تحولات الطاقة وجيوبوليتيك الممرات البحرية: "ملقا" نموذجًا

تهدف الورقة إلى القاء الضوء على التحولات العالمية في مجال إنتاج واستهلاك الطاقة بين الغرب والشرق، وانعكاسات ذلك على خطوط النقل البحري وأمنها، بما قد يزيد من الأهمية الاستراتيجية لبعض الممرات المائية لاسيما كمضيق ملقا في جنوب شرق آسيا.
8 June 2014
2014697400705734_20.jpg
(الجزيرة)
ملخص
تشهد خارطة الطاقة الدولية تحولات كبرى في مجال إنتاج واستهلاك النفط خاصة مع صعود الغاز الصخري، ولا شك أن التحول في مجال نقل وتسويق الطاقة عبر البحر يضع ضغوطًا متزايدة على طرق الملاحة البحرية باتجاه شرق وجنوب شرق آسيا وعلى الممرات المائية والمضائق، كمضيق ملقا؛ ما يخلق تنافسًا متزايدًا بين القوى البحرية الإقليمية والدولية كالصين والولايات المتحدة والهند للسيطرة على طرق الملاحة المؤدية إليه؛ ففي الوقت الذي تعتمد فيه الصين على استراتيجية "عقد اللؤلؤ" بموازاة تطوير قدراتها العسكرية ولاسيما البحرية لفرض سيطرتها على المنطقة الواقعة خلف مضيق ملقا بالاتجاهين، تقوم الولايات المتحدة بنقل تركيزها من منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة آسيا-الهادئ لموازنة الصعود الصيني هناك، في حين تعتمد الهند على تكثيف تواجدها العسكري على مدخل مضيق ملقا بالإضافة إلى التقرب من دول جنوب شرق آسيا.

أعادت الأزمة الروسية-الأوكرانية الضوء إلى معادلة القوة والسياسات الجيوبوليتيكية التي كانت سائدة بشكل أساسي في الفترة ما قبل القرن الحادي والعشرين، كما سلّطت الضوء على جيوبوليتيك الطاقة كمكون أساسي من مكونات القوة. ومن المتوقع في ظل التراجع في القوة الأميركية على الصعيد العالمي، أن تشهد مناطق أخرى من العالم صراعات جيوبوليتيكية مماثلة أو ربما أشد، ومن المناطق المرشحة لمثل هذا الصراع منطقة شرق وجنوبي شرق آسيا وهي المنطقة التي شهدت بدورها مؤخرًا عودة لمعادلة القوة وجيوبوليتيك الطاقة عندما استعرضت بكين قدراتها العسكرية في بحر الصين عبر نصب منشآت بالقوة في مناطق بحرية تعتبرها كل من الفلبين وفيتنام تابعة لها.

 التحولات العالمية في مجال إنتاج واستهلاك الطاقة

ازدياد الاعتماد على الغاز: في العام 1973، كانت مشتقات المنتجات النفطية تشكّل حوالي 46% من إمدادات الطاقة العالمية، وانخفضت هذه النسبة عام 2011 إلى حوالي 36.1%، وفي المقابل ارتفعت نسبة الاعتماد على الغاز عن نفس الفترة من 18.9% إلى 25.7%، ومن المتوقع أن تزداد في المستقبل(1) ومع الاكتشافات الجديدة والتكنولوجيا المستخدمة لإنتاج الغاز الصخري من المتوقع أن يزداد العمر الافتراضي لاحتياطات الغاز العالمية من حوالي 60-80 عامًا إلى 160-200 عاما(2).

الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط في العالم: وفقًا لتقرير وكالة الطاقة الدولية، ونتيجة للطفرة الحاصلة مؤخرًا في إنتاج النفط والغاز الصخري، فمن المتوقع أن تتخطى أميركا بحلول العام 2015 أكبر منتجيْن للنفط في العالم، وهما: روسيا والمملكة العربية السعودية(3).

انخفاض الاستثمار في الطاقة المتجددة والنووية: بسبب الثورة في مجال انتاج النفط والغاز الصخري، شهد الاستثمار في مجال الطاقة المتجددة في العام 2012 انخفاضًا للمرة الأولى منذ عدة سنوات، ومن المتوقع أن يعرقل إنتاج النفط والغاز الصخري من زيادة الاستثمار في الطاقة المتجددة على اعتبار أن الخيار الأول سيكون أقل تكلفة. وكذلك من المتوقع أن ينخفض الاعتماد في الدول المتقدمة على الطاقة النووية لاسيما في كل من اليابان وأوروبا.

الاستهلاك من الغرب إلى الشرق: في مقابل التحولات في مجال الإنتاج، هناك تحول في  سوق استهلاك الطاقة العالمي وانتقال متزايد في محور الاستهلاك من الغرب إلى الشرق. وفقًا لتقرير صادر عن إدارة معلومات الطاقة الأميركية نهاية عام 2013، فإن الدول النامية ستستهلك حوالي 65% من إنتاج الطاقة العالمي بحلول عام 2040، كما أن الجزء الأكبر من نسبة النمو في الاستهلاك ستكون في الصين والهند(4).

إنتاج الشرق الأوسط سيذهب إلى آسيا: في السنوات القليلة الماضية ذهب حوالي نصف صادرات النفط من الشرق الأوسط إلى الدول الغربية فيما ذهب النصف الآخر تقريبًا إلى الدول في شرق آسيا، ومن المتوقع في المستقبل القريب أن يذهب حوالي 90% من صادرات النفط إلى آسيا فيما سيذهب حوالي 10% فقط إلى الغرب(5)؛ ما يعني ازدياد اعتماد دول آسيا ولاسيما شرق آسيا  والصين والهند على الدول المصدرة للطاقة.

الولايات المتحدة تقترب من الاكتفاء الذاتي: في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، وصل اعتماد الولايات المتحدة على إمدادات الطاقة من الخارج إلى ذروته، لكن خلال السنوات السبع الماضية، انخفضت واردات الولايات المتحدة من النفط بنسبة حوالي 50% مقابل ارتفاع الإنتاج منذ العام 2009 بنسبة حوالي 45%(6).

وفي هذا السياق، فإن الولايات المتحدة آخذة في الاقتراب تدريجيًا من الاكتفاء الذاتي، مع ازدياد إنتاجها من النفط والغاز وانخفاض وارداتها. في العام 2000، كانت حصة الغاز الصخري من إجمالي إنتاج الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي تساوي حوالي 2%، أما اليوم فهي تبلغ حوالي 30%، ومن المتوقع أن تصل إلى 50% خلال السنوات الست القادمة(7).

تصدير الغاز المسال سيزداد: مع تزايد الإنتاج في مجال الغاز الصخري، وتزايد الطلب على الغاز، فإن تصدير الغاز الصخري عبر الناقلات البحرية بعد تحويله إلى غاز مسال سيزداد بشكل كبير خلال السنوات القادمة. ومن المنتظر أن تلعب الولايات المتحدة دورًا كبيرًا في هذا المجال حيث من المنتظر أن تذهب صادراتها من الغاز المسال إلى أوروبا التي سيزيد اعتمادها على واشنطن في هذا المضمار خاصة أن روسيا لا يمكن الاعتماد عليها في أمن الطاقة نتيجة استخدامه كورقة سياسية، وكذلك إلى حلفائها في شرق آسيا. كما من المتوقع أن تصعد أستراليا إلى الخارطة العالمية على صعيد تصدير الغاز المسال خلال سنوات قليلة لتنافس قطر ثالث أكبر مصدّر للغاز في العالم بعد النرويج وروسيا(8).

الطاقة والملاحة البحرية

قامت في العام 1869 أول ناقلة في العالم بنقل النفط من الولايات المتحدة إلى أوروبا، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، تضاعفت أعداد وقدرات ناقلات النفط البحرية بشكل هائل. في كل سنة يتم نقل حوالي 62% من كميات النفط التي يتم إنتاجها في العالم عبر ناقلات النفط البحرية، فيما يتم نقل الـ 38% الباقية عبر أنابيب النفط والقطارات أو حتى الشاحنات للمسافات القصيرة نسبيًا(9).

وتضم سوق النقل البحري حاليًا حوالي 4042 ناقلة نفط بحرية في الخدمة، منها ما هو ضخم جدًا لدرجة أنه يتسع لنقل أكثر من 2 مليون برميل نفط وعددها حوالي 396(10) ويمكن أن تستخدم أيضًا كمركز تخزين مؤقت للنفط؛ ففي العام 1990 تم استخدام حوالي 5% من طاقة ناقلات النفط العالمية لهذا الهدف(11)، في حين تشير التقديرات العائدة إلى سنة 2009 إلى أن حوالي 80 مليون برميل من النفط تم تخزينها في ناقلات مماثلة في بداية ذاك العام(12).

ولناقلات النفط البحرية العملاقة هذه طرق بحرية خاصة بها، فهي تتبع خطوط نقل بحرية تنحصر في مجملها العام في ثلاثة مسارات مهمة، هي(13):

  • مسار إلى الولايات المتحدة وأميركا الشمالية والجنوبية عبر رأس الرجاء الصالح.
  • مسار إلى جنوب شرق وشرق آسيا عبر مضيق ملقا (ويتضمن هذا المسار الحجم الأكبر سيما وأنه يضم كلاً من اليابان والصين وهما من أكبر مستهلكي الطاقة على الإطلاق في تلك المنطقة والعالم).
  • مسار إلى أوروبا عبر قناة السويس (السفن الكبيرة جدًا تسلك مسار رأس الرجاء الصالح أيضًا).

مع التحولات العالمية الجارية في مجال الطاقة هذه، فإن تجارة النفط عبر الناقلات سجلت في عام 2013 نموًا هو الأعلى لها على الإطلاق خلال عقد من الزمان بما يعكس التحولات العالمية الجارية في مجال الطاقة من حيث الإنتاج والاستهلاك؛ حيث بات النفط ينقل إلى مسافات أبعد، من غرب إفريقيا وأميركا اللاتينية إلى الهند والصين بدلاً عن الولايات المتحدة(14).

ولا شك أن الممرات البحرية العالمية مليئة بالمضائق والرؤوس والقنوات، فهناك حوالي 200 موقع من هذه المواقع حول العالم، لكن الذي يمتلك منها أهمية استراتيجية قليل. ويقع العديد من الممرات المهمة إلى جانب مناطق غير مستقرة سياسيًا أو أمنيًا مما يزيد من خطر الملاحة عبرها عند استعمالها. وتتضمن جيوستراتيجية توزيع النفط بحريًا المرور عبر 6 نقاط اختناق بحرية رئيسية في العالم، هي: مضائق هرمز وملقا وباب المندب والبوسفور وقناتا السويس وبنما(15).

جيوبوليتيكس مضيق ملقا

يعتبر مضيق ملقا من أهم الممرات الاستراتيجية المائية في العالم إلى جانب مضيق هرمز، وهو أطول مضيق للملاحة البحرية في العالم. يبلغ طول المضيق حوالي 800 كلم، وعرضه بين 50 و320 كلم (أضيق مكان فيه بعرض 2.5 كلم)، وعمقه ما يقارب الـ23 مترًا أي: حوالي 70 قدمًا. سيطر العديد من القوى تاريخيًا على المضيق من بينهم العرب، ولطالما شكّل جزءًا مهمًا من الطرق التي تربط العرب بالصين والشرق الأوسط بجنوب شرقي آسيا تجاريًا منذ قرون(16).

يقع المضيق بين كل من ماليزيا وإندونيسيا كما تقع سنغافورة على طرفه، وهو يربط بين المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ؛ الأمر الذي يجعله مركزَ تقاطع تجاريًا بين أوروبا وآسيا في المحيط الهادئ. ويشكّل مضيق ملقا حاليًا حوالي 40% من تجارة العالم ويمر عبره سنويًا أكثر من 50 ألف سفينة تجارية محملة بمختلف المواد والبضائع من جميع أنحاء العالم، كما يشهد مرور ما بين 80 إلى 90% من الواردات النفطية لدول مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان(17). وتتواجد خلف هذا المضيق منطقة بحرية جيوستراتيجية تربط العالم البحري للشرق الأوسط بمنطقة شبه القارة الهندية بشمال شرق آسيا وهي بحر الصين الجنوبي.

"ملقا" كمركز تنافس متزايد بين القوى البحرية الإقليمية والدولية

لا شك أن التحول في مجال اتجاهات نقل وتسويق الطاقة عبر البحر يضع ضغوطًا متزايدة على طرق الملاحة البحرية إلى شرق وجنوب شرق آسيا وعلى الممرات المائية وأماكن الاختناقات العالمية المتواجدة هناك؛ مما يخلق مشاكل أمنية أيضًا، وهذا واضح وجلي في حالة مضيق ملقا. وعلى الرغم من تأكيد كل من إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة على حقهم الأوحد في حماية المضيق وتأمين الأمن للملاحة عبره، فإن دولاً أخرى عرضت خلال مراحل مختلفة المساهمة في ذلك، من بينها: أستراليا، واليابان، والصين والولايات المتحدة الأميركية والهند(18).

أولاً: الصين
بالنسبة للصين، يعتبر هذا المضيق الذي يفصل بين إندونيسيا وماليزيا وتقع سنغافورة على طرفه الجنوبي، ممرًا استراتيجيًا حيويًا تزداد أهميته لديها سنة بعد أخرى؛ فحاجات الصين النفطية المستوردة من الشرق الأوسط وإفريقيا تأتي عبر هذا المضيق. وتشير إحصاءات وزارة المواصلات الصينية إلى أن الغالبية العظمى من واردات الصين من النفط تأتي عبر البحر ولابد أن تمر بمضيق ملقا.

تقوم استراتيجية الصين على بناء قوة بحرية ضخمة قادرة على حماية مصالحها وربما الدفع بالقوى الأخرى خارج مجال بحر الصين الذي تعتبره بمثابة بحيرة تابعة لها كليًا، وبالتالي خارج مضيق ملقا. تعتبر الصين ثاني أكبر بلد في العالم من ناحية حجم الإنفاق الدفاعي، وأعلنت السلطات الصينية مؤخرًا عن نيتها رفع الموازنة الدفاعية للبلاد إلى 132 مليار دولار بزيادة قدرها 12.2% عن السنة السابقة، في تأكيد على مسار البلاد في التحديث العسكري ولاسيما سلاحي الجو والبحرية الصينية(19).

في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي قامت الصين بفرض حزام دفاع جوي صيني فوق منطقة بحر الصين الشرقي ما خلق نزاعًا مع كل من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وتايوان واليابان(20). وخلال الشهر الحالي، قامت بكين بفرض منصة نفط بقيمة مليار دولار في منطقة بحرية تعتبرها فيتنام تابعة لها، وعززت الصين هذه المنصة بقوات عسكرية لحمايتها الأمر الذي أشعل احتجاجات رسمية وشعبية عارمة في فيتنام(21). وبعدها بأيام قليلة، احتجت الفلبين على خطوة الصين بإقامة منشأة في جزيرة تعتبرها ملكًا لها في منطقة بحر الصين الجنوبي فيما يبدو أنه زحف صيني باتجاه ملقا، واعتبرت الفلبين أن هذه الخطوة تعتبر خرقًا لاتفاق مجموعة آسيان عام 2002(22).

وبموازاة الاستثمار في قوتها العسكرية المتنامية، تعمل الصين على توثيق علاقاتها الاستراتيجية ببعض الدول المختارة الممتدة من بحر الصين الجنوبي وصولاً إلى الشرق الأوسط؛ فهي بَنَت وتبني منشآت حيوية واستراتيجية (موانئ، قواعد، رادارات، مطارات، طرق، مصافي نفط، منشآت لخدمات لوجستية... إلخ) في كل من بنغلاديش، بورما، كمبوديا، مالديف، ميانمار، سيشل، سيريلانكا، تايلاند وباكستان. وتسعى الصين إلى تقوية علاقاتها مع هذه الدول التي تنتشر على طول الخط الساحلي الذي يزودها بإمداداتها الخارجية ووارداتها البحرية، بالإضافة إلى نقاط الاختناق البحرية المهمة والمواقع الاستراتيجية غرب وشرق المحيط الهندي من خليج عدن مرورًا ببحر العرب وليس انتهاءً بمضيق ملقا، فيما بات يعرف باسم "استراتيجية عقد اللؤلؤ"(23).

وغالبا ما يتم تفسير هذه الخطوات على أنها تندرج ضمن سياسة تهدف إلى محاربة القرصنة وتأمين المناطق البحرية الحيوية وحماية خطوط الإمدادات الاستراتيجية للموارد الأولية القادمة إلى الصين لاسيما قبالة سواحل الصومال وماليزيا وإندونيسيا والفلبين، وبالتالي حماية الأمن الاقتصادي للصين. إلا أن عددًا كبيرًا من جيران بكين من جهة بالإضافة إلى قوى إقليمية ودولية كالهند والولايات المتحدة الأميركية تخشى أن تعكس هذه الخطوات نوايا صينية توسعية مبيتة لاسيما في مناطق بحرية تدعي ملكيتها وتسعى إلى فرض سيادتها عليها مع تنامي قدراتها البحرية والعسكرية.

ثانيًا: الولايات المتحدة
لا شك أن زيادة انتاج أميركا من النفط والغاز من شأنها أن تغير خارطة التجارة الدولية للطاقة وتخلق معضلة أمنية جديدة لاسيما في شرق آسيا، كما أنها تشكّل حافزًا إضافيًا لاستمرار الولايات المتحدة في نقل قدراتها الاستراتيجية من الخليج العربي إلى منطقة (آسيا-الهادئ) خاصة أن اعتماد واشنطن على نفط الخليج آخذ في التضاؤل مع الوقت في حين أن صادراتها من النفط والغاز وواردات حلفائها في شرق آسيا من هذه السلع الاستراتيجية عبر مضيق ملقا آخذة في الازدياد، وهو ما يطرح تساؤلاً أيضًا حول جدوى الإنفاق المالي على حماية إمدادات نفطية من مضيق هرمز دون مضيق ملقا(24).

يحظى المضيق بأهمية كبرى للولايات المتحدة لكونه يمثل الشريان الحيوي لواردات حلفائها في المنطقة لاسيما اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان من جهة، وكذلك بالنسبة إلى خصم هذه الدول والنجم الصاعد على المستوى الإقليمي والدولي، ألا وهو الصين.

ولأن المضيق يمثل عنق الزجاجة للمنطقة الممتدة من جنوب شرق آسيا وشمال شرق آسيا، فإنه يحمل أهمية عسكرية وأمنية كبيرة بالنسبة إلى واشنطن، فإذا ما تم إغلاقه لسبب أو لآخر من قبل دولة أو قوة ما، فإنه سيكون قادرًا على عزل أي لاعب خارجه (ما يعني أن واشنطن قد لا تكون قادرة على مساعدة حلفائها في الداخل حال حصول ذلك)، ويمكن استخدامه بشكل معاكس بحيث يمكن لمن يسيطر عليه أن يقطع طرق الإمداد الاستراتيجية إلى جميع دول شرق آسيا وهو ما يعني تهديد أمنها القومي بشكل مباشر.

بهذا المعنى، فإن المضيق يشكّل أول نقطة اشتباك متقدمة في التنافس الاستراتيجي المتصاعد بين الصين من جهة والولايات المتحدة وحلفائها في شرق آسيا من جهة أخرى؛ الأمر الذي يضع ضغوطًا كبيرة على الدول الواقعة على طرفي المضيق من قبل الدولتين.

ومنذ إعلان الإدارة الأميركية(25) عن تحول مهم في اهتماماتها الجيوستراتيجية العالمية عبر نقل تركيزها من منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة آسيا-الهادئ في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2011، والجهود الأميركية لنقل ثقلها العسكري والاقتصادي والسياسي إلى تلك المنطقة لموازنة الصعود الصيني لا تخفى على مراقب.

في العام 2012 بدأت المؤشرات العملية على هذا التحول تتكاثر؛ إذ شرع البنتاغون في مراجعة حجم وتوزيع قواته العسكرية في منطقة شمال شرق آسيا والتي تعود إلى مرحلة الحرب الباردة، وبدأت الولايات المتحدة في تقليل تواجدها في اليابان وكوريا الجنوبية وتكثيف تواجدها في منطقة جنوب شرق آسيا حيث المدخل المهم للتأثير على المنطقة برمتها، المتمثل في مضيق ملقا. وأصبح كل من الفلبين وفيتنام وسنغافورة وماليزيا وإندونيسيا على قائمة أهم الدول التي يسعى البنتاغون إلى تقوية العلاقات العسكرية معها لناحية التأسيس لقواعد عسكرية أو إقامة اتفاقيات دفاعية أو التأسيس لتعاون أمني، كما ذهب الأميركيون إلى أستراليا للتأسيس لقواعد عسكرية وبحرية ثابتة هناك حيث من المنتظر أن تتحول أستراليا شيئًا فشيئًا إلى أهم حليف في المنطقة للقوات العسكرية الأميركية العاملة في مجال جنوب شرق آسيا والمحيط الهندي(26).

قام أوباما في الشهر الماضي، بجولة آسيوية على كل من اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا والفلبين، وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة للزيارة داخل أميركا لناحية النتائج الضعيفة التي ترتبت عليها(27)، إلا أن آخرين اعتبروا أنها لا تزال مهمة، فهي الأولى لرئيس أميركي لليابان منذ حوالي عقدين(28)، كما أنها الأولى لرئيس أميركي لماليزيا منذ حوالي 66 عامًا(29). أهم مخرجات الزيارة اتفاق دفاعي مع الفلبين سيسمح لأميركا باستعمال أكبر لقواتها الجوية والبحرية عبرها(30) بعد أن كانت الأخيرة قد طلبت من القوات الأميركية المغادرة في بداية التسعينات من القرن الماضي(31)، وكذلك التأكيد على التحالف مع اليابان وعلى استعداد واشنطن للدفاع عنها بعدما تزايدت الشكوك حول ما تستطيع واشنطن القيام به إزاء الصعود الصيني في المنطقة.

ثالثًا: الهند
نشرت نيودلهي في العام 2004 استراتيجيتها البحرية (العقيدة البحرية الهندية)، وفيها تعبّر عن طموحها البحري في التواجد الفعال والمؤثر على المداخل والمخارج الملاحية المهمة للمحيط الهندي والتي تتمثل في غالبها في شريط يمتد من قناة موزمبيق وباب المندب ومضيق هرمز  في الغرب وصولاً إلى مضيق ملقا وسوندا ولومبوك في الشرق(32).

لكن استراتيجية "عقد اللؤلؤ" الصينية خلقت شعورًا لدى نيودلهي بأن بكين باتت تطوقها من البحر أيضًا؛ فالاستراتيجية الصينية تخترق مجالها الحيوي والأمني وتهدد مصالحها في محيطها القريب مباشرة؛ فحوالي 95% من تجارة الهند الخارجية من حيث الحجم و75% من حيث القيمة وأكثر من 70% من واردات الهند من النفط تأتي عبر البحر(33).

أضف إلى ذلك أن سعي بكين إلى توثيق علاقاتها مع كل من بنغلاديش وسريلانكا لبناء موانئ ومنشآت لتقديم خدمات لوجستية على غرار خطوتها في ميناء غوادر الباكستاني(34) لتكون مشرفة على خط النقل البحري الاستراتيجي بين الشرق الأوسط وشرق آسيا، يعني أن هذه المنشآت قد تتحول فيما بعد إلى قواعد للبحرية الصينية في قلب المجال الحيوي الهندي(35).

وتحاول الهند التقرب من دول جنوب شرق آسيا لتسهيل مهمتها في التواجد في مضيق ملقا، عبر تقديم نفسها على أنها شريك جيد، ويمكن الاعتماد عليه. أقامت نيودلهي مع دول المنطقة العديد من المناورات البحرية المشتركة كما قدمت الهند نفسها على أنها طرف مهم في محاربة القرصنة والإرهاب وضمان سلامة الملاحة البحرية والنقل البحري. علاقات الهند بماليزيا وسنغافورة تتيح لها التواجد في مضيف ملقا مع طموح هندي بأن لا يقتصر نفوذها على مدخل المضيق وإنما يمتد إلى ما هو أبعد، أي: بحر الصين الجنوبي وصولاً إلى تايوان؛ وذلك في محاولة لموازنة الدور والنفوذ الصين الذي امتد إلى مجالها الحيوي مباشرة(36).

الخطوة الأهم في مجال التأسيس لتواجد قوي ودائم للهند في المنطقة تمثلت في افتتاح مركز قيادة للبحرية الهندية عام 2001 في جزر "أندامان ونيكوبار" شرقي خليج البنغال، لكن أهمية ودور هذه المنشأة الاستراتيجية تحول مع الوقت لدرجة أنه بات يحظى اليوم بأهمية قصوى في استراتيجية الهند البحرية لمواجهة التمدد الصيني البحري وكذلك مراقبة خط الملاحة من وإلى مضيق ملقا. لقد عززت نيودلهي من قدراتها في جزر "أندامان ونيكوبار" خلال الأعوام القليلة الماضية وباتت تتضمن اليوم 15 قطعة بحرية، وقاعدتين بحريتين، وأربع قواعد جوية، وفرقة عسكرية(37).

وتكمن أهمية المقر في أنه يضع الهند على مدخل مضيق ملقا (يبعد حوالي 90 ميل بحري، في حين أن الهند تبعد عن المقر حوالي 650 ميل بحري) علمًا بأن الغالبية العظمى من السفن التي تبحر  باتجاه دول شرق آسيا عبر مضيق ملقا تمر بمحاذاته؛، ما يعطي الهند القدرة الاستراتيجية على مراقبة الملاحة البحرية في هذا المسار الذي يعتبر نقطة ضعف الاستراتيجية البحرية الجيوبوليتيكية للصين(38). لكن دور الهند هناك سيبقى مرهونًا بمدى قدرتها على الاستمرار في صعودها الاقتصادي والإنفاق على قدراتها العسكرية ولاسيما البحرية بالإضافة إلى علاقتها مع الولايات المتحدة وربما أستراليا في مرحلة لاحقة.
_______________________________________
علي حسين باكير - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية

المصادر
1- انظر:
http://www.jsonline.com/business/ukraine-mess-signals-shift-in-global-energy-politics-b99221902z1-250466921.html
2- راجع:
Cenk Sevim, New Dynamics, Risks and Opportunities in Global Energy Policies, The Diplomatic Observer, May 2014, p:38-45.
3- انظر:
www.bloomberg.com/news/2013-11-12/u-s-nears-energy-independence-by-2035-on-shale-boom-iea-says.html
4- راجع:
www.theatlantic.com/technology/archive/2013/12/heres-why-developing-countries-will-consume-65-of-the-worlds-energy-by-2040/282006/
5- راجع:
Cenk Sevim, Op. Cit.
6- انظر:
www.alriyadh.com/924840 
7- انظر:
http://www.jsonline.com/business/ukraine-mess-signals-shift-in-global-energy-politics-b99221902z1-250466921.html 
8- انظر:
http://americasmarkets.usatoday.com/2014/05/16/report-u-s-shale-gas-boom-drives-120b-in-lng-export-projects/ 
http://www.lng-export-usa-2014.com/ 
9- راجع:
http://s06.static-shell.com/content/dam/shell-new/local/country/usa/downloads/energize-your-future/eyf-from-the-source-to-the-pump.pdf
10- وهي نوعان ( VLCC) و(ULCCs)  (Very Large Crude Carrier & Ultra Crude Carrier)، انظر للأنواع على الرابطين أدناه:
http://s01.static-shell.com/content/dam/shell-new/local/country/usa/downloads/alaska/os101-ch4.pdf
11- راجع: علي حسين باكير، دبلوماسية الصين النفطية: الأبعاد والانعكاسات، دار المنهل، بيروت، 2010، ص171.
12- راجع:
http://digilib.lib.unipi.gr/dspace/bitstream/unipi/4680/1/Tsaini.pdf
13- انظر:
www.planete-energies.com/en/energy-sources-/oil-and-gas/transporting-hydrocarbons/transport-by-sea-32.html
14- انظر:
http://www.ft.com/intl/cms/s/0/99adc366-b99b-11e2-bc57-00144feabdc0.html#axzz31lekUgJB
15- علي باكير، مرجع سابق.
16- علي باكير، نفس المرجع السابق.
17- انظر:
http://blogs.reuters.com/global/2010/03/07/balancing-powers-in-the-malacca-strait/
18- انظر:
http://blogs.reuters.com/global/2010/03/07/balancing-powers-in-the-malacca-strait/
19- انظر:
http://nationalinterest.org/feature/looming-arms-race-east-asia-10461
20- انظر:
www.washingtonpost.com/world/china-creates-new-air-defense-zone-in-east-china-sea-amid-dispute-with-japan/2013/11/23/c415f1a8-5416-11e3-9ee6-2580086d8254_story.html
21- انظر:
http://time.com/100417/china-vietnam-sino-vietnamese-war-south-china-sea/
22- انظر:
http://thediplomat.com/2014/05/philippines-releases-photos-of-chinas-construction-in-disputed-south-china-sea/
23- انظر: علي باكير ، مرجع سابق.
www.phantomreport.com/centric-new-silk-road-string-of-pearls-naval-strategy
24- انظر:
http://oilprice.com/Latest-Energy-News/World-News/The-U.S.-has-Spent-8-Trillion-Protecting-the-Straits-of-Hormuz.html
25- راجع:
HILLARY CLINTON, "America's Pacific Century": The future of politics will be decided in Asia, not Afghanistan or Iraq, and the United States will be right at the center of the action, Foreign Policy magazine, November 2011:
www.foreignpolicy.com/articles/2011/10/11/americas_pacific_century
26- انظر:
www.washingtonpost.com/world/national-security/us-to-expand-ties-with-australia-as-it-aims-to-shift-forces-closer-to-se-asia/2012/03/19/gIQAPSXlcS_story.html
27- انظر:
http://watchingamerica.com/News/238066/obamas-asia-visit-half-the-results-with-twice-the-effort/
28- انظر:
http://edition.cnn.com/2014/04/23/world/asia/obama-asia-visit/
29- انظر:
www.theguardian.com/world/2014/apr/26/barack-obama-visits-malaysia-us-economy-security
30- انظر:
www.washingtonpost.com/world/us-philippines-to-sign-10-year-defense-agreement-amid-rising-tensions/2014/04/27/a04436c0-cddf-11e3-a75e-463587891b57_story.html
31- انظر:
www.brookings.edu/research/opinions/2014/04/07-us-philippine-alliance-greitens 32- انظر:
www.futuredirections.org.au/files/sap/Examining_the_Sino- Indian_Maritime_Competition_Part_4_-_Indias_Maritime_Strategy.pdf
33- انظر:
www.futuredirections.org.au/files/sap/Examining_the_Sino-Indian_Maritime_Competition_Part_4_-_Indias_Maritime_Strategy.pdf
34- انظر:
http://tribune.com.pk/story/671852/gwadar-port-pakistan-china-all-set-to-develop-master-plan/
35- انظر:
http://thediplomat.com/2014/03/sri-lankas-growing-links-with-china/
http://defence.pk/threads/adding-a-pearl-china-looks-for-a-naval-base-in-bangladesh.313875/
36- انظر:
http://southasiajournal.net/2012/03/indian-strategy-towards-the-strait-of-malacca/ 37- انظر:
http://timesofindia.indiatimes.com/india/Strategically-important-AN-Command-to-get-a-boost/articleshow/5540325.cms?referral=PM
www.newindianexpress.com/nation/Tiger-Outsmarts-Dragon-in-Andaman-Waters/2014/03/23/article2124696.ece#.Uy68i_mSyno
38- نفس المرجع السابق.

ABOUT THE AUTHOR