(الجزيرة) |
ملخص وفي الوقت نفسه استطاع المجتمع المدني التونسي أن ينفرد بخاصية النجاعة في الأداء التنظيمي رغم جميع المحاولات السلطوية لتدجينه أو الاستحواذ عليه عبر عشرات السنين، وفي اليوم الذي فر فيه بن علي من تونس تاركاً البلاد بعد حكم دام ربع قرن تقريباً كانت هناك أكثر من 9600 جمعية، بما فيها المنظمات غير الربحية مثل الجمعيات الخيرية والأندية الرياضية وغيرها تتوزع في مختلف المناطق التونسية. |
المجتمع المدني المغربي: بين خندق الأحزاب وأحضان المؤسسة الملكية؟
تتسم العلاقات بين المجتمع المدني في المغرب والمؤسسة الملكية بنوع من "الأبوية" التي تسعى إلى إضفاء طابع سلمي يقبل بالإصلاح السياسي الداخلي غير الراديكالي وهو ما جعل أغلب الجمعيات تتخندق ضمن الرؤية الملكية الاحتوائية للمطالب والاستراتيجيات، وهذه العلاقة هي ذاتها التي ميزت العلاقة بين المؤسسة الملكية والأحزاب المغربية.
تملك الخبرة المغربية في العمل الجمعياتي رصيدا نضالياً وتاريخياً مهما، عرف المغرب صعودا معتبرا للفاعلين غير الحكوميين وغير المتحزبين في قلب الحياة الجمعوية خلال الثمانينيات وبشكل أوضح في التسعينات من القرن الماضي، حيث أبان هؤلاء الفاعلون الجدد عن قدرتهم في الإسهام بكيفية ملموسة، وفعالة في المجهود التنموي، وفي دمقرطة النقاش العمومي بالبلاد.(1)
تميز الفعل الجمعوي بالمغرب إبان السبعينات من القرن الماضي بالصراع والمواجهة بينه وبين السلطة، وقد كانت البداية الأولى ذات طابع حقوقي، وقد استعرض الباحث توفيق بوعشرين هذه المحطات في ثلاثة مواقف طبعت تعامل السلطة مع فعاليات المجتمع المدني:
-
المواجهة: وقد امتدت هذه المرحلة هذه من بداية السبعينات إلى أواسط الثمانينات وتميزت بالاصطدام المباشر مع ما كان يشكل أنوية مجتمع مدني فتي وناشئ والذي كان في غالبه على صلة بهذه الدرجة أو تلك مع الأحزاب السياسية المعارضة وخاصة اليسارية.
-
المنافسة: حيث انتبهت السلطة في أواسط الثمانينات إلى الاهتمام المتزايد بمؤسسات المجتمع المدني، ومن ثم عمدت إلى خلق عدة جمعيات ترفع نفس أهداف وشعارات باقي مؤسسات المجتمع المدني الحرة. وأمدتها بجميع الإمكانات المادية وجعلت على رأسها أعيان السلطة والمال حتى تقوي نفوذها في المجتمع (مثل جمعية أبي رقراق، جمعية الإسماعلية، جمعية إليغ، جمعية أنكاد جمعية المحيط) والملاحظ أن هذه الجمعيات أصبحت أنشطتها تغطي كافة جهات المغرب، بل وأصبحت غطاء للكثير من الأنشطة السياسية الرسمية.
-
الاحتواء: مع مطلع التسعينات تغيرت إستراتيجية الدولة اتجاه المجتمع المدني، بعد أن عجزت عن القضاء عليه بالمرة أو منافسته بشكل كبير، وبذلك اتجهت إلى احتوائه وتوظيف مؤسساته وموقعها في المجتمع، وهكذا بدأ الحديث عن إشراكه في إعداد البرامج الحكومية وتدبير المرافق وتوسيع حضوره ورموزه في الأنشطة الرسمية ووسائل الإعلام.
ويشير الباحث المغربي رشيد جرموني بأن هذا الانفتاح لم يأت في سياق طبيعي يؤشر على بداية إيمان الدولة في قدرة مؤسسات المجتمع المدني على المساهمة في تدبير الشأن العام، بل جاء في سياق العجز أولا في التصدي للمشاكل الكبرى التي بدأ يعرفها مغرب التسعينات والتي شكلت ثمرة مباشرة لنتائج التقويمات الهيكلية لسنوات الثمانينات، ومن ثم فإشراك هذه المؤسسات كان يرمي إلى محاولة لامتصاص الغضب الشعبي من اختيارات الدولة، ثم ثانيا جاء هذا الانفتاح الاضطراري بعد بروز اتجاه لدى الدول الغربية والمنظمات الغير الحكومية العالمية، يفضل التعامل مع المؤسسات المجتمع المدني المستقلة على التعامل مع المؤسسات والأجهزة الرسمية لمحدودية فعالية هذه الأخيرة، ولاعتقاد من قبل المنظمات والدول الغربية مفاده أن أجهزة الدولة في المغرب والعالم الثالث لا تمثل تمثيلا أمينا مصالح وتطلعات ومشاكل المجتمع المدني، ومن ثم فوصول هذه الجهات إلى أهدافها وهي ليس كلها بريئة يمر بالضرورة على قنوات مؤسسات المجتمع المدني.
في السداسي الأول سنة 2012 كشف الحبيب الشوباني الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني بالمغرب أنه من أصل 70 ألف جمعية محلية وجهوية ووطنية، توجه أقل من 10% منها يحصل على أكثر من 80% من أصل تسعة مليارات سنتيم تمنح للجمعيات سنويا، وأن أزيد من 97% من هذه الجمعيات لا يقدم أية وثيقة رسمية عن مصاريفه، أو أعماله، أو ما نفذه من مبادرات وأنشطة وبرامج وما سواها.
وأضاف الوزير أن هناك “مجتمعا مدنيا مرتزقا، لا يقدم الخدمات التي تنص عليها أوراقه الرسمية، وسنكشف الاختلال في التصرف بالمال العام " في حينه، لا بل وعد بكشف المزيد حال تثبت وزارته من اللوائح، وبيان التمويل المتأتي من المال العام الصرف، والقادم من "المعونات الخارجية "، وما جاء في إطار ما يسمى بالشراكات.(2)
إن هذه معطيات صادمة بكل المقايس، لا بل إنها تشي بأن مصطلح "المجتمع المدني" المعتمد والمروج له بقوة في الأدبيات بالمغرب، لا يصلح إلا بنسبة ضعيفة للغاية، للتعبير عن واقع ما تقوم به بعض هذه الجمعيات الأهلية، أو ما تعمد إليه من سلوك وتصرف، فما بالك بادعاء كونها "ركنا من أركان السلطة بالدولة"، أو قوة مدنية قبالة القوة السياسية التي تمثلها الأحزاب والنقابات والإعلام الرسمي وقس على ذلك.(3)
ويشير بهذا الصدد الخبر الإعلامي يحي اليحياوي إلى أن إغداق الكثير من الأموال والمساعدات من المال العام، المتأتي حصرا من ضرائب المواطنين، على جمعيات “المجتمع المدني” بالمغرب، ليس وليد اليوم، بل هي ظاهرة قديمة، اعتمدتها الدولة المركزية أيام الأزمات والتوترات، كمحاولة من لدنها لفك العزلة التي أصبحت تشعر بها في مواجهة المجتمع، ومن أجل تحجيم وإقصاء الأحزاب الديمقراطية والمنظمات المنبثقة من المجتمع.
كما أن ذلك قد ساهم ذلك في ترسيخ ثقافة الموالاة والتبعية والخضوع، وهي الظواهر التي تتنافى مع مبادئ الديمقراطية وقيم المواطنة، وتتعارض حديا مع أحد المرتكزات الأساسية التي لا تقوم للمجتمع المدني قائمة بدونها، ألا وهي الاستقلالية.
والواقع أن إنشاء وخلق هذه الجمعيات إنما سار منذ ستينيات القرن الماضي مسار إنشاء وخلق الأحزاب السياسية والنقابات والزعامات في المملكة المغربية وما سواها:
فهي، مثل الأحزاب والنقابات، أنشئت من عل، وضخ في صناديقها من المال العام الشيء العظيم، ليس بغرض تقوية النسيج المدني، ودفعه لتعويض ما يمكن أن لا تستطيع الدولة إدارته، أو القيام به أو تداركه بالميادين الاقتصادية أو الاجتماعية أو الرياضية أو الدينية أو الثقافية أو الترفيهية أو ما سواها، بل لتبييض صورة النظام، لتجميل سلوكه، ولتصريف ما يصدر عنه من قرارات أو ما يترتب عن سلوكه من خشونة، ويختم اليحياوي نقده الموضوعي واللاذع في ذات الآن إلى أن عبارة "المجتمع المدني"، قياسا إلى ما نحته المثقفون العضويون بالغرب، إنما تعبر بالمغرب، عن تنظيمات مزيفة، وتعبر في الآن ذاته عن "مناضلين" مزيفين، همهم الأساس تعظيم المصالح وتثمين الغنائم ومع كل هذه الصورة فان هناك جمعيات تغالب الظروف وتحاول تقديم بدائل حقيقية في مجال مكافحة الفقر ومراقبة الادارة وتعزيز الشفافية والمساهمة في سوق الشغل.(4)
حركة عشرين فبراير ومحاولة الخروج من خندق السلطة
شكلت حركة عشرين فبراير النسخة المغربية من الحراك العربي، إنها نسخة استثنائية ليس بالمعنى السياسي فحسب ولكن بمواصفات السوسيولوجية، فعلى المستوى السياسي يتراءى للملاحظة الخارجي.
كما وصف أحد الصحفيين الأمريكيين أن ما وقع في المغرب نسخة مثالية من طرق التغيير الممكنة، حيث خرج الناس إلى الشوارع يقودها حزب معارض إلى السلطة وهو الذي لم يكن يحلم بها أبدأ.(5)
لقد شجعت الحركات الاجتماعية على تأسيس حركة 20 فبراير، في سياق زمن الحراك العربي، حيث عمدت الحركة إلى استعارة مجموعة من الشعارات التي ميزت الحراك العربي خاصة شعار محاربة الفساد وإسقاط الاستبداد ودفعت هذه التطورات النظام السياسي المغربي القائم إلى اتخاذ مجموعة من القرارات والخطوات للتخفيف والحد من مشروعية الشعارات المرفوعة بهدف امتصاص قوتها وتأثيرها على الشارع المغربي تمثلت هذه الخطوات أساسا في الإعلان في 03 مارس 2011 عن إصدار ظهير جديد يرتقي بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان. الذي تأسس في سنة 1990، من مؤسسة استشارية غير مستقلة، حيث كرس الاعتقاد أنها كانت خاضعة لتحكم الملك إلى مجلس وطني لحقوق الإنسان كمؤسسة قائمة الذات وليست فقط هيئة، مجلس يحظى بهيكلة وصلاحيات وفق المعايير الدولية باعتماد آليات جهوية للدفاع عن حقوق الإنسان وصيانتها في تنظيمه وممارسته اختصاصه في إطار من الاستقلالية والمسؤولية،(6) وفي هذه الموجة الاحتجاجية دخلت المؤسسة الملكيّة المخزنيّة الركح السياسي، باتخاذ عدد من القرارات الأساسية لامتصاص الضغط، تمثلت في إحداث مؤسسة "الوسيط" كمؤسسة وطنية، مستقلة ومتخصصة من أجل تعزيز وصيانة حماية حقوق الإنسان بالمملكة المغربية في إطار الإدارة بالمواطن، وذلك بمقتضى الظهير رقم 1-11-25 بتاريخ: 17 مارس 2011 كمنهجية في تحديث مؤسسة ديوان المظالم تماشياً مع الإصلاحات الجديدة، وتحقيقًا للتكامل المنشود بين كل من المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومؤسسة الوسيط ومواكبة للمعايير الدولية في هذا الباب.
مساهمة الجمعيات المغربية في التشريع
على المستوى الشكلي، لا ينظم القانون الدستوري المغربي أو النظامين الداخلين لمجلسي البرلمان، أية علاقة مفترضة بين المجتمع المدني وبين مجلس النواب ومجلس المستشارين، إذا استثنينا طبعا التنصيص على تمثيلية النقابات العمالية في المجلس الثاني.
لكن الملاحظ عموما أن مساهمة المجتمع المدني في العمل البرلماني وخاصة على مستوى التشريع، رغم ازدياد حجمها لا تزال في حاجة إلى تفعيل وهو ما يعني أن التواصل المدني البرلماني، لا يزال مغربيا في بداياته الأولى، فضلا على أنه يوجد على هامش النصوص المنظمة للعمل التشريعي، لغياب الإطار القانوني الذي يسمح بمشاركة المجتمع المدني في العمل التشريعي.(7)
إن الوقوف على ملاحظة اهتمام فعاليات المجتمع المدني بطرح اقتراحاتها أمام الحكومات أو حتى المؤسسة الملكية، أكثر من اهتمامها بطرح تلك الاقتراحات أمام البرلمان، يبقى سلوكا "عقلانيا"، إلى حد ما، لأنه يتجه رأسا إلى مواقع السلطة، وهو سلوك يشبه إلى حد كبير محاولات رجال الأعمال مثلا للتأثير بشكل مباشر على الأوساط البيروقراطية أو على المحيط الملكي أكثر من اهتمامهم بالتأثير على البرلمان.
إن مجموع الإصلاحات السياسية الاقتصادية والاجتماعية التي عرفها المغرب خصوصاً بعد سنة 2011، لا يمكن استثمارها استثمارا حقيقيا، إلا من خلال الإشراك الحقيقي الفاعل والمسؤول لمختلف الفاعلين في الحقل الاجتماعي، وذلك بتوظيف مجموعة من الآليات من أهمها:(8)
-
الزيادة من حصص الدعم "المادي، اللوجستي والتكويني" المخصصة لمنظمات المجتمع المدني.
-
الحث على ضرورة استعمال هاته المؤسسات لوسائل الإعلام المكتوبة، المرئية والمسموعة.
-
إرساء مبادئ التسويق الاجتماعي le marketing social غير الربحي بطبيعة الحال ضمن الأبجديات المكونة لهذا النوع من المؤسسات.
-
توسيع تطبيق اليتي التدقيق المحاسباتي الداخلي والخارجي، وذلك بغية ضمان قيام هؤلاء الفاعلين بالخدمات المرجوة منهم أحسن قيام.
-
التوسيع من تمثيلية الفاعليين الاجتماعيين في المنظمات الوطنية، كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبارات أن مؤسسات المجتمع المدني المغربي يمثل جزء كبير منها أداة للتضامن من الاجتماعي ووسائل توفر مناصب شغل حقيقية للعاطلين عن العمل.
الحالة التونسية: المجتمع المدني: الكاريزما والعقلنة
استطاع المجتمع المدني التونسي أن ينفرد بخاصية النجاعة في الأداء التنظيمي رغم جميع المحاولات السلطوية لتدجينه أو الاستحواذ عليه عبر عشرات السنين، وفي اليوم الذي فر فيه بن علي من تونس تاركاً البلاد بعد حكم دام ربع قرن تقريباً كانت هناك أكثر من 9600 جمعية، بما فيها المنظمات غير الربحية مثل الجمعيات الخيرية والأندية الرياضية وغيرها تتوزع في مختلف المناطق التونسية، ومع أن المشهد كان يبدو براقاً من الخارج مع كل هذا الكم من الجمعيات والمنظمات الأهلية، بحيث بدا أن أصوات المجتمع التونسي ممثلة على اختلافها، إلا أنه في الحقيقة وعلى غرار باقي الحريات في عهد نظام بن علي لم تكن سوى واجهة للاستهلاك الخارجي، وهو الواقع الذي يؤكده "مالك بكلوتي"، المحامي الذي يعمل مع مركز النساء العربيات للتدريب والأبحاث الذي تموله الأمم المتحدة، قائلًا: "مع الأسف كانت أغلب تلك المنظمات خاضعة لرقابة النظام، ولا يمكننا الحديث عن ثقافة العمل الجماعي أو روح مدنية متطورة"، لكن اليوم وبعد عشرة أشهر فقط على فرار الرئيس السابق وانطلاق شرارة "الربيع العربي" لم تنفتح الحياة المدنية فقط في تونس، بل انفجرت مولدة المئات من الجمعيات، بحيث يمكن الإشارة إلى الجانب السياسي من هذا الانفجار في عدد الأحزاب التي سجلت نفسها في استحقاق انتخابات الجمعية التأسيسية التي ناهزت 110 أحزاب، ليمتد هذا التوسع الكبير إلى العمل الأهلي الذي شهد هو الآخر ظهور العديد من الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني.(9)
من الملاحظات الجديرة بالتوقف تلك القوة التأطيرية للجمعيات وحركات المجتمع المدني بشكل ساهم بخلق وعي جماعي مدني لحماية الممتلكات العمومية والشخصية، ولعل هذه صفة تونسية تعود لقوة التأطير المجتمعي والتواجد التاريخي المتغلغل لهذه الجمعيات في الأوساط التونسية، ولعل ما يدعو للدهشة والانتباه هو تعاطي المجتمع التونسي مع الفضاء الجمعياتي منذ القديم، إذ ظهرت أولى الجمعيات الخيرية العصرية وأزدهرت في أواخر القرن الـ 19 ما يفسر صدور أول أمر ينظم الجمعيات بالرائد التونسي في 15 سبتمبر 1988. وقد تضمن هذا الأمر في المادة الثانية في المادة الثانية منه موافقة الدولة على تأسيس الجمعية، إذ تأسست جمعية الخلدونية سنة 1896 وجمعية قدماء التلاميذ الصادقية سنة 1905، وجمعية التعاون الخيري بصفاقس سنة 1913. ورغم تعاطي المشرع التونسي بنوع من الصرامة والرغبة في تدجين الجمعيات التونسية بدءا من القانون 7 نوفمبر 1909 (نظام الترخيص المسبق) وصولا إلى قانون رقم 90 المؤرخ في 20 أغسطس 1988 إلا أن عدد الجمعيات التونسية تجاوز 5553 جمعية سنة 1998 ليصل إلى 7529 جمعية سنة 2000 تنشط في مجالات عديدة وتختلف درجة فاعليتها وتأثيرها، بحسب مجال نشاطها وحسب طبيعة علاقتها والنظام السياسي السائد.(10)
للمجتمع المدني في تونس جذور تاريخية تجد صداها في بروز جمعيات نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين شكّلت ما اعتبر النواة الأولى لمنظمات المجتمع المدني أو الأهلي، فقد تكوّنت جمعيات ومؤسّسات فكرية وتعليمية وثقافية كان لها دور هام في توعية المواطنين بضرورة النهوض بالمجتمع التونسي وتحديثه في ظلّ الأوضاع المتردّية التي كان يعيشها وذلك بتأثير من نخبة من المفكّرين الذين تفاعلوا مع الأفكار الإصلاحية والتحررية المنتشرة في العالم العربي والإسلامي في ذلك التاريخ. ومن الملاحظ وعلى غرار مجتمعات أخرى أنّ ظاهرة الجمعيات المدنية والأهلية سبقت الظاهرة الحزبية والسياسية في تونس وأنّ معظم الجمعيات التي تكوّنت في بداية القرن العشرين ساهمت فيما بعد في لجوء نفس النخب الفكرية إلى تكوين أحزاب سياسية لخوض معركة الاستقلال بداية من سنة 1920. ومن أهمّ هذه المنظمات "الجمعية الخلدونيّة" و"الجمعية الصادقيّة" و"الجمعية الخيريّة الإسلامية" وهي جمعيات انتمى إليها أهمّ الزّعماء السياسيين في بداية القرن العشرين قبل أن يتولّوا فيما بعد الاضطلاع بمسؤوليات قيادية في الدّولة.(11)
قانون الجمعيات التونسي: ربيع الثورات وربيع العمل الأهلي؟
تم إعداد مشروع المرسوم من قبل لجنة الخبراء بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة بهدف القطع مع قوانين النظام السابق وتحرير قطاع الجمعيّات، وأثناء مناقشة المشروع تقدّم أعضاء الهيئة بملاحظات تهمّ الشكل والمضمون بداية من جلسة 30 يونيو/ حزيران 2011 إلى تاريخ المصادقة عليه في 24 أغسطس/ آب 2011. وتعلقت مداخلات الأعضاء أساسا بضرورة ضبط وتنظيم العلاقة بين الجمعيات والأطراف الأخرى المعنيّة بأنشطتها وأهمّها الأحزاب السياسية والإدارة والحكومة والقضاء، كما تطرّق أعضاء الهيئة إلى مسألة تمويل الجمعيات من قبل الشركات التجارية وطالب الأعضاء بوضع سقف لهذا التمويل أو منعه، كما تعرّضوا إلى التمويل الأجنبي أو الخارجي وضرورة إيجاد الصيغ القانونية الكفيلة بضبطه، وعبّر الأعضاء عن ضرورة عدم عرقلة أنشطة الجمعيات من قبل الدولة وعلى حق الجمعيات في النفاذ إلى المعلومة وطالبوا بالتنصيص على ذلك في المرسوم. وتزامن الشروع في النقاش مع النظر في مشروع مرسوم الأحزاب السياسية وواجهت الهيئة بعض الصعوبات إذ قرّر بعض الأعضاء الانسحاب واعتبروا أنّ وضع النظام القانوني للجمعيات وللأحزاب هو من مشمولات برلمان منتخب وليس من مشمولاتها، إلاّ أنّ الهيئة واصلت أشغالها باعتبار أنّ إصدار قانون الجمعيات هو شرط من شروط الانتقال الديموقراطي وأن القانون المنظم للسلطات العمومية أسند لها اختصاص إعداد وإصدار هذا القانون.(12)
يتميّز المرسوم بتبسيط إجراءات تأسيس الجمعيات طبقا للمعايير والمبادئ الدولية وأهمّها الفصل 21 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وذلك بإلغاء نظام الترخيص المسبق وتعويضه بنظام التصريح أو الإعلام وإلغاء الاختصاص التقديري لوزير الداخلية. ويخضع نظام تأسيس الجمعيات إلى نظام التصريح فعلى الراغبين في تأسيس جمعية أن يرسلوا إلى الكاتب العام للحكومة مكتوبا مضمون الوصول مع الإعلام بالبلوغ ويتثبت عدل منفذ عند إرسال المكتوب تضمنه للبيانات المنصوص عليها ويحرر محضرا في ذلك، وعند تسلّم بطاقة الإعلام بالبلوغ يتولّى من يمثل الجمعية في أجل لا يتجاوز سبعة أيام إيداع إعلان بالمطبعة الرسمية التي تنشره وجوبا في أجل 15 يوما من يوم إيداعه ويعتبر عدم رجوع بطاقة الإعلام بالبلوغ في أجل ثلاثين يوما بلوغا. وتعتبر الجمعية مكونة قانونا من يوم إرسال المكتوب وتكتسب الشخصية القانونية انطلاقا من النشر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية. ويعلم مسيرو الجمعية الكاتب العام للحكومة عن طريق مكتوب مضمون الوصول مع الإعلام بالبلوغ بكل تنقيح أدخل على نظامها الأساسي في أجل شهر من تاريخ اتخاذ قرار التنقيح.(13)
نمو الجمعيات في تونس
إذا كان يمكن اعتبار هذا النموّ في عدد الجمعيات ظاهرة تونسية(14) صحيّة أو طبيعيّة بالنظر إلى حالة الانفتاح السياسي الفجائي التي شهدتها تونس، ويمكن اعتبارها إفرازا طبيعيا من أيضا إفرازات الانتقال الديمقراطي مثلها مثل ظاهرة الأحزاب والصحف، إلا أن المتابع لنشاطها يجدها تسعى الى انتزاع جزء كبير من مشمولات الأحزاب السياسيّة في جانب كبير منها، ومجموعات أخرى تعمل على تهيئة الأرضيّة الانتخابيّة لأحزاب أخرى أو أطروحات سلطويّة بعضها يناقض بعض وخاصّة منها الجمعيات الخيريّة، ومجموعة ثالثة نصّبت نفسها حكما على كلّ المشاريع السياسيّة والحزبيّة رافضة لها، فانتصبت معارضة للسلطة والدولة بكلّ إشكالها، وهذا الخرق لحدود النشاطات والاختصاصات المجتمعيّة أحدث ارتباكا كبيرا في المشهد السياسي التونسي عموما، خاصّة لمّا يرتبط ببحث مصادر التمويل المحليّة والأجنبية للأحزاب وحملاتها الانتخابيّة، فكان التضخّم الكبير في عدد الجمعيات سببا في تحوّل العديد منها الى معابر قانونية " ومقبولة" لمصادر التمويل المشبوهة والأجنبيّة لبرامج حزبيّة بعينها.(15)
وهناك اتجه يرى في الفضاء التونسي للجمعيات فضاء إضحى مشبوهاً، إذ تحوّلت بعض الجمعيات إلى مكاتب للاسترزاق والسمسرة الحقوقيّة، او مواقع استعلامات متقدّمة للمجموعة الأوروبية وشبكاتها المعلوماتيّة، تقوم من خلالها بجمع المعطيات وتجنيد مجموعات الشبان بهدف صناعة رأي عام وتوجيهه خدمة لأغراضها وأهدافها التدخليّة في الشأن الوطني، وخلق مجموعات ضغط تحرّكها للتأثير في هذا الخيار أو ذاك وتحضير الأرضية لقبول مشاريعها السياسيّة والحضاريّة ، ويضع الباحث التنسي محمد نجيب وهبي إشكاليات لمزيد البحث والتعمّق تتعلّق بجملة النقائص والمعيقات التي اعترضت هذا التحوّل الكمي والنوعي صلب المجتمع المدني التونسي ومؤسساته:
-
أوّلها: جدير بالملاحظة إن جزءا من النشاط المجتمع المدني في شكله المجرّد تمت أدلجته "دينيا" من قبل المجموعات الدينية ليتحوّل الى مجموعات عنف منظمّة تستولي على جزء من مشمولات الدولة ويحتكر العنف لتطبيق منهج ومشروع بعينه، لا يمكن إلا أن يشكّل مشاريع إرهاب وأرضية لمحاولات انفصاليّة وهو بذلك خرج من سياقه المدني الباب الواسع، ولا يمكن التعاطي معه إلا من منطلق تهديد للوحدة الوطنيّة والسلامة العامّة بل وكل المشروع السلم الأهلية، وهي حالات سوسيو اجتماعيّة تستحقّ كثيرا من البحث والعناية في البحث.
-
ثانيا: إن أغلب الجمعيات والمؤسسات المدنيّة التونسيّة الصرفة (تأسيسا وتمويلا) لا تزال عاجزة عن وضع تصورات عصريّة لأشكال تنظمّها وعملها ولم تتقن بعد كيف تشتغل باحترافيّة على مصادر تمويلها الذاتي، وعلى مواردها البشريّة او على انتشارها فهي لا تزال مقتصرة على شخوص مؤسسيها وقلّة قليلة من المتفرّغين من الشباب، كما أنها لم تتمكّن بعد من تركيز منظومة للعمل المدني التطوّعي مستقلّة عن الشأن السلطوي والتنافس الحزبي والانتخابي.
إن الجهود المبذولة في المرحلة البروقيبية على وجه التحديد، وحتى مرحلة بن علي – على مساوئها – أَوْ جَدَتْ مجتمعاً مدنياً يرتبط في جزء كبير مع الأدبيات السياسية، والاجتماعية التي تنمي أبعادها الطبقة الوسطى والتي تقوم بالأساس على قيم الحداثة والديمقراطية والتحرر وآت بشكل غير مطلق من رِبْقَة السلطة السياسية.
لذلك أحدث الفراغ الذي تركه " بن علي" المجال واسعاً لانتعاش المطالب النقابية التي شكل عمادها الاتحاد التونسي للشغل والذي مثل على الدوام الدعامة الأساسية الرّوحية للعمل الجمعوي والنقابي في تونس لمرحلة ما بعد الربيع العربي.
الخاتمة
ستبقى حركات المجتمع المدني في المملكة المغربية تدور ضمن حاضنة المؤسسة الملكية مادامت هي من يرسم هامش التحرك وهي من يمول وهي من يرسم الخطوط الحمراء وقد تتفلت بعض الأصوات الجمعوية من هذا الإطار ولكنها ستكون معارضة ضمن النظام في حين سترافع الحركة الجمعوية التونسية وسترفع من سقف توقعاتها خصوصا بعد أن أفلحت في رسم معالم دستور تونس الجديد لسنة 2014 في ظل تنازلات يمكن وصفها بالأليمة ومن جميع الفعاليات الحزبية.
____________________________________
أ.د. بوحنية قوي - أستاذ العلوم السياسية جامعة قاصدي مرباح ورقلة
الهوامش
1- رشيد جرموني، المجتمع المدني بين السياق الكوني والتجربة المغربية. www.aljariabed.net/ n9702jarmounii.htm
2- يحي اليحياوي، أكذوبة المجتمع المدني بالمغرب http://www.tazacity.info/news5639.html
3- نفس المرجع السابق.
4- للإستزادة أكثر يطالع:
La promotion des Actions du mouvement Assdcéatif Au Maroc , des Réalisations Appréciables á avaluer , www.fscpo.unict.it/EuroMed/Ibrouk.pdf.
5- عزيز مشواط، حركة عشرين فبراير: الثابت والمتغير في الخطاب الاحتجاجي، ورقة مقدمة من أشغال مؤتمر ثروات الربيع العربي، مخاطر الانتقال السياسي والاقتصادي من أشغال الندوة الدولية المنظمة في كلية الحقوق في مراكش، المغرب أيام 22-23 مارس 2013، المطبعة الوطنية 2013: ص، 157.
6- للإستزادة أكثر يطالع الحسين العبوشي، محمد الغالي، الربيع العربي والنظام الدستوري والسياسي المغربي في جدلية التأثير، ورقة مقدمة ضمن اشغال الندوة الدولية السابقة بمراكش، ص 146-147.
7- حسن طارق، المجتمع المدني وسؤال المواطنة والدمقرطة والسياسة منشورات فكر، المملكة المغربية 2010، ص: 74-76.
8- العباس الوردي، المجتمع المغربي، الوظائف، التحديات والرهانات (بالتصرف) www.hespress.com/opinions/55304.htm/
9- اليزابيت دينسون – تونس، ازدهار المجتمع المدني www.alittihad.ae/detals.php?id=105163&y=2011
10- بوحنية قوي ، كاريزما الشارع التونسي، وقوة التغيير السياسي، مجلة الديمقراطية، عدد42 أبريل 2011، ص 149.
11- منير السنوسي، البنية القانونية لمؤسسات المجتمع المدني في تونس: الواقع والآفاق، ص 2.www.ngolaw.org/programs/mena/afan/docs/Mounir?20Snoussi.docx
12- نفس المرجع السابق، ص 5.
13- منير السنوسي، نفس المرجع السابق، ص 5.
14- محمد نجيب وهيبي، المجتمع التونسي، خصائصه وآفاق تطوره (محاولة للتفكير)، www.aljariabed.net
15- محمد نجيب وهيبي، نفس المرجع السابق.