مستقبل الحوار الوطني في السودان

يتناول هذا التقرير الحوار الوطني في السودان مبينا خلفيته وبداياته وراصدا مواقف القوى السياسية منه، كما يقف التقرير عند خارطة طريق الحوار مشيرا في نفس الوقت إلى ما بات يعرف بـ"إعلان باريس". وقد تم تحليل عقبات ومعوقات الحوار فضلا عن تحليل مآلات هذا الحوار الوطني.
201481812154324734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
يصعب الجزم بمآلات الحوار الوطني السوداني فقد يفضي إلى سلام واستقرار، وقد تظل الأمور كما كانت حيث الاضطراب السياسي والانفلات الأمني والأداء الضعيف في إدارة الدولة. وقد تكون النتيجة حالة بين هذا وذاك وهو الراجح بقراءة الوضع الراهن الذي يسمح بقدر من التفاؤل الحذر.

إن أكبر العقبات أمام الحوار الوطني في السودان هي عدم موافقة المؤتمر الوطني على حكومة انتقالية لا يهيمن عليها وعلى تأجيل الانتخابات لفترة سنة أو سنتين حتى يتم التوافق على دستور دائم يعرض على البرلمان القادم، وإصراره على وقف دائم لإطلاق النار مع الحركات المسلحة. ولن يكفل الحزب الحاكم حرية التعبير والنشر بصورة تامة كما لن يجعل القضاء هو الجهة المختصة بالفصل في قضايا التعبير والنشر، فالحكومة تخشى حرية التعبير والنشر مثلما تخشى حدوث انتفاضة شعبية تقتلعها من جذورها والنقد الشديد أحد مسببات الانتفاضة.

وبما أن الديمقراطية لن تتنزل على مجتمع إفريقي أو عربي جملة واحدة، فبالإمكان معالجة كل العقبات والمعوقات المذكورة بالانفتاح والمصارحة والتعافي مثل ما فعلت جنوب إفريقيا، وذلك إن توفرت الرؤية الناضجة والإرادة السياسية القوية.

خلفية الحوار وبداياته

بدأ الحديث في كواليس الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) عن الإصلاح المؤسسي وعن الحوار الوطني من قِبل بعض المتنفذين في السلطة في أعقاب انتفاضة الشباب في سبتمبر 2013، التي قتل فيها حوالي 200 شخص بوساطة قوات الدفاع الشعبي القبلية التي استجلبت من دارفور لمساعدة الجيش في حربه ضد المتمردين  بجنوب كردفان ودارفور؛ فقد نأ الجيش بنفسه والشرطة من المشاركة في قتل أولئك المتظاهرين. وزادت وتيرة الانتقاد للحكومة على مسلكها الدموي في التعامل مع التظاهرات السلمية التي ساندها عدد من الأحزاب اليسارية المعارضة (الحزب الشيوعي والمؤتمر السوداني والبعث العربي الاشتراكي) والتي نادت باسقاط النظام الدكتاتوري الفاشل. 

وسبقت تلك الاحتجاجات محاولة إنقلابية فاشلة في نوفمبر 2012 قام بها العميد محمد إبراهيم عبد الجليل (ود ابراهيم)، والذي كان من أكثر الضباط دفاعا عن حكومة الإنقاذ في معاركها الكثيرة ضد المتمردين ومن أكثرهم حماسة للالتزام بمنهج الحكم الإسلامي، وقد اشترك معه في المحاولة الفريق (م) صلاح قوش رئيس جهاز المخابرات القوي الذي أحيل للتقاعد عندما حامت حوله بعض الشبهات بالتآمر ضد الرئيس البشير.

وقد تجرأت أعداد وقطاعات من داخل عضوية الحزب الحاكم، بعد انفصال جنوب السودان في يوليو 2011، على نقد مسيرة حكم الإنقاذ التي ضلت طريقها في الحفاظ على وحدة البلاد وتعزيز السلام وتحقيق التنمية والمطالبة بإصلاحها مثل: مجموعة "سائحون" الشبابية الإسلامية التي حاربت ضد التمرد وقتل منهم أكثر من عشرة آلاف شاب في أحراش الجنوب، ومجموعة نواب الهيئة البرلمانية بقيادة غازي صلاح الدين والذي انشق فيما بعد عن المؤتمر الوطني بسبب أداء الحكومة المعيب مع مظاهرات الشباب وكوّن حزب "حركة الإصلاح الآن"، ومجموعة أساتذة الجامعات بقيادة بروفيسور محمد سعيد خليفة مدير جامعة الزعيم الأزهري وشيخ المجاهدين في هجليج وجنوب كردفان وآخرون.

وتشير الأحداث في السنوات الثلاث الماضية أن قاعدة الحكومة الصلبة بدأت تهتز من تحت أرجلها مما يفرض عليها القيام بخطوة عاجلة وفاعلة تستعيد بها حيويتها وكسب عضويتها التي ابتعدت أو تمردت، وتسترجع بعض قدراتها على العمل والإنجاز. ورفع المتنفذون في الحكومة في حديثهم عن الإصلاح  والحوار الوطني  سقف التوقعات المرجوة من العملية، فقد أعلنوا لوسائل الإعلام أن الرئيس البشير بنفسه يقود تلك العملية التي ستؤدي إلى حلحلة كل مشاكل البلاد المزمنة في المرحلة القريبة القادمة.

ومهّد البشير في نوفمبر 2013 لخطوة الإصلاح بإبعاد أقوى الشخصيات المتنفذة في حكومته منذ استلامه السلطة في 89، كان على رأس هؤلاء عرّاب المفاصلة مع الترابي  علي عثمان محمد طه النائب الأول للرئيس والحاج آدم النائب الثاني ونافع علي نافع نائب رئيس الحزب للتنظيم ومساعد رئيس الجمهورية وعوض الجاز وزير النفط وعبد الحليم المتعافي وزير الزراعة وأسامة عبد الله وزير الكهرباء والموارد المائية. وقال الرئيس إن تلك هي الخطوة الأولى في تجديد شباب الحزب وستليها خطوات أخرى  تشمل إعادة هيكلة الحزب وتغيير لوائحه وسياساته القديمة حتى يواكب مرحلة الوثبة المتوقعة.

وربما كان القصد الحقيقي من الخطوة هو التخلص من كل متنفذ يقف عقبة أمام المصالحة الشاملة التي ستتم بالضرورة على حساب المتنفذين القدماء، أو من يحتمل منافسته للكادر الجديد الذي  يريده الرئيس على رأس الحزب والدولة. وبعد توقف دام أكثر من شهرين حلت لحظة الطلق التي آذنت بمولد "مشروع الحوار الوطني" بقاعة الصداقة في السابع والعشرين من يناير الماضي، حين دعا الرئيس البشير الأحزاب السياسية كافة، المؤيدة للحكومة والمعارضة، للتداول حول قضايا الوطن الأساسية استعداداً لوثبة وطنية شاملة.

كان خطاب البشير في تلك الأمسية عاماً وغامضاً لا يخلو من تعقيد، ذكر فيه إن أهم القضايا التي تستحق  الإنشغال والتداول والتوافق بين القوى الوطنية هي: السلام مبدءاً عقدياً وطنياً وضرورياً للنهضة؛ المجتمع السياسي الحر الذي يتصرف في شأنه الوطني بالحرية والمشاورة والمساواة؛ الخروج من ضعف الفقر إلى اعداد القوة المستطاعة؛ إنعاش الهوية السودانية التي تحترم أبعاضها وتتوحد بهم.

والظاهرة الملفتة التي جذبت وسائل الإعلام في تلك الجلسة كانت الاستجابة الواسعة لدعوة الحوار من حوالي 80 حزباً وتنظيماً سياسياً يعمل في الساحة بتسجيل مقنن أو بإخطار لدى مجلس شؤون الأحزاب. وكان على رأس المستجيبين للدعوة الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وحسن الترابي زعيم المؤتمر الشعبي وغازي صلاح الدين رئيس حركة الإصلاح الآن المنشقة عن الحزب الحاكم والطيب مصطفى رئيس منبر السلام العادل. وبعد شهر من تلك الجلسة التاريخية، خاطب الرئيس مجلس وزرائه في جلسة حُشدت لها وسائل الإعلام تحدث فيها باستفاضة عن خطط الإصلاح المطلوبة للدولة السودانية بتعاون كل أهل الخبرة والاختصاص، وأن المطلوب من وزراء الحكومة تحويل هذا المشروع الاستراتيجي القومي إلى برامج عمل قابلة للتنفيذ في أرض الواقع.

مواقف القوى السياسية من دعوة الحوار الوطني

انقسمت مواقف القوى السياسية الفاعلة في الساحة تجاه الدعوة للحوار الوطني إلى أربع مجموعات متباينة، مع وجود أطراف يمكن أن تنتقل من مجموعة إلى أخرى لسبب أو آخر:

  1. المجموعة الأولى هي الأحزاب المشاركة مع المؤتمر الوطني في الحكومة منذ سنوات، على رأسها الاتحادي الديمقراطي الأصل بزعامة الميرغني والاتحادي الديمقراطي المسجل بقيادة جلال الدين الدقير وحركة التحرير والعدالة الدارفورية التي وقعت اتفاقية الدوحة برئاسة التجاني السيسي ومؤتمر البجا ممثلاً لأهل الشرق الذي يتزعمه موسى محمد أحمد مساعد رئيس الجمهورية ومجلس أحزاب حكومة الوحدة الوطنية الذي يزعم أمينه العام (المحامي عبود جابر) بأنه يضم خمسين حزباً وحركة لها اتفاقيات مع الحكومة. هذه المجموعة قبلت فوراً ودون شروط دعوة الحوار الوطني، بل ولعبت دور الوسيط في تقديم مقترحات المؤتمر الوطني للآخرين، مثل مقترح تكوين لجنة التنسيق العليا من سبعة أعضاء يمثلون الحكومة وسبعة يمثلون المعارضة برئاسة البشير الذي قدمه زعيم أحد الأحزاب الصغيرة المنشقة عن حزب الأمة القومي. وقد أجيز المقترح في الجلسة الأولى وصار يعرف بلجنة (7+7)، وهي التي وضعت فيما بعد خارطة الطريق لأهداف الحوار وقضاياه.
  2. المجموعة الثانية هي أحزاب المعارضة الكبيرة التي قبلت الدعوة للحوار ولكن بشروط تؤدي إلى بناء الثقة وتهيئة المناخ، أهم هذه الأحزاب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي والمؤتمر الشعبي بقيادة الترابي وحركة الإصلاح الآن برئاسة غازي صلاح الدين ومنبر السلام العادل بقيادة الطيب مصطفى. تشكل هذه الأحزاب أهم إضافة لحكومة المؤتمر الوطني القائمة وهي المستهدفة بالحوار أكثر من غيرها، وخاصة حزب الأمة القومي أكبر الأحزاب السودانية قبل مجئ سلطة الإنقاذ. تنادي هذه الأحزاب، بدرجات متفاوتة، بتحقيق الشروط التالية في مبتدأ الحوار: إطلاق الحريات العامة، إطلاق سراح المعتقلين والمحكومين سياسياً، وقف إطلاق النار في مناطق العمليات بجنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، تكوين حكومة انتقالية لمدة سنتين تقوم بتنفيذ مخرجات الحوار. يعتبر المؤتمر الشعبي أكثرهذه الأحزاب حماسة لفكرة  الحوار مع الحكومة سواءً استجابت للشروط المطلوبة أو لم تستجب، وقد ورد تعليق ساخر من أحد نشطائه عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن المؤتمر الشعبي مستعد لشراء مشروع الحوار الوطني "بسعر السوق"! انقلب الصادق المهدي على الحوار حينما اعتقلته الحكومة في سجن كوبر العريق طيلة شهر يونيو لأنه تجرأ وانتقد قوات الدعم السريع في ليلة سياسية، واتهمها بارتكاب جرائم ومخالفات في حق المواطنين بشمال وغرب كردفان، وكرر ذات الاتهامات في لقاء جماهيري بإحدى قرى الجزيرة. وقد لقي المهدي تعاطفاً واسعاً من القوى السياسية والشخصيات الوطنية ومن الصحافة المحلية، وأطلقت الحكومة سراحه بعد شهر في السجن بعد أن أصدر محاميه اعتذاراً مغلفاً في شكل توضيح لما قصده المهدي، وهو ما طالبه به الرئيس البشير. وظن المهدي أنه أصبح يمثل معظم أهل السودان بعد تجربة اعتقاله التي جعلت سجنه مزاراً للسياسيين والنشطاء والإعلاميين من كافة الاتجاهات مما  رفع أسهمه في البورصة السياسة.
  3. المجموعة الثالثة هي المعارضة اليسارية التي تضم الحزب الشيوعي والمؤتمر السوداني والبعث العربي الاشتراكي وحركة حق والحركة الاتحادية الوطنية والحزب الناصري الوحدوي، وهذه المجموعة لا ثقة لها في الحكومة وتعمل لإسقاطها بكل الطرق السلمية، ولا مانع لديها من التعاون في ذلك مع الحركات المسلحة. وتظن هذه الأحزاب أن الحكومة آيلة للسقوط في وقت قريب بسبب فشلها وفسادها والضائقة الاقتصادية التي يعاني منها الناس، وأن الحوار هو مجرد ذريعة لإطالة عمرها في السلطة لسنوات قادمة، ولا ينبغي للمعارضة أن تعطيها الفرصة. وتقبل المعارضة اليسارية مبدأ الحوار للخروج بالوطن من أزماته المتلاحقة، ولكنها تشترط أن تثبت الحكومة جديتها بتهيئة المناخ المناسب للحوار. ويعني ذلك تنفيذ كل الشروط التي تطلبها المجموعة السابقة بالاضافة للدخول في مفاوضات جادة مع الحركات المسلحة لتحقيق السلام، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، وعدم هيمنة الحكومة على إدارة عملية الحوار. وعندما استجاب الرئيس لشرط إطلاق الحريات والسماح للأحزاب بمزاولة نشاطها خارج الدور، أقدمت الأحزاب اليسارية على تنظيم عدة ندوات سياسية كانت كثيفة الحضور، انتقدت فيها الحكومة بشدة وتخللتها هتافات جماهيرية تنادي بإسقاط النظام. ومارست الحكومة كثيرا من الحجر على الحريات في الشهور القليلة الماضية مثل حظر جريدة "الصيحة"، لسان منبر السلام العادل، من الصدور لأجل غير مسمى لنشرها مقالاً ينتقد الرئيس، واعتقال ابراهيم الشيخ زعيم حزب المؤتمر السوداني لأنه ردد نفس اتهامات الصادق المهدي ضد قوات الدعم السريع في ليلة سياسية بمدينة النهود، ورفض الرجل بحسم تقديم أي اعتذار عن أقواله. ورغم صغر أحزاب هذه المجموعة إلا أنها تمثل إلى حدٍ كبير مزاج الشارع الشبابي الذي خرج في سبتمبر الماضي وتعرّض لقسوة مواجهة الشرطة وقوات الدعم السريع التي أطلقت عليهم الرصاص الحي فقتلت العشرات في تلك المواجهات التي دامت حوالي ثلاثة أسابيع. ولعبت بعض الأحزاب اليسارية دوراً في تشجيع المظاهرات ودعمها وتوجيهها.
  4. المجموعة الرابعة هي الحركات المسلحة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق التي حملت السلاح في أوقات مختلفة ضد حكومة الإنقاذ وتضم: حركة العدل والمساواة – جناح جبريل ابراهيم، حركة تحرير السودان – جناح مني أركو مناوي، حركة تحرير السودان – جناح عبد الواحد محمد نور، الحركة الشعبية – قطاع الشمال، حركات الشرق المسلحة. تمثل هذه الحركات وجوداً قبلياً في مناطق دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وشرق السودان، وهي مناطق متخلفة وضعيفة الخدمات وليس لها مشاركة تذكر في السلطة، وتؤمن هذه الحركات بأن العمل العسكري هو السبيل الناجع لإسقاط حكومة الإنقاذ أو إجبارها على اقتسام السلطة والثروة بعدالة مع مناطقهم المتخلفة. ولكن هذه الحركات تعلم أنها تمثل شرائح قبلية وجهوية محدودة المكان والعدد ولا بد لها من التواصل والتحالف مع القوى السياسية القومية حتى تتفادى تهمة العنصرية وتنجح في إسقاط الحكومة ويكون لها حظ المشاركة في السلطة القومية، وهذا ما يدعوها لقبول مبدأ السلام والعمل له إن حقق أهدافها في العدالة والمساواة.  والتقت هذه الحركات مؤخراً في باريس بالصادق المهدي الذي خرج مغاضباً للحكومة بعد اعتقاله المتعسف وتوصلت معه لاتفاقية باسم "إعلان باريس" الذي أعلن في نهاية الأسبوع الأول من أغسطس/ آب الجاري. وسارع المؤتمر الوطني ورديفه المؤتمر الشعبي لرفض الاتفاقية بحجة ضعيفة هي أن الاتفاق عُقد خارج الوطن (والحقيقة هي أن كل اتفاقيات الحكومة السابقة مع الحركات المسلحة تم التفاوض عليها خارج السودان!) وأنها لم تنص على وقف دائم لإطلاق النار. وخشى المهدي من عودة سريعة للخرطوم قد تعيده للسجن مرة أخرى فقرر البقاء في الخارج في الوقت الحاضر، ولكن سلطات الأمن اعتقلت كريمته الدكتورة مريم الصادق نائبة رئيس الحزب التي كانت معه من باب الطائرة إلى سجن النساء في أمدرمان. ويبدو أن سبب رفض الحكومة أنها تعوّل على عملية "الصيف الحاسم" العسكرية التي ابتدرتها قبل شهور ضد فصائل الجبهة الثورية السودانية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق والتي أصابت قدراً من النجاح في كسب المعارك التي خاضتها مما أدى إلى إنسحاب قوات الجبهة الثورية من عدد من المواقع التي كانت تسيطر عليها. وسنعرض لاحقاً لأهم بنود إعلان باريس والتي يجدر أن تكون جزءً من مخرجات مؤتمر الحوار الوطني. وكل هذه المشاهد والتطورات السلبية تعقد عملية الحوار إلى حدٍ كبير وتؤدي إلى اضعافها أو إفشالها.

خارطة طريق الحوار

توصلت لجنة (7+7) العليا في يوم السبت التاسع من أغسطس الجاري بعد مداولات مكثفة وطويلة إلى خارطة طريق ستعرض على مؤتمر الحوار العام لإجازتها والسير على هديها في المجالات المختلفة. أهم موضوعات الخارطة: أهداف الحوار، مطلوبات تهيئة المناخ، مدة الحوار، هياكل المؤتمر، عضوية المؤتمر، لجان المؤتمر، كيفية اتخاذ القرار، تنفيذ مخرجات الحوار، الموفقون للحوار.

ورد في الأهداف: التأسيس الدستوري والسياسي الذي ينشئ دولة عادلة وراشدة، التوافق على دستور وتشريعات تكفل الحرية والحقوق والعدالة الاجتماعية، التوافق على قيام انتخابات عادلة ونزيهة تحت إشراف مفوضية مستقلة. وذكرت الخارطة مطلوبات للحوار هي: إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين، كفالة الحريات السياسية والتأمين الكامل على حرية التعبير والنشر، وضع الضمانات اللازمة لحملة السلاح للانخراط في الحوار مع وقف شامل لإطلاق النار، مدة الحوار من شهر إلى ثلاثة أشهر.

هياكل المؤتمر هي: المؤتمر العام (حوالي 250 شخصاً يمثل فيه كل حزب أو حركة بشخص واحد وآخر مناوب له بالاضافة إلى 50 شخصية وطنية من قيادات المجتمع يتم اختيارهم بالتوافق)؛ لجان المؤتمر تعكس قضايا الحوار (السلام والوحدة، الاقتصاد، الحريات والحقوق الأساسية، الهوية، العلاقات الخارجية، قضايا الحكم وتنفيذ مخرجات الحوار)؛ اللجنة التنسيقية العليا (7+7 من رؤساء الأحزاب أو من ينوب عنهم)؛ الأمانة العامة (شخصيات وطنية من ذوي الخبرة والاختصاص). واتفق أن يتخذ القرار بالتوافق أو بنسبة 90% من الحضور؛ وأن يتم اختيار خمسة موفقين من الشخصيات الوطنية مهمتهم التوفيق بين أطراف الحوار إذا حدثت معضلة. ويتم الاتفاق فيما بعد على آلية تنفيذية وأي آليات أخرى لانفاذ مخرجات الحوار فقد رفض المؤتمر الوطني القبول بحكومة انتقالية أو فترة انتقالية.

تعتبر الخارطة جيدة بصورة عامة وقد قدم المؤتمر الوطني فيها تنازلات مقدرة عدا موضوع الحكومة الانتقالية.  وقد وصل الخرطوم في 14 من أغسطس ثابو أمبيكي رئيس اللجنة الإفريقية رفيعة المستوى الذي كان مكلفاً منذ 2009 بمشكلة دارفور وأضيف إليه مؤخراً تشجيع وتسهيل مؤتمر الحوار الوطني، وانخرط في لقاءات مستمرة مع كبار المسؤولين في الحكومة ومع لجنة التنسيق العليا (7+7) ومع بعض قادة الأحزاب السياسية خاصة مجموعة اليسار التي قاطعت الحوار ومع بعض قيادات منظمات المجتمع المدني، وكانت رسالته للفئتين الأخيرتين أن منبر الحوار يشكل فرصة لأهل السودان للخروج من مستنقع النزاع والاحتراب الذي خاضوه طويلاً، وكان متفائلاً بما وصلت إليه اللجنة التنسيقية العليا.

إعلان باريس

ويجدر أن نعرض هنا لإعلان باريس الذي تم الاتفاق عليه بين الصادق المهدي وأعضاء الجبهة الثورية السودانية، وهم نفس المجموعات المسلحة المذكورين في المجموعة الرابعة أعلاه، وكان ذلك يوم الجمعة السادس من أغسطس الجاري. ويبدو أن المهدي عمل سراً ولمدة من الزمن لإعداد هذا اللقاء مع المجموعات المسلحة، وأتوقع أن بعض كبار دول الاتحاد الأوربي خاصة فرنسا قد شاركت في تسهيل هذا اللقاء وأنها موافقة على محتوى الإعلان الذي صدر عنه.

كانت أهم بنود الإعلان هي: تعهد الجبهة الثورية بنبذ العمل المسلح الهجومي وسيلة لتحقيق أهداف سياسية وبوقف العدائيات من طرف واحد لمدة شهرين قابلة للتمديد، والحفاظ على وحدة السودان وفقاً لأسس العدالة والمواطنة المتساوية؛  وأن وقف الحرب يعتبر المدخل الصحيح لأي حوار وطني وعملية دستورية جادة مع توفير الحريات والوصول لترتيبات حكم انتقالي. اتفق الطرفان على عدم الإفلات من العقاب وتحقيق العدالة والمحاسبة ورفع الظلم ورد الحقوق، وأن الأقاليم المتأثرة بالحرب ذات طبيعة خاصة مما يتطلب معالجة الأزمة الإنسانية ومخاطبة أمهات القضايا فيها والتمييز الإيجابي لها، والمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين والمحكومين سياسياً وتبادل الأسرى.

وأبدى الطرفان ترحيبهما بمن يريد الانضمام إلى إعلان باريس الذي بادر الحزب الحاكم برفضه، ويبدو أن الأمر لا يخلو من منافسة ومزايدة سياسية لا معنى لها في أوضاع السودان الحالية. وسارع المهدي بمحاولة تسويق الإعلان لكافة القوى السياسية السودانية في الحكومة والمعارضة عبر الاتصالات الهاتفية.

ولم تكن خطوة موفقة من المهدي أن يخرج من مجموعة أحزاب المعارضة المشاركة في الحوار دون التشاور معهم أو إخطارهم  بلقاء باريس، وكان من الأوفق أن يعود مباشرة للبلاد ويحاول اقناع الآخرين بالاتفاق من الداخل فليس فيه مخالفة جنائية تؤخذ عليه أو عيباً يستحي منه. ومع ذلك فقد صرح كل من زملائه المشاركين غازي صلاح الدين والطيب مصطفى بتأييدهما للاتفاق، ولا شك أن كل مجموعة المعارضة اليسارية يمكن أن تصطف مع إعلان باريس إن أمنت موقف الحكومة العدائي وكذلك بالطبع كل الحركات المسلحة  الموقعة وغير الموقعة. كان يمكن لهذا الاتفاق لو أحسنت إدارته أن يشكل اختراقاً للأفق المسدود في السودان بين الحكومة والمعارضة ويقود البلاد نحو وقف الحرب وتحقيق السلام وتعزيز الوحدة الوطنية والقبول بنظام ديمقراطي تعددي قابل للاستقرار.  ولا أظن أن مكروهاً سيحدث للمهدي نتيجة دوره في هذا الاتفاق، وعلى كل ما زال الاتفاق طرياً يقبل الأخذ والعطاء مع الآخرين بمن فيهم الحزب الحاكم.

عقبات ومعوقات الحوار

لعل أكبر العقبات أمام الحوار الوطني هي عدم موافقة المؤتمر الوطني على حكومة انتقالية لا يهيمن عليها وعلى تأجيل الانتخابات لفترة سنة أو سنتين حتى يتم التوافق على دستور دائم يعرض على البرلمان القادم، وإصراره على وقف دائم لإطلاق النار مع الحركات المسلحة. ولا أظن أن الحزب الحاكم سيكفل حرية التعبير والنشر بصورة تامة وأن يجعل القضاء هو الجهة المختصة بالفصل في قضايا التعبير والنشر، فالحكومة تخشى حرية التعبير والنشر مثلما تخشى حدوث انتفاضة شعبية تقتلعها من جذورها والنقد الشديد أحد مسببات الانتفاضة.

وعندما تخاف الحكومات القابضة على نفسها لا تراع دستوراً أو قانوناً أو مؤسسية لجهاز تشريعي أو قضائي أو تنفيذي، فحراسة النفس أولى من كل ذلك. ولا أظن أن المؤتمر الوطني سيقبل أن يفطم نفسه من موارد الدولة وتسخير أجهزتها التي اعتاد عليها طيلة السنوات الماضية، أو أنه سيعرّض كبار ضباطه في الجيش والأمن والبوليس للمساءلة القانونية بسبب مخالفات أو جرائم ارتكبوها في حق المواطنين، كما لن يقدم بعض مسؤوليه الدستوريين للقضاء بسبب تهم فساد حولهم.

وبما أن الديمقراطية لن تتنزل على مجتمع إفريقي أو عربي جملة واحدة، فبالإمكان معالجة كل العقبات والمعوقات المذكورة بالانفتاح والمصارحة والتعافي مثل ما فعلت جنوب إفريقيا، وذلك إن توفرت الرؤية الناضجة والإرادة السياسية القوية.

مآلات الحوار الوطني

يصعب في هذه المرحلة المضطربة المتحركة الجزم بمآلات الحوار الوطني الجاري بين المجموعات السياسية والعسكرية المذكورة سابقاً، فقد يفضي الحوار إذا نجح التوافق التام بين القوى السياسية إلى سلام واستقرار وحكم راشد بقدر معقول، وقد تمضي الأمور كما كانت عليه قبل الحوار من اضطراب سياسي ونزاعات عسكرية جزئية وانفلات أمني في مناطق محدودة وأداء ضعيف في إدارة الدولة والاقتصاد. وقد تكون النتيجة وضعاً بين هذا وذاك إذا غلب التوافق في الساحة السياسية دون اكتمال، وأحسب أن الخيار الأخير هو الراجح بقراءة الوضع الراهن الذي يسمح بقدر من التفاؤل الحذر.
______________________________________
البروفيسور أ. د. الطيب زين العابدين - باحث وجامعي سوداني، معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية، جامعة الخرطوم.

ABOUT THE AUTHOR