الاحتجاجات الاجتماعية في البوسنة والهرسك: الأسباب والتداعيات

خرج آلاف العمال في البوسنة منددين باتساع هوة الفوارق الاجتماعية وبالليبرالية الجديدة التي خلفت النظام الاقتصادي الاشتراكي ليحل محله نظام اقتصادي غير واضح المعالم، ومن المؤكد أن ما بعد الاحتجاجات لن يكون قبلها وقد تتسع إذا لم تتم معالجتها لتصل إلى الدول المجاورة.
2014320101633237734_20.jpg
(الجزيرة)
ملخص
انقلبت الاحتجاجات الفئوية لعمال أحد المصانع في مدينة توزلا في الأيام الأولى من شهر فبراير/شباط 2014 إلى غضب شعبي اتسع نطاقه ليشمل كبريات المدن البوسنية الأخرى. وتتركز مطالب المحتجين حول حياة أكثر كرامة تتوفر فيها فرص للعمل ورعاية صحية ومحاربة الفساد المستشري، وتعود هذه الآفات بمجملها إلى النظام الدستوري نفسه الذي يحكم بلدهم، وإلى النخب الحاكمة التي عجزت عن إصلاح النظام ووضع البوسنة والهرسك على طريق الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي. ومن التداعيات للاحتجاجات ظهور ما يسمى تنظيم "البَلِينوم" وهو أشبه بـ"جمعية عمومية" هدفها التوصل إلى قرارات جماعية بطريقة "الديمقراطية المباشرة". ومن المحتمل أن تنتقل هذه الاحتجاجات إلى دول الجوار رغم محاولة البعض حصرها بالبوسنة والهرسك، لا بل "بالبوشناقيين" فحسب. وهناك من يراها مؤامرة مدبرة، ولكن الصحيح أنها جاءت في سياق عفوي بغض النظر عن احتمالات الاستغلال السياسي لها، لاسيما أن يتخذ منها المتطرفون -من القوميين الصرب والكروات- ذريعة للمطالبة بانفصال ريبوبليكا صربسكا بدعوى فشل مشروع دولة البوسنة والهرسك الموحدة.

اندلعت الاحتجاجات في البوسنة والهرسك في الأسبوع الأول من شهر فبراير/شباط الماضي، في عدد من المدن والقرى الواقعة ضمن نطاق فيدرالية البوسنة والهرسك، وهو الكيان الذي يضم غالبية من الإثنيتين: البوشناقية/المسلمة والكرواتية(1). خرج آلاف الأشخاص منددين باتساع هوة الفوارق الاجتماعية وبالليبرالية الجديدة التي خلَفت النظام الاقتصادي الاشتراكي ليحل محله نظام اقتصادي غير واضح المعالم، في ظل غياب نظرة استراتيجية سياسية واقتصادية طويلة المدى، وتواصل الانسداد السياسي بين الفرقاء السياسيين المحليين وعجز المجتمع الدولي -الحاضر بقوة في البوسنة والهرسك- عن المساعدة في تجاوز حالة الترهل الاقتصادي والاختناق السياسي والتذمر الاجتماعي.

تتعدد الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي أدت إلى اندلاع الأحداث الأخيرة، فمنها ما هو سياسي-اقتصادي ومنها ما هو اجتماعي، غير أن الواضح هو أن البوسنة والهرسك ليست بمعزل عما يجري في عدد من دول العالم التي تأثرت بالربيع العربي.

الأزمة: الخلفية والأسباب

لم تشهد دولة البوسنة والهرسك، منذ انتهاء الحرب التي شُنت عليها نهاية العام 1995، أحداث عنف وهزة اجتماعية بحجم تلك التي عرفتها في الأسبوع الأول من شهر فبراير/شباط 2014 ولا تزال مستمرة، وإن بنسق أقل إلى يومنا هذا.

أدت الأوضاع الاجتماعية الصعبة التي يعيشها الشعب البوسني إلى تلك الغضبة الشعبية؛ حيث وصل عدد من هم على أو دون خط الفقر إلى 700 ألف شخص، في حين يُعاني من الجوع واحد من بين كل ستة مواطنين(2). وزاد من تأزم الوضع وانسداد أفق الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية العاجلة انتهاج سياسة متمثُلة في انعدام التواصل وغياب لغة مشتركة بين الطبقة السياسية الممثلة للإثنيات البوشناقية والصربية والكرواتية، وعجز الممثل السامي للمفوضية الأوروبية فالنتين إينسكو -الحاكم الفعلي للبوسنة والهرسك(3)- عن حمل الأطراف السياسية على التخلي عن مواقفها السياسية المتشددة في قضايا تتعلق أساسًا بتسيير مؤسسات الدولة وإيجاد حلول لعدد من المسائل؛ من قبيل تنظيم جيش موحد ومراقبة الحدود الدولية للدولة والتصرف في ممتلكات الدولة السابقة الموجودة خارج حدودها، مع جملة من القضايا الحقوقية والقانونية المهمة التي لا تزال تنتظر الحل، إضافة إلى فشل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية في الوقوف بمبدئية واضحة إلى جانب سراييفو بحيث يمكنهما الضغط وتقديم المساعدة في آن واحد، ولم تُفلح السياسات المتبعة من قبلهما في تجاوز الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، ولا تزال الوعود التي تقدمها واشنطن وبروكسل بإلحاق البوسنة والهرسك بالاتحاد الأوروبي وعضوية حلف الناتو بعيدة التحقيق لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، هذا بالإضافة إلى خروج البوسنة والهرسك منهكة جرّاء الحرب التي خلّفت بنية تحتية هشة، ونظامًا سياسيًا غريبًا أقره دستور مستورد للبلاد، وضعته القوى الكبرى بزعامة الولايات المتحدة الأميركية في دايتون عام  1995(4).

ضاعف تقسيم البلاد، وفقًا لاتفاق دايتون، إلى كانتونات من ميزانية التسيير الحكومي ومؤسسات الدولة، وزاد من عبء التكلفة على جيب المواطن البسيط ماديًا؛ ففيدرالية البوسنة تضم عشر حكومات مختلفة بالإضافة إلى الحكومة الفيدرالية وحكومة دولة البوسنة والهرسك (الفيدرالية وريبوبليكا-صربسكا) وحكومة الكيان الصربي، ولدى كل حكومة تشكيل وزاري موسع؛ مما يجعل عدد الوزراء في مختلف الكانتونات يتجاوز 200 وزير، وقس على ذلك عدد المساعدين والمستشارين وما يُصرف على المباني المخصصة لهم والسيارات والحوافز والرواتب الشهرية. ويُصرف على تسيير تلك الحكومات والبلديات البالغ عددها 74 داخل الفيدرالية، ما يُقدر بـ 150 يورو في الثانية (أي: 216 ألف يورو في اليوم). وإلى جانب هذه التكلفة المادية العالية جدا، فإن تمدد وتضخم الآلة الحكومية وتعدد مراكز اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي، وغياب الرؤية الموحدة كلّف المجتمع البوسني تناحرًا سياسيًا عبثيًا لا يمكن معه بأية حال تنسيق جهود تلك الحكومات فضلاً عن توحيد رؤاها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، فيما عجزت الأوليغارشية السياسية عن تقديم حلول تخرج البلاد من أزماتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المستفحلة وتقترب بها من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

ثورة عمال المصانع

تمحور أهم مطالب المحتجين حول حياة أكثر كرامة تتوفر فيها فرص للعمل ورعاية صحية شاملة ومحاربة الفساد المالي والسياسي المستشري، وعلى غرار ثورات الربيع العربي والثورات التي سبقتها في هذا الجزء من القارة الأوروبية -رومانيا، بولندا، أوكرانيا، مع عدة فوارق جوهرية طبعًا- فإن ما حدث في البوسنة والهرسك يمكن توصيفه بـ"الهزة الاجتماعية" القابلة إلى التحول إلى "ثورة" مكتملة الأركان في حال عدم الاستجابة لمطالبها.

فالوضع الاقتصادي سيء إلى أبعد الحدود في بلد كان يضم عددًا كبيرًا من المصانع الضخمة، وفيه طبقة عمالية كانت بدورها قوية ومنظمة، والحكومات المتعاقبة لم تنجح في إعادة تنشيط الحياة الاقتصادية والصناعية ولا في رسم سياسات واضحة قادرة على استبدال نظام جديد بالنظام الاقتصادي الاشتراكي الذي عرفته البلاد طيلة العقود التي فصلت بين الحرب العالمية الثانية وحرب البلقان الأخيرة 1992-1995.

لم تعرف البوسنة والهرسك خلال العقدين الأخيرين أي تطور في المجال الصناعي الذي كان يقوم عليه اقتصادها، ولم تتبنّ الحكومات خططًا إصلاحية جذرية لمعالجة الوضع، بل على العكس من ذلك، بادرت الحكومة المركزية وحكومات الكانتونات إلى بيع عدد مهم من المصانع التي كانت تشغل مئات الآلاف من العمال إلى مستثمرين أجانب بأسعار رمزية، ولعل مصنع "بوليهام" في مدينة توزلا المتخصص في الصناعات الكيميائية يبرز كمثال على غياب الرؤية وانعدام الشفافية في عملية الخصخصة؛ حيث تم بيع المصنع إلى شركة بولندية منذ العام 1998، إلا أن المالك الجديد لم يشغّل المصنع وقام بتسريح العمال وباع الآلات، وتخلّدت بذمته ديون ومستحقات تجاه العمال لم يجدوا من يسددها لهم رغم صدور حكم قضائي يُلزم الشركة البولندية بذلك، لكن أصحاب الشركة غادروا البلاد.

هذا المثال يدلّل على غياب الرقابة الحكومية وعدم وضعها خططًا بديلة تلزم المالكين الجدد بضمان إعادة تشغيل تلك المصانع وزيادة طاقتها الإنتاجية، وضخ رؤوس أموال فيها تكون قادرة على جعلها تستعيد مكانتها في الأسواق الإقليمية والعالمية، ومن ثم إعادة استيعاب أعداد المعطلين والمسرّحين منها. لكن، ومع انفتاح البلاد على رأس المال الأجنبي أعاد مالكو تلك المصانع بيعها إلى مستثمرين أجانب بأضعاف السعر الذي اشتروها به، ولم يكترثوا لمستقبل العمال وأسرهم، حتى إن عددًا من تلك المصانع لم يدفع رواتب العمال لعدة أشهر(5).

هذه الأوضاع القاسية التي وُجدت فيها الطبقة العاملة وعموم صغار الموظفين، انعكست بالضرورة على الجيل الشاب من أبناء الطبقة الوسطى الآخذة في التلاشي بفعل اتساع الهوة بين الرأسماليين الجدد وعموم الشعب، وبعد فقْد الآباء لوظائفهم ومصادر دخلهم فإن الأبناء فقدوا الثقة في المستقبل الذي لا ملامح محددة له.

بسبب هذه الأوضاع نظّم عدد من عمال المصانع والمناجم ومن المسرّحين من القوات المسلحة والشرطة وصغار الفلاحين وغيرهم، مسيرات ووقفات احتجاجية واعتصامات كانت كلها سلمية، لكنها لم تؤد إلى نتيجة تُذكر وغالبًا ما كانت تتم معالجتها بإطلاق وعود من السياسيين وأصحاب رؤوس الأموال المتنفذين دون أن يحققوا شيئًا منها. فكانت مدينة توزلا(6) التي تضم عددًا مهمًا من أكبر المصانع في البلاد، هي المكان الذي انطلقت منه في  4 فبراير/شباط 2014 الشرارة التي ألهبت الأحداث الأخيرة، وصب المحتجون جام غضبهم على مقرات حكومة الكانتون متهمين المسؤولين فيها بالفساد المالي والإداري والتسبب في إفلاس مصانعهم. امتدت موجة الغضب في اليوم التالي إلى مدن أخرى  لتصل في  7 فبراير/شباط 2014 إلى زخم لا سابق له في تاريخ البلاد منذ الحرب الأخيرة (1992-1995) وأدت إلى استقالة أربعة رؤساء وزارة في كانتونات: توزلا في شمال شرق البلاد، وسراييفو العاصمة، وزينيتسا في الوسط، وبيهاتش الواقعة في الشمال الغربي. وتم في 14 من مارس/آذار إعفاء وزير الداخلية، فخر الدين رادونتشيتش من منصبه، وتحميله مسؤولية الفشل في معالجة الأحداث.

رافقت الاحتجاجات أعمال عنف وتهشيم وحرق لمقر الرئاسة في سراييفو ومباني حكومات الكانتونات ومقرات الأحزاب السياسية، خاصة حزب جبهة العمل-بوشناقي التوجه، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكرواتي، وكلاهما حزبان قوميان، كما سقط عدد من الجرحى من رجال الشرطة والمواطنين، وخلّفت الأحداث خسائر مادية كبيرة. ودفع ذلك العنف المصاحب للاحتجاجات وسائل الإعلام المصطفة وراء الأحزاب القومية إلى التركيز على دموية المتظاهرين ووصفهم بالمنحرفين والمرتزقة، ولم يبخل عدد من الساسة والمحللين السياسيين المحسوبين على هذا الاتجاه أو ذاك بوضع سيناريوهات تتحدث عن مؤامرة مدبرة. لكن لكل طرف تفسيره الخاص للمؤامرة المزعومة.

المعطى السياسي والإثني في الاحتجاجات

تُعرف تقليديًا مدينة توزلا التي اندلعت منها الاحتجاجات والواقعة في الشمال الشرقي من البلاد، بانتماء معظم سكانها إلى اليسار، وتضم طبقة عمالية كبيرة لم تتمكن الدعوات "القومية" أبدًا من التغلغل فيها، بعكس ما هو عليه حال المدن البوسنية الأخرى. لذا، لم يكن من المستغرب أن تندلع الاحتجاجات منها؛ حيث بدأ آلاف العمال في مصانع توزلا الكبرى -ديتا وبوليهام وكونيوه- حركة احتجاجية سلمية منذ وقت ليس بالقصير، وكانت الأسباب مختلفة وأهمها فقدانهم لمواطن عملهم. في الخامس من فبراير/شباط التحق بهؤلاء العمال المحتجين عدد من شباب المدينة ومن العاطلين عن العمل وغيرهم؛ فتصاعدت نبرة الاحتجاجات لتعم باقي مدن ومحافظات البلاد الكبرى في اليومين التاليين، مثل: سراييفو وزينيتسا وموستار وبيهاتش، وشهد يوم 7 فبراير/شباط اشتباكات عنيفة بين المتظاهرين ورجال الأمن أُحرق خلالها عدد من الوزارات والمباني الحكومية كان أبرزها مبنى الرئاسة في العاصمة سراييفو. 

ومن المفيد الإشارة هنا إلى عفوية وتلقائية الاحتجاجات التي كانت مطالبها اجتماعية في المقام الأول، ورُفعت فيها شعارات من قبيل "إننا جوعى ولا نملك قوت يومنا" و"نحن عاطلون منذ سنوات"، كما عبّر المحتجون عن غضبهم ممن وصفوهم بالساسة المجرمين والاقتصاديين المحتالين، وثبت أن المظاهرات لم تكن تقف خلفها جهة سياسية أو قومية معينة، وإنما كانت المبادرة فيها تعود إلى ناشطين مدنيين متضامنين، ينتمي أغلبهم إلى فئة الشباب، مع حركات الاحتجاج العمالية في أكثر من مدينة داخل فيدرالية البوسنة والهرسك.

تتواصل اليوم أيضًا المظاهرات في مختلف المدن ذات الأغلبية المسلمة أساسًا، وإن كانت وتيرتها وزخمها قد تضاءلا بعض الشيء، إلا أن بعض الاستثناءات يمكن تسجيلها فيما يتعلق بالإطار الجغرافي الذي تتنزل فيه؛ ففي مدينة موستار الواقعة في جنوب غرب البلاد اشترك المسلمون/البوشناق وكروات البوسنة والهرسك في إشعال النيران في مباني الحزبين القوميين الأكبر -حزب جبهة العمل الديمقراطي، وحزب التجمع الديمقراطي الكرواتي-. كما كان لكروات البوسنة والهرسك احتجاجاتهم في مدينتي "ليفنو" و"أوراشيا"، في حين نظّم أتباع الإثنية الصربية احتجاجات محدودة في مدن "برييدور" و"بانيا لوكا"  و"ببيلينا" و"زفورنيك". 

ومع أن الطابع العام للاحتجاجات كان اجتماعيًا، إلا أن المعطى القومي تمت محاولة توظيفه من قبل بعض الفئات السياسية المعروفة بمواقفها المتطرفة، وهو ما قد يطرح إشكالاً كبيرًا في حال توسعت دائرته. وقد أبانت تصريحات عديد من المسؤولين الكروات والصرب في البوسنة والهرسك عن شكوك وتخوف من أن تتخذ الاحتجاجات منحى سياسيًا قد يتلون بلون ديني/إسلامي، مع أن هذا السيناريو مستبعد الحدوث في البوسنة والهرسك.

نظرية المؤامرة في تفسير الأحداث

في هذا السياق، برزت عدة نظريات تآمرية وانتشرت بين المجتمع البوسني، وهكذا فإن القوميين البوشناق/المسلمين وسياسييهم يدّعون أن ما وقع مؤامرة ضدهم تهدف إلى زعزعة الاستقرار في البلاد وإدخال المجتمع البوشناقي في فتنة داخلية تُضعف من لُحمته وتؤدي إلى تفكك فيدرالية البوسنة والهرسك لتفتح الباب أمام مشروع إقامة كيان ثالث داخل البوسنة خاص بالإثنية الكرواتية، وهو مطلب لا تزال بعض الوجوه السياسية الكرواتية تسعى لإحيائه وتجد الدعم من طرف بعض المتنفذين من كروات كرواتيا.

وفي شق المؤامرة الثاني، فإن تواصل الاحتجاجات سيؤدي إلى إضعاف الحكومة الفيدرالية ويُظهرها في مظهر العاجز عن توفير الأمن والاستقرار، وهو ما ينتظره المتطرفون القوميون من زعماء صرب البوسنة بقيادة رئيس الوزراء فيها، ميلوراد دوديك، لتأكيد استقلال ريبوبليكا صربسكا عن دولة البوسنة والهرسك، وكذلك فعل القوميون والسياسيون الكروات والصرب ولكن بتصور سيناريوهات مغايرة، وهو ما حمل رئيس وزراء دولة كرواتيا على تأدية زيارة خاطفة إلى مدينة موستار ولقائه زعماء كروات البوسنة، ومرسلاً برسائل طمأنة إلى حكومة سراييفو ومؤكدًا على موقف بلاده الداعم لاستقرار البوسنة والهرسك وضرورة التحاقها بالاتحاد الأوروبي وعضوية حلف شمال الأطلسي. كما بادرت حكومة بلغراد إلى دعوة رئيس وزراء ريبوبليكا صربسكا، لتطلب منه على الأرجح تهدئة الأجواء والكف عن تصريحاته المشحونة بالطائفية، وربما أيضًا لتحذيره من مغبة إعلان استقلال ريبوبليكا صربسكا عن البوسنة والهرسك من جانب واحد مستغلاً هذه الظروف، خاصة وأنه دائمًا ما كان يؤكد على أنه لا مستقبل للبوسنة والهرسك كدولة موحدة. ومن الجدير بالذكر أن المثقفين القوميين الصرب والكروات ووسائل الإعلام يتعاونون فيما بينهم من أجل إثبات أن ما يجري هو شأن بوشناقي، أي: "ربيع بوشناقي" لا غير، ومن غير الممكن أن يتوسع ليشمل مناطق الصرب والكروات. 

إفرازات الاحتجاجات

إحدى أهم الخاصيات التي صبغت "الثورة البوسنية" وكانت أكثرها جدلية فيما يتعلق بمخرجات الاحتجاجات، هو ظهور تنظيم ثوري يُدعى "بَلِينُوم" -وقد ظهر هذا التنظيم في مدينة توزلا حيث قدمت الحكومة المحلية استقالتها على خلفية الأحداث-. ويمثل "البَلِينوم" ما يمكن أن يُطلق عليه "جمعية عمومية" يمكن مقارنتها بتنظيمات "السوفيت" في روسيا(7). وقد عمل المحتجون في البوسنة والهرسك على توظيف تلك التنظيمات من أجل التوصل إلى قرارات جماعية وتحديد طلبات محددة وواضحة بطريقة "الديمقراطية المباشرة". كما أسس المحتجون في العاصمة سراييفو وفي مدينة زينيتسا الآن تنظيم "بلينوم" بدورهم.

بعض مطالب "بلينوم" مدينة توزلا تم الاستجابة لها من قبل من تبقى من مسؤولي الحكومة المستقيلة، وتتمحور تلك المطالب حول تشكيل حكومة انتقالية للكانتون تتألّف من أعضاء يقترحهم أهالي المدينة على ألا يحق لأي عضو في الحكومة المتخلية أو أي شخص كانت له مسؤولية في الأحزاب السياسية القائمة الترشح لتولي منصب فيها. أعضاء الحكومة الجديدة سيتقاضون أجورًا أقل بكثير من أسلافهم ولن يتمتعوا بأية امتيازات إضافية، فيما سيحق لكل مواطن المشاركة بالتصويت والترشح والمناقشة داخل "البلينوم" ما عدا أعضاء الحكومة المستقيلة وأعضاء الأحزاب السياسية، وهو ما يذكّر بديكتاتورية البروليتاريا.

بالتأكيد، فإن هذا المنحى الديمقراطي قد يكون حلاً مرحليًا، إلا أنه قد يطرح مشاكل كبرى إذا ما توسع ليشمل مدنًا بكاملها أو بعض الكانتونات، ونسجّل أن "بلينوم" توزلا يضم فقط حوالي 200 عضو في مدينة يبلغ تعداد سكانها 130 ألف نسمة.

المآلات المحتملة

يصعب جدًا التكهن بما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في البوسنة والهرسك في قادم الأسابيع والأشهر، لكن الشيء الأكيد هو أن البوسنة والهرسك، وكذلك المنطقة بأكملها وخاصة صربيا وكرواتيا، لن تعود إلى ما كانت عليه قبل اندلاع "ثورة البوسنة والهرسك"؛ حيث يبدو أن الرسالة التي أطلقها المحتجون قد وصلت إلى الطبقة السياسية الحاكمة، ليس فقط في البوسنة والهرسك، بل أيضًا في زغرب وبلغراد، وكذلك في بروكسل.

من الاحتمالات الممكنة لمآلات الأحداث الأخيرة أن تؤدي إلى مسارعة الأحزاب السياسية الكبرى إلى بلورة مشروع سياسي وإعادة فرز قواها على الأرض، وربما الدخول في تحالفات جديدة غير تلك القائمة حاليًا، ومنها على سبيل المثال تقارب الحزبين القوميين: الصربي والكرواتي في البوسنة والهرسك من أجل تشكيل جبهة تخوض بها الانتخابات القادمة في شهر أكتوبر/تشرين الأول، وربما المطالبة بتقديم تاريخها. وقد يدفع هذا التوجه من ناحية ثانية إلى سعي الحزب البوشناقي القومي الأكبر -جبهة العمل الديمقراطي- إلى البحث عن شركاء في أوساط الأحزاب القومية الصغرى بالإضافة إلى العودة إلى التحالف مع حزب (من أجل البوسنة والهرسك) الذي أسسه الزعيم البوشناقي ورئيس وزراء حكومة الرئيس الراحل علي عزت بيغوفيتش، حارث سيلايدجيتش، في حين يظل موقف الحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامة، زلاتكو لاغومدجيا، غير واضح إلى حد الآن، إلا أنه من المستبعد -حاليًا على الأقل- دخوله في التحالف البوشناقي، إلا إذا تغيرت بعض المعطيات على الأرض. هذا في حين يبقى حزب (من أجل مستقبل) أفضل بزعامة وزير الداخلية المعزول، فخر الدين رادونتشيتش، أكثر الأحزاب المثيرة للجدل في أدائه السياسي المتقلب وخارطة علاقات زعيمه الداخلية والخارجية، خاصة علاقاته مع روسيا، وما أُثير حوله من شبهات في ضلوعه في تأجيج الوضع ومسؤوليته عن تحريك الاحتجاجات الأخيرة وتمويله لمن يوصفون بالبلطجية الذين نفّذوا أعمال عنف وحرق.

وبالإضافة إلى ما سبق فإن النتائج الفورية التي أفرزتها احتجاجات 7 فبراير/شباط والأيام التي سبقتها تمثلت في استقالة رؤساء حكومات أربعة كانتونات وأوجدت حركة سياسية داخل الأحزاب الحاكمة والتي في المعارضة، من أجل إعادة ترتيب أولوياتها وربما إعداد خطط عمل مختلفة عما كانت تعتمدها، وقد تتسع دائرة الاستقالات لتشمل حكومات كانتونات وبلديات أخرى ثبت فشلها في إدارة المشاكل الاجتماعية المتفاقمة خلال الفترة الأخيرة. أما في حال صمّت الطبقة السياسية آذانها عن تلك الصرخات الغاضبة فإن الموجة القادمة من الغضب الثوري قد تمسحها من الوجود تمامًا وتفتح الباب على مصراعيه لاحتمالات قد لا يستطيع أكثر المتفائلين تصورها في بلد بُني الاستقرار فيه على معادلات سياسية وإثنية هشة.

كذلك فإن أثر هذه "الثورة البوسنية" قد تعدّى إلى دول الجوار القريبة، والتي تشبه أوضاعها إلى حد بعيد أوضاع البوسنة والهرسك، فنسب البطالة في صربيا وكرواتيا بلغت أرقامًا قياسية خلال الأشهر الأخيرة(8)، والاقتصادات فيها هشة والنخب السياسية غير موثوق في أدائها ونظافة أياديها، وسعت كل من حكومتي زغرب وبلغراد في المدة الأخيرة لاتخاذ إجراءات من أجل مراجعة رواتب الوزراء وامتيازاتهم وإطلاق وعود بالتقليص فيها في محاولة للتخفيف من حالة الاحتقان واستباق فورة الغضب الشعبي، وهو ما بادرت حكومة كرواتيا إلى تطبيقه بالفعل منذ بداية شهر مارس/آذار.

توالت أيضًا ردود فعل الاتحاد الأوروبي بدوره، وربما تشهد الأشهر القليلة القادمة تكثيف دوره  وقد بدأنا نلمس بوادر ذلك من خلال ما ورد على لسان منسقة سياسته الخارجية، كاثرين أشتون، من وعود بسرعة التحرك من أجل تقديم حزمة مساعدات لوجستية ومادية عاجلة حملتها معها أشتون خلال زيارتها التي أدتها إلى سراييفو في الثالث عشر من مارس/آذار 2014، كما أوعزت واشنطن إلى حلفائها الأوروبيين بضرورة مساعدة البوسنة والهرسك على استكمال شروط التحاقها بالاتحاد الأوروبي، وهو مطلب شعبي ينتظره البوسنيون منذ سنين، وعجز سياسيوهم عن توفير شروطه. هذا التحرك الأوروبي-الأميركي يبقى محدودًا وغير فاعل إلى حد، وفي حال تمكنت بروكسل من التوصل إلى اتفاق بين أعضاء دول الاتحاد الأوروبي في تفعيل ملف عضوية البوسنة والهرسك، فإن ذلك سيكون من دواعي التهدئة الاجتماعية على أن لا يطول موعده.

يبقى السيناريو الأسوأ ضمن المآلات المحتملة هو استغلال المتطرفين من القوميين الصرب والكروات لتلك الأحداث وتوظيفها للمطالبة بانفصال ريبوبليكا صربسكا بدعوى فشل مشروع دولة البوسنة والهرسك الموحدة، وهو مشروع قائم منذ بداية الحرب لإلحاق صرب البوسنة والهرسك بالدولة الأم: صربيا، وهو ما يدعو إليه علنًا رئيس حكومة الكيان الصربي، ميلوراد دوديك. وإن كان موقف بلغراد المعلن يرفض هذا المشروع، إلا أن دوائر نافذة في صربيا لا تُخفي دعمها لهذا المشروع. كما أن كروات البوسنة القوميين لا يزالون ينادون بانفصال جزء مهم من مناطق البوسنة والهرسك وتشكيل كيان إثني كرواتي ثالث -إلى جانب الكيانين: الصربي والبوشناقي- تمهيدًا لإلحاقه بدولة كرواتيا الأم، غير أن هذا المشروع قد لا يجد دعمًا كبيرًا من زغرب التي أصبحت عضوًا في الاتحاد الأوروبي منذ يوليو/تموز الماضي وهي ملتزمة بالقوانين الأوروبية التي لن تقبل بتقسيم البوسنة والهرسك.
__________________________________
كريم الماجري - باحث متخصص في الشأن البلقاني

أهم المصادر والهوامش
1- أدى اتفاق دايتون لعام 1995 إلى إيقاف الحرب في البوسنة والهرسك، لكنه أيضًا أقرّ بتقسيم البلاد وفقًا للأوضاع القائمة أثناء الحرب. أدت اتفاقيات دايتون إلى إعطاء صرب البوسنة كيانًا خاصًا بهم داخل دولة البوسنة والهرسك، تبلغ مساحته 49% من إجمالي مساحة الأراض البوسنية، في حين شُكّل على 51% من المساحة ما بات يُعرف بفيدرالية البوسنة والهرسك، وهي الكيان الثاني داخل الدولة، تقطنه أغلبية بوشناقية وكرواتية.
2- نسبة بطالة في بلد لا يتجاوز عدد سكانه أربعة ملايين، تبلغ ما بين 27% و44%، خصخصة أكبر وأهم الشركات الصناعية العاملة في مجال الفولاذ والحديد والصلب وصناعة مواد التنظيف وشركات تصنيع الذخيرة ومصانع التوربينات للسفن الضخمة والغواصات...".
3- فالنتين إينسكو هو الممثل السامي في البوسنة والهرسك منذ العام 2009، ويتمتع الممثل السامي في البوسنة والهرسك بدعم مجلس لجنة إحلال السلام المكونة من 55 دولة راعية لعملية السلام في البوسنة والهرسك. أقرّ اتفاق دايتون لعام 1995 مهمة الممثل السامي وأعطاه صلاحيات واسعة باعتباره السلطة الأعلى في اتخاذ القرارات، وتسمح ما تُعرف بـ"صلاحيات بون" للمثل السامي بتعيين وعزل السياسيين في ومن مناصبهم، وهو يرفع تقريرًا سنويًا للجنة إحلال السلام من أجل التداول وإقرار ما تراه من إجراءات يُكلف الممثل السامي بتطبيقها ومتابعة تنفيذها.
4- يوزع دستور البوسنة والهرسك الذي أقره الجزء الرابع من اتفاق دايتون البلد إلى كيانين: فيدرالية البوشناق والكروات، وريبوبليكا صربسكا على أساس إثني/ديني، ثم تقطيع أوصال الفيدرالية إلى 10 كانتونات، منها ما هو إثني خالص ومنها ما هو مختلط، هذا النظام "الانشطاري" الذي لا مثيل ولا سابق له في القانون الدستوري. انظر: "تشازم صاديقوفيتش": النظام السياسي لدولة البوسنة والهرسك، "مقال منشور في صحيفة "أسلوبودجينيا" بتاريخ  14 اغسطس/آب 1997.
5- مصنع "ديتا" في مدينة توزلا لم يسدد رواتب عماله لأكثر من 22 شهرًا، ولم يسدد مستحقاتهم في نظام المعاش لمدة تزيد عن 4 سنوات.
6- يوجد في توزلا مصانع ديتا وبوليهيم وغومينغ وكونيوه التي تشغّل عشرات الآلاف من العمال في مدينة يبلغ تعداد سكانها الإجمالي 130 ألف نسمة.
7- ظهرت تنظيمات السوفيت في روسيا أثناء الثورة الروسية 1905، وتألفت من العمال وممثلين عن الجنود، وعملت تلك التنظيمات بالتنسيق مع الحكومة المؤقتة للإشراف على تسيير الأنشطة اليومية لمؤسسات الدولة إلى حين تنظيم انتخابات لاختيار أعضاء مجلس تأسيسي.
8- تبلغ نسبة البطالة في كرواتيا 18.6%، وفي صربيا 20.1% وفقًا للمصادر الرسمية في البلدين كما أظهرتها إحصاءات شهر فبراير/شباط 2014 والصادر في تقريري الإدارتين الوطنيتين للعمل.

ABOUT THE AUTHOR