج الاشتراكي إلى الرأسمالية، ومن الطموح الناصري في قيادة العالم العربي إلى انكفاء صوب الداخل بدأه السادات، وعمّقه مبارك، فإن الثابت في سياسات قادة مصر كان التنبه إلى مصالح النخبة العسكرية، والسعي الدائم لإبقائها عونًا للنظام لا شوكة في خاصرته. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار تاريخ الانقلابات في العالم العربي بشكل عام (بين عامي 1949 و1980، شهدت الدول العربية 55 محاولة انقلابية، تكللت 31 منها بالنجاح)، وفي مصر بشكل خاص (منذ انقلاب الضباط الأحرار عام 1952، إلى محاولة اللواء علي عبد الخبير الفاشلة في الانقلاب على السادات عام 1972، شهدت مصر تسع محاولات انقلابية)، يصبح من السهل أن نفهم لماذا وضعت الأنظمة المصرية المتعاقبة إرضاء الضباط المصريين في صميم أولوياتها. (1)

والحال أن ناصرًا والسادات ومباركًا اتبعوا استراتيجيات مختلفة لضمان ولاء المؤسسة العسكرية. اتكل ناصر على صورته الوطنية كرمز تحرير مصر من الاستعمار البريطاني، والقومية كزعيم عربي، لربط الجيش المصري بنظامه عبر وشائج عقائدية. كما عوّل أيضًا على الصداقة المتينة التي جمعته برفيق دربه المشير عبد الحكيم عامر، وهو تكتيك تبدت خطورته لاحقًا عندما انقلب عامر من صديق إلى منافس على السلطة، قبل نهايته الدرامية عام 1967. من جهة أخرى، اتبع السادات تكتيك الاستبدال السريع لكل ضابط عيّنه قائدًا للجيش المصري بقائد آخر. وبذلك، تعاقب على قيادة الجيش المصري، بين عامي 1970 و1981، كل من محمد فوزي، ومحمد صادق، وأحمد إسماعيل، وعبد الغني الجمسي، وكمال حسن علي، وأحمد بدوي، وعبد الحليم أبو غزالة. هذا التناوب السريع على رأس الهرم العسكري المصري أبقى التنافس بين مختلف الضباط الطامحين لقيادة الجيش محتدمًا؛ مما سهّل على السادات الإمساك بخيوط المؤسسة العسكرية. أضف إلى ذلك، أن المدة القصيرة التي أمضاها هؤلاء الضباط في قيادة الجيش حالت بينهم وبين القدرة على بناء قاعدة من الضباط المرتبطين بهم شخصيًا -أي أن السادات منع أيًا منهم من التحول إلى عبد الحكيم عامر آخر. بالمقابل، عوّل مبارك على تسليم الجيش إلى ضباط معروفين بولائهم التام له، وبانعدام الطموح السياسي، كيوسف صبري أبو طالب ومحمد طنطاوي، وذلك بعد أن أحال عبد الحليم أبو غزالة -الذي ورثه مبارك عن السادات- إلى التقاعد المبكر.

ورغم أن هذه التكتيكات اختلفت باختلاف طباع الرؤساء المصريين وظروفهم؛ فالثابت الذي مثّل صلة الوصل الأساس بين الرؤساء الثلاثة هو الحرص على تعزيز المكتسبات المادية لكبار ضباط الجيش المصري. هذا التقليد بدأه ناصر الذي فتح باب البيروقراطية المصرية على مصراعيها لتعيين الضباط في أرقى المناصب الوزارية والدبلوماسية والإدارية. في ظل السادات ومبارك، حافظ الضباط المصريون على تعييناتهم في الإدارات العامة والمحلية (40 % من المحافظين في ظل مبارك جاؤوا من خلفية عسكرية) (2)، وإن كانت أعدداهم في الحكومات المتعاقبة والسلك الدبلوماسي تراجعت نسبيًا. ولكن المكتسب الأهم الذي غنمه الضباط المصريون اعتبارًا من النصف الثاني من السبعينيات هو فتح باب الاقتصاد الوطني أمام تدخلهم فيه، بحيث باتت حصة المؤسسات الاقتصادية التابعة للمؤسسة العسكرية تشكّل اليوم 5 إلى 10 % من مجمل الاقتصاد المصري (3).

هذه نقطة أساسية لا ينبغي إغفالها عند التفكير بحسابات قادة القوات المسلحة المصرية. فالدخل السنوي للمؤسسات الاقتصادية التابعة للجيش المصري هو عبارة عن مليارات من الدولارات يمسك كبار الضباط حساباتها دون رقابة من أية جهات مدنية، باعتبار أن النشاط الاقتصادي للقوات المسلحة يدخل في نطاق "الأمن القومي" المصري، كما يقول الضباط. وقد اعتبرت قيادة الجيش استقلال مؤسساته الاقتصادية -جُلّ ما تصنعه منتجات غير عسكرية، بما فيها أطعمة وملابس، يتم تصريفها في السوق الداخلي- خطًا أحمر لن تقبل التفريط به. ولعقود ثلاثة، في ظل مبارك، استمر الستاتيكو المتعلق بدور الضباط الاقتصادي قائمًا، وملائمًا. بالمقابل، منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني والسقوط المدوي لرأس لنظام السابق، يتصاعد الجدل في الأوساط السياسية والصحفية والأكاديمية حول ضرورة إخضاع الدور الاقتصادي للجيش لإشراف مؤسسات الرقابة العامة، أو إلغائه كليًا عبر دمجه بالقطاع العام المدني، باعتبار أن انهماك الجيش بالتصنيع والتسويق والبيع يسيء إلى جهوزيته العسكرية، ويلهيه عن مهمته الأساسية، الدفاع الوطني.

والحاصل، أن علاقة المؤسسة العسكرية بمؤسسة الرئاسة يتحكم بها اعتبار أساسي، وهو أن الرئيس المصري ينبغي أن يكون سندًا للنخبة العسكرية المصرية في الدفاع عن مكتسباتها. ومن الصعب، في ظل موازين القوى الحالية، تخيل وصول أي طامح رئاسي إلى قصر الاتحادية ما لم يوافق مسبقًا على استمرار الدور الاقتصادي للقوات المسلحة كما هو عليه، أي بعيدًا عن إشراف السلطات الرقابية.

هذا لا يعني أن حسابات النخبة العسكرية المصرية محكومة حصرًا بالمعطيات الاقتصادية آنفة الذكر. هناك أيضًا مسألة النظرة إلى الذات؛ حيث يعتبر الضباط المصريون أنهم خلّصوا بلادهم من حكم عائلة مالكة أجنبية وفاسدة عام 1952، ثم حرروا مصر من الاستعمار البريطاني لاحقًا، وهم من أمّم قناة السويس، ونهضوا سريعًا من نكسة العام 1967، ليحققوا إنجاز العبور عام 1973 وإعادة سيناء إلى السيادة الوطنية. ويرى الضباط تاريخ القوات المسلحة حافلاً بالإنجازات والتضحيات في سبيل مصر؛ كما تسود في أوساط الضباط المصريين -لاسيما أصحاب الرتب العليا منهم- نظرة حذر تجاه القوى السياسية المختلفة، وارتباطاتها الخارجية الحقيقية أو الموهومة، وشخصياتها القيادية التي لا تتمتع –برأييهم- بالثقل المطلوب لقيادة مصر. وإذا كانت المؤسسة العسكرية المصرية نظرت بارتياب في السابق إلى طموح جمال مبارك في وراثة أبيه، لأسباب عديدة ليس أقلها أنه مدني، فمن باب أولى ألا تشعر المؤسسة عينها بحماسة كبيرة تجاه أي مدني آخر لم ينحدر من صلب النظام. عودة سدة الرئاسة إلى كنف العسكر هدف استراتيجي لن تتخلى النخبة العسكرية عنه في المرحلة المقبلة، ما لم تعاكسها ظروف قاهرة.

  
سقوط مبارك: احتواء الثورة لا حمايتها

تصادف اليوم الأول للثورة المصرية مع وجود الرئيس السابق لأركان الجيش المصري سامي عنان في واشنطن. وقد نقل صحافيون وأكاديميون عن عنان قوله: إن الجيش في مصر لن يسمح بأن يكون مصير حسني مبارك كمصير نظيره التونسي زين العابدين بن علي (4). وإذا كان القول المنسوب لعنان صحيحًا، والأرجح أنه كذلك، فهذا يعني أن النخبة العسكرية لم تكن متحمسة لسقوط النظام المصري السابق وانتصار الثورة، بخلاف ما حاولت إظهاره لاحقًا. والحقيقة أن من يدقق في يوميات تعاطي قيادة الجيش المصري مع الأحداث التي بدأت في 25 يناير/كانون الثاني 2011، يلتقط إشارات متناقضة صدرت عن المؤسسة العسكرية؛ فالقوات المسلحة  أعلنت، بعد أيام على اندلاع الثورة، أنها تتفهم مطالب الشعب، وأنها لن تطلق النار على المدنيين المصريين. في الوقت عينه، أرسلت القوات الجوية طائرات حلّقت فوق فضاء ساحة التحرير يوم 30 يناير/كانون الثاني 2011، في خطوة فسرها الكثيرون على أنها محاولة لترهيب المدنيين المتجمهرين فيها. والأهم، ربما، أن الجنود المصريين لم يحركوا ساكنًا للدفاع عن ثوار التحرير يوم موقعة الجمل الشهيرة في 2 فبراير/شباط. لقد صرّح ضباط في المجلس الأعلى للقوات المسلحة لصحيفة الواشنطن بوست الأميركية في مايو/أيار 2011 بأنهم أعطوا حسني مبارك فرصة معالجة الوضع بعد اندلاع الثورة، وأنهم كانوا مستعدين لسحب جنودهم من الساحات العامة والعودة إلى ثكناتهم لو تمكن الرئيس السابق من الإمساك بزمام الأمور. كما أعاد كبار الضباط تأكيد موقفهم هذا في حديث مع مجموعة الأزمات الدولية (International Crisis Group) نشرته في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه (5). لا شيء إذًا، لا في أحاديث النخبة العسكرية الصحفية، ولا في الأوامر التي أصدرتها للجنود المصريين، يشي بحماسهم تجاه الثورة. ولا يمكن لمن يقرأ الدراسات التي صدرت منذ سقوط مبارك عن حجم المصالح المالية التي ربطت كبار الضباط بنظامه إلا أن يفهم الأسباب الموضوعية لقلة الحماسة هذه. يكفي التذكير بأن الدراسة التي أعدها يزيد الصايغ، ونشرها معهد كارنيجي للأبحاث عام 2012، كشفت أن بعض الجنرالات المصريين المتقاعدين كانوا يتقاضون رواتب خيالية من الوظائف المدنية التي أمّنها لهم مبارك، يبدأ حدها الأدنى بـ 16 ألف دولار في الشهر (6). وفي مقابل تدفق الامتيازات المالية على كبار الضباط، والضباط المتقاعدين، تراوحت رواتب الضباط الذين يحتلون رتبًا متوسطة وصغيرة (عقداء، نقباء، ملازمون، إلخ) بين 300 و400 دولار أميركي في الشهر، وهو مبلغ يوازي ما يحصّله سائق سيارة تاكسي في القاهرة شهريًا. صحيح أن مؤسسات الجيش الصحية والسكنية تؤمّن للضباط امتيازات سكنية واستشفائية غير متوفرة لعموم المصريين، ولكن الصحيح أيضًا أن الضباط متوسطي الرتب والصغار عانوا من ظروف مادية صعبة، تفاقمت في السنوات الأخيرة من حكم مبارك. والصحيح كذلك أن فئات صغيرة من هؤلاء الضباط الشبان -أشهرهم الرائد أحمد شومان، والرائد أحمد بدر، والنقيب عمرو متولي، الذين عُرفوا بضباط "20 نوفمبر"- أعلنت وقوفها مع الثورة دون انتظار أوامر قيادتها، في تمرد صريح، ومثير للقلق بالنسبة لكبار الضباط، على الهرمية العسكرية. لقد كان واضحًا للنخبة العسكرية أن مرؤوسيها الذين يكرهون نظام مبارك، ويعانون من أوضاع اقتصادية صعبة تمامًا كمجمل الشعب المصري، لا يمكن استعمالهم ضده (7).

هذه النقطة أساسية لفهم موقف قادة الجيش المصري من الثورة ومن سلسلة الأحداث التي تلتها. ذاك أنه ينبغي التمييز بين الرغبة في الحفاظ على النظام، من جهة، وبين القدرة على قمع الثورة، من جهة أخرى. قيادات الجيش المصري التي استفادت من نظام مبارك لم تكن ترغب بالتغيير الراديكالي عبر الشارع المصري. ولكن فقدان القدرة على قمع الحراك الشعبي نتيجة انحياز الضباط متوسطي الرتب والصغار -ومن خلالهم، مجمل القوات المسلحة- إلى الثورة، ألزم قيادات الجيش، على مضض، بقبول التغيير الحتمي الذي فرضه الحراك الشعبي. وبعد أن بات واضحًا أن مواقف مبارك المتهالكة في أيام حكمه الأخيرة لم تعد قادرة على التأثير في مجريات الأمور على الأرض، وأن الاحتجاج الشعبي إلى توسع مستمر، أرغم كبار الضباط مبارك على الاستقالة، واستلموا الحكم مباشرة. بهذا المعنى يمكن القول: إن فرض رحيل مبارك لم يكن تعبيرًا عن انتصار النخبة العسكرية للثورة، بل الخطوة الأولى على طريق احتوائها.

سقوط مرسي: ثورة وانقلاب وثورة مضادة

لا تتسع هذه العجالة إلى بحث تفصيلي حول علاقة قادة الجيش المصري بجماعة الإخوان المسلمين خلال فترة حكم المجلس العسكري، ولا في ظل الرئيس محمد مرسي. يكفي القول: إن ترسبات عقود ستة من العداء المستحكم أبقى التواصل بين الطرفين مشوبًا بالحذر المتبادل، رغم ما قيل عن علاقة طيبة نسجها مرسي مع وزير الدفاع وقائد القوات المسلحة عبد الفتاح السيسي. لقد واجه الإخوان المسلمون منذ وصول مرشحهم إلى قصر الاتحادية منافسين علنيين على السلطة من المعارضتين الليبرالية واليسارية، ومنافسين صامتين ومتوثبين هم القادة العسكريون. والأهم من هؤلاء وأولئك أن الإخوان واجهوا أيضًا التحدي المفروض على أية نخبة سياسية حاكمة تعوّل على التأييد الشعبي للبقاء في السلطة، أي ضرورة تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لعموم المواطنين. كان يمكن للإخوان بعد فوز مرشحهم في الانتخابات الرئاسية تشكيل حكومة وحدة وطنية يتمثل فيها أقطاب من طراز محمد البرادعي وحمدين صباحي. والحال أن رص صفوف القوى المدنية، الإسلامية وغير الإسلامية، التي شاركت في الثورة كان ضرورة مزدوجة؛ فعلى الصعيد الوطني، كانت الأزمة الاقتصادية الخانقة تقتضي توحيد القوى والكفاءات المصرية، والخفض ما أمكن من حدة التجاذب السياسي، لمواجهتها. وعلى الصعيد السياسي، كان الصراع مع كبار الضباط يفترض أن تلتقي القوى المدنية على حد أدنى من التوافق قوامه منع عودة العسكر إلى الساحة السياسية. ولكن الأمور ذهبت في اتجاه مختلف تمامًا، وقد بدا لوهلة أن الإخوان يسعون لمد الجسور مع الجيش، لتقوية وضعهم في مواجهة منافسيهم المدنيين، بدل العكس. كما بدا، أيضًا، أن معظم القوى الليبرالية واليسارية لا تمانع في الاستعانة بالجيش في إطار الصراع مع الإخوان المسلمين. هذا الغزل للجيش الصادر عن الإخوان ومعارضيهم يوحي بضعف القناعات الديمقراطية لدى مجمل القوى المدنية المصرية الأساسية، بشقيها الديني وغير الديني. ورغم الدور المهيمن الذي لعبه ضباط الجيش المصري في سياسة بلادهم منذ العام 1952، تفيد تجارب الدول الأخرى التي انتقلت من الحكم العسكري إلى الحكم المدني بأن بناء جيش ديمقراطي خاضع للسلطة السياسية المنبثقة عن صناديق الاقتراع ليس مستحيلاً، وإن سبقته عقود من العسكرة. الجيش الإندونيسي أيضًا كان مهيمنًا على سياسات بلاده طوال حكم الرئيس سوهارتو (1967- 1998)، ولكن دوره السياسي تقلّص، وهيمنته على الإدارة العامة تراجعت، بعد سقوط سوهارتو، وبداية التحول الديمقراطي إثر ثورة العام 1998 الشعبية. ورغم التشابه بين ثورة 1998 في إندونيسيا، وثورة 2011 في مصر، فإن مجريات الأحداث التي تلت كلاً منها اختلفت، تحديدًا لأن القوى المدنية في جاكرتا نجحت حيث فشلت مثيلاتها في القاهرة، سيما فيما يتعلق بإطلاق مسار فصل الجيش عن السياسة، وهو ما يصب في مصلحة بناء حياة ديمقراطية سليمة، كما يصب أيضًا في مصلحة المؤسسة العسكرية نفسها في نهاية المطاف.

لقد سال حبر كثير حول التوصيف الذي ينبغي إعطاؤه لمظاهرات يوليو/تموز 2013، وحول ما إذا كان عزل مرسي جاء نتيجة "ثورة" أو "انقلاب". ومن نافلة القول: إن الجدل هنا ليس أكاديميًا، بل سياسيًا بحتًا: مؤيدو الإخوان، وهم كثر، أدانوا الانقلاب. ومعارضو الإخوان، وهم كثر أيضًا، حيّوا الثورة. والحقيقة أن أحداث يوليو/تموز حمّالة أوجه؛ فالأكيد أن حشودًا هائلة من المصريين شاركت في التظاهرات ضد حكم الإخوان، وأن الحجم الاستثنائي لحراك الشارع كشف عمق الأزمة بينهم وبين قطاعات واسعة من المصريين. ولكن الأكيد أيضًا أن الجيش تدخل لعزل مرسي، وعطّل العمل بالدستور، وقطع بث وسائل إعلامية، وعيّن رئيسًا مؤقتًا للبلاد هو رئيس المحكمة الدستورية عدلي منصور، وكل هذه إجراءات تصاحب الانقلابات العسكرية تقليديًا. أحداث يوليو/تموز 2013 هي إذًا ثورة شعبية، رفدها انقلاب عسكري، هو كناية عن ثورة مضادة على ثورة 25 يناير/كانون الثاني، التي أطلقت مسارًا ديمقراطيًا حاول القادة العسكريون منذ اليوم الأول كبح جماحه.

ورغم أن الخاسر الأول من أحداث يوليو/تموز هم الإخوان المسلمون، فإن الرابح الحقيقي لم يكن منافسيهم الليبراليين واليساريين بطبيعة الحال. يكفي للتأكد من ذلك النظر إلى أحوال محمد البرادعي، وقد أُزيح سريعًا إلى هامش المشهد السياسي، أو حمدين صباحي، الذي لا يبدو أن مصيره سيكون مختلفًا. النخبة العسكرية في القاهرة عادت إلى صهوة الجواد، وهي أصلاً لم تبتعد كثيرًا عن جوهر السلطة، رغم أنها غابت عن الواجهة بعد انتخاب مرسي رئيسًا. باختصار، الفرصة التي سنحت لتحجيم الدور السياسي للجيش تمهيدًا لإخراجه تمامًا من لعبة الصراع على السلطة ضاعت مؤقتًا.

هذا لا يعني، طبعًا، أن النخبة العسكرية في مصر لا تواجه تحديات جمة على المستويين الداخلي والخارجي. ولابد من التشديد، تكرارًا، على أن الوجه الأعمق والأشد تعقيدًا للأزمة المصرية هو اقتصادي؛ لقد خلّف التحول صوب النيوليبرالية الذي بدأته مصر في مطلع التسعينيات، وتكثف في العقد التالي، ملايين من العاطلين عن العمل، وملايين آخرين يعانون من البطالة المقنعة، أو من الرواتب المزرية العاجزة عن تأمين متطلبات الحد الأدنى لحياة لائقة وكريمة. التعليم العام المصري في أزمة على المستويين المدرسي والجامعي، وكذلك القطاع الصحي. هذا يعني أن الشروط البنيوية لتحقيق الاستقرار السياسي غير متوفرة، أيًا تكن هوية الممسك بزمام الحكم. صحيح أن الإخوان لم يضعوا أي مشروع متكامل وواضح المعالم، يمهد لخروج مصر التدريجي من أزمتها الاقتصادية، ولكن الصحيح أيضًا أن لا شيء يشي بأن المؤسسة العسكرية المصرية تملك تصورًا أفضل من تصور الإخوان. أبعد من ذلك، تستفيد المؤسسات الاقتصادية التابعة للقوات المسلحة من إعفاءات ضريبية، ومن رخص اليد العاملة فيها، وجُلّها من المجندين. هذه الشروط التنافسية غير العادلة تسيء إلى قدرة القطاع الاقتصادي الخاص في مصر على النمو والتوسع، إضافة إلى أنها تفكك القطاع الاقتصادي العام إلى شطرين: واحد تابع للجيش، وآخر للوزارات المدنية؛ مما يعقّد خطط الإصلاح والتطوير الاقتصاديين. باختصار، النخبة العسكرية المصرية ليست الحل لتحديات مصر الاقتصادية، بل هي أساسًا جزء من المشكلة.

خلاصة

السؤال المركزي في سياسات مصر على المدى المنظور هو تحديد هوية الرئيس القادم. كما قلت: إن النخبة العسكرية المصرية تبدو قادرة على فرض مرشح من صفوفها، أو بالحد الأدنى، موال لها. وغالب الظن أن انتخاب وزير الدفاع وقائد القوات المسلحة عبد الفتاح السيسي رئيسًا -أو أي رئيس آخر يحركه العسكر من وراء الستار- لن يفعل سوى اجترار سياسات نظام مبارك الاقتصادية، التي لم تنجح طوال عقود ثلاثة في توسيع الطبقة الوسطى عبر مشاركة أعداد أكبر من المصريين بالثروة الوطنية، بل أنتجت العكس تمامًا. وغالب الظن، أيضًا، أن العسكر، ضيقو الصدر بالانتقادات، وإن جاءت من اعلامي كوميدي كباسم يوسف، أطنب في نقد الإخوان، سيلجؤون إلى قمع حركات الاحتجاج الناتجة عن استمرار الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية، وتجذرهما. هذا يعني أن مصر السيسي لن تفعل سوى إعادة إنتاج الديناميات والإحباطات التي خلّفتها عقود مبارك في السلطة، وأن السلطة الجديدة ستستعين بنفس الوسائل القمعية التي استعملتها السلطة القديمة لمواجهة الاحتجاجات الشعبية. الفارق طبعًا أن مبارك تمكن من الاعتماد على دعم الولايات المتحدة الأميركية لإجراءاته، أو أقله على تفهمها، طوال عهده، حتى اللحظات ما قبل الأخيرة منه. بالمقابل، أزمة القيادة العسكرية المصرية الحالية مع الولايات المتحدة مرشحة للاستمرار، أقله طالما بقيت الإدارة الأميركية الحالية في الحكم، ولكن البرودة المستجدة في العلاقات مع واشنطن لا تعني تراجع العسكر عن البطش بالمعارضين، بل قد تؤدي إلى زيادته، مع زيادة البارانويا، ورهاب المؤامرات الخارجية، في نفوس النخبة العسكرية الحاكمة.
_________________________
* هشام بو ناصيف، خبير في الشؤون العسكرية مقيم بأمريكا

مراجع

1-حول الانقلابات في العالم العربي واستراتيجيات الانظمة العربية لتلافيها، راجع: 
Quinlivan, James T. “Coup proofing: Its practice and consequences in the Middle East”. International Security. (Vol 24/2). Autumn 1999: 131-165
2-Bou Nassif, Hicham.“Wedded to Mubarak: The Second Career and Financial Rewards of Egypt’s Military Elite From 1981 Till 2011”, The Middle East Journal, Volume 67, Number 4, Fall 2013.
3-حول الدور الاقتصادي للجيش المصري، راجع المرجع السابق. من المفيد أيضا قراءة  كتاب عبد الخالق فاروق "اقتصاديات الفساد في مصر: كيف جرى افساد مصر والمصريين 1974-2000" الصادر عن دار الشروق، القاهرة، 2011، وكتاب الخبير الاقتصادي في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أحمد السيد النجار "الانهيار الاقتصادي في عصر مبارك: حقائق الفساد والبطالة والغلاء والركود والديون" ، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2012 . ويشير عدد من المهتمين في الشأن الاقتصادي المصري الى أن الجيش يسيطر على أربعين بالمئة منه، ولكن أحمد السيد النجار اعتبر في لقاء مع الكاتب في القاهرة في صيف 2012،  أن هذا الرقم مبالغ به كثيرا و غير دقيق، وأنا أوافقه في ذلك.   
4-Said, Atef. “The Paradox of Transition to “Democracy” under Military Rule”. Social Research. Vol.79: N’2. Summer 2012(p 401)
5-International Crisis Group, Report N’121, (p 20).
6-Sayigh, Yezid.  Above the State: The Officers’ Republic in Egypt. Washington, DC: Carnegie Endowment for International Peace, August 2012.
7-Bou Nassif, Hicham. “Why Didn’t the Egyptian Army Shoot”, The Middle East Report and Information Project (MERIP), N’265, Winter 2012

ABOUT THE AUTHOR