دولة جنوب السودان: مسار البناء وتحديات الواقع

كان لزاما على الجنوبيين تناول العلاقات الجنوبية-الجنوبية بالتوازي مع التعامل مع علاقاتهم بالخرطوم؛ لذلك لن تتحقق وحدة حقيقية بين الجنوبيين إلا بالتناول السليم لقضية التباين المتعدد لشعب جنوب السودان. كان الجنوبيون يرغبون في أن يقرروا بحرية وضعيتهم السياسية ومسار تطورهم الاقتصادي والاجتماعي.
2014224102510751734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
إن دولة جنوب السودان لم تبدأ من الصفر كما يروج لذلك من يريدون لها الفشل؛ فقد وُلِدت بموارد بشرية وطبيعية ومادية لا يُستهان بها لم تحظَ بها دولة إفريقية أخرى عند الاستقلال. صحيح، أنها كدولة وليدة تواجهها تحديات هائلة لترجمة الاستقلال السياسي إلى مستوى معيشي عال لشعب جنوب السودان. من بين هذه التحديات تجاوز البعد القبلي وضغطه على الحياة السياسية والأمن. أزمة جنوب السودان هي أزمة حكم ومحاولة البعض احتكار الحكمة تحت مسميات وتبريرات مختلفة. تجربة الأعوام السابقة أثبتت خطأ محاولة إقصاء قطاعات الشعب المختلفة مهما صغر حجم أي منها، كما أن الاعتماد على القوى الخارجية بدلاً عن التعاون معها لتحقيق مصالح مشتركة لهو ضمانة التبعية والتي هي نقيض الاستقلال.

الحل الجذري والنهائي لكل المشاكل التي تواجه دولة جنوب السودان لا يقبل التجزئة ويكمن في جلوس كل أصحاب الشأن في البلاد على مائدة مستديرة في حوار وطني شامل للتوافق حول قضايا البناء الوطني بما في ذلك الدستور الدائم للبلاد. هنا يكمن الحل النهائي للأزمات التي تطل برأسها  في صور مختلفة من وقت لآخر.

مقدمة

دولة جنوب السودان رقعة جغرافية لم تشهد قبائلها المختلفة ترابطًا قوميًا إلا حديثًا؛ فقد كان نضال القبائل ضد الاستعمار منعزلاً عن بعضها بلا رابط يربط بينها سوى العدو المشترك. سياسيًا، اجتمعت كلمة الجنوبيين لتبني قضية مشتركة لصالح الجنوب في أواخر أربعينيات القرن الماضي. أما عسكريًا، فالحرب ضد الخرطوم قامت بها القبائل كل على حدة حتى النصف الأخير من ستينيات القرن الماضي عندما برزت "الأنيانيا" كقوة موحدة تتبنى نضال جنوب السودان ضد العدو المشترك. لذلك، كان لجنوب السودانيين رؤية مشتركة عن عدو مشترك قبل تآلفهم كمجتمع واحد.

إن الاعتقاد السائد وسط الجنوبيين وخاصة أثناء الحرب الأهلية الأولى (1955-1972) بأنهم كتلة واحدة توحدهم ثقافةٌ واحدة وتوجهٌ سياسي واحد انهار تمامًا إزاء الأحداث التي وقعت في فترة الحكم الإقليمي الذاتي لجنوب السودان (1972-1983). حينها طالب أبناء وبنات الاستوائية بتقسيم جنوب السودان إلى ثلاثة أقاليم بحدود المديريات الثلاث السابقة: أعالي النيل والاستوائية وبحر الغزال. لقد تم فرض هذا الطلب في يونيو/حزيران عام 1983م، وصاحَبَ التقسيم مرارات عميقة بين الجنوبيين لعبت دورًا كبيرًا في تأجيج الحرب الأهلية الثانية التي اندلعت في نفس العام. برر الاستوائيون طلبهم بتقسيم الجنوب بأن قبيلة واحدة كانت تهيمن على مقاليد الحكم في جنوب السودان وأن نصيب القبائل الأخرى هو الإقصاء والتهميش. الدرس المستفاد من هذه التجربة المريرة أن مفهوم "العدو المشترك" كالعامل الوحيد لتوحيد الجنوبيين لم يعد قائمًا. منذ ذلك الوقت، كان لزامًا على الجنوبيين تناول العلاقات الجنوبية-الجنوبية بالتوازي مع التعامل مع العلاقات الشمالية-الجنوبية. لذلك لن تتحقق وحدة حقيقية بين الجنوبيين إلا بالتناول السليم لقضية التباين المتعدد لشعب جنوب السودان.

عندما طالب الجنوبيون بحق تقرير المصير، كانوا يرغبون في أن يقرروا بحرية وضعيتهم السياسية وأن يختاروا بحرية مسار تطورهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. بناء على ذلك، فإن نجاح أو فشل الدولة الجديدة سيُقرر بمدى تحقيق هذه التطلعات.

البدايات.. والتوجه نحو الانفصال

يُعتبر إعلان استقلال جنوب السودان في التاسع من يوليو/تموز 2011 نقطة تحول تاريخية مهمة أدخلت جنوب السودان في المجتمع الدولي كدولة مستقلة ذات سيادة. بالطبع، إن بروز دولة جديدة تصاحبه تحديات كبيرة تحتاج معالجتها إلى بعد نظر لكي يُترجم الاستقلال السياسي إلى مستوى معيشة عال لشعب جنوب السودان.

تختلف دولة جنوب السودان عن سائر الدول الإفريقية التي نالت الاستقلال قبلها في أن جنوب السودان كان شبه مستقل لمدة ست سنوات قبل استقلاله الرسمي في 9 يوليو /تموز 2011م. خلال تلك الفترة كانت حكومة جنوب السودان تتمتع بموارد مالية وسلطة سياسية مكّنتها من إرساء قاعدة راسخة للدولة الجديدة. في واقع الأمر، تم الاتفاق على هذا الوضع في اتفاقية السلام الشامل بهدف أنه بنهاية الفترة الانتقالية سيكون جنوب السودان قد تطور ليكون على مستوى الولايات الشمالية؛ إما لإبقاء الجنوبيين في إطار وحدة السودان في الاستفتاء على تقرير المصير، أو لإرساء أساس قوي لدولة جديدة إذا جاء خيارهم لصالح الانفصال عن السودان. كما هو معلوم، استقر رأي الجنوبيين على الخيار الأخير. وعليه، عندما نناقش التحديات التي تواجه جنوب السودان لا يمكن أن تكون نقطة انطلاقنا هي تاريخ إعلان الاستقلال وإنما يوم 9 يوليو/تموز 2005 عندما تم تكوين حكومة جنوب السودان.

كانت فرحة السودانيين عارمة عندما تم توقيع اتفاقية السلام الشامل في نيروبي يوم 9 يناير/كانون الثاني 2005 لأنه بذلك تكون الحرب قد وضعت أوزارها في سياق مبشر بأن ينعم السودانيون أخيرًا بالأمن والاستقرار بعد عقود من حرب مدمرة. كذلك سَعِد مؤيدو الحركة الشعبية لتحرير السودان من الجنوب والشمال لأن سريان الاتفاقية كان فرصة للحركة، وهي الآن في الحكومة، أن تضع برنامجها موضع التنفيذ. ينطبق ذلك بصورة أخص على جنوب السودان حيث تسيطر الحركة على 70% من السلطة وكل الثروة.

الأحداث الأخيرة.. خلاف سياسي ينذر بحرب أهلية

في ليلة 15 ديسمبر/كانون الأول 2013 حدث إطلاق نار بين مجموعتين داخل الجيش الشعبي لتحرير السودان، أي: الجيش القومي لدولة جنوب السودان. تختلف الروايات فيمن تسبب في الصدام المسلح ولكن لا خلاف على أن الصدام تم بين مجموعتين تدين إحداهما بالولاء للرئيس سلفا كير ميارديت والأخرى لنائب الرئيس المقال د. ريك مشار تينج. انتشر الصراع المسلح بسرعة في جوبا وأجزاء أخرى من البلاد وخاصة ولايات إقليم أعالي النيل. تم استهداف مدنيين من قبيلة النوير في جوبا تبعه استهداف مضاد ضد قبيلة الدينكا في مناطق سيطرة المتمردين.

لجأ عشرات الآلاف من المواطنين جرّاء العنف المسلح إلى معسكرات بعثة الأمم المتحدة في جوبا وملكال وبور وبانتيو بحثًا عن الحماية. بنهاية شهر يناير/كانون الثاني 2014 أفادت أرقام بعثة الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية إلى فقدان الآلاف من الأرواح وأن ما يزيد عن 650 ألفًا أصبحوا نازحين داخل جنوب السودان و123 ألفًا آخرين لجأوا إلى الدول المجاورة. إن قتل المدنيين من الجانبين سلّط المجتمعات ضد بعضها البعض وقسّم الأسر وهدم النسيج الاجتماعي في الدولة الوليدة. هذه كارثة إنسانية هائلة بكل المقاييس.

هذه الحرب الأهلية كانت صدمة فاجعة للكثيرين من حيث درجة وسرعة انتشارها، رغم أن احتمال الصدام لم يكن مفاجئًا لمراقبي شأن جنوب السودان. الشرارة المباشرة لاندلاع الحرب هي خلاف سياسي داخل الحزب الحاكم، الحركة الشعبية لتحرير السودان، حول منصب رئيس الحزب والذي يصبح من يحوز به هو مرشح الحزب لمنصب رئيس جمهورية جنوب السودان في الانتخابات القادمة والمحدد لها عام 2015.

كيف تحول خلاف سياسي إلى مواجهة عسكرية بهذه الدرجة والسرعة وبهذه الخسارة الباهظة في الأرواح والممتلكات؟

أسباب الصراع: منطق النضال وإكراهات السلطة

تعود جذور الأزمة السياسية إلى فشل الحزب الحاكم في الانتقال من حركة مسلحة إلى حزب سياسي يقود عملية تحقيق تطلعات وتوقعات مجتمع جنوب السودان بعد التوصل إلى السلام عام 2005، وتحول مشروعه إلى صراع مستميت حول السلطة بين مجموعاته المختلفة. كشفت الحرب الأهلية بالإضافة إلى ذلك ضعف بناء الدولة والذي ظهر جليًا في موقف الجيش الوطني؛ إذ لم يتم تحويل الجيش الشعبي لتحرير السودان طيلة السنوات التسع الماضية إلى جيش قومي موحد يدين بالولاء للدولة؛ فقد ظل -كما كانت الحال أيام الحرب ضد الخرطوم- مجموعات قبلية ولاؤها للقادة المحليين. فانسلاخ مجموعات قبلية مقدرة من الجيش وانضمامها لصفوف التمرد يعود لهذا السبب. في واقع الأمر، إن الاحتكار شبه الكامل للقبيلتين، الدينكا والنوير، لأجهزة الحكم وخاصة الجيش وأجهزة الأمن الأخرى كان العامل الأساسي الذي أدى إلى سرعة انتشار الصدام المسلح.

الذي حدث منذ عام 2005 هو أن حكومات الحركة الشعبية المتعاقبة لم تُعِرْ موضوع الوحدة الوطنية الاهتمام الكافي. على مستوى الحكومة المركزية كان نصيب قبيلتي الدينكا والنوير أكثر من 70% من الوزارات والمواقع العليا المهمة، وهما يشكّلان أقل من 50% من سكان جنوب السودان الذين تُقدر قبائلهم بحوالي 64 قبيلة. أما الجيش فقد كان نصيبهما منه أكثر من 90%؛ حيث نالت قبيلة النوير، وهي الثانية من حيث عدد السكان، نصيب الأسد. هذا يفسر اكتساب الصراع صبغة قبلية والاهتزاز الكبير الذي حدث في صفوف الجيش عندما حصل ذلك.

على نطاق المجتمع، كشفت الحرب الأهلية كذلك التركيبة القبلية الهشة في جنوب السودان؛ فسرعان ما اتخذت الحرب طابعًا قبليًا لا تخطئه العين.

الموقف الإقليمي والدولي: اشتراك في الاهتمام واختلاف في الأجندات

فيما عدا إفريقيا الوسطى، تتمتع دولة جنوب السودان بعلاقات متطورة مع دول الجوار وخاصة أوغندا وكينيا وإثيوبيا، ودول الإقليم الأخرى المنتظمة تحت لواء منظمة الإيغاد (IGAD). أما الجارة السودان فالعلاقات معها تتأرجح بين التحسن والتدهور منذ الانفصال، بيد أنها صارت في تحسن ملحوظ منذ الشهور الستة الأخيرة. هناك امتداد تاريخي وإثني بين هذه الدول وجنوب السودان كما لها مصالح اقتصادية وأمنية وسياسية مع دولة جنوب السودان. وعليه، لم تتأخر هذه الدول عندما اندلعت الحرب في ديسمبر/كانون الأول 2013 في إبداء اهتمامها بالأزمة وفعْل ما أمكن لوضع حد للحرب. لعبت دول منظمة الإيغاد بما في ذلك السودان دور الوساطة بين الطرفين، وثلاث منها هي الآن الوسطاء الرسميون نيابة عن المنظمة في محادثات أديس أبابا للسلام بين الطرفين. أما أوغندا فقد تدخلت قواتها العسكرية منذ اليوم الأول لتحارب جنبًا إلى جنب مع حكومة جنوب السودان ضد المتمردين؛ مما أثار الكثير من اللغط داخل وخارج الجنوب، وفتح بابًا ليشكّك المتمردون في حياد دول الإيغاد والطعن في تأهيلها للوساطة. 

من جانبها تحتاج دولة جنوب السودان إلى الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع هذه الدول؛ فهي دولة مغلقة في حاجة إلى موانئ كينيا لنقل وارداتها وصادراتها من وإلى دول ما وراء البحار، كما تحتاج إلى نقل صادراتها من النفط الخام عن طريق خط الأنابيب الذي يمر بالسودان ويملكه. هذا بالإضافة إلى مصالح أمنية وثقافية وسياسية أخرى تجمعها مع هذه الدول.

بناء على ما تقدم، من المتوقع أن تثمر وساطة منظمة الإيغاد في إيقاف الحرب ولكن الدور الأكبر في وضع حل نهائي لأسباب النزاع يقع على عاتق أبناء وبنات جنوب السودان.

أكثر الدول تأثيرًا في جنوب السودان هي الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي والصين. كان للولايات المتحدة الأميركية دور مهم في الوصول إلى اتفاقية السلام الشامل ودعمت الحركة الشعبية لتحرير السودان ماديًا وسياسيًا في مفاوضاتها المختلفة مع حزب المؤتمر الوطني خلال الفترة الانتقالية، كما ظلت تدعم دولة جنوب السودان منذ ميلادها. وترى الولايات المتحدة أن قيام دولة جنوب السودان "مشروعها"، أما دول الاتحاد الأوروبي فقد دعمت جنوب السودان اقتصاديًا وسياسيًا قبل وبعد الانفصال. بالنسبة للصين فلها مصالح نفطية كبيرة في جنوب السودان كما تربطها مصالح مع الدول الإفريقية. ولذلك لها اهتمام خاص بكل من جنوب السودان والسودان بسبب استثماراتها النفطية في الدولتين.

لم يختلف رد فعل هذه الدول عن رد فعل دول الإيغاد في الوقوف مع جنوب السودان في محنته ودفع الطرفين إلى تغليب خيار الحل السلمي. وبالفعل دعمت هذه الدول -وما زالت تدعم- وساطة دول الإيغاد الجارية الآن في إثيوبيا إلا أن الولايات المتحدة أبدت تعاطفًا واضحًا مع قادة الحركة الشعبية الذين تم اعتقالهم عقب أحداث 15 ديسمبر/كانون الأول 2013، وطالبت بإطلاق سراحهم وأصرت على إشراكهم في المحادثات. فُهم من هذا الإصرار من قبل بعض المراقبين أن أميركا تريد تغيير النظام بقيادة جديدة حليفة لها في جنوب السودان، وهؤلاء المعتقلون هم من يعرفونهم وتعاملوا معهم.

اللاعبون المحليون والتحديات المعقدة

قبل اندلاع الأزمة الأخيرة كانت أحزاب المعارضة تنتقد أداء الحركة الشعبية وفشل حكوماتها المتعاقبة منذ عام 2005 في تلبية تطلعات الجماهير، واستشراء الفساد وعدم التزامها باحترام حقوق الإنسان. انضم إليها المجتمع المدني وخاصة فيما يختص بجوانب حقوق الإنسان. التطورات الأخيرة والتي نبعت من داخل الحزب الحاكم رغم بشاعتها ما هي إلا تعبير عن أزمة الحكم العميقة التي تواجه جنوب السودان. وعليه، يرى أصحاب الشأن من أحزاب ومجتمع مدني أن الحل لابد أن يكون شاملاً؛ حيث يجلس الجميع على مائدة مستديرة للحوار والتوافق حول قضايا البناء الوطني.

الشرط الأساسي لنجاح مشروع البناء الوطني هو الوحدة الوطنية والتي في حالة دولة جنوب السودان هي الوحدة في تنوع. هذه الوحدة لابد أن تؤسَّس على الحكم الراشد الذي يرتكز على ست دعائم: توفير الأمن، سيادة حكم القانون، ديمقراطية متعددة الأحزاب، مناخ ملائم للنمو الاقتصادي والرفاهية، تقديم الخدمات ومجتمع مدني نشط. نتطرق فيما يلي بإيجاز إلى هذه القضايا لنلقي الضوء على أهميتها وما صاحب الفترة السابقة من إخفاق:

توفير الأمن
الواجب الأول لأية حكومة هو توفير الأمن الجماعي والشخصي لمواطنيها؛ لذلك تحتكر الدولة وسائل العنف في أيدي الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى. على هذا الأساس لابد أن تكون تركيبة هذه الأجهزة قومية بمعنى الكلمة وتعكس التباين السكاني في البلاد.

كما ذكرنا، أصاب الخلل تكوين الأجهزة الأمنية في جنوب السودان منذ بداية الفترة الانتقالية في عام 2005. للحكومة حجة قوية فيما أصاب الجيش من اختلال في التوازن القبلي، تقول: إنها استوعبت الميليشيات التي كانت تحارب الحكومة، والتي كانت تتكون من قبيلة النوير، من أجل تحقيق السلام والذي لولاه لما تحقق قيام دولة مستقلة في جنوب السودان. ولكن هذه الحجة وحدها غير كافية لتفسير لماذا لا نجد التوازن في الأجهزة الأمنية الأخرى والتي لعبت دورًا كبيرًا في تصعيد الأمور عند حدوث الصدام المسلح في جوبا يوم 15 ديسمبر/كانون الأول 2013.

أضف إلى كل ذلك الصراعات القبلية المسلحة التي حصدت الآلاف من الأرواح ودمرت الكثير من الممتلكات وأضرت بالنسيج الاجتماعي ضررًا بليغًا.

لابد من حلول عاجلة لوضع حد نهائي للحروبات القبلية وتطبيق خطة متكاملة لإحداث إصلاح جذري داخل كل الأجهزة الأمنية بما يضمن قوميتها ومساءلتها أمام الجهازين التنفيذي والقضائي.

سيادة حكم القانون
العمود الفقري لكفالة الحقوق هو ضمان سيادة حكم القانون بما في ذلك استقلال القضاء وسريان أحكامه على كل الأشخاص الطبيعية والاعتبارية.

كل أجهزة تطبيق القانون من قضاء ومستشارين قانونيين وشرطة وإدارة تقليدية تحتاج إلى تقوية لضمان سيادة حكم القانون في دولة جنوب السودان.

الديمقراطية التعددية
الديمقراطية التعددية كنظام حكم هي الضمانة الوحيدة للسلام المستدام في البلاد، لأنها الوسيلة الوحيدة لخلق فرص تنافس متساوية للجميع حول التداول السلمي للسلطة. الديمقراطية ليست بعملية موسمية تُختَزَل في صندوق الاقتراع، وإنما هي طريقة حياة لابد أن نلتزم بها في كل أنشطتنا السياسية. ولن تكتمل الديمقراطية بدون وجود معارضة قوية؛ فالحكومة والمعارضة مكملان لبعضهما البعض في العملية الديمقراطية.

الواقع في جنوب السودان هو أن الحركة الشعبية لتحرير السودان تسيطر على المسرح السياسي ليس لقوة تنظيمها الداخلي ولا لمقدرتها على تعبئة الجماهير، وإنما للوضعية الخاصة التي حصلت عليها في اتفاقية السلام الشامل،(1) مدعومة بتكتيكاتها في تضييق مساحة حرية التنظيم والتي نفذتها بلا هوادة خلال الفترة الانتقالية وما بعدها. لابد من أن توفر الحكومة مناخًا صالحًا يسمح لكل الأحزاب السياسية بالتمتع بحقوق متساوية للتبشير بآرائها والتنافس على التمثيل في الشأن العام؛ وهذا يشمل فصل الحزب الحاكم عن الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى، وكفالة حرية الصحافة والنشر، ومراجعة الدستور الانتقالي.

الاقتصاد القومي
يحتاج جنوب السودان إلى إعادة هيكلة الاقتصاد من أجل تحقيق نمو مقدر، وهذا يتطلب نمو الإنتاج القومي ووضع وتطبيق ضوابط نقدية ومالية صارمة لضبط التضخم وتوسيع الاقتصاد. بدون نمو حقيقي في الاقتصاد ستظل الأغلبية الساحقة للشعب تحت حد الفقر،(2) وستظل البطالة في ارتفاع دائم، وستظل المؤشرات الاقتصادية الأخرى تسجل أرقامًا ضعيفة. لابد من تنويع مصادر الدخل القومي بدلاً من الاعتماد الكلي على النفط والذي -كما نعلم- هو مصدر للطاقة غير متجدد وأسعاره متذبذبة. يصاحب كل ذلك وضع خطة متكاملة للتنمية والتي هي مفتاح التطور الاجتماعي والنمو الاقتصادي والرفاهية في دولة جنوب السودان. تضع مثل هذه الخطة في اعتبارها نقاط قوة الدولة في الزراعة، والسياحة، والنقل النهري، وغيرها، واستغلال النفط كمحرك لعملية التنمية قبل أن ينضب.

حاليًا، تعتمد موازنة الدولة في مواردها على النفط بنسبة 98%، الوزارات تصرف أكثر من المبالغ المصدقة في موازناتها وصلت في بعضها لأكثر من 2000%،(3) والفساد مستشرٍ بصورة مرعبة.(4) ورغم وجود مفوضية لمكافحة الفساد منذ عام 2005 لم تتمكن هذه المفوضية حتى الآن من تقديم شخص واحد للمساءلة. لابد من وجود إرادة قوية من الدولة لمكافحة الفساد ولتنويع مصادر الدخل القومي ولاعتماد وتطبيق خطة قومية لإحداث تنمية شاملة في البلاد.

تقديم الخدمات
من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى الحرب الأهلية بين جنوب السودان وحكومة السودان التخلف الاقتصادي/الاجتماعي في جنوب السودان مقارنًا بشماله، وخاصة في مجال تقديم الخدمات من صحة وتعليم وبنية تحتية. لذلك، كانت التوقعات كبيرة أنه بحلول السلام وتقلد الجنوبيين إدارة شؤونهم بأنفسهم وتوفر الموارد النفطية سيرى المواطن توفير الخدمات على درجة لم يسبق لها مثيل. للأسف الشديد كان الواقع مخيبًا للآمال؛ إذ تجاهلت أسبقيات الحكومة هذا المجال الحيوي المهم. على سبيل المثال، لقد نالت وزارتا الصحة والتعليم في موازنة عام 2011 3.8% و5.6% على التوالي(5) مقارنة بـ 3.7% و5.1% في موازنة عام 2010 (6). نلاحظ أنه في كل من العامين المذكورين نالت الصحة والتعليم معًا أقل من 10% من الموازنة العامة للدولة.

يفيد تقرير لمجموعة المانحين المشتركة(7) في شبكتها العنكبوتية أنه "من المقدر أن 40% فقط من سكان جنوب السودان في إمكانهم الحصول على خدمات الصحة الأولية الأساسية. حاليًا حوالي 70% من الخدمات الصحية تقدمها منظمات غير حكومية...". ويقدم نفس التقرير أرقامًا مزعجة عن مؤشرات صحية فيما يتعلق بمعدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة (106 من كل 1000)، والأطفال عامة (84 من كل 1000).

هذا غيض من فيض للاستدلال على سوء حالة الصحة والتعليم في جنوب السودان، وينطبق ذلك على مجالات الخدمات الأخرى. لذلك، لابد من الاهتمام الكافي والسريع بتقديم الخدمات للشعب الذي دفع الكثير من التضحيات أثناء الحرب.

المجتمع المدني
في معناه الواسع، يُقصَد بالمجتمع المدني كل تنظيمات الشعب فيما عدا من هو مشارك في حكومة البلاد. يشمل ذلك الأحزاب السياسية في المعارضة، ولهؤلاء دور أساسي في إثراء الحياة العامة في البلاد.

خاتمة

إن دولة جنوب السودان لم تبدأ من الصفر كما يروج لذلك من يريدون لها الفشل؛ فقد وُلِدت بموارد بشرية وطبيعية ومادية لا يُستهان بها لم تحظَ بها دولة إفريقية أخرى عند الاستقلال. صحيح، أنها كدولة وليدة تواجهها تحديات هائلة لترجمة الاستقلال السياسي إلى مستوى معيشي عال لشعب جنوب السودان. من بين هذه التحديات تجاوز البعد القبلي وضغطه على الحياة السياسية والأمن. أزمة جنوب السودان هي أزمة حكم ومحاولة البعض احتكار الحكمة تحت مسميات وتبريرات مختلفة. تجربة الأعوام السابقة أثبتت خطأ محاولة إقصاء قطاعات الشعب المختلفة مهما صغر حجم أي منها، كما أن الاعتماد على القوى الخارجية بدلاً عن التعاون معها لتحقيق مصالح مشتركة لهو ضمانة التبعية والتي هي نقيض الاستقلال.

الحل الجذري والنهائي لكل المشاكل التي تواجه دولة جنوب السودان لا يقبل التجزئة ويكمن في جلوس كل أصحاب الشأن في البلاد على مائدة مستديرة في حوار وطني شامل للتوافق حول قضايا البناء الوطني بما في ذلك الدستور الدائم للبلاد. هنا يكمن الحل النهائي للأزمات التي تطل برأسها  في صور مختلفة من وقت لآخر.
____________________________________________
د. لام أكول أجاوين - أستاذ جامعي وسياسي جنوب سوداني ووزير خارجية سابق

الهوامش
1-  في اتفاقية السلام الشامل 2005 حصنت الحركة الشعبية هيمنتها على السلطة والثروة في جنوب السودان مقابل نفس السيطرة للمؤتمر الوطني في شمال السودان. قارن هذا الوضع بالذي حدث عام 1972 عندما فاوضت حركة تحرير جنوب السودان/الأنيانيا حكومة السودان، كما فعلت الحركة الشعبية فيما بعد، ولكنها لم تصر على تضمين وضعية سياسية مهيمنة لها في الاتفاقية. نتيجة لذلك شهد جنوب السودان ممارسة ديمقراطية ثرية في فترة الحكم الإقليمي (1972-1983).
2-  تقدر الأمم المتحدة أن نصف سكان جنوب السودان في حاجة إلى إغاثة غذائية وأن 2 مليون منهم على وشك الموت جوعًا (أرقام عام 2012م).
3-  تقارير المراجع العام للأعوام 2005-2008.
4-  في مايو/أيار عام 2012 اتهم رئيس الجمهورية 75 من العاملين في الحكومة في خطاب كتبه لهم بأنهم اختلسوا 4 مليارات دولار أميركي من خزينة الدولة. يقدر هذا الكاتب أن الأموال المختلسة منذ عام 2005 يزيد عن ضعف هذا الرقم.
5-  موازنة عام 2011م، المجلس التشريعي لجنوب السودان.
6-  موازنة عام 2010م، المجلس التشريعي لجنوب السودان.
7- هي مجموعة غوث لمساعدة جنوب السودان تديرها كندا، والدنمارك، وهولندا، والنرويج، والسويد، والمملكة المتحدة.

ABOUT THE AUTHOR