في خطوة استهدفت نزع فتيل الأزمة السياسة المحتدمة في البلاد منذ نحو أسبوعين، قَبِل أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح استقالة الحكومة السابعة لرئيس مجلس الوزراء الشيخ ناصر المحمد الصباح، والتي جاءت بناء على حراك وضغط شعبي غير مسبوق في الكويت؛ حيث دخل "الشارع الكويتي"وبشكل مباشر ضمن المعادلة السياسية وفي أتون الأزمة السياسية المستعرة خلال السنوات الأخيرة، التي طالما اقتصرت، ظاهريًا على الأقل، على الحكومة ورموز المعارضة داخل مجلس الأمة.
وقد جاءت هذه الاستقالة مستبقة تجمعًا شعبيًّا لنحو 70 ألف شخص في ساحة الإرادة، خرج للمطالبة برحيل الحكومة تحت شعار "للكويت كلمة"، ووسط اختناق سياسي تشهده الكويت على نحو يشكل خطرًا محدقًا بمستقبلها كدولة مؤسسات وصاحبة تجربة ديمقراطية رائدة في المنطقة، وهو الخطر الذي ربما دفع بعض الأقطاب السياسية في البلاد إلى المطالبة بتطبيق الأحكام العرفية لمدة ستة أشهر عبر مرسوم ضرورة (1).
مسار الأزمة السياسية الراهنة
تسارعت وتيرة أحداث المشهد السياسي الكويتي على نحو غير مسبوق وفي فترة زمنية قصيرة للغاية؛ فمنذ ظهيرة يوم الثلاثاء 15 نوفمبر/تشرين الثاني عمدت الحكومة إلى شطب الاستجواب المقدم إلى رئيسها الشيخ ناصر المحمد والذي كان مدرجًا على جدول الأعمال، وذلك بعد أن حولت الجلسة إلى سرية، وهو الاستجواب الذي كان يتعلق أحد محاوره بقضية الإيداعات المليونية التي تتعلق بالاشتباه بتلقي بعض نواب مجلس الأمة "رشى" ثمنًا لمواقفهم السياسية الموالية لرئيس الوزراء. وهو ما فُسِّر على أن الحكومة أغلقت جميع المنافذ الدستورية أمام الشعب للكشف عن النواب "القَبِّيضة"؛ مما زاد من الاحتقان السياسي، ومنح المعارضة فرصة أكبر لاستثارة "الشارع" ضد الحكومة.
ومنذ مساء ذلك اليوم تطور وتبدل المشهد السياسي في الكويت بوتيرة متسارعة؛ حيث تحول تجمع شعبي حشدته كتلة المعارضة النيابية "20 نائبًا" في "ساحة الإرادة" للتنديد بالمسلك الحكومي، فجر يوم الأربعاء 16 نوفمبر/تشرين الثاني إلى اقتحام لمبنى مجلس الأمة وقاعة "عبدالله السالم" من قِبل الشباب وبعض النواب، والعبث بمنصة رئيس المجلس ومطرقته، وهو الحدث الذي استنكره مختلف أطياف المجتمع الكويتي، سياسيًا واجتماعيًا، وتداعت للتأكيد على السمع والطاعة لولي الأمر واحترام الدستور والقانون و"بيت الأمة"، ووصفه أمير الكويت بـ "الأربعاء الأسود".
على الجانب المقابل، سارعت الحكومة إلى استثمار التعاطف الشعبي معها والمناهض لاقتحام المجلس، ونظمت تجمعًا شعبيًّا مؤيدًا لها رافعًا شعار "الله يحفظك يا كويت".
وفي تطور نوعي جديد، اندلعت احتجاجات شعبية وتحولت إلى اعتصامات ليلية غير مألوفة أمام "قصر العدل" تضامنًا مع المحتجزين الذين باشرت النيابة التحقيق معهم في واقعة الاقتحام، واعتراضًا على النهج الحكومي في التعامل مع معارضيها ومقتحمي مجلس الأمة، بطريقة أمنية تحت غطاء قانوني.
"الإيداعات المليونية".. "كلمة السر"
جاءت استقالة حكومة الشيخ ناصر المحمد بعد نحو 3 أشهر على تفجر قضية الإيداعات المليونية، التي عصفت رياح تداعياتها بالحكومة وأجبرتها على الاستقالة.
ومن ثَمَّ، كانت المعالجة الحكومية غير السليمة لقضية الإيداعات المليونية سببًا رئيسيًا، وإن لم يكن الوحيد، لتفجر الأزمة الأخيرة على النحو غير المسبوق الذي حدثت به.
وإذا كانت استقالة الحكومة قد أسقطت الاستجواب المتعلق بهذه القضية؛ فإن ذلك لا يعني أن الستار قد أُسدل عليها نهائيًا، فسوف تظل غائبة حاضرة في المشهد السياسي الكويتي خلال الفترة المقبلة، وستكون "قميص عثمان" الذي ستُشهره المعارضة في وجه رئيس الوزراء القادم.
وبالتالي، لن يؤدي نزع فتيل هذه القضية السياسية الشائكة سوى إلى الكشف عن جميع ملابساتها، وربما تتمثل أولى الخطوات على هذا الطريق فيما أعلن عنه بنك الكويت المركزي من إرساله التقارير المطلوبة إلى النيابة العامة في شأن البلاغات بالاشتباه في عمليات غسيل الأموال(2)، والذي سيلعب دورًا حاسمًا في طي صفحة هذه القضية وتجنيب البلاد المزيد من تداعياتها الكارثية ذات الكلفة الباهظة سياسيًا واقتصاديًا ومجتمعيًا.
صراع "أبناء الأسرة".. "الفاعل المعلوم"
يشير إمعان النظر في الأزمات السياسية المتلاحقة التي تشهدها الكويت في السنوات الأخيرة إلى أن الأمر يتجاوز مجرد كونه خلافًا بين حكومة ومعارضة.
ذلك أن وتيرة ومدى تكرار الأزمات والتصعيد السياسي بين السلطتين أخذ في التزايد بشكل مطّرد، وعلى نحو غير مسبوق منذ تولي الشيخ ناصر المحمد رئاسة مجلس الوزراء في فبراير/شباط عام 2006.
ويدعم هذا التحليل، الدور الذي أصبحت المعارضة تقوم به في مجلس الأمة حاليًا، والذي لا ينسجم مع طبيعة المعارضة النيابية والسياسية في الكويت وآليات تعاطيها مع الأوضاع في البلاد منذ الاستقلال وحتى الآن.
ويتجلي ذلك، في الإسراف والتعسف في استخدام الاستجواب كأداة للرقابة، على النحو الذي أفقده دوره الدستوري المبتغَى، وحوّله إلى أداة لتصفية الحسابات، والترهيب النيابي لرئيس الحكومة ووزرائها.
أما المعطَى الجديد في سياق هذا السجال الحكومي النيابي، فهو خروج التصعيد السياسي من دائرة قاعة عبد الله السالم في مجلس الأمة، واللجوء إلى الشارع السياسي، وتعبئة الجماهير، وإثارتها؛ مما نقل معه الانقسام بين معارضة وموالاة من ساحة البرلمان إلى الساحة المجتمعية، بكل ما ينذر به هذا المسلك من تداعيات بالغة الخطورة على استقرار البلاد ووحدتها الوطنية.
في ضوء ذلك، تبدو المواجهات الحكومية النيابية المتكررة مجرد مرآة عاكسة للصراع بين بعض أبناء الأسرة الحاكمة، بحيث أصبح هذا الصراع هو "الفاعل المعلوم" وراء كل أزمة سياسية تتفجر في البلاد.
وربما ساند هذه النتيجة، أن كل أزمة سياسية شهدتها الكويت خلال السنوات الخمس الأخيرة، كان وراءها آثار لا تخطئها عين مراقب، للصراع الخفي المعلن بين بعض أبناء أسرة آل الصباح من الطامحين أو المتنافسين على منصب أو مركز ما داخل "الأسرة" أو خارجها، وذلك على نحو ما أكّده أحد النواب معلقًا على الأزمة الأخيرة بقوله: "ما يحدث في البلد صراع أقطاب، ومجلس الأمة موقع المعركة(3)".
وبناءً على ما تقدم، فإن حسم الصراع بين بعض "أبناء الأسرة" سينعكس هدوءًا في المشهد السياسي داخل قاعة عبد الله السالم.
دلالات التصعيد السياسي بين الحكومة والمعارضة
-
الدلالة الأولى: بروز ظاهرة جديدة على المشهد السياسي الكويتي، وهو إقحام "الشارع السياسي" في السجال بين السلطتين؛ مما يُخشى معه أن يكون اللجوء إلى الشارع واستثارته هو النهج المعتمد للمعارضة في المستقبل، كلما تأزمت علاقتها بالحكومة، ما يعني زوال مكان وهيبة مجلس الأمة.
-
الدلالة الثانية: التغير النوعي في سلوك المعارضة، وانتقاله من مفهوم النقد السياسي لأداء الحكومة والوزراء، إلى الضغط السياسي لجهة تغيير شخص رئيس الحكومة الذي هو أيضًا ، تقليديًا ، أحد أبناء الأسرة الحاكمة، والمطالبة برئيس وزراء شعبي، ما يحمل مطالب ضمنية لإحداث تغيير "ما" في النظام السياسي الكويتي أو على أقل تقدير تغيير أدوات إدارته السياسية.
-
الدلالة الثالثة: المسلك الأمني من قبل الحكومة في التعامل مع القضايا السياسية، بما له من تداعيات مستقبلية خطيرة؛ حيث من شأن تحويل "السياسي" إلى "جنائي" في قضية اقتحام مجلس الأمة، أن يقود إلى إيجاد جيل جديد من المعارضة خارج قاعة عبد الله السالم، مستندة إلى الحراك الشعبي ذي الزخم المجتمعي اللافت، بما يشكل تحديًا بالغًا للنظام في المستقبل(4).
-
الدلالة الرابعة: تغليب كلا الفريقين المتنازعين، الحكومة والمعارضة، لمبدأ كسر عظام الآخر، وإخضاعه بغضِّ النظر عن الثمن السياسي الفادح الذي قد تتكبده الكويت –الدولة والمجتمع- نتيجة المكابرة والعناد السياسي.
-
الدلالة الخامسة: أن ما عاشته الكويت مؤخرًا، هو أكبر من شخص رئيس الوزراء أو اعتباره أزمة طارئة، بل هو أزمة نظام أصبح بشكل متزايد أكثر من أي وقت مضى، يسير نحو تجديد نفسه، وحسم الصراعات بين أبنائه، وتطوير أدوات إدارته السياسية.
-
الدلالة السادسة: ليس أدلّ على خطورة الأزمة السياسية وحساسيتها من قبول أمير البلاد لاستقالة الحكومة، بعد أقل من أسبوعين من تأكيده خلال لقاء مع رؤساء تحرير الصحف المحلية، أنه لن يقيل الشيخ ناصر المحمد حتى لو تقدم باستقالته، وأنه لن يقبل أي ضغط في هذا الاتجاه(5).
-
الدلالة السابعة: أن كون التصعيد بين السلطتين هو انعكاس للصراع بين "أبناء الأسرة"، يعني –إذا أخذنا بعين الاعتبار احتمال عدم عودة الشيخ ناصر المحمد- أن موالاة اليوم ستتحول إلى معارضة لأي رئيس وزراء قادم لاسيما إذا كان منافسًا لرئيس الوزراء المستقيل.
سيناريوهات "الحل" المنتظر
عقب قبول استقالة الحكومة، أصبح مصير مجلس الأمة –الذي حُلَّ ثلاث مرات في غضون السنوات الخمس الأخيرة- معلقًا بيد أمير البلاد الذي له صلاحيات دستورية تخوله حل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة.
وعلى الرغم من المطالب الشعبية والنيابية المتصاعدة بحل المجلس أسوة بقبول استقالة الحكومة؛ فإن سيناريو الحل لم تتضح معالمه بعد ويبقى غير مرجح -حتى الآن- ، إلا أنَّ بعض المراقبين يفضلون أن يتم هذا الحل في أقرب وقت ممكن حفظًا لهيبة الدولة والحكم، وحتى لا تضطر القيادة السياسية لاحقًا للجوء لهذا السيناريو تحت وطأة الضغط الشعبي كما فعلت الحكومة واستقالت، مفضّلين "أن يُحل المجلس من السلطة خير من أن يُحل من الساحة"(6)، في إشارة إلى "ساحة الإرادة" التي شهدت تظاهرات شعبية طالبت من قبل بتنحي الشيخ ناصر المحمد الصباح ورحيل حكومته.
ومن الحلول المطروحة لوضع حد للأزمات السياسية المتوالية التي تتعرض لها البلاد، إعادة دمج ولاية العهد مع رئاسة الوزراء؛ حيث يرى أصحاب هذا الطرح فيه علاجًا ناجعًا لصراع بعض أبناء الأسرة الحاكمة لأخذ مواقع متقدمة والتي منها رئاسة مجلس الوزراء، وأن يكون هذا الدمج في الوقت ذاته تحصينًا لرئيس مجلس الوزراء من المساءلة والملاحقة.
غير أن هذا الطرح لم يلق قبولاً عمليًا؛ حيث سبق وأن اعتذر ولي العهد الحالي الشيخ نواف الأحمد عن تولي رئاسة الوزراء إلى جانب ولاية العهد، وذلك وفق ما تردد خلال مارس/آذار 2009 حين قدمت حكومة الشيخ ناصر المحمد استقالتها آنذاك منعًا لاستجواب أحد وزرائها وهو الشيخ أحمد العبدالله الأحمد الصباح، وهو الرفض الذي اعتبره كثيرون قد جاء انسجامًا مع تكريس الممارسة الديمقراطية ومحافظةً على المكتسبات الدستورية. كما أن هذا الطرح يواجَه برفض قاطع من قبل عدد من النواب الذين يعتبرونه "خطوةً إلى الوراء"، لكون ولي العهد هو أمير المستقبل وفقًا للمذكرة التفسيرية للدستور؛ حيث من شأن الدمج بين ولاية العهد ورئاسة مجلس الوزراء أن يؤدي إلى خلق أزمة تلي الأخرى(7).
خاتمة
لقد بدا واضحًا أن الأحداث في الكويت تجاوزت الحكومة والمعارضة لتمس الاستقرار السياسي، لاسيما مع الحراك الشعبي غير المسبوق الذي إما أن يتم استثماره نحو مزيد من الإصلاح كمنصة انطلاق نحو تجديد سياسي وتعزيز المكتسبات الدستورية، أو أن يأخذ منحنى آخر يجعل رياح "الربيع العربي" تهب على الكويت وإن يكن على طريقتها الخاصة جدًا.
________________________
مصادر
1- جاءت هذه المطالبة على لسان رئيس مجلس الأمة جاسم الخرافي خلال حضوره الاجتماع الاستثنائي لمجلس الوزراء الذي ترأَّسه أمير الكويت صباح يوم الاثنين 28 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، انظر في ذلك: الصحف الكويتية، 29/11/2011م.
2- وكالة الأنباء الكويتية "كونا"، 29/11/2011م.
3- عضو مجلس الأمة حسين الحريتي، صحيفة "الرأي" الكويتية، 26/11/2011م.
4- أحمد الديين: "واقع متحرك وعواقب غير محسوبة"، صحيفة "عالم اليوم" الكويتية، 27/11/2011م .
5- انظر تصريحات أمير الكويت، وكالة الأنباء الكويتية والصحف المحلية، 18/11/2011م.
6- سامي عبد اللطيف النصف: "مجلس منقسم بين مستلم ومقتحم"، صحيفة الأنباء الكويتية، 30/11/2011م.
7- وقد عبَّر عن هذا الاتجاه النيابي مؤخرًا النائب عادل الصرعاوي، صحيفة "الآن" الإلكترونية الكويتية، 29/11/2011م.