الصدام مع جماعة غولان.. منعطف تاريخي أمام الدولة التركية

تهدف هذه الورقة التحليلية إلى الوقوف على أسباب الصدام بين الحكومة التركية ممثلة بحزب العدالة والتنمية وبين جماعة فتح الله غولان، التي تعتبر من أهم الجماعات ذات الطابع الديني. وتعالج تداعيات هذه الأزمة على الحياة السياسية في تركيا، المقبلة على أكثر من استحقاق انتخابي.
2014156289985621_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
تعتبر جماعة فتح الله غولان من أهم الجماعات ذات الطابع الديني في تركيا، وبالرغم من أن الجماعة قد انطلقت في بداياتها من أهداف اجتماعية إلا أنها شهدت تحولاً في طبيعة أهدافها وممارساتها، لتدخل في الحياة السياسية للدولة بشكل غير مباشر، ومن هنا أخذت مظاهر التنافس تطغى على مظاهر التعاون بين الجماعة والحكومة التركية في الآونة الأخيرة، وأخذت هذه الظاهرة تتطور حتى وصلت إلى حالة من التحدي والتصادم مع ظهور مؤشرات واضحة على استهداف الجماعة للحكومة، واتخاذ الحكومة إجراءات مضادة.

وبشكل متسارع ظهرت إشارات استهداف الحكومة من خلال القوى الكامنة في المؤسسات الأمنية والقضائية المرتبطة بالجماعة والقوى المعارضة، وفي هذا الإطار برزت ردود أفعال متصاعدة بين الطرفين تجلت من خلال أزمة المراكز التعليمية الخاصة، والعملية الأمنية-القضائية التي بدأت في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول. تهدف هذه الورقة التحليلية إلى الوقوف على أسباب هذه الأزمة وتداعياتها على الحياة السياسية في تركيا.

مقدمة

يعبِّر مفهوم "الجماعة" cemaat في تركيا عن شكل حديث من أشكال الطرق الصوفية والمجموعات الدينية المختلفة الموروثة عن العهد العثماني والتي يرتبط أعضاؤها بروابط اجتماعية متنوعة، وإذا كانت الطرق الصوفية والمجموعات الدينية تعتمد على أساليب وأدوات تقليدية في التواصل وبناء القيم لدى أفرادها؛ فقد أخذت "الجماعة" تعتمد على أساليب وأدوات حديثة ذات أبعاد تربوية واجتماعية واقتصادية وسياسية متنوعة.(1) وقد امتازت الفترة المتأخرة من عهد هذه الجماعات والتي بدأت في السبعينيات من القرن الماضي بوجود مسارين مختلفين لطبيعة أهدافها وممارساتها، فقد خطّ النوع الأول من هذه الجماعات مسار عمله ليدخل بشكل مباشر في الحياة السياسية وكان رائد هذه الحركة الراحل نجم الدين أربكان، ويمثلها الآن حزب العدالة والتنمية مع أوجه تغيرات مختلفة، أما النوع الثاني من هذه الجماعات فقد رجحت أن تبقى خارج ساحة العمل السياسي المباشر، واكتفت بالقيام بأدوار تربوية وإعلامية واقتصادية وجعلت الأهداف السياسية كنتائج بعيدة المدى، ومن أهم الذين تبنوا هذا النهج جماعة النور والسليمانيون وبعض الطرق الصوفية.(2) وفي الوقت الذي أخذت فيه بعض الجماعات بالتوسع والانتشار ظلت بعض الجماعات أسيرة للجمود والركود.(3) وقد برزت جماعة فتح الله غولان -أو "الخدمة" كما تسمي نفسها- من بين خمس جماعات أساسية انبثقت عن جماعة النور التي تُنسب إلى بديع الزمان سعيد النورسي (1876م-1960م).(4) ومع بروز حركة "رأي الأمة" مللي غوروش كحركة ذات مرجعية إسلامية التي أفرزت أحزابًا سياسية بقيادة أربكان ومن ثم أردوغان في العدالة والتنمية ظهرت مواقف سلبية للجماعة تجاه هذه الأحزاب السياسية في مراحل تاريخية مهمة من حياتها، إلا أن الجماعة دخلت في تحالف غير معلن مع حزب العدالة والتنمية وقدمت له الدعم في مختلف الانتخابات التي خاضها حتى ظهور بوادر الأزمة بينهما.(5) وشهدت الأشهر الأخيرة صدامًا بوتيرة متصاعدة بين الحكومة والجماعة. تهدف هذه الورقة التحليلية إلى الوقوف على أسباب هذه الأزمة وتداعياتها على الحياة السياسية التركية. ويمكن التعبير عن مشكلة هذه الدراسة من خلال السؤالين التاليين:

  1. ما الأسباب التي تقف وراء التصادم الحاصل بين الحكومة والجماعة؟
  2. ما آثار هذا النزاع على السياسة الداخلية في تركيا؟

وللإجابة عن السؤال الأول يعرض التحليل التطورات التي تسببت في ظهور الأزمة ومن ثم تفاقمها، وهي: التحول الجذري في طبيعة أهداف الجماعة وممارساتها، والإشارات الواضحة على استهداف الجماعة للحكومة.

وللإجابة عن السؤال الثاني يتعرض التحليل لأبرز الآثار المرحلية والمستقبلية المتوقعة لهذا الصدام، وتوضيح أزمة المراكز التعليمية، والتداعيات التي أفرزتها عملية السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول، كما تتناول الدراسة أثر هذا الصدام على الانتخابات المقبلة. 

تحول جذري في طبيعة أهداف الجماعة

اعتبارًا من عقد التسعينيات وكمستفيدين من الانفتاحات الديمقراطية، أصبح أعضاء الجماعة يتغلغلون بشكل أكبر في مؤسسات الدولة الاستراتيجية مثل القضاء والأمن والتعليم، ومن خلال امتلاكها لمؤسسات تعليمية وإعلامية وثقافية ضخمة أصبحت الجماعة تشعر بقوة نفوذها بموازاة قوة سلطة الحكومة، وبالتالي يمكن القول بأن الجماعة أجرت تحولاً في طبيعة أهدافها وممارساتها التي كانت تقتصر على الجوانب الاجتماعية لتتدخل في الحياة السياسية للدولة بشكل غير مباشر، ومن هنا أخذت مظاهر التنافس تطغى على مظاهر التعاون بين الجماعة والحكومة وأخذت هذه الظاهرة تتطور حتى وصلت إلى حالة من التحدي والتصادم مع ظهور مؤشرات واضحة على استهداف الجماعة للحكومة، واتخاذ الحكومة إجراءات مضادة.(6)

وظهر أول تصادم فكري-سياسي بين الحكومة التركية وفتح الله غولان من خلال توجيه الأخير انتقادات إلى الحكومة التركية لسماحها بانطلاق أسطول الحرية دون أخذ إذن السلطات الإسرائيلية أثناء لقاء صحفي مع صحيفة وول ستريت الأميركية عقب أزمة أسطول الحرية التي بدأت في 31 مارس/آذار 2010 وأسفرت عن مقتل تسعة من المواطنين الأتراك، وقد تبع هذا التصريح انتقادات واسعة من قبل وسائل إعلام الجماعة.(7)

إشارات واضحة على استهداف الحكومة

ظهرت أول بوادر استهداف الجماعة لحكومة حزب العدالة والتنمية من خلال الحملات الإعلامية التي شنتها نخبهم الثقافية على الحكومة وعلى شخص أردوغان بسبب اتجاهاته السياسية لاسيما في مواضيع: الملف الكردي، وملف العلاقات الخارجية لاسيما العلاقات مع إسرائيل وإيران. وبشكل متسارع ظهرت إشارات على استهداف الحكومة من خلال المؤسسات الأمنية والقضائية، كما صدرت إشارات لتأييد عدد من أعضاء الجماعة ومفكريها لأحداث (تقسيم) من الناحية الإعلامية على الأقل، وهذا زاد التأكد لدى أعضاء حزب العدالة والتنمية في اشتباههم باحتمالية تعاون أعضاء الجماعة مع مجموعات انقلابية جديدة. مع وجود إشارات لاحتمالية وجود مؤامرة ذات طابع خارجي-داخلي تستهدف الحكومة التركية بسبب مواقفها من مصر وإسرائيل وإيران. ومما زاد من شدة التوتر تداعيات العملية الانقلابية الفاشلة التي كانت لا تزال تلوح بالأفق بعد أن أصدرت محكمة الجنايات حكمًا بالسجن المؤبد على رئيس هيئة الأركان السابق إلكار باشبوغ  ?lker Ba?bu?بتاريخ 15 فبراير/شباط 2012م، بتهمة محاولة الانقلاب على الحكومة.(8)

وقد بدأت الشرارات الأولى للنزاع من خلال المؤسسات الأمنية والقضائية؛ فقد اتخذت الجماعة مجموعة من الإجراءات في هذه المؤسسات للضغط على الحكومة التركية، وقرر مدعي عام الدولة المحسوب على الجماعة في 7 فبراير/شباط 2012م فتح ملف للتحقيق مع مستشار المخابرات التركية حاكان فيدان    Hakan Fidan   لقيامه بالتفاوض مع الأطراف الكردية، وقد صرّح الأخير بأن هذا القرار جاء نتيجة حملة شخصية عليه، وبعد هذه الحادثة بعدة أيام تم إجراء تعديل قانوني، بعدم السماح بمحاكمة مستشاري المخابرات التركية إلا بإذن من رئيس الوزراء. وبدوره فقد هاجم رئيس الوزراء التركي هذه التهديدات في أكثر من مناسبة، وصرح بعد حادثة فيدان بأن هناك: "دولة داخل الدولة" مشيرًا إلى القوى الكاملة التي تهندس خططًا في مسار معاكس لسير اتجاه الحكومة.(9)

تصاعد متسارع للأزمة

اعتبر عدد من المحللين الحملة التي تقوم بها قيادات الجماعة وعلى رأسهم فتح الله غولان ونخبها الثقافية وقواها الكامنة في مؤسسات الدولة نوعًا من إرهاصات أرغاناكون انقلابي جديد، وقد أدركت الحكومة خطورة الوضع واتخذت إجراءات متعددة من أجل تفكيك هذه القوى الكامنة في أجهزة الدولة من خلال إجراء إقالات وتنقلات عديدة في المناصب الحساسة، ومحاولة اتخاذ إجراءات كفيلة بتقليص قوة الجماعة الاقتصادية وروابطها الاجتماعية. في المقابل قامت الجماعة بتصعيد حملتها الإعلامية وتدخلاتها القضائية-الأمنية، وبرزت ردود أفعال متصاعدة من الطرفين تجلت خلال أزمة المراكز التعليمية الخاصة، والعملية الأمنية-القضائية التي بدأت في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول. ومن الأمور التي دلت على شدة التأزم والانفعال بين الطرفين قيام فتح الله غولان أثناء إحدى مواعظه المسجلة بالدعاء على قيادات الحكومة التركية بعبارات قاسية؛ مما كان له أصداء سلبية في الأوساط الإسلامية التركية، حيث تم اعتبار هذا الدعاء نوعًا من أساليب التشدد والانتقام التي تتنافى مع القيم التي تتبناها الجماعة وتقوم على التسامح والعفو مع المسلمين وغير المسلمين.(10)

مراكز التعليم أول حصن للجماعة تغزوه قرارات الحكومة

أعلنت الحكومة التركية عن قرارها القاضي بإغلاق مراكز التعليم الخاصة وإمكانية تحويلها إلى مدارس نظامية خاصة خلال سنتين، ومن هنا ظهر ملف "المراكز التعليمية" dershaneler من جديد ليشعل فتيل الأزمة بين الحكومة والجماعة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا حاز هذا الملف أهمية كبيرة عند الطرفين؟ وللإجابة عن هذا السؤال لابد من معرفة الأهمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذه المراكز بالنسبة للجماعة.

عرّفت وزارة التعليم التركية المركز التعليمي (الدرسخانه) على أنه مؤسسة تعليمية خاصة هدفها إعداد التلاميذ لاختبارات تمكّنهم من عبور المراحل المدرسية أو الجامعية وتقديم خدمات تعليمية في مواضيع أخرى يرغبها التلاميذ.(11) وقد أثارت هذه المؤسسات جدلاً واسعًا في عقد الثمانينيات وفي حينها قدمت وزارة التعليم التركية مشروع قرار يقضي بإلغاء هذه المؤسسات لمجلس الأمة التركي سنة 1983م وبعد نقاشات مطولة تم رد هذه القرار. لكن مجلس الأمن القومي في تلك الفترة نقض قرار الرد وقبل قرار إغلاقها، وبقيت أنشطة هذه المراكز ممنوعة حتى الحادي عشر من يوليو/تموز من السنة التالية 1984م، عندما اتخذت حكومة الراحل أوزال قرارًا بإزالة الحظر عن هذه المؤسسات بعد مطالبات حثيثة من قبل أصحاب هذه المؤسسات.(12)

ويلاحَظ من الإحصائيات المتعلقة بهذه المراكز -كما يبين الجدول التالي- ضخامة عددها وعدد الطلبة الذين ينتسبون إليها وعدد المدرسين الذين يدرّسون فيها. كما يلاحظ الزيادة المتسارعة في أعدادها، ويذكر أن للمدن الرئيسية الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة وأزمير النسبة الأكبر من هذه المراكز.

إحصائيات المراكز التعليمية (الدرس خانه) في عموم الجمهورية التركية خلال عشر سنوات

السنة الدراسية

عدد المراكز

عدد الطلاب

عدد المدرسين

2001-2000

1.864

523.244

18.175

2006-2005

2.984

784.565

30.537

2011-2010

4.055

1.234.738

50.532

المصدر: Özo?lu, Özel Dershaneler: Gölge E?itim Sistemiyle Yüzle?mek, 7.

ولكن ما هو السبب الذي جعل هذا العدد الكبير من الطلاب يلجأ إلى الاستفادة من خدمات هذه المراكز حيث قارب عددهم العشرة ملايين خلال اثنتي عشرة سنة الماضية؟ يكمن السبب الأساسي بطبيعة النظام التعليمي للمدارس التركية وطبيعة نظام انتقال الطلاب من مراحل تعليمية دنيا إلى مراحل تعليمية عليا، وتبرز هذه المراكز من خلال أنها تهيئ الطلاب الذين أكملوا المرحلة الثانوية ويريدون إكمال تعليمهم الجامعي لاجتياز اختبارات الدخول إلى الجامعات في مراحلها التعليمية المختلفة والتي اعتبرتها هيئة التعليم التركي شرطًا أساسيًا لقبول الطالب التركي في مؤسسات التعليم العالي الوطنية والخارجية، ويتم تنظيمها من قبل مركز "القياس والاختيار والتوزيع"(13) مثل اختبار: "الدخول للتعليم العالي" Yüksekö?retime Geçi? S?nav? (YGS) كاختبار تحضيري لدخول مؤسسات التعليم العالي، واختبار: "المؤهل للانتقال للمرحلة الجامعية الأولى" Lisans Yerle?tirme S?nav? (LYS) كما تحتوي هذه المراكز على دروس تقوية لتلاميذ المرحلة الثانوية الذين يتقدمون للاختبارات المعدة للدخول إلى الثانويات المختلفة.(14)

ومع ضخامة عدد هذه المراكز التعليمية وزيادة أهميتها في تحديد مستقبل الطلبة أخذت أهمية تجارية، ومع اتجاه الجماعات الدينية وفي مقدمتها جماعة فتح الله غولان إلى الاستثمار في هذه المؤسسات أخذت هذه المراكز تحقق مكتسبات اجتماعية وسياسية غير مباشرة إضافة إلى المكتسبات المادية. ووصل عدد فروع بعض هذه المراكز المنتشرة في عموم تركيا إلى أكثر من مئتي فرع؛ مما يدل على ضخامة الشركات التجارية التي تنظم هذه المراكز، وبلغ عدد أسماء المؤسسات التعليمية التي تنظم عمل هذه المراكز التابعة لجماعة فتح الله غولان تسعًا وعشرين مؤسسة تضم تسعمائة وثمانية وعشرين فرعًا موزعة على مناطق تركيا المختلفة. وتشير بعض الإحصائيات التقديرية غير الرسمية إلى أن ما نسبته 30% من هذه المراكز يتبع لجماعة فتح الله غولان. وتتميز المراكز التابعة للجماعة برسوم دراسية أقل من غيرها من المراكز وبإعفاء مئات الطلاب الفقراء، كما تتميز هذه المراكز باستهدافها لتنمية الحس الإسلامي لدى الطلبة وفق الطابع والنموذج التي تتبناه الجماعة، خصوصًا التلاميذ الذين يقيمون في السكنات التابعة للجماعة ويشترط عليهم اتباع أنظمة الجماعة كالحفاظ على أداء العبادة، وبعض القيم الخاصة، ومن هنا تأتي أهمية هذه المراكز من خلال كونها توجه الطلاب لفكر الجماعة في مرحلة عمرية مفصلية في حياة الطالب. كما أن هذه المراكز تساهم في زيادة الموالين للجماعة من العائلات الفقيرة التي يدرس أبناؤها مجانًا في هذه المراكز. ولا تقل المكتسبات المادية أهمية عن المكتسبات الاجتماعية لهذه المراكز، فتعتبر الأرباح التي تتحصل منها بالإضافة إلى العديد من المؤسسات الإعلامية والتعليمية الأخرى مثل الجامعات والمدارس الخاصة.كما أن المكاسب السياسية المهمة بعيدة المدى التي تحققها الجماعة تظهر من خلال المستقبل الوظيفي للطلبة الذين يتعلمون في مؤسساتها التعليمية ويتربون على قيم الجماعة ويتبوؤون مناصب في مؤسسات الدولة القضائية والأمنية أو يصبحون من النخب الثقافية والإعلامية وقيادات في مؤسسات المجتمع المدني.(15)

ويرى بعض المحللين أن أردوغان يستهدف من خلال تحويل هذه المراكز التعليمية إلى مدارس خاصة تقليص نفوذ الجماعة في السيطرة على المؤسسات التعليمية الخاصة وإتاحة الفرصة إلى جهات أخرى مقربة لحزب العدالة والتنمية لتستفيد من هذا القرار من خلال إنشاء مدارس خاصة جديدة، تستحوذ على جزء كبير من الأرباح الضخمة التي كانت تذهب لمؤسسات جماعة غولان. ومن هنا يتضح أن التصادم في موضوع مراكز التعليم هو تنازع حول النفوذ والسلطة؛ فهدف الحكومة التركية من خلال إغلاقها هو قطع أوردة الجماعة الاجتماعية والاقتصادية التي تقوي من نفوذها السياسي. (16)

عملية السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول ورمي الحكومة بسهام الفساد

يتناول عدد من المحللين عملية 17 ديسمبر/كانون الأول على أنها رد فعل سياسي للقوى الكامنة في الدولة والتي تساهم فيها الجماعة من أجل النيل من سلطة الحكومة المنتخبة؛ ففي السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول الجاري استدعت النيابة العامة في إسطنبول عددًا من الشخصيات المحسوبة على حزب العدالة والتنمية على رأسهم ابنا وزيري الداخلية والاقتصاد وعدد من رجال الأعمال بتهم متعلقة بالفساد والرشوة.(17)

ويمكن القول بأن عملية السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول قد اتخذت طابعين أساسيين: الطابع الأول قضائي والطابع الثاني سياسي، ويمكن تصوير هذه العملية على أنها رسائل تهديد قوية من قبل القوى الكامنة في مؤسسات الدولة الموالية للجماعة والمعارضة موجهة للحكومة التركية. ويؤكد العديد من المحللين أن هذه العملية تمثل نوعًا من المحاسبة السياسية لحكومة العدالة والتنمية بمشاركة قوى خارجية تلعب دور العقل المدبر وبالتعاون مع قوى داخلية كامنة في مؤسسات الدولة الاستراتيجية. وهدف هذه العملية هو إضعاف حكومة العدالة والتنمية وإبقاؤها تحت وصاية هذه القوى الكامنة. ومن هنا يمكن القول بأن هذه العملية قد فاقمت من أبعاد الأزمة وقلّلت من فرص العودة إلى الحلول التوافقية.(18)

ويمكن تلخيص المضامين السياسية التي انعكست عن هذه الأزمة بالنقاط التالية:

  1. الأزمة بين الحكومة والجماعة وصلت إلى نقطة اللاعودة.
  2. القبض على ابني الوزيرين في التهم المذكورة يلوح بإمكانية الوصول إلى جميع قيادات الحزب وعلى رأسهم رئيس الوزراء. 
  3. يمكن اعتبار هذه العملية من خلال استهداف رجال الأعمال المقربين من الحكومة كمناورة سياسية في إطار الإجراءات المضادة التي تقوم بها الحكومة ضد مؤسسات الجماعة.(19)

وبعد أن أدركت الحكومة التركية التهديدات التي توجهها القوى الكامنة في أجهزة الدولة يتوقع أن الحكومة ستتخذ تجاهها الاستراتيجيات التالية: 

  1. إجراء تنقلات وإقالات في الأجهزة القضائية والأمنية من أجل تفكيك القوى الكامنة فيها.
  2. محاولة إغلاق ملفات الفساد الموجهة للحكومة بقبول الحد الأدنى من الخسائر.
  3. تقليص النفوذ الاجتماعي والاقتصادي للجماعة في مؤسسات المجتمع المدني.(20)

ومن هنا يمكن القول بأن التحدي الأكبر الذي يواجه تركيا في المستقبل يتعلق بمدى قدرتها على التخلص من قوى الظل الكامنة وخلايا الدولة العميقة ووصايتها على اتجاهات الحكومة، وتعتبر هذه الأزمة نقطة مفصلية في تاريخ الحياة السياسية التركية وسوف تساهم في إعادة تشكيل طريقة إدارة العملية السياسية في تركيا.(21)

أما ما يتعلق بموقف المؤسسة العسكرية، فتم الإعلان عنه من قبل قائد الأركان نجدت أوزيل في تصريح له عقب هذه العملية عبّر فيه عن وقوف الجيش خارج إطار الأحداث السياسية التي تحصل، وقبوله للإجراءات القضائية التي تتعلق بالمسؤولين العسكريين والمدنيين، وقد حملت تصريحات قائد الأركان إشارات على ثبات موقف الجيش من خلال وقوفه مسافة عن تداعيات العمليات السياسية.(22)

الانتخابات المقبلة

قامت جماعة فتح الله غولان بتقديم الدعم لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات السابقة قبل حصول التصادم الأخير بينهما، ومن الصعب التخمين بنسبة الأصوات التي يمكن أن يخسرها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية وبعدها الانتخابات البرلمانية والرئاسية المتوقعة، لوجود عدة عوامل متداخلة فيما بينها تؤثر في زيادة هذه النسبة أو تقليصها، كما أن وجود خيارات انتخابية أخرى غير حزب الشعب الجمهوري لأعضاء الجماعة يمكن أن يقلّل من فرص المنافسة لحزب الشعب الجمهوري للاقتراب من نسبة أصوات مرشحي العدالة والتنمية، وتقوم حكومة العدالة والتنمية بإجراء دراسات وتحليلات واستطلاعات للرأي بشكل مستمر وقد اعتمدت على هذه الدراسات والاستطلاعات لمعرفة اختيارات أعضاء الجماعة في الانتخابات ونسبة الأصوات التي يمتلكونها.(23) ويمكن تلخيص أهم العوامل التي يمكن أن تؤثر سلبًا على أصوات حزب العدالة والتنمية فيما يتعلق بعلاقته مع الجماعة ما يلي:(24)

  1. استمرار وتيرة التصعيد بين الجماعة والحكومة. 
  2. نجاح محاولات حزب الشعب الجمهوري باستقطاب الجماعة.
  3. استمرار وسائل إعلام الجماعة في التحريض على الحكومة.

أما العوامل التي يمكن أن تقلص من نسبة خسارة حزب العدالة والتنمية للأصوات فيمكن تلخيصها على النحو التالي:

  1. محاولة حزب العدالة والتنمية التأثير على أعضاء جماعة فتح الله غولان للتصويت لصالحهم.
  2. سياسة الجماعة بعدم التصريح بدعهما لحزب معين في الانتخابات، وجاء ذلك التأكيد من قبل وقف الصحفيين والكتّاب التابع للجماعة، وهنا يتوقع أنه إما أن يُترك الأمر لأتباع الجماعة مع وجود تحذير ضمني من التصويت للعدالة والتنمية، أو تتخذ الجماعة قرارًا بمقاطعة الانتخابات. 
  3. تبني حزب الشعب الجمهوري المنافس الأقوى لحزب العدالة والتنمية، لقيم معادية للعناصر الإسلامية في الدولة، وهذا بدوره يمكن أن يجعل أغلب أعضاء الجماعة يمتنعون عن تأييده.
  4. الشعور العام لأعضاء حزب العدالة والتنمية بضرورة البحث عن بدائل، وتقليل عدد الأصوات المهدرة قدر الإمكان.

أما اتجاهات الجماعات والطرق الصوفية الأخرى فقسم كبير منها قد أعلن تأييده لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة، كما شهدت بعض الجماعات انقسامًا داخليًا في تحديد هوية الجهة التي سوف تنتخبها، وأعلن بعضها وقوفه إلى جانب أحزاب أخرى مثل جماعة إسكندر باشا التي أعلن شيخها وقوفه إلى جانب حزب الشعب الجمهوريCHP ، وهناك تشكيك في امتثال أفراد هذه الجماعة لهذا الأمر، كما أن بعض الجماعات قد أعلنت تأييدها لحزب السعادة وبعضها لحزب الحركة القومية MHP وبعضها لحزب السلام والديمقراطية BD صاحب الصبغة الكردية. وتشير التقديرات المختلفة إلى أن نسبة أصوات جماعة فتح الله غولان تتراوح بين 2-8% بين أدنى التقديرات وأعلاها، مع أن نسبة 3% هي النسبة الأكثر تداولاً بين الأوساط الإعلامية.(25)

وتشير بعض استطلاعات الرأي إلى استمرارية تقدم حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية المقبلة بالرغم من التطورات السياسية الصعبة التي مرت به خلال الأشهر الماضية.(26) وقد بيّن أحد استطلاعات الرأي التي نظمتها شركة أو أر سي للدراسات ORC  أن حزب العدالة والتنمية سيتقدم على الأحزاب التركية بما فيها حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات المحلية في أغلب المدن التركية بما فيها مدينتا إسطنبول وأنقرة؛ حيث يتوقع أن يحصل مرشح حزب العدالة والتنمية لرئاسة بلدية إسطنبول على نسبة 43.8% في حين يتوقع أن يحصل مرشح حزب الشعب الجمهوري على ما نسبته 33% من أصوات الناخبين، أما في مدينة أنقرة فقد أشارت الاستطلاعات إلى تقدم مرشح حزب العدالة والتنمية وأن يحصل على نسبة 44.8 % ، بينما يحصل مرشح  حزب الشعب الجمهوري على 29.2 %.(27)

توصيات لتجاوز الأزمة أو التقليل من تداعياتها السلبية

بالرغم من تفاقم الأزمة بين الطرفين ووصولها إلى نقطة اللاعودة كما يذكر بعض المحللين، إلا أن إمكانية تجاوز الأزمة أو التخفيف من حدتها على الأقل يمكن أن يتحقق من خلال الإجراءات التالية:

  1. جلوس طرفي الأزمة على طاولة التفاوض والحوار ويفضل أن يضم طرفا الحوار شخصيات أكثر قبولاً لدى الطرفين، مع استعداد الجماعة للتوقف عن حملتها التحريضية على الحكومة وقطع صلتها بكل الجهات التي تحاول إضعاف سلطة الحكومة، وإصدار توجيهات علنية وداخلية لجميع أعضائها بعدم اتخاذ أي إجراء إداري أو قانوني أو أمني من شأنه أن يتصادم مع سلطة الدولة أو سلطة الحكومة. وبالمقابل تتعهد الحكومة بالنظر في دراسة قرار إغلاق المراكز التعليمية من جديد، أو تطبيقه بشكل لا يلحق الضرر الكبير بمؤسسات الجماعة، مع إعطائها بدائل أخرى في هذا المجال. 
  2. في حال استمرت الجماعة في نهجها العدائي للحكومة، يمكن للحكومة التركية أن تخفض من شدة ردود أفعالها الانفعالية، وتقوم بخطوات ذكية في مجال إقصاء الشخصيات المشتبه في أدائها عن المناصب الحساسة، وبشكل متواز يمكن لأعضاء الحزب أن يتواصلوا مع أتباع الجماعة من أجل استمالتهم إليهم، كما أن تخفيف وتيرة ردود الأفعال الشديدة تجاه أعضاء الجماعة يمكن أن يوفر مساحة من التفاوض أو التفاهم في المستقبل. 
  3. بالرغم من قلة احتمالية تحققها، إلا أن الأشهر الأخيرة من هذه السنة، قد حملت في طياتها إشارات واضحة على وجود مخططات داخلية وخارجية تستهدف الحكومة التركية يمكن أن تتطور إلى محاولة انقلاب حقيقية، ومن هنا يتوجب على الحكومة التركية دراسة ملابسات الوضع القائم واتخاذ إجراءات جريئة للحفاظ على قوة وجودها.

____________________________________
* محمد جابر ثلجي، باحث متخصص في الشؤون التركية

المصادر والهوامش
1-Celaleddin Çelik, Türkiye’de Dini Gruplarin Sosyolojisi, (Kayseri : Erciyes Üniversitesi Stratejik Ara?tirmalar Merkezi, 2011), 23.
2-Çelik, Türkiye’de Dini Gruplarin Sosyolojisi, 24.
3-Adem Efe, Türkiye’de Dini Gruplarin Çevre Ve Çevre Sorunlarina Ili?kin Görü?leri (Iskenderpa?a Cemaati Örne?i),  (aydin: vi. Ulusal Sosyoloji Kongresiadnan Menderes Üniversitesi, Ekim 2009 ), 670.
4-طارق عبد الجليل، الحركات الإسلامية في تركيا المعاصرة، (القاهرة: جواد الشرق للنشر والتوزيع، 2001م)، 196-197.
5-Fatih Çayabatmaz, http://dirilissevdasi.wordpress.com/2013/11/26/erdogan-gulen-iliskisi-dun-bugun-yarin-1-kokleri-derinlerde-olan-bir-rekabet /.
6-Mustafa Peköz , Erdo?an-Gülen veya Cemaat-Akp çat??mas?: Dershaneler, http://alternatifsiyaset.net/2013/11/25/mustafa-pekoz-erdogan-gulen-veya-cemaat-akp-catismasi-dershaneler .
7-Ahmet ??k,  http://www.odatv.com/n.php?n=mitin-cemaat-raporu-nasil-hazirlandi-261212120.0
8- http://www.haber7.com/hukuk/haber/1059079-ilker-basbuga-muebbet-hapis-cezasi-verildi
9- Ayd?nl?k, http://www.aydinlikgazete.com/mansetler/30220-yolsuzluk-ve-rusvet-operasyonu-ne-anlama-geliyor.htmlö  , Sal?, 17 Aral?k 2013
10-Hükümetten Gülen'in bedduas?na ilk yan?t, http://www.radikal.com.tr/politika/hukumetten_gulenin_bedduasina_ilk_yanit-1167463 .
11-Milli E?itim ?statistikleri, Örgün E?itim (National Education Statistics, Formal Education 2012-2013)  2012-2013, T.C. Millî E?itim Bakanl??? Strateji Geli?tirme Ba?kanl???, 2013. , xx???.
12-Murat Özo?lu, Özel Dershaneler: Gölge E?itim Sistemiyle Yüzle?mek, Seta | Siyaset, Ekonomi Ve Toplum Ara?t?rmalar? Vakf? | Www.Setav.Org  | Mart 2011, s. 7.
13-Ölçme, Seçme ve Yerle?tirme Merkezi, http://www.osym.gov.tr/ana-sayfa/1-0/20131226.html .
14- Ugurdershanesi, http://ugurdershanesi.com.tr/ugurda_egitim
15-Özo?lu, Özel Dershaneler: Gölge E?itim Sistemiyle Yüzle?mek 7-12.
16-Mustafa Peköz – Erdo?an-Gülen veya Cemaat-Akp çat??mas?: Dershaneler, http://alternatifsiyaset.net/2013/11/25/mustafa-pekoz-erdogan-gulen-veya-cemaat-akp-catismasi-dershaneler .
17-17 Aral?k operasyonunda 14 tutuklama, http://www.haberturk.com/gundem/haber/905461-17-aralik-operasyonunda-14-tutuklama .
18- yd?nl?k, http://www.aydinlikgazete.com/mansetler/30220-yolsuzluk-ve-rusvet-perasyonu-ne-anlama-geliyor.htmlö  , Sal?, 17 Aral?k 2013
19- Mehmet Ali Güller, Yolsuzluk operasyonunun 5 anlam?, http://www.aydinlikgazete.com/yazarlar/mehmet-ali-gueller/30330-mehmet-ali-guller-yolsuzluk-operasyonunun-5-anlami.html , 19 Aral?k 2013.
20-Mehmet Ali Güller, Yolsuzluk operasyonunun 5 anlam?, http://www.aydinlikgazete.com/yazarlar/mehmet-ali-gueller/30330-mehmet-ali-guller-yolsuzluk-operasyonunun-5-anlami.html , 19 Aral?k 2013.
21-Hatem Ete,17 Aral?k Süreci, SETA | Siyaset, Ekonomi ve Toplum Ara?t?rmalar? Vakf? http://setav.org/tr/17-aralik-sureci/yorum/14268 .
22-Serpil Çevikcan, ‘Yeniden yarg?lama’ beklentisi,  Milliyet, http://siyaset.milliyet.com.tr/-yeniden-yargilama-beklentisi/siyaset/ydetay/1814238/default.htm.
23-Mustafa Peköz – Erdo?an-Gülen veya Cemaat-Akp çat??mas?: Dershaneler, http://alternatifsiyaset.net/2013/11/25/mustafa-pekoz-erdogan-gulen-veya-cemaat-akp-catismasi-dershaneler .
24-Cemaat seç?mlerde ne yapacak?, http://www.yerl?haber.com.tr/siyaset/cemaat-secimlerde-ne-yapacak-h15202.html .
25-Gülen Cemaatinin Oy Oran? Ne Kadar?, http://www.mynet.com/haber/politika/gulen-cemaatinin-oy-orani-ne-kadar-868795-1 .
26-30 Büyük?ehir'de Son Yerel Seçim Anketi, http://www.mynet.com/haber/guncel/30-buyuksehirde-son-yerel-secim-anketi-885494-1 .
27-30 ?lde Yerel Seçim Anketi Yap?ld? - ??te Sonuçlar, http://www.xn--2014yerelseim-sgb.com/2013/11/30-ilde-yerel-secim-anketi-yapld-iste.html

ABOUT THE AUTHOR