طاهر القادري: "غولن" باكستان والصراع على الهوية

تبحث هذه الورقة ظاهرة الشيخ البريلوي طاهر القادري في باكستان، ومدى تشابهها مع ظاهرة فتح الله غولن في تركيا، وترصد سعي القادري إلى تقديم مدرسته الصوفية كمظلة فكرية مذهبية للمؤسسة العسكرية الباكستانية، وتأثير ذلك على علاقتها التاريخية بالمدرسة الحنفية.
20149258532624734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
ترصد هذه الورقة ظاهرة الشيخ البريلوي طاهر القادري الباكستانية، ومدى تشابهها مع ظاهرة فتح الله غولن التركية، ويتجلى ذلك بوجه خاص في الدعم الغربي لهما ولمدرستهما الصوفية البريلوية المتصالحة مع الغرب، والمعادية لطروحات الإسلام السياسي والمسلح.

وتناقش الورقة سعي القادري إلى تقديم مدرسته الصوفية كمظلة فكرية مذهبية للمؤسسة العسكرية الباكستانية وهي المظلة التي سعت بريطانيا على امتداد احتلالها لشبه القارة الهندية لفرضها، لكنها جوبهت بمدرسة حنفية ديوبندية قوية وقفت إلى جانب العثمانيين في مواجهة البريطانيين، وظلت المدرسة الحنفية الخزان القتالي ضد البريطانيين ثم السوفييت والآن الأميركيين.

وتبحث الورقة في إشكالية العلاقة بين المدرسة الحنفية والمؤسسة العسكرية في باكستان، فبينما أصبحت هذه المدرسة عبئًا على الجيش من المنظور الدولي بعد صعود طالبان والقاعدة وأحداث سبتمبر/أيلول، إلا أنها تبقى رصيدًا في الداخل لديمومتها وقدرتها على تفريخ الجماعات المسلحة التي تعمل كبريد للمؤسسة العسكرية في الصراع مع الهند وأفغانستان.

ويبدو أن القلق والغضب الدوليين تجاه المدرسة الحنفية والسلفية وتفريخها لطالبان والقاعدة جعل المؤسسة العسكرية تعمد للعب بورقة جديدة تُرضي الغرب ممثلة بطاهر القادري، لكن سيظل من المتعذر عليها استبدال مظلة فكرية بريلوية، شيعية تناقض سياقات تاريخية واجتماعية واقتصادية تكونت على مدى قرون في المنطقة، بالمظلة الحنفية.

من الصعب التكهن بمستقبل رجل الدين البريلوي "الصوفي" طاهر القادري، والذي بات يُنظر إليه كنسخة من رجل الدين التركي فتح الله غولن. يقود القادري مع لاعب الكريكت الباكستاني الذي تحول سياسيًا، عمران خان، احتجاجات دخلت شهرها الثاني مطالبة بإسقاط حكومة نواز شريف، وبغض النظر عن نجاحها أو إخفاقها، فإنها بلا شك أحدثت هزة لم يشهدها المسرح السياسي الباكستاني منذ نصف قرن تقريبًا ببروز ذي الفقار علي بوتو وحزبه على الساحة السياسية الباكستانية آنذاك.

تسلَّح القادري بليبرالية صوفية توائم ظروفًا دولية أفرزتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، عنوانها احتراب دولي مع المدرستين السلفية والحنفية بعد أن كانتا حليفتين خلال الحرب مع الشيوعية، وهما المدرستان اللتان فرَّختا القاعدة وطالبان وشقيقاتهما، أما الأنظمة العربية والإسلامية فقد نأت بنفسها لاحقًا عن هاتين المدرستين لخشيتها على أنظمتها أو لتبرئة نفسها من اتهامات غربية لها بالعلاقة مع "الإرهاب"، فوجد بعضها البديل في الصوفية أو ما شابهها نظرًا لحاجته لغطاء ديني مهما كان هزيلاً يعززه ألا إرب لهذا الغطاء الجديد، أي: الصوفية، بالسياسة والحكم، كون أدبياته في انعزال عن شؤون الدنيا.

يمكن رصد الكثير من أوجه التشابه بين القادري وغولن، إن كان برضى الفضاء الدولي عن نشاطهما، أو بغضِّ طرْف الأنظمة عن نشاطاتهما، بل تحالفت أحيانًا معهما في وجه عدو مشترك وهو "الإسلام السياسي"، مع فارق بين الطرفين يكمن في حداثة القادري على المشهد إثر تخلخل التحالف العسكري-الأمني الباكستاني مع المدرسة الحنفية الديوبندية بعد تداعيات ما بعد سبتمبر/أيلول 2001.

القادري: خلفية دينية بواجهة سياسية

وُلد طاهر القادري في مدينة جهنك البنجابية كبرى الأقاليم الباكستانية الأربع عام 1951 للشيخ فريد الدين القاردي؛ حيث تلقى بداية تعليمه الديني على يد والده، ثم طاف في بعض المدارس الدينية، ليلتحق بعد ذلك بكلية الشريعة في جامعة البنجاب ويكمل دراسة الدكتوراه في كلية الشريعة بها عام 1978، ليغدو مدرسًا فيها بعد التخرج، وعُيّن إلى جانب التدريس مستشارًا في وزارة التعليم الباكستانية بقسم المناهج، وفي عام 1981 أسس جمعية منهاج القرآن، وطفق بتأسيس شبكة من المدراس الدينية التي تجمع بين علوم الدين والدنيا، ويُقدر عدد مدارسها الآن بحسب مصادر الحركة بـ570 مدرسة في كل باكستان بالإضافة إلى وجودها في أكثر من 90 دولة بحسب موقع الحركة(1)، وإن كان ذلك لا يخلو من المبالغة لكن تواجدها بشكل أساسي في كندا وبريطانيا وأميركا وسط الشتات الباكستاني.

اللافت أن القادري كان إمام مسجد لوالد نواز شريف في مطلع الثمانينات والذي قدمه إلى الرئيس آنذاك ضياء الحق، لينقلب عليه لاحقًا ويشن عليه حملة احتجاجات على نجله نواز شريف ويغدو أشد خصومه ويحوله إلى بطة عرجاء وجثة سياسية في ظل محاصرته سياسيًا وعسكريًا وكارثيًا بعد فيضانات قد تكلف بحسب التقديرات الحكومية 15 مليار دولار(2).

في 25 مايو/أيار 1989 أسس القادري حزبه السياسي "تحريك عوام" أي: "حركة العوام" وتعهد بنشر الديمقراطية الحقيقية والعدالة الاجتماعية والمساواة، وخاض الانتخابات عام 2002، لكن حزبه لم ينل إلا مقعدًا واحدًا في البرلمان، فانتقل إلى كندا وبدأ بطرح أفكاره المعادية للعنف والإرهاب ويهاجم الجماعات المسلحة وأصدر فتواه بحرمة العمليات الانتحارية أو الاستشهادية، والتي لقيت ترحيبًا وترويجًا غربيين، وبينما يصر القادري على أن مدارسه الدينية تُموَّل من المتبرعين وأتباعه إلا أن البعض يعتقد بوجود تمويل خارجي لها.

أفصح القادري خلال الاعتصامات الأخيرة عن وجهه السياسي والفكري؛ فأعلن عزمه تغيير المدارس الدينية التي تخرج فيها ويديرها إلى مدارس علمانية، وتعهد معها بقيادة العالم الإسلامي نحو الاعتدال والعلمانية بعيدًا عن التطرف، مشيرًا في حوار لافت له مع الوول ستريت جورنال إلى أن "السعودية هي أكبر مشكلة للعالم الإسلامي لتصديرها التشدد"(3). تزامن ذلك مع إعلان حكومة بختون خواه وعاصمته بيشاور، التي يديرها شريكه بالاعتصام عمران خان، عزمها فرض التعليم العلماني في الإقليم(4). ونددت على الفور وفاق المدارس التي تضم تجمعًا يضم المدارس الدينية بتصريحاته واصفة إياها بالمؤامرة على المدارس وأن العناصر التي تريد وقف تدريس القرآن والحديث ستفشل(5).

تصريحات القادري المثيرة هذه سبقها تبريره لرسم الكاريكاتير الدنماركي المسيء للنبي عليه الصلاة والسلام دفعت البعض إلى التخوف من وجود أجندة خفية لاستبدال الإسلام العلماني بالإسلام السياسي تمامًا كما حصل في الجزائر ومصر(6). عزَّز هذه المخاوف بيان الجيش الباكستاني الذي شنَّ هجومًا على الجماعة الإسلامية الباكستانية لإدانتها قتل طائرات بلا طيار الأميركية لزعيم طالبان حكيم الله محسود، وهو البيان الأقوى من نوعه في تاريخ الجيش ضد الجماعة الإسلامية التي يُنظر إليها على أن لديها نفوذًا وسط المؤسسة العسكرية من خلال نظريات وأفكار مؤسسها أبي الأعلى المودودي.

لكن المؤسسة العسكرية التي يُنظر إليها على أنها خلف القادرية سُتحرجها تصريحاته لعلاقاتها التاريخية والاستراتيجية مع المملكة العربية السعودية.

المدرسة الحنفية والعسكر: مَن انقلب على مَنْ؟

على مدى التاريخ الإسلامي والباكستاني بشكل خاص ظل المذهب الحنفي الذي شرعن الخروج عن ظلم وجور الحكام غالبًا هو مذهب الدولة الإسلامية، فكان مذهب الإمبراطورية العباسية التي كان شبه القارة الهندية جزءًا منها، وتواصل الأمر خلال الإمبراطورية المغولية ومعها العثمانية، وحين احتل البريطانيون شبه القارة الهندية كانت هذه المدرسة هي الشوكة في خاصرة الاستعمار البريطاني فظهر ما عُرف بالمدرسة الديوبندية نسبة إلى مدينة ديوبند الهندية، والتي صدّرت كبار العلماء ليس للهند وباكستان وإنما لأفغانستان والمنطقة، وشكَّلت نواة المدارس الديوبندية على امتداد شبه القارة.

وأدرك الاستعمار البريطاني أن هذه المدرسة الفكرية لا يمكن أن تكون حليفًا أو صامتًا عليه، بل هي في الحقيقة عدو حقيقي له، فطفق يخلق كيانات مذهبية لتوظيفها لصالحه فدعم أحمد رضا بريلوي لتأسيس الفرقة البريلوية الصوفية وكذلك القاديانية لمواجهة الحنفية الديوبندية التي رفعت شعار "حرمة مشاركة الجنود المسلمين الهنود والباكستانيين في صف القوات البريطانية ضد الخلافة العثمانية"، وهو ما تسبب في فوضى كبيرة بصفوف البريطانيين، لاسيما أن قواتهم تعتمد بشكل أساسي على العنصر البنجابي المسلم؛ فمنذ عام 1858 كان العنصر البنجابي هم جنود بريطانيا العظمى خارج حدودها، وعلى أمل إضعاف المدرسة الحنفية دعمت بريطانيا غلام أحمد قاديان الذي ادّعى النبوة وأوقف الجهاد، ويتحدث تقرير منير الباكستاني المعروف والمنشور عام 1954، في الصفحة 196 عن: "... احتفالات القاديانية بانتصار البريطانيين في بغداد عام 1918 على العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى تسببت في موجة امتعاض وسط المسلمين، حيث بدؤوا ينظرون إليهم على أنهم عملاء للبريطانيين"(7).

وسبق هذا فتوى لمؤسس الطائفة البريلوية الصوفية أحمد رضا بريلوي مؤيدة للبريطانيين وصف فيها الخلافة العثمانية بغير الإسلامية كون الخليفة غير قرشي ولم يُجِز القتال في صفوفها وأجازه في صفوف البريطانيين(8).

حين وقع تقسيم شبه القارة الهندية 1947 وتأسست باكستان ظلت المدرسة الديوبندية رافضة للتقسيم، على أساس أن المسلمين تحولوا إلى أقلية في الهند بعد أن كانوا أغلبية في شبه القارة، بالإضافة إلى الذهنية الحنفية المشبعة بروح الخلافة ووحدة الأمة الإسلامية والتي تنظر إلى المنطقة على أنها كُلٌّ متكامل، رافضة التقسيم والتجزئة؛ مما أثار شكوك المؤسسة العسكرية الباكستانية تجاهها، ولكن لقوتها وتجذرها ونفوذها المجتمعي والتاريخي أدرك الجيش أنه لا يمكن لهم الحكم إلا بالدفع الرباعي للمدرسة الحنفية المعارضة للهندوس وهو ما يحتاجه العسكر الذين ينظرون إلى الهند كعدوة تقليدية وتاريخية. وعلى الرغم من الإشارات السلبية في كتابات أيوب خان، صاحب أول انقلاب عسكري باكستاني، للعلماء والمولويين، مما شكَّل "شيزوفرينيا" عسكرية باكستانية تجاه المدرسة الحنفية، إلا أن الحلف الصامت لحاجة الطرفين لبعضهما تواصَلَ.

أتى الاحتلال السوفيتي لأفغانستان 1979، ووصل ضياء الحق المقرب من العلماء والحركات الإسلامية ليعزز دور المدرسة الحنفية أكثر بعد أن كانت البريلوية ومدارسها قد تفوقت عليها، فقدّم ضياء مساجد ثكناته العسكرية لها لتديرها مما ضاعف وجودها ونفوذها وسط المؤسسة العسكرية، وشكَّل الجهاد الأفغاني رافعة لها بمدِّ علاقاتها مع العالم العربي على حساب المدرسة الصوفية نظرًا لمشاركة أتباعها بالجهاد الأفغاني وهو ما أحجمت عنه البريلوية كعادتها.

حصلت الانتكاسة الأولى في العلاقة بين المدرسة الحنفية والعسكر مع وصول طالبان أفغانستان إلى السلطة عام 1996 واستقواء المدرسة الحنفية بطالبان أفغانستان، وهو ما قرع أجراس خطر في راولبندي، العاصمة العسكرية الباكستانية، وأتى رفض طالبان أفغانستان ورفض أو عجز المدرسة الحنفية الديوبندية الباكستانية عن إقناع خريجيها من قادة طالبان أفغانستان بالرضوخ للشروط الباكستانية والأميركية في إبعاد أو تسليم أسامة بن لادن ليزيد من الشرخ بينهما، ووصل ذروته بتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، حيث انحازت المدرسة الحنفية لطالبان وصمتت على القاعدة التي حظي قادتها بعلاقات مع زعيم القاعدة أسامة بن لادن، وزاد انحدار العلاقة توفيرها الغطاء لطالبان باكستان؛ فقد وجدت الأجهزة الأمنية أنه مع كل استهداف لها من طالبان باكستان يكون الخيط السري باتجاه المدارس الحنفية الديوبندية. وضاعف من ذلك رفض شيوخ المدرسة إصدار أية فتوى دينية ضد العمليات الانتحارية أو ضد مقاتلي طالبان، لكن شعرة معاوية في الوصل مع العسكر لم تشأ المدرسة الحنفية قطعها فتوسطت أخيرًا بين الحكومة وطالبان للصلح، لكن يبدو أن العسكر لم يكونوا على ارتياح، ففشلت المحادثات وحمَّل رئيس المدرسة الحقانية ورئيس لجنة الوساطة سميع الحق، العسكرَ مسؤولية انهيارها.

بموازاة تراجع العلاقة مع المدرسة الديوبندية، كانت مدارس أخرى من بينها المدرسة السلفية الضعيفة في باكستان تسعى إلى سد الفراغ الذي حدث؛ فكان أن وقع الاختيار مبكرًا على عسكر طيبة والتي غدا اسمها جماعة الدعوة بعد حظرها عالميًا، وهي التي تستهدف فقط أهدافًا هندية، فتحالف كهذا يخدم الطرفين، فالعسكر يريدون مخلب قط في وجه الهند لكنه ضعيف قوي بغيره وليس بنفسه على خلاف الديوبندية وهو ما يتوفر في عسكر طيبة والبريلوية.

منذ 11 سبتمبر/أيلول عام 2001 والجيش يدرك أنه لم يعد بالإمكان تسويق مظلته الشرعية المعتمدة على المدرسة الديوبندية التي ينظر إليها الغرب كعدو، فظهر البديل عبر التحالف مع المدرستين: البريلوية والشيعية، ومضى الجيش بتوظيف هاتين المدرستين لتحقيق أهدافه وطموحاته دون التخلي تمامًا عن المدرسة الحنفية والسلفية أيضًا كون عملية التحول الاجتماعي والديني والاقتصادي عملية معقدة بحاجة إلى عقود وربما قرون، يُضاف إليه أن المؤسسة العسكرية نفسها قد تواجه تحديات، فإن تمكنت من إقناع الرأس والمقصود به قادة الفيالق ونحوها بالمظلة الجديدة فسيتعذر إقناع القاعدة والجسم بذلك لالتصاقهم أكثر بالمجتمع وسياقه التاريخي والاجتماعي.

يبدو هذا السياق التاريخي مهمًّا لفهم ما يجري اليوم؛ فالحاضر هو نتاج الماضي، والمستقبل هو نتاج حاضر يتشكَّل، واستعصاء فهم ما يجري ربما يُفهَم من خلال الغوص بالتاريخ.

إن ما جرى من توحيد للمسلمين الشيعة وظهور قيادات شيعية موالية لإيران في اعتصامات القادري قد قرع أجراس خطر لدى بعض صنَّاع القرار الباكستاني، فالواضح أن الطرفين متحالفان في الاعتصامات وفي عملية إسقاط نواز شريف المدعوم والمعتمد تاريخيًا على المدرسة الحنفية الديوبندية. ويخشى صنَّاع القرار الباكستاني من أن يقود ذلك إلى صراع طائفي خطير يهدد البلد، زاد خطورته خطابات القادري ذات النغمة الشيعية بوصف معركته بكربلاء ونعت معسكر نواز شريف باليزيدي ومعسكره بالحسيني وشعارات طائفية رفعها بعض المعتصمين رفعت منسوب الخوف والقلق الذي سعى القادري إلى تبديده بنفيه السعي إلى أجندة طائفية، لكن مسارعة القنصل العام الإيراني في بيشاور للقاء رئيس وزراء إقليمها بختون خواه برفيز ختك التابع لعمران خان والمتحالف مع القادري في الاحتجاجات، ودعوة بلاده لحكومة الإقليم التي يديرها حزب خان للتعاون في مجال الطاقة والتعليم والثقافة زاد منسوب القلق الباكستاني من إمكانية وجود دعم إيراني حقيقي للمحتجين.

ومن الواضح في باكستان أن المؤسسة العسكرية منقسمة تجاه الاعتماد على المدرسة الجديدة، وقد كشفت وكالة رويترز في تقرير لها عن دعم خمسة قادة فيالق باكستانية من أصل 11 قائد فيلق لتحركات القادري ومطالبتهم لقائد الجيش راهيل شريف بضرورة الانقلاب على نواز شريف، وهو ما رفضه راهيل. وكان من بين الداعين للانقلاب رئيس الاستخبارات العسكرية الجنرال ظهير الإسلام، والذي من المفترض أن يتقاعد هو والأربعة الآخرون جميعًا في أكتوبر/تشرين الأول المقبل(9)، وأعقب هذا التقرير برقية أخرى لمراسل صحيفة ذي نيوز من لندن يكشف عن دور كبير وزراء إقليم البنجاب سابقًا برفيز إلهي المنافس لشريف في تشجيع القادري على العودة إلى باكستان والإطاحة بشريف حيث الأرضية المهيئة لغضب العسكر والاستخبارات عليه (10).

إن تسريبات رويترز قد تكون جاءت لتبرئة قائد الجيش وأغلبية قادة الفيالق من دعم تحركات قادري-خان كونه أتى من أقلية ضمن قادة الفيالق سيتقاعدون قريبًا، كما كشف المنشق جاويد هاشمي نائب زعيم حزب الإنصاف بزعامة عمران خان أن ضباطًا كبارًا في الجيش يدعمون تحركات القادري-خان الاحتجاجية ضد شريف، لكن ظل العنوان العريض هو أن ثمة انقسامًا واضحًا في المؤسسة العسكرية إزاء القادري وشريف المعتمد أصلاً وفصلاً على المدرسة الحنفية الديوبندية.

لا تزال حركة القادري معزولة فقط في وسط وشمال إقليم البنجاب، بالإضافة إلى بعض باكستانيي الشتات وتحديدًا في أميركا وكندا؛ حيث يقيم نفسُه في الأخيرة ويحمل جنسيتها، ولا يزال يواجه انتقادًا واسعًا حتى من البريلوية التقليدية التي دأبت على الوقوف مع السياق السياسي العام الباكستاني عملاً بنصيحة مؤسس المدرسة البريلوية السياسية الراحل أحمد شاه نوراني، والتي تنظر إليه كمهدد حقيقي لها بليبراليته وصدامه مع الأغلبية الدينية الباكستانية؛ ولذا ليس من السهل تثوير الطائفة البريلوية المحافظة والبعيدة عن الشأن العام، وتأخذ المدرسة البريلوية عليه أنه لم يستشرها بمشروعه السياسي الجديد، لاسيما وهو الطارئ على مسرح تحتكره عائلات صوفية بريلوية عريقة من أمثال شاه نوراني وبير بقارة وغيرهما.

ولذا من المفيد التأكيد هنا على نقطة منهجية مهمة وهي أن التيار الإسلامي بشكل عام ومن ضمنه الباكستاني ليس جسمًا مصمتًا واحدًا، فثمة أطياف داخل التيار السلفي وكذلك الديوبندي والبريلوي، باستثناء الشيعي الذي يمثله جسم واحد يعود بمرجعيته الدينية والسياسية لإيران كحال معظم بلدان العالم الإسلامي، ولذا من الإنصاف عدم تعميم ظاهرة جماعة أو حزب أو شخص على التيار الذي ينتمي إليه.

الغرب والقادري

تعتمد الإدارة الأميركية في سياستها في شبه القارة الهندية على الخبرة التراكمية البريطانية الغنية في تعاطيها مع منطقة حكمتها لأكثر من قرنين، خلقت أو دعمت خلالها فرقتي القاديانية والبريلوية لإسباغ الشرعية المجتمعية على احتلالها أو لمواجهة الإمبراطورية العثمانية خصوصًا حين دخلتا في مرحلة صدامية وخشيتها من انشقاق جنودها المسلمين في شبه القارة استجابة لنداء الجهاد الذي أطلقه السلطان عبد الحميد وشيخ الإسلام حينها، فشُكِّلت حركة الخلافة المعادية لبريطانيا، فردت عليه بريطانيا بدعم الفرقة البريلوية والقاديانية واستصدرت الفتاوي ضد السلطان العثماني.

تدرك بريطانيا والغرب بشكل عام عداء المدرسة الديوبندية والسلفية للغرب؛ لذا فقد كانت مقاومة أحمد وإسماعيل الأخوين الشهيدين ضدها، وكانت مقاومة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان عبر هاتين المدرستين وخريجيهما، واللتان فرَّختا القاعدة وطالبان. لذا، فقد سعيا إلى البحث عن عقيدة تواجههما فكان ذلك بدعم المدرسة البريلوية مستذكرة حربها مع السلطنة العثمانية، وهو ما يوافق عليه قائد الجيش الباكستاني السابق الجنرال المتقاعد أسلم بيغ إذ يعتقد أن أميركا وكندا قرَّرتا الاستثمار في طاهر القادري بنقله إلى كندا وتشجيعه على مواجهة تحالف المدرستين: الديوبندية الحنفية والسلفية، وسعى القادري بدوره إلى ترقية هذه الأجندة بزياراته لباكستانيِّي الشتات في أوروبا وزار معها إيران أيضًا ، ساعيًا إلى حشد الأتباع لهذا الهدف.

وترافق هذا مع توزيع كتابه خطر الخوارج بآلاف النسخ، والذي ينال فيه من المدرسة الحنفية والديوبندية، كما زار باكستان حيث تلقى دعمًا من منظمات أهلية أجنبية ومؤسسات استخباراتية غربية وبنى علاقات مع الإعلام الباكستاني وكذلك مع أجهزة أمنية وسياسيين(11).

الخلاصة

ليس من السهل على طاهر القادري، كشخصية مثيرة للجدل حتى وسط الطائفة البريلوية الصوفية نفسها ملء فراغ بحجم المدرسة الديوبندية والسلفية المتجذرة في المنطقة والتي تحظى بامتدادات جوارية وعربية وإسلامية. وليس من السهل على المؤسسة العسكرية المراهنة عليه وعلى خطه البريلوي وهي لا تزال على عدائها التاريخي مع الهند، وهو عداء بحاجة إلى وقود ديني يرفد الماكينة العسكرية وهو ما يعجز عنه القادري ومدرسته، لكن ربما العسكر بحاجة إلى مرحلة تهدئة مع الغرب بتخفيف ضغطه عليهم برفع ورقة المدرسة الصوفية في مواجهة المدرسة الديوبندية الحنفية والسلفية.

ترى المؤسسة العسكرية أن طالبان أفغانستان عائدة كجزء من السلطة أو السلطة كلها في كابول حيث عمق باكستان الجيوستراتيجي في مرحلة ما بعد الانسحاب الغربي من أفغانستان المقرر هذا العام، لكن لا يمنع هذا من لعب المؤسسة العسكرية بأوراق ضغط على هذا التيار الفكري أو ذاك، وتبديل الأحصنة تبعًا للمرحلة.
____________________________________
د. أحمد موفق زيدان: مدير مكتب الجزيرة في باكستان

الهوامش والمصادر
1- تعريف بطاهر قادري، منشور على الموقع الإلكتروني للحركة، تاريخ 10 سبتمبر/أيلول 2014: http://www.minhaj.org/english/tid/8718/A-Profile-of-Shaykh-ul-Islam-Dr-Muhammad-Tahir-ul-Qadri.html 
2- خالد مصطفى: كارثة فيضانات باكستان قد تكلِّف باكستان 15 مليار دولار، صحيفة ذي نيوز الباكستانية 17 سبتمبر/أيلول 2014  http://www.thenews.com.pk/Todays-News-2-273287-Catastrophic-Chenab-floods-Pakistans-economy-may-suffer-$15-billion-loss
3 ـ مقابلة مع صحيفة الوول ستريت جورنال وأعادت صحيفة ذي نيشن نشرها بتاريخ 12 سبتمبر/أيلول 2014:
 http://nation.com.pk/national/12-Sep-2014/my-goal-is-to-replace-madrassas-with-secular-schools
4 - أسلم بيغ: مأزق الأمن الباكستاني، صحيفة ذي نيشن، 12 سبتمبر/أيلول 2014:
 http://nation.com.pk/columns/12-Sep-2014/pakistan-s-security-dilemma
5 ـ صحيفة الدون الباكستانية،
Wafaqul Madaris vows to resist ‘conspiracies’، 15-9-2014:
 http://www.dawn.com/news/1132061/wafaqul-madaris-vows-to-resist-conspiracies
6- أسلم بيغ: "سياسات مسيرتنا الطويلة" صحيفة ذي نيشن الصادرة بتاريخ 12 أغسطس/آب 2014:  http://www.nation.com.pk/columns/12-Aug-2014/long-march-politics
7 - اشتياق أحمد: حركة الخلافة والامتنان التركي، الديلي تايمز الباكستانية، 19 أغسطس/آب 2014:
 http://www.dailytimes.com.pk/opinion/19-Aug-2014/the-khilafat-movement-and-turkish-gratitude
8- المصدر السابق.
9- Mehreen Zahra-Malik,Army chief holds off generals seeking Pakistan PM's ouster,Reuters,Sep 5, 2014:
http://in.reuters.com/article/2014/09/05/pakistan-crisis-army-idINKBN0H015K20140905
10- مرتضى علي شاه، من دفع الدكتور القادري إلى هذه الفوضى؟ ذي نيوز الباكستانية ،8 سبتمبر/أيلول 2014: http://www.thenews.com.pk/Todays-News-2-271584-Who-pushed-Dr-Qadri-into-this-mess
11- أسلم بيغ: انتصار الديمقراطية. صحيفة ذي نيشن الباكستانية الصادرة،5 سبتمبر/أيلول 2014: http://www.nation.com.pk/columns/05-Sep-2014/triumph-of-democracy

ABOUT THE AUTHOR