الهند والولايات المتحدة الأميركية: تقديرات مختلفة للشراكة

هناك تقديرات مختلفة لمستوى الشراكة بين أميركا والهند؛ حيث تطمح الأخيرة لرفعها إلى درجة أعلى اعتمادًا على حاجة أميركا لحلفاء آسيويين في مواجهة الصين، بينما تقلِّل واشنطن من شأنها تحفظًا منها على التطرف الديني (الهندوسي) وعلى علاقات الهند الودية مع موسكو وطهران.
201531082527325734_20.jpg
[الجزيرة]

ملخص

مرَّت العلاقات الهندية-الأميركية بأطوار عدة تخلَّلتها خلافات عدَّة، أحدها البرنامج النووي الهندي العسكري مع اختلاف وجهات نظر البلدين إزاء قضيتي كشمير وأفغانستان، واستقرت على التعاون النووي السلمي بين البلدين مع توقيع اتفاقية عام 2008 بهذا الخصوص إضافة إلى تعاون البلدين في مواجهة "التطرف الإسلامي". وانتعشت آمال الهند خلال إدارة الرئيس باراك أوباما باستمالة أميركا إلى جانبها إزاء احتواء الخطر الباكستاني ورفع مستوى التعاون النووي بينهما، في حين تهدف أميركا إلى إرساء تحالف مع الهند لاحتواء الصين وفتح الأسواق الهندية أمام البضائع الأميركية. ولكن العلاقة بين البلدين لا يزال دونها عوائق لتكون استراتيجية لتحفُّظ إدارة أوباما على "التطرف الهندوسي" وعلى علاقات دلهي الودية مع طهران وموسكو، فضلًا عن خلافهما حول منظمة التجارة الدولية وقضية المناخ.

زار الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال رئاسته الهند مرتين وكانت الأخيرة منهما ما بين 25 و27 يناير/كانون الثاني 2015، لحضور احتفالات "عيد الجمهورية" وهى مناسبة تدعو لها الهند رئيسًا أو ملكًا يُعتبر "صديقًا لها. وكان اختيار أوباما لهذه المناسبة إيذانًا من الحكومة الهندية الجديدة بأنها تنوي رفع العلاقات مع أميركا إلى مستوى أعلى، واستقبله رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بنفسه في مطار دلهي متجاوزًا البروتوكول الذي يقضي بأن يستقبل أحدُ الوزراء رؤساءَ الدول والملوك في المطار على أن يجري الاستقبال الرسمي في قصر رئاسة الجمهورية، كما خالف مودي البروتوكول أيضا بمعانقة الرئيس أوباما مرتين إحداها حين نزل الأخير من طائرته.

صدرت خلال زيارة الرئيس أوباما وثيقة هندية-أميركية مشتركة بعنوان "الرؤية الاستراتيجية حول آسيا ومنطقة المحيطَين الهادئ والهندي"(1)، أكدت على أن الهند قد تخلَّت نهائيًّا عن سياسة عدم الانحياز وسياسة الاستقلال الاستراتيجي وأنها مستعدة للوقوف إلى جانب أميركا استراتيجيًّا(2). لكن أوباما قطع زيارته الرسمية قبل يوم من نهايتها المقررة فغادر دلهي متوجهًا إلى الرياض لتقديم العزاء في وفاة الملك عبد الله في إشارة إلى أن الولايات المتحدة لا تعوِّل من جانبها كثيرًا على علاقاتها مع الهند.

وعكَّر الأجواء بصورة لافتة أن الرئيس أوباما قبيل مغادرته الهند قال في حديثه للشباب: "كل شخص يتمتع بحق أن يمارس دينه أو ألَّا يمارسه بدون اضطهاد أو خوف أو تمييز. وليس هناك من مجتمع متحصن من اندفاعات الظلاميين. وقد تم استخدام الدين للظلامية بدلًا من نور الله.. والهند ستستمر في التقدم طالما أنها لا تنقسم على أسس دينية"(3). وفُسِّرت هذه الكلمات بأنها موجهة إلى سياسات اليمين الهندوسي ضد المسيحيين والمسلمين في الهند والتي انتعشت بصورة ملحوظة عقب فوز حزب الشعب الهندي (الهندوسي) في الانتخابات الهندية العامة في مايو/أيار 2014. ووُصفت كلمات الرئيس أوباما هذه بـ"ركلة الوداع" التي وجَّهها إلى مودي قبل مغادرته الهند(4). ولم ينته الأمر هنا بل، وبعد أيام من مغادرته الهند، قال الرئيس أوباما في تصريح له بواشنطن في 6 فبراير/شباط 2015: "إن أعمال التعصب التي مرَّت بها الأديان من كل الأنواع في الهند خلال السنوات القليلة الماضية كافية لصدمة المهاتما غاندي"(5).

خلفية تاريخية

لم تكن هناك علاقات تُذكر بين الهند وأميركا قبل استقلال الهند في أغسطس/آب 1947 ولا بعده، ولم تنشط إلا بعد سنة 1975 حين بدأ الهنود يهاجرون إلى الولايات المتحدة بأعداد كبيرة للتعلم والعمل، ويبلغ اليوم عدد الهنود في الولايات المتحدة 3.4 ملايين نسمة، وهم يمثلون واحدة من أكبر الجاليات الآسيوية في أميركا.

وكان من أسباب سوء العلاقات الهندية-الأميركية فور الاستقلال رفض دلهي المقترحات الأميركية لتسوية الأزمة حول كشمير مع باكستان، ولاعترافها بالصين الشيوعية في يناير/كانون الثاني 1950 خلافًا للنصائح والضغوط الأميركية. ولكن سرعان ما توترت علاقات الهند مع الصين بسبب ادِّعاء بكين ملكيتها لأراضٍ في شمال الهند، وأن الهند البريطانية استولت عليها في القرن التاسع عشر. وشنَّت الصين حربًا على الهند سنة 1962 احتلَّت بنتيجتها أجزاء واسعة من الشمال الهندي بما فيها منطقة "أقصاي تشين" الكشميرية، ولا يزال العداء للصين قضية مشتركة تجمع بين الهند والولايات المتحدة.

وتحسَّنت العلاقات الهندية-الأميركية بشكل متسارع تحديدًا بعد مجيء الرئيس جون كينيدي للحكم (1961-1963)؛ حيث أيدت الحكومة الأميركية خلال تلك الفترة الهند بقوة ضد الصين في حرب 1962، ودعمتها بالأسلحة والذخائر ووجهت حاملة الطائرات "كيتي هوك" من المحيط الهادئ إلى الهند لحمايتها، إلا أنها عادت واستدعت حاملة الطائرات لاحقًا قبل أن تصل خليج البنغال.

ولم تستمر العلاقات الهندية-الأميركية على هذه الحال؛ حيث تدهورت بعد غياب الرئيس جون كينيدي ووصلت الحضيض في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون الذى عزَّز من العلاقات العسكرية والاقتصادية مع باكستان ردًّا على اقتراب الهند في عهد رئيسة الوزراء إنديرا غاندي من الاتحاد السوفيتي. ووصل الأمر بالرئيس نيكسون أن أيَّد باكستان صراحة في مواجهة الهند بل وأرسل حاملة الطائرات "إنتربرايز" إلى خليج البنغال لتأييد باكستان خلال الحرب الهندية-الباكستانية سنة 1971 والتي أدت إلى ظهور بنغلاديش.

ثم تغير الموقف الهندي مرة أخرى من الولايات المتحدة بصورة جذرية فور انهيار الاتحاد السوفيتي سنة 1991؛ حيث أدرك صنَّاع السياسة الخارجية أن خريطة السياسة العالمية قد تغيرت تمامًا وعليهم التكيف مع الوضع الجديد، فبدأوا من حينها يتقربون من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإسرائيل.

¬والجدير بالذكر أن التفجير النووي الهندي الأول سنة 1974 كان مسؤولًا عن توتر العلاقات الهندية-الأميركية وفرضت الإدارة الأميركية إثره عقوبات على الهند خاصة في مجال نقل التكنولوجيا العالية. وتدهورت العلاقات الهندية-الأميركية أكثر حين قرر رئيس وزراء حكومة حزب الشعب الهندي "أتال بيهاري فاجباي" إجراء التجارب النووية الثانية سنة 1998؛ الأمر الذى لم تحبذه واشنطن وصوَّتت لصالح قرار بمجلس الأمن الدولي يندد بالتفجيرات وشددت من عقوباتها على الهند إلا أنها لم تلبث بعد فترة أن خفَّفتها بقرار من الرئيس بيل كلينتون الذي أرسل مندوبًا إلى الهند لتحسين العلاقات ثم زارها بنفسه في مارس/آذار 2000 .

الحرب على الإرهاب والتعاون النووي

ظلَّت العلاقات العسكرية الهندية-الأميركية تتطور منذ عهد الرئيس كلينتون وتضمنت رفع الحظر عن تصدير بعض الأسلحة الأميركية للهند، لتدخل طورًا جديدًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول سنة 2001؛ إذ بدأ التعاون العسكري والاستخباراتي بين البلدين ووصل الأمر بواشنطن أن كلَّفت الهند بمسؤولية المحافظة على أمن الطرق البحرية من قناة السويس في المحيط الهندي إلى خليج ملقا وسنغافورة. وعقدت الدولتان في إبريل/نيسان 2005 "معاهدة الأجواء المفتوحة" لتنشيط التجارة والسياحة من خلال زيادة الرحلات الجوية بينهما، وفى السنة التالية قام الرئيس جورج بوش الابن بزيارة الهند لتعزيز العلاقات معها.

أبدت دلهي في هذه المرحلة استعدادها الكامل للتعاون مع أميركا لمحاربة "الإرهاب الإسلامي" رغم أن الهند لا تعاني منه خاصة وفق التفسير الأميركي، إلا أنه ساعدها على تعزيز العلاقات مع واشنطن لاسيما أن رؤى البلدين التقت حول أمن الطاقة وتغير البيئة، وفى هذه المرحلة تخلَّت الهند عمليًّا عن سياسة عدم الانحياز وإن ظلَّت ترددها كشعار.

وبمجيء القرن الحادي والعشرين أصبح واضحًا أن الهند في طريقها لتصبح قوة كبرى في المستقبل القريب بفضل ثقلها السكاني ونموها الاقتصادي السريع، في حين تأكد للولايات المتحدة في هذه الفترة أنه بات بإمكانها الاعتماد على الهند لتحييد النفوذ الصيني المتزايد في المنطقة. وهكذا بدأت العلاقات الهندية-الأميركية منذ 2004 توصف بـ"الشراكة الاستراتيجية"، باعتبار أن لكلا البلدين قيمًا متقاربة ومصالح مشتركة. وعقد البلدان عددًا من الاتفاقيات الاقتصادية والأمنية بينهما، من أهمها: التعاون النووي المدني الذى بدأت تباشيره سنة 2005 بتوقيع "معاهدة التعاون العلمي والتكنولوجي" وقلب السياسة الأميركية القديمة رأسًا على عقب حيث قبلت واشنطن بالبرنامج النووي الهندي الذي كانت تعارضه، ودخل "التعاون النووي المدني" بينهما مرحلة جديدة سنة 2008 حين وقَّع البلدان على معاهدة تعاون سعت لها حكومة حزب المؤتمر الهندي رغم المعارضة الشديدة من قبل معظم الأحزاب السياسية الهندية لما تضمنته من شروط أميركية. وشملت العلاقات الجديدة إقامة مناورات عسكرية مشتركة لمختلف أجنحة الجيش والقوات الجوية والبحرية بما فيها الحرب في الغابات والجبال وفي المحيط الهندي.

حدود الشراكة

بدأت المرحلة الثانية من "الشراكة الاستراتيجية" لتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين في يناير/كانون الثاني 2004 وهي التي دُشِّنت في بداية عهد الرئيس بوش الابن. وفى يوليو/تموز 2005 أعلن الرئيس بوش خلال زيارة رئيس الوزراء الهندي مان موهان سينغ لواشنطن، عن اكتمال هذه المرحلة وعقَدَ البلدان سلسلة من المعاهدات والاتفاقيات الجديدة. وفى ديسمبر/كانون الأول 2006 وافق الكونغرس الأميركي على "قانون التعاون النووي السلمي الأميركي-الهندي" الذى يسمح بالتجارة النووية بين البلدين بعد انقطاع دام ثلاثة عقود، إلا أن هذا التعاون محدود بالاستخدام السلمي للطاقة النووية حيث لا تزال الولايات المتحدة تتحفظ على استخدام الهند للطاقة النووية للأغراض العسكرية. وفي 10 أكتوبر/تشرين الأول 2008 وقَّع البلدان أيضًا على "الاتفاقية الهندية-الأميركية حول الطاقة النووية السلمية" التي تسمح للشركات الهندية والأميركية بالتعاون والمشاركة في المشاريع النووية السلمية. إلا أن هذه الاتفاقية لم تُفعَّل حتى الآن لأن الهند سنَّت في أغسطس/آب 2010 "قانون المسؤولية المدنية عن الضرر النووي" الذى ينص على أن بائعي المفاعلات النووية ومتعهديها ومشغِّليها مسؤولون عن التبعات المالية والجنائية في حالة وقوع أي حادث -وهو ما ترفضه الحكومة الأميركية والشركات الأميركية- وجاء هذا القانون بناء على الضغوط المحلية من قبل أحزاب المعارضة والرأي العام والإعلام لتحديد المسؤولية القانونية في حالة حدوث كوارث على غرار كارثة مفاعل تشيرنوبل بروسيا سنة 1986 وكارثة مصنع مبيدات كاربايد بمدينة بهوبال الهندية (1984)، والتي راح ضحيتها 25 ألف شخص ولكن شركة كاربايد الأميركية لم تدفع إلا (500) مليون دولار كتعويضات.

الخلافات بين البلدين

رغم الحوار "الاستراتيجي" والتقارب المستمر بين البلدين منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، ظلَّت العلاقات الهندية-الأميركية تعاني من التوتر لأسباب منها السياسة الأميركية تجاه باكستان وأفغانستان وطالبان؛ إذ ترى الهند أن أميركا منحازة لباكستان وأنها تتعامل مع طالبان الأفغانية بلين لا مبرر له. ولم تحبذ الهند بصورة خاصة المطلب الأميركي بأن تقلِّل الهند من تواجدها ونشاطها في أفغانستان حتى لا تثير حفيظة باكستان وطالبان. وبسبب هذا الامتعاض، اعتذرت الهند عن المشاركة في المؤتمر الدولي حول أفغانستان الذي دعت إليه الإدارة الأميركية في لندن في فبراير/شباط 2009(6).

وهناك قضايا أخرى تختلف الهند بشأنها مع الولايات المتحدة مثل العلاقات الهندية الودية مع إيران وروسيا، وترى الهند أن العقوبات الأميركية على إيران تضر بمصالح الهند فيما يتعلق بأمن الطاقة، كما ترى أن الضغط الأميركي على روسيا يصب في مصلحة الصين وهو أمر لا تحبذه الهند.

وهناك مشكلة أخرى تتعلق بمحاولة إدارة أوباما الحدَّ من تصدير الشركات الأميركية لعملياتها إلى خارج الولايات المتحدة للاستفادة من الأيدي العاملة الرخيصة في بعض الدول مثل الهند؛ حيث فتحت آلاف من الشركات الأميركية والأوروبية "مكاتب" لها لهذا الغرض. وهناك خلاف في وجهات النظر بين الدولتين حول منظمة التجارة الدولية وقضية المناخ؛ إذ تنظر واشنطن إليهما كالدول المتقدمة التي وصلت مرحلة متقدمة من النمو وتريد الآن وضع قوانين صارمة تُلزم المصانع بعدم تلويث البيئة وبمراعاة قوانين مريحة للعمال وما إلى ذلك، بينما الدول النامية ومنها الهند ترى أن مثل هذه القوانين والقيود ستعرقل نموها(7).

وهناك نزاع بين البلدين حول قضايا تجارية والوصول إلى الأسواق، وقد سجَّلت الولايات المتحدة شكوى في منظمة التجارة العالمية ضد سياسة الحكومة الهندية في قصر شراء شرائح الطاقة الشمسية وأجهزتها على السوق المحلية. وترى واشنطن أن السياسة الهندية في هذا المجال تخالف لوائح منظمة التجارة العالمية التي تقول بوجوب فتح الباب للمورِّدين الوطنيين والأجانب بدون تمييز، بينما تقول الهند إن الولايات المتحدة تقدم الدعم لمنتجي تكنولوجيا الطاقة الشمسية في بلدها وهو إجحاف بحق الآخرين. وسبب الصدام بين الهند والولايات المتحدة يكمن في أن الشركات الأميركية تريد تصدير منتجاتها (الجاهزة) إلى الهند بينما الحكومة الهندية الجديدة ترفع شعار "اصنعْ في الهند" (Make in India) كركيزة أساسية لسياستها الاقتصادية بهدف خلق ملايين من الوظائف الجديدة، وهي تدعو الشركات الأجنبية لفتح مصانع في الهند لتغذية السوق المحلية من جهة وللتصدير خارج الهند من جهة أخرى.

وتختلف أيضًا نظرة كل منهما إلى مسألة "الحفاظ على حقوق الملكية الفكرية" وعلاقتها باتفاقيات التجارة الدولية؛ حيث يضغط منتجو الأدوية الأميركيون على واشنطن لتجبر الهند على احترام براءات الاختراع الأميركية الخاصة بالأدوية، وعدم السماح لمنتجي الأدوية الهنود بإنتاج أدوية مسجَّلة أميركيًّا وبيعها في الأسواق المحلية والخارجية كأدوية "عمومية" generic أي بأسمائها الأصلية وليس بالأسماء المسجلة. والموقف الهندي يقول إن الملكية الفكرية قضية محلية ولا ينبغي إقحامها في المحادثات مع شركاء التجارة الأجانب.

ومن المفارقات التي تدل في هذا السياق على هشاشة العلاقات الهندية-الأميركية أن ثارت بين البلدين أزمة عاصفة استمرت شهورًا حين قبضت السلطات الأميركية على ديفياني خوبراغادي نائبة القنصل العام الهندي بنيويورك في ديسمبر/كانون الأول 2013 بعد أن وُجِّهت لها تهمة الحصول على تأشيرة "خادمة" عن طريق الخداع. وجاء هذا الحادث بعد أسبوع واحد من تصريح للسفيرة الأميركية بالهند نانسي باويل بأن الولايات المتحدة "لن توقِّع على معاهدة شراكة استراتيجية مع الهند"، وأن بلدها يفضل "توجهًا مرِنًا إزاء قضايا التعاون الاستراتيجي" مع الهند(8).

وبدلًا من تسوية الأمر سريعًا باستخدام الطرق الدبلوماسية والقنوات السرية، ندد رئيس الوزراء الهندي آنذاك مان موهان سينغ علانية باعتقال الدبلوماسية الهندية، وأبلغت الحكومة الهندية حكومة الولايات المتحدة بأن المعاملة ستكون بالمثل في كل الأمور من الآن فصاعدًا.

أميركا ومودي

قضية ناريندرا مودي -رئيس الوزراء الحالي- ظلَّت تعكر العلاقات الهندية-الأميركية طويلًا حيث وضعت الولايات المتحدة اسمه على القائمة السوداء ومنعت دخوله إلى الولايات المتحدة بسبب دوره في مذابح ولاية كوجرات سنة 2002 حين كان مودي يرأس حكومة الولاية، وألغت تأشيرة دخول له كان قد حصل عليها سنة 2005. وفشلت الإدارة الأميركية في إدراك أن هذا الشخص يمكن أن يصبح رئيس وزراء الهند في يوم من الأيام وهو ما حدث بعد الانتخابات العامة الأخيرة في مايو/أيار 2014. وحين ظهر أن مودي سيكون مرشح حزب الشعب الهندي لرئاسة الوزارة لو فاز في الانتخابات العامة الأخيرة، أخذت الإدارة الأميركية تتقرب من مودي لدرجة أن السفيرة الأميركية بالهند نانسي باويل زارته في فبراير/شباط 2014، وبعد تقلُّده منصب رئاسة الوزراء توجه لزيارة أميركا في سبتمبر/أيلول (27-30) 2014 التي شملت عقد جلسة محادثات مع أوباما وجلسات أخرى مع سياسيين ورجال أعمال دعاهم مودي للمساهمة في حملته "اصنع في الهند".

أظهرت الوثائق التي سربها "إدوارد سنودن" ونشرها موقع "ويكيليكس" سنة 2013، أن الولايات المتحدة تتجسس على الهند على نطاق واسع، ليس فقط داخل الهند بل وشملت حتى السفارات والممثليات الهندية في الخارج، وخصوصًا السفارة الهندية في واشنطن والبعثة الهندية بمقر الأمم المتحدة في نيويورك. وظهر من وثيقة تعود إلى سنة 2010، مما كشفه سنودون ونشرتها واشنطن بوست، أن الإدارة الأميركية أعطت الإذن لوكالات التجسس الأميركية بالتجسس على ناريندرا مودي الذى كان آنذاك كبير وزراء حكومة ولاية كوجرات. ويشار في هذا السياق إلى أن الخارجية الهندية استدعت في 2 يوليو/تموز 2014 السفيرة الأميركية بالهند للاحتجاج.

هل الاتفاق النووي حبر على ورق؟

يرى الجانب الأميركي أن الهند لم تقدِّر الموقف الأميركي برفع العقوبات النووية بل جحدته حين سنَّت قانون "المسؤولية القانونية عن الكوارث النووية" الذى تسبب في إبعاد الشركات الأميركية عن دخول الهند(9). أما الهند فتجيب بأن هذه الرؤية لا تأخذ في الاعتبار الضرر الاستراتيجي الذى أصاب الهند لأكثر من ثلاثة عقود من جرَّاء العقوبات الأميركية منذ التفجير النووي الهندي الأول سنة 1974، كما أنها لا تأخذ في الاعتبار أن الولايات المتحدة لا تزال تمنع عن الهند تكنولوجيا التخصيب النووي، وتضغط على جهات أخرى لتمنعها من تزويد الهند بهذا النوع من التكنولوجيا، وهو الأمر الذى يهدد استقلال الهند نوويًّا(10).

هذا وأعلن الرئيس أوباما قبل مغادرته الهند في يناير/كانون الثاني 2015 أنه قد حصل تقدم في المحادثات التي عقدها البلدان حول التعاون النووي، فتح المجال أمام بيع الشركات الأميركية المفاعلات النووية للهند. ولكن المحللين والخبراء يقولون إن القضايا القانونية لا تزال شائكة ما سيجعل الشركات الأميركية تحجم عن دخول السوق الهندية(11)، لأنه لا يمكن إلغاء المادة 46 من القانون الهندي للمسؤولية النووية بمجرد عقد اتفاقية بين البلدين. وهناك اعتقاد بأن مودي رضخ نهائيًّا لمطالب الإدارة والشركات الأميركية بألا تكون الشركات الأميركية المصدِّرة للمفاعلات والمواد النووية مسؤولة عن تبعات أي حادث. وهناك علامات تشير إلى أن حكومته تريد الالتفاف على قانون المسؤولية النووية بإصدار "قرار حكومي" في هذا الخصوص لحماية مصالح الشركات الأميركية(12).

ومن الواضح أن مثل هذا "التفاهم" لا أساس له قانونًا حيث يمكن للمحاكم الهندية نقضه بسهولة ما لم يعدِّل البرلمان الهندي قانون المسؤولية النووية وهو ما لا تستطيعه حكومة مودي حاليًا لأن حزبه لا يتمتع بالأغلبية في مجلس الدولة (المجلس الأعلى للبرلمان الهندي)؛ فحتى لو وافق مجلس الشعب بالبرلمان الهندي -حيث يتمتع حزب الشعب الهندي الحاكم بالأغلبية- على التعديل فإنه سيسقط في مجلس الدولة الذى تسيطر عليه أحزاب المعارضة.

وفي ضوء القانون الهندي الحالي يجب على الشركات الأجنبية المصدِّرة للمفاعلات النووية أن تحصل على تأمين "طرف ثالث" بقيمة 375 مليون دولار عن كل مفاعل نووي لتغطية الكوارث المحتملة، وهذه القيمة لا تُقدَّر بشيء مقارنة بالقيمة الباهظة التي ستدفعها الهند لقاء كل مفاعل نووي (نحو 12 مليار دولار للمفاعل الواحد). ولكن الحقيقة هي أن الشركات الأميركية تعارض مبدأ المسؤولية عن الكوارث بصورة مبدئية لأن قبول تحمل هذه المسؤولية سيفتح الباب لتعويضات أكبر يمكن أن تطالب بها الحكومة الهندية أو الضحايا مستقبلًا، كما سيفتح الباب أيضًا لمقاضاة المسؤولين التنفيذيين بهذه الشركات.

وهناك عقبة أخرى أمام التعاون الهندي-الأميركي في المجال النووي وتتمثل في "قانون هايد" الأميركي لسنة 2006 الذي يلزم الحكومة الهندية و"مدققًا مستقلًّا" بتقديم المعلومات دوريًّا للحكومة الأميركية حول شكل ومقدار ومكان تواجد اليورانيوم المبيع للهند بهدف ضمان ألا يُستخدَم للأغراض العسكرية .

خاتمة

إذا كان هدفا الهند الرئيسان من وراء تقوية العلاقات مع أميركا هو الخروج من المأزق النووي واحتواء باكستان، فمن الواضح أن هدفي الولايات المتحدة الرئيسين، هما: استخدام الهند في حربها السياسية والاقتصادية لاحتواء الصين وفتح السوق الهندية الكبيرة أمام البضائع والشركات الأميركية. أمَّا ما يقال عن "الشراكة الاستراتيجية" فهو تضخيم للتعاون بين البلدين بل هو حُبٌّ من جانب واحد إذ إن هناك خلافات جوهرية بين البلدين حول قضايا رئيسية -التي أشرنا إليها سابقًا- كما أن الهند متمسكة بعلاقاتها مع روسيا وإيران، وتنشط في كتلة دول "البريكس" (الصين وروسيا وجنوب إفريقيا والبرازيل) التي قد تكون قوة مضادة للولايات المتحدة.

وترى الهند أن من حقها الهيمنة منفردة على جاراتها في جنوب آسيا، وهي تعرقل الجهود الأميركية والصينية لتحول دون توغلهما إلى المنطقة، وترى أن المنطقة الممتدة من خليج عدن غربًا إلى خليج ملقا شرقًا هي منطقة حيوية لها، وهي تُعِدُّ بحريتها لتكون قادرة على التحرك في "أعالي البحار" والتدخل في هذه المنطقة الشاسعة. وترى الهند أنها مسألة وقت فقط -عقد أو عقدان من الزمن- حتى تصبح في عداد الدول الكبرى اقتصاديًّا وعسكريًّا؛ وبالتالي تسيطر على منطقة جنوب آسيا التي من حقها الطبيعي أن تسيطر عليها ثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا؛ مما يعني أن صدام الهند مع الولايات المتحدة والصين آت لا محالة، وهما الدولتان الوحيدتان القادرتان على كبح هذا الطموح الهندي.
____________________________________________________________________
* ظفر الإسلام خان: كاتب ومحلل صحفي هندي مقيم بدلهي.

1-The White House, “U.S.-India Joint Strategic Vision for the Asia-Pacific and Indian Ocean Region,” 25 January, 2015.
http://www.whitehouse.gov/the-press-office/2015/01/25/us-india-joint-strategic-vision-asia-pacific-and-indian-ocean-region
Accessed on 5 March, 2015.
2- Kanwal Sibal, “India must be hard-headed on US relations,” Daily Mail, 9 Feb., 2015.
http://www.dailymail.co.uk/indiahome/indianews/article-2946592/India-hard-headed-relations.html
Accessed on 5 March, 2015.
3- “India will succeed so long it’s not ‘splintered’ on religious lines: Obama,” Indian Express, 28 Feb., 2015.
http://indianexpress.com/article/india/india-others/in-parting-shot-obama-prods-india-on-religious-freedom /
Accessed on 5 March, 2015.
4- “His parting shot: Obama’s words on tolerance meant for Modi govt,” Hindustan Times, 27 January, 2015.
http://www.hindustantimes.com/analysis/his-parting-shot-obama-s-words-on-tolerance-meant-for-modi-govt/article1-1311016.aspx
Accessed on 5 March, 2015.

5-Lalit K Jha, "Barack Obama: ‘Acts of intolerance’ in India would have shocked Mahatma Gandhi," Indian Express, 6 Feb., 2015.
http://indianexpress.com/article/india/india-others/religious-intolerance-in-india-would-have-shocked-mahatma-gandhi-barack-obama /
Accessed on 5 March, 2015.

6- "India not to attend conference on Afghanistan with Pakistan, U.S.," chinaview.cn, 21 February, 2009.
http://news.xinhuanet.com/english/2009-02/21/content_10866084.htm
Accessed on 5 March, 2015.

7- Kanwal Sibal, op. cit.
8-S Balakrishnan, "US ambassador Nancy Powell rules out Indo-US strategic pact," DNA, Mumbai, 3 December, 2013.
http://www.dnaindia.com/mumbai/interview-us-ambassador-nancy-powell-rules-out-indo-us-strategic-pact-1928541
Accessed on 5 March, 2015.

9- Ibid.
10- Kanwal Sibal, op. cit.
11-Annie Gowen & Steven Mufson, "Breakthrough Understanding on Nuclear Deal: More an Optical Illusion than Actual Reality?," Washington Post, 4 February, 2015
http://www.washingtonpost.com/world/is-the-india-nuclear-agreement-really-the-breakthrough-obama-promised/2015/02/04/bc0b0dd2-abc1-11e4-8876-460b1144cbc1_story.html
Accessed on 5 March, 2015.

12-MV Ramana & Suvrat Raju, “Profitability without accountability,” The Hindu, 16 Feb., 2015.
http://www.thehindu.com/opinion/op-ed/comment-profitability-without-accountability/article6898851.ece
Accessed on 5 March, 2015.

ABOUT THE AUTHOR