السياسة الخارجية القطرية: إعادة توجيه أم ضبط للإيقاع؟

بُعيْد وصول أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني للحكم، شهدت المنطقة العربية عددًا من التغيرات الجوهرية التي أعادت رسم المشهد الجيوسياسي والتوازنات الإقليمية؛ ما أثّر على نهج السياسة الخارجية القطرية في طريقة تعاطيها مع التطورات الجارية، ودينامية التعامل مع المستجدات في الساحة الإقليمية والدولية.
2014102181742202734_20.jpg
أمير دولة قطر: الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أثناء خطابه أمام الدورة 69 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك (الجزيرة)

ملخص
شهدت السياسة الخارجية لدولة قطر تحولات في تعاملها مع محيطها الجيوسياسي؛ فبعد أن اتسمت سياسة الدولة الخارجية بالوساطة والحياد خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، انعطف مسارها بعد اندلاع شرارة ما بات يُطلق عليه "ثورات الربيع العربي" لتدخل في طور التأثير والنفوذ، وذلك بعد تبني صانع القرار القطري موقفًا مؤيدًا للشعوب العربية المنتفضة في وجه أنظمتها المستبدة، والمطالبة بحريتها وكرامتها وحقها في تقرير مصيرها.

لكن المتغيرات التي طرأت بُعيد تولي أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني مقاليد حكم البلاد، أعادت رسم المشهد الجيوسياسي والتوازنات الإقليمية؛ فعزل الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، وتصاعد التوترات والصراعات في ليبيا، وتمدد تنظيم الدولة الإسلامية في المنطقة واستيلاؤه على مناطق جغرافية واسعة في كل من سوريا والعراق، وسقوط مفاصل الدولة اليمنية الرئيسة في قبضة جماعة الحوثي في اليمن، والحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، كل تلك الأحداث جعلت القيادة القطرية تضبط إيقاع سياستها الخارجية في ما يخص طريقة تعاطيها مع التطورات الجارية في المنطقة، ودينامية التعامل مع المستجدات في الساحة الإقليمية والدولية.

إنَّ إعادة تنشيط سياسة الوساطات التي برعت فيها الدوحة خلال العقد الأول من الألفية، وتحفيز أدوات القوة الناعمة التي تملكها دولة قطر مع الاحتفاظ بهامش الانخراط في التحالفات الدولية لصد أي تهديد يمكن أن يمس أمنها الوطني أو أمن الإقليم، يُدخل السياسة الخارجية القطرية في مرحلة جديدة تعتمد أدوات ما أطلق عليه جوزيف ناي "القوة الذكية".

مقدمة

شهدت السياسة الخارجية لدولة قطر تطورات عدة منذ الاستقلال عام 1971، مرورًا بانتقال السلطة في يونيو/حزيران 1995 إلى الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وصولاً إلى تنازله عن السلطة لنائبه وولي عهده الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في يونيو/حزيران 2013.

فبعد أن كانت السياسة الخارجية القطرية تتماشى في مرحلةٍ ما -كبقية السياسات الخارجية لدول الخليج العربية الأخرى- مع السياسة الخارجية لنظيرتها السعودية، وذلك حتى منتصف تسعينات القرن الماضي، رسمت دولة قطر منذ عام 1995 مسارًا مغايرًا ومستقلاً لسياستها الخارجية، وذلك بُعيْد وصول الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني إلى سدة الحكم في يونيو/حزيران من العام ذاته.

لقد اعتمدت دولة قطر بدايةً انتهاج سياسةٍ خارجيةٍ انفتاحية قوامها تفعيل أدوات القوة الناعمة، كالإعلام والدبلوماسية والتعليم والثقافة والرياضة والسياحة والاقتصاد والمساعدات الإنسانية. وارتكزت على استراتيجيات عديدة، أهمها: استراتيجية حسن الجوار، واستراتيجية التحالفات مع القوى الكبرى والمتوسطة واستراتيجية بناء الصورة الذهنية.

وبُعيْد وصول أمير البلاد الشيخ تميم بن حمد آل ثاني للحكم، عقب تنازل والده الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني له عن السلطة في خطوة غير مسبوقة في التاريخ العربي المعاصر، شهدت المنطقة العربية عددًا من التغيرات الجوهرية التي أعادت رسم المشهد الجيوسياسي والتوازنات الإقليمية؛ فكان من أهم تلك التغيرات عزل الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، وتصاعد التوترات والصراعات في ليبيا، وتمدد تنظيم الدولة الإسلامية في المنطقة واستيلاؤه على مناطق جغرافية واسعة في كل من سوريا والعراق، وسقوط مفاصل الدولة اليمنية الرئيسة في قبضة جماعة الحوثي في اليمن.

لا شك بأنَّ عجز المجتمع الدولي عن إيجاد حل للأزمة الدائرة في سوريا منذ قرابة الأربع سنوات، أسهم وبشكلٍ كبير في تشكُّل تنظيمات جهادية استطاعت أن تكوّن حواضن شعبية لها وأن تعزز وجودها حيث وُجدت.

كل تلك الأحداث وغيرها، أثَّر دون أدنى شك على نهج السياسة الخارجية لدولة قطر في طريقة تعاطيها مع التطورات الجارية في المنطقة، ودينامية التعامل مع المستجدات في الساحة الإقليمية والدولية.

بناءً على ما تقدم، تسلِّط هذه الورقة الضوء على أبرز التحولات التي شهدتها مسارات السياسة الخارجية لدولة قطر لاسيما منذ تولي الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حكم البلاد في الخامس والعشرين من يونيو/حزيران 2013.

مرتكزات ثابتة للسياسة الخارجية القطرية

ترتكز عقيدة دولة قطر السياسية في مجال العلاقات الدولية على توطيد السلم والاستقرار؛ فالمادة السابعة من الدستور القطري تنص على أن السياسة الخارجية للدولة "تقوم على مبدأ توطيد السلم والأمن الدوليين". وتعتمد السياسة الخارجية القطرية على مجموعة من الثوابت، أهمها: تشجيع فض المنازعات الدولية بالطرق السلمية، ودعم حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والتعاون مع الأمم المحبة للسلام.

وقد سارت الحكومات المتعاقبة منذ منتصف تسعينات القرن الماضي على هذا النهج؛ لاسيما في العقد الأول من الألفية الثالثة؛ فقبل اندلاع شرارة ما بات يُعرف بـ"ثورات الربيع العربي"، انتهج أمير البلاد في حينه، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني دبلوماسية تُرَكِّز على الوساطات وفضِّ النزاعات؛ وهو ما حوَّل الدوحة إلى وجهة مميزة للوساطات الدولية؛ فمن السودان إلى أريتريا، ومن لبنان إلى المصالحة الفلسطينية، ومن الصومال إلى اليمن، لم تكد قطر تترك نزاعًا في المنطقة إلا وأدَّت فيه دور الوسيط.

ولم تتوقَّف نتائج هذه الوساطات عن إحراز نتائج إيجابية كما هي الحال بالنسبة إلى اتفاق لبنان في مايو/أيار 2008، وإطلاق سراح الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني في عام 2007 الذين كانوا معتقلين في ليبيا، حيث منح ذلك البلاد اعترافًا ومصداقية على المستويين الإقليمي والدولي. كما رافق هذا العزم على فضِّ النزاعات بالطرق السلمية ولعب دور الوسيط، تصميمٌ على اللجوء إلى التحكيم الدولي إذا ما تعلق الأمر بخلاف بشأن ترسيم دولة قطر لحدودها مع جيرانها؛ كما حدث مع البحرين في أوائل الألفية.

وإذا كانت هذه هي المرتكزات والمحددات العامة الحاكمة لسياسة دولة قطر الخارجية؛ فثمة تطورات لحقت بها خلال السنوات الأربع الماضية، وذلك في ضوء مجموعة الأحداث المتلاحقة، إقليميًّا ودوليًّا، وهي التطورات التي شكَّلت في حد ذاتها محددات نوعية جديدة أثَّرت بالمجمل على سياسة الدولة الخارجية.

من الحياد إلى النفوذ

ميَّز مسار الحياد وأخذ مسافة متساوية من جميع الأطراف نهج السياسة الخارجية القطرية طيلةَ خمسة عشر عامًا، وذلك قبل أن تلحظ دولة قطر في ديسمبر/كانون الأول 2010 مع اندلاع ثورات "الربيع العربي"، أن هناك تحوُّلاً تاريخيًّا بدأ يُغَيِّر الوجه السياسي للمنطقة، وبدا أن الشعوب العربية، التي أُخضعت للقمع منذ استقلال بلادها، قررت أن تخرج إلى الشوارع مطالبةً باسترداد حريتها وكرامتها وحقها في تقرير مصيرها.

 وقد هدَّتْ رياح الثورة التي انطلقت من تونس أركان عدد من الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي؛ وعليه لم تتردد القيادة القطرية منذ البداية في دعم خيارات الشعوب العربية انطلاقًا ممَّا نص عليه دستور البلاد في مادته السابعة: "ودعم حق الشعوب في تقرير مصيرها".

وقد أسفر هذا المنعطف عن تغيُّر لصورة البلاد في الساحة الدولية، وانتقلت دولة قطر من طور الوسيط المُصالِح إلى طور الناشط الداعم؛ حيث شاركت في آليات الردع العسكري تحت غطاء التحالف الدولي، في إبريل/نيسان 2011 أثناء الحملة التي قادها حلف شمال الأطلسي "الناتو" ضد قوات العقيد الراحل معمر القذافي، ودعت فيما بعد ومن على منبر جامعة الدول العربية إلى إرسال قوات عربية إلى سوريا من أجل وقف إراقة الدماء فيها.

يشير هذا التحول في توجه السياسة الخارجية القطرية إلى أن حدوث فراغ في القوى الإقليمية خلال الفترة 2011-2013 دفع دولة قطر إلى أن تتبوأ موقعًا متقدمًا في الطليعة، خاصة في مؤسسات جامعة الدول العربية التي رأستها خلال تلك الفترة لدورتين متتاليتين؛ حيث كانت القوى التقليدية في العالم العربي تعاني من التراجع لأسباب مختلفة؛ فالسعودية كانت مشغولةً بترتيب بيتها الداخلي، كما ظهر في بعض مناطقها -لاسيما في المنطقة الشرقية منها- مؤشرات لبداية حركة تذمُّر، كما كانت مصر متعثرةً بفعل فترتها الانتقالية التي تلت ثورة الـ 25 يناير/كانون الثاني 2011، والعراق لم يزل مترنحًا منذ الغزو الأميركي الذي اجتاحه في ربيع عام 2003، أما سوريا فقد كانت -ولا تزال- ترزح تحت الاضطرابات التي صاحبت الثورة الشعبية التي اندلعت فيها في مارس/آذار 2011.

لقد مثَّلت ثورات الربيع العربي والموقف القطري الواضح إزاءها منذ البداية، خلافًا لمواقف الكثير من القوى الإقليمية والدولية ومنها دول مجلس التعاون الخليجي؛ فرصةً مواتيةً للإعلان عن تدشين مرحلة نوعية جديدة في إطار النهج العام للسياسة الخارجية القطرية في ظل رؤية القيادة السياسية القطرية في حينه.

وبدا جليًّا أن هناك تمايزًا واضحًا بين الموقف القطري من ثورات الربيع العربي وبين مواقف عدد من دول مجلس التعاون الخليجي، سواء على مستوى التصريحات الرسمية لكبار المسؤولين، أو على مستوى التحرك السياسي والدبلوماسي بل وحتى الإنساني واللوجيستي والدعم المالي والاستثمارات الاقتصادية.

في إطار استراتيجية دولة قطر الإقليمية التي تسعى إلى إحداث توازن بين القوى في المنطقة، فإن ذلك وضعها في موقف بالغ  الحساسية، من خلال دعمها للقوى الصاعدة في الدول التي طالها التغيير، والتي تمثَّل بعضها في تيارات الإسلام السياسي، حيث تطلَّب ذلك من الدوحة التحرك بحذر لعدم إثارة الجار الشمالي "إيران" من جهة، وبعض دول الخليج التي صنفت لاحقًا جماعة الإخوان المسلمين على أنها تنظيم إرهابي محظور من جهة أخرى.

لقد استطاعت دولة قطر أن تقطع شوطًا في سياسة "التأثير والنفوذ"؛ بفضل تغير المناخ السياسي الذي نجم عن تقطّع أوصال البنيات الجيوسياسية للمنطقة بفعل وقائع ثورات الربيع العربي. ويبدو أنَّ هذا المنعطف في السياسة الخارجية القطرية، يؤشر على إيمانها بأنها باتت تمتلك الاستقلالية في قرارها؛ حيث أصبحت مدركةً وواثقةً في أنها تستطيع من خلال مواقفها أن تكون ندًا لدول إقليمية في المنطقة.

مرحلة التحول إلى القوة الذكية

فرض وصول الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى رأس هرم السلطة في دولة قطر في الخامس والعشرين من شهر يونيو/حزيران 2013 إجراء تغيير في أسلوب إدارة الدبلوماسية القطرية، وذلك تماشيًا مع عدد من المتغيرات التي طرأت على مجريات الأحداث الإقليمية لاسيما في كل من مصر والعراق وسوريا، كما أن أدوات السياسة الخارجية القطرية شهدت تطورًا لافتًا ضمن إطار مفاهيم القوة الناعمة والقوة الذكية.

فبُعيْد وصول الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى السلطة بأيام قليلة حدث أن أطاح الجيش في جمهورية مصر العربية في 3 يوليو/تموز 2013 بأول رئيس مدني منتخب في تاريخ الدولة المصرية. وقد رحَّب بالانقلاب العسكري بشكل صريح بعضُ الدول الفاعلة في المنطقة، وتغاضت عنه القوى الغربية.

أمَّا على المستوى الإقليمي فقد أبدت تركيا رفضها للتعطيل المفاجئ للمسار الديمقراطي في مصر. ودعت قطر إلى عملية مصالحة بين مختلف القوى المصرية المتنازعة، إلَّا أن القيادة المصرية الجديدة كانت تراهن على قمع الأصوات المعارضة وعلى إقصاء حركة الإخوان المسلمين من المشهد السياسي بكامله. كل تلك التحولات أمْلَتْ على القيادة القطرية التلاؤم مع الأوضاع الجديدة بحيث توجه سياساتها بشكل عقلاني وفق الأولويات المتبدلة.

إنَّ هدوءًا قد طرأ على التحركات الدبلوماسية القَطرية إذا ما قورنت بتلك التي سبقت مرحلة انتقال السُلطة في يونيو/حزيران 2013، ويمكن أن يُعزى ذلك إلى رغبة أمير البلاد الشاب الشيخ تميم ابن حمد آل ثاني في تبني خيار استراتيجي لسياسة بلاده الخارجية وفق محددات ما أطلق عليه جوزيف ناي في كتاباته مفهوم "القوة الذكية"، والتي تمزج ما بين القوتين الناعمة والصلبة، مع الحفاظ على مبادئ وثوابت السياسة الخارجية للدولة والتي نص عليها الدستور الدائم للبلاد.

لا شك بأنَّ القيادة القطرية تولي الكثير من الاهتمام للشأن الداخلي، لاسيما أنَّ الدولة تتعرض لحملة إعلامية ممنهجة في الإعلام الغربي، يقف وراءها عدد من التنظيمات والدول التي لا تتفق ونهج سياسة قطر الخارجية فيما يتعلق بعدد من القضايا في المنطقة. والجدير بالإشارة إليه هنا، هو أن المسؤوليين القطريين لا ينكرون أن هناك جانبًا من الإشكاليات والقصور الذي يعتري الحقوق الخاصة بالعمالة الوافدة، وعليه فقد شرعت الجهات المعنية بالدولة في سنِّ القوانين والنظم لمعالجة تلك الإشكاليات، لاسيما أن دولة قطر تسعى لتنفيذ خطتها للعام 2030 للوصول إلى أهداف التنمية المستدامة، كما أنها في طور التحضير لاستضافة بطولات رياضية عالمية أهمها بطولة كأس العالم لكرة اليد في العام 2015 وبطولة كأس العالم لكرة القدم في العام 2022.

ومن ثمَّ، فإنَّ النشاط الهادئ نسبيًا للدبلوماسية القطرية لا يمكن اعتباره بمثابة تراجعٍ، وإنما تحول في نموذج سياستها الخارجية من خلال العودة إلى تعزيز أدوات الدبلوماسية الناعمة كالإعلام، وذلك بإطلاق قنوات فضائية جديدة، والاقتصاد من خلال ضخ استثمارات أكبر في الخارج والداخل على حدٍّ سواء، والتعليم بتعزيز القدرات الفكرية ورعاية الأحداث الدولية في شتى المجالات الثقافية والفنية والرياضية؛ حيث يعي القائمون على رسم السياسات أنَّ ذلك سيصب في صميم النشاط الخارجي للدولة خلال السنوات القادمة.

وبالتالي، فإن هذا الانعطاف في أداء الدبلوماسية القطرية يعكس بدرجة ما التفاعل المستمر بين أبعاد سياسة الدولة الداخلية والخارجية؛ إذ إنه كان من البديهي أن يتم إيلاء قدر أكبر من الاهتمام للشـأن الداخلي دون أن يعني ذلك بأي حال تراجعًا بالاهتمام بالشأن الخارجي.

لقد تبنى صانع القرار القطري موقفًا يُبقي الباب مفتوحًا للحوار مع جميع الأطراف أينما اقتضى الأمر ذلك؛ مع التأكيد على الضرورة الملحَّة لعدم إقصاء أية قوَّة من المشهد السياسي. ولأنَّ هذا الموقف يُناقض مواقف بعض دول الجوار التي تتبنَّي خيار المواجهة مع بعض حركات تيار الإسلام السياسي؛ فقد أجَّج ذلك خلافات داخل منظومة مجلس التعاون الخليجي، أدت إلى سحب ثلاث دول خليجية لسفرائها من الدوحة في الخامس من مارس/آذار 2014، وكان هذا بلا شكٍّ التحدي الأكبر الذي تعيَّن على الشيخ تميم مواجهته خلال العام الأول من حُكمه. وأظهرت هذه الأزمة -التي كانت سابقةً في تاريخ علاقات أعضاء مجلس التعاون الخليجي- عمق الخلاف في تقدير العواصم الخليجية لعدد من ملفات المنطقة.

أكدت الأزمة الدبلوماسية التي بدت للعيان في وقت ما من هذا العام بين الدوحة وعدد من العواصم الخليجية، على استقلال القرار السياسي القَطري، الذي يمكن أن يتبنى استراتيجية مستقلة دون أن تكون بالضرورة معادية لدول المنطقة.

 إعادة ضبط السياسة الخارجية

تختلف مقاربات دول المنطقة تجاه تيار الإسلام السياسي الذي وصل إلى مواقع متقدمة في عدد من الدول التي مستها رياح التغيير في الوطن العربي. فبينما تصنف بعض الدول جماعة الإخوان المسلمين على أنها تنظيم إرهابي محظور، كما هي الحال في دولة الإمارات العربية المتحدة و المملكة العربية السعودية، تعتبر دولة قطر هذه الجماعة واحدةً من مكونات قوى الخارطة السياسية في العالم العربي التي ينبغي التعامل معها وإشراكها في الحياة السياسية، لاسيما أنَّ هذا التنظيم (الإخوان المسلمين) يشغل مساحة من خارطة المشهد السياسي في عدد من دول الخليج العربية كما في الكويت والبحرين.

كما أن التطورات التي شهدتها المنطقة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، بعد تمدد تنظيم الدولة الإسلامية شمالاً في كل من سوريا والعراق، وسيطرة جماعة الحوثي جنوبًا على مفاصل الدولة في اليمن، أدَّت إلى مراجعة دول الخليج لعلاقاتها البينية، وبالتالي سعت لأن تضع حدًا لخلافاتها في سبيل توحيد الصف لمواجهة خطر زعزعة أمنها الوطني والإقليمي. من هنا جاء التحرك السعودي لاحتواء الأزمة الخليجية بين قطر من جهة والإمارات والبحرين والسعودية -نفسها- من جهة أخرى. إن الوساطة السعودية لحل الخلاف -رغم كونها طرفًا فيه- يعكس وعي صانع القرار السعودي لخطورة المرحلة التي تمر بها المنطقة، واضطلاعه بمسؤولياته القيادية لواحدة من الدول المحورية والمركزية في المنطقة.

من الجانب القطري، فقد كانت ردة الفعل إيجابية من خلال المرونة والرغبة التي أبدتها القيادة القطرية في تجاوز الأزمة مع جيرانها في مجلس التعاون الخليجي، وهذا ما تمّ لمسه في كلمات أمير دولة قطر مؤخرًا خلال زيارته الأخيرة لألمانيا في سبتمبر/ أيلول 2014 وخطابه في الرابع والعشرين من شهر سبتمبر/أيلول 2014 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ 69، ولقائه التليفزيوني في الخامس والعشرين من سبتمبر/ أيلول 2014 مع القناة الإخبارية الأميركية CNN؛ حيث يمكن استشراف ملامح "جديدة-قديمة" لنهج السياسة الخارجية القطرية توحي بإعادة ضبط إيقاع تلك السياسة دون المس بجوهر ثوابتها ومبادئها التي نصَّ عليها الدستور الدائم للدولة، مع التأكيد على استقلال قرارها.

يبقى مبدأ الوساطة الذي اعتمدت عليه السياسة الخارجية القطرية خلال العقد الأول من الألفية، أحد أهم معالم تلك السياسة، حيث أسست الدوحة نموذجًا -يحمل العلامة (الماركة) القطرية- في حل النزاعات الإقليمية والدولية، ويبدو أنها ماضية في سعيها إلى إعادة إحياء وتنشيط ذلك المبدأ الذي استطاعت الدوحة من خلاله في مرحلةٍ ما، أن ترسم صورةً ذهنية لها في العقل الباطن للمجتمع الدولي، مرتبطةً بأدوارها الإيجابية التي حققتها في هذا المجال، حتى بات يُطلق على الدوحة في بعض الأدبيات الغربية "جنيف المشرق".

إنَّ دعوة أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في المحافل الدولية مؤخرًا، إلى تعزيز ثقافة الحوار وإلى تبني سياسة الطرق السلمية الاستباقية بدلاً من الحرب الاستباقية أو ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح "الدبلوماسية الوقائية"، وتأييده قيام الحكومات والأنظمة بإجراءاتٍ إصلاحية تدريجية، يمكن أن تُغني عن قيام الشعوب بثورات شعبية لقلب أنظمة الحكم المستبدة، كل تلك الإشارات توحي بسعي الدوحة إلى تبني مقاربات أكثر مرونةً من تلك التي تبنتها بعد انطلاق شرارة ثورات الربيع العربي في أواخر العام 2010، مع التركيز على عدم المس بثوابت السياسة الخارجية القطرية، التي يبدو أنها ليست موضعًا للمساومة.

تبقى الإشارة إلى ثبات موقف صانع القرار القطري في تأييده لحقوق الشعوب العربية المطالبة بالحرية والكرامة وحقها في العيش الكريم، ورفضه لتخيير الشعوب بين استبداد الأنظمة التي تحكمه أو إرهاب التنظيمات الجهادية التي أنتجها هذا الاستبداد.

الخاتمة

شهدت السنوات الأخيرة -لاسيما مع تداعيات ثورات الربيع العربي- انتقال دولة قطر من دبلوماسية الوساطات إلى دبلوماسية التأثير، ولا شك في أنّ السياسة الخارجية لدولة قطر تتمتع بمزايا تنافسية عديدة يساعدها في ذلك مصادر الدخل الهائلة التي تملكها والمتأتية من إنتاج وتصدير مصادر الطاقة (النفط والغاز)، والاستثمارات التي تضخها خارج حدود البلاد.

لقد بدأت دولة قطر تبرز كقوة إقليمية صاعدة منذ بدايات العقد الأول من الألفية، مستفيدةً من دخل وطني كبير، ومن ظرف استثنائي تمثل في فراغ كانت تشغله قوى إقليمية كبرى كالسعودية ومصر والعراق، ومن عُزوف الولايات المتحدة الأميركية عن الخوض في صراعات وحروب جديدة في المنطقة بعد تجربتيها القاسيتين في كل من أفغانستان والعراق.

إنّ تحول دولة قطر إلى مرحلة التأثير في القضايا الإقليمية والدولية بعد انطلاقة شرارة ثورات الربيع العربي، كان بمثابة مرحلة انعطاف في نهج السياسة الخارجية الذي تبنته الدوحة، مستفيدةً في ذلك من أدوات قوتها الناعمة متعددة الأبعاد والتي عملت على بنائها وتعزيزها خلال أكثر من عقد من الزمن. هذا التغير في نموذج السياسة الخارجية وإن كان مرحليًا، أبرز أن الدوحة يمكن لها أن تتبنى خيارات استراتيجية متعددة معتمدةً على استقلال قرارها؛ ما يعكس مرونة السياسة الخارجية للدولة، تلك السياسة التي ترتكز على أسس النظرية الواقعية، إحدى نظريات العلوم السياسية التي تُعنى بتحليل السياسات الخارجية للدول.

وفقًا لذلك، فإنَّ إعادة ضبط إيقاع السياسة الخارجية القطرية التي يمكن ملاحظتها مؤخرًا، تنسجم مع المتغيرات التي تعصف بالمنطقة؛ حيث لابدَّ في مرحلة ما ووفقًا لمصالح الدولة، أن يتم إعادة توجيه سياساتها بما يخدم مصالحها، دون المساس بثوابتها. وهذا ما يمكن رصده فيما يتعلق بالحالة القطرية، حيث العودة إلى تفعيل دور الوسيط وأدوات القوة الناعمة مع الاحتفاظ بهامش الانخراط في التحالفات الدولية لصد أي تهديد يمكن أن يمس أمنها الوطني أو أمن الإقليم.
________________________________
د. جمال عبد الله - باحث مختص بالشأن الخليجي

المصادر
- د. جمال عبد الله، السياسة الخارجية لدولة قطر (1995-2013): روافعها واستراتيجياتها، الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات، ط1، 2014.
- د. جمال عبد الله، الموقف القطري من ثورات الربيع العربي: "السياسة الخارجية القطرية: من الحياد إلى التأثير"، في: محمد بدري عيد ود. جمال عبد الله، الخليج في سياق استراتيجي متغير، الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات، 2014.
- د. جمال عبد الله، تحولات وآفاق السياسة الخارجية لدولة قطر (1995-2014)، مجلة "الدبلوماسي"، العدد العاشر، يونيو/حزيران 2014، الدوحة، المعهد الدبلوماسي بوزارة الخارجية القطرية.
- د. جمال عبد الله ونبيل الناصري: "سياسة قطر الخارجية: استمرارية أم إعادة توجيه؟"، الدوحة، تقارير مركز الجزيرة للدراسات، 2 يوليو/تموز 2014، http://studies.aljazeera.net/reports/2014/06/201462411230518576.htm
- د. جمال عبدالله، أزمة سحب السفراء من الدوحة: البواعث والتداعيات، الدوحة، تقارير مركز الجزيرة للدراسات، 24 مارس/آذار 2014، http://studies.aljazeera.net/reports/2014/03/201432413826345572.htm
- يحيى اليحياوي، "أوباما وأطروحة القوة الذكية" ، 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2013/11/18/%d8%a3%d9%88%d8%a8%d8%a7%d9%85%d8%a7-%d9%88%d8%a3%d8%b7%d8%b1%d9%88%d8%ad%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%82%d9%88%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b0%d9%83%d9%8a%d8%a9
- كريستيان كوتس أوربكسن، "قطر والربيع العربي: الدوافع السياسية والمضاعفات الإقليمية"، 24 سبتمبر/أيلول 2014،
http://www.carnegie-mec.org/2014/09/24/%D9%82%D8%B7%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D8%A7%D9%81%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B6%D8%A7%D8%B9%D9%81%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%82%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A9/hpvo
- خطاب أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 24 سبتمبر/أيلول 2014، http://www.youtube.com/watch?v=3bZRLLLwMsc
- مقابلة أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في القناة التليفزيونية الأميركية CNN بتاريخ 25 سبتمبر/أيلول 2014، http://www.youtube.com/watch?v=vR9ezioJ4kQ
- كلمة أمير دولة قطر أمام نخبة من الاقتصاديين والإعلاميين والمثقفين خلال زيارته لألمانيا بتاريخ 17 سبتمبر/أيلول 2014، http://www.youtube.com/watch?v=k6eYQJQYsxM

ABOUT THE AUTHOR