مسار الحوار الليبي: جدل النماذج التفسيرية وصراع الاستراتيجيات

تدخل الأزمة الليبية عامها الخامس في مسار عسكري تصاعدي، يوازيه حوارات في المغرب والجزائر لم تُرضِ حتى الساعة كلَّ الأطراف، لكن مقترحات ليون من قبيل التمديد للبرلمان وإخضاع حكومة الوحدة الوطنية المقترحة لسلطته، تمهد لدخول ليبيا فترة انتقالية ثالثة، تزيد حالة التخبط في حل الأزمة.
201552195517822734_20.jpg
حلّ مسألة الشرعية لصالح بناء مؤسسات تتعامل مع القضايا الحرجة وتمنع مزيدًا من الاحتراب وحماية الحدود، هو ما قد يساعد على قدرة الأطراف على الخروج من ضغط الأزمة في ليبيا (الفرنسية)
ملخص
تدرس هذه الورقة نماذج تحليلية للأزمة الليبية، فبعد أن ترسم المشهد والأحداث المفصلية تعرض هذه النماذج والقاعدة المعرفية التي تحدد معطيات النموذج والمؤشرات التي تتمظهر في المشهد الليبي. ويتحرك وفق هذه النماذج الأطراف الداخلية والخارجية، فهناك من ينظر للمشهد الليبي كثورة مضادة مثل المؤتمر الوطني وعملية فجر ليبيا، وهناك من ينظر إليه كحرب أهلية أو حرب بالوكالة، وهم عدد من مراكز الدراسات أو بيوت خبرة غربية، وهناك من يصوِّرها حربًا على ما يصفه بالإرهاب كالبرلمان في مدنية طبرق والذراع العسكرية بعملية الكرامة. وتدفع هذه المناهج إلى إبراز المسارات المتشابهة تاريخيًّا والمعطيات الإحصائية في رسم سيناريوهات مستقلبية، قد تكون أكثر تفسيرًا للواقع بموضوعية.

تدخل الأزمة الليبية عامها الخامس في مسار أخذ شكلًا تصاعديًّا، نتج عنه انقسام سياسي وعسكري صاحَبَه تفكُّك اجتماعي وتعثُّر اقتصادي، فتح الباب للتكهنات حول مستقبل ليبيا بعد الثورة التي اندلعت في السابع عشر من فبراير/شباط عام 2011. إن الأزمة الليبية أزمة مركَّبة لا يمكن المجازفة برسم سيناريوهات مستقبلية لها دون الاستناد إلى نموذج تحليلي قادرعلى تفسير الأحداث المتتالية، خاصة بعد نشوب حرب أهلية في بنغازي عام 2014، وبروز التدخلات الخارجية في الشرق الليبي وتحديدًا في مدينة درنة، ومؤشرات الثورة المضادة، ثم الحوارات المتعثرة التي تجري الآن في مدينة الصخيرات المغربية وفي الجزائر.

طبيعة نظام القذافي وغياب فكرة التأسيس

إن محاولة وضع نموذج تحليلي للمرحلة الانتقالية في ليبيا مهم لفهم هذه التجربة، فهناك عدة قضايا تبدو فريدة في الحالة الليبية هي التي عادة ما تنتج قياسًا مع الفارق، ومقاربات أكثر بُعدًا عن الواقع، خاصة بعد أحداث ثورة أزاحت نظام حكم ذي أيديولوجيا فوضوية سعت للإطاحة بكل البدهيات السياسية وجذَّرت الفوضى، وأطاحت بشكل التنظيمات المجتمعية ومؤسسات الدولة. ولم يكن الأمر في ليبيا إبَّان حكم القذافي مجرد استبداد وعنف أو سيطرة دولة شمولية، ذلك أن فراغ البلد من أصل فكرة التأسيس أدَّى لظواهر يمكن إجمالها في سيطرة الفوضوية كأيديولوجيا حاكمة، وتغييب معنى التنظيم حتى في المستويات الدنيا من التجمعات المدنية.

بعد اندلاع الثورة كان الحديث قويًّا حول ضرورة وأهمية التوافق؛ حيث تبدو ليبيا متناسقة دينيًّا وتاريخيًّا ومذهبيًّا، بما لا يدع مجالًا للاقتتال. فالوفرة المالية والموارد النفطية التي تشكِّل الرافد الرئيس للاقتصاد الليبي كانت سندًا لصانع القرار للاطمئنان إلى وجود سيولة كافية للانتقال الديمقراطي. وظهرت التكهنات بخمس سنوات أو أقل من أجل التحول نحو التنمية والازدهار إلا أن الآليات التي استُخدمت والأحداث التي برزت بعد ذلك كانت توحي بروح ومنطق المغالبة. ورغم افتقار ليبيا إلى نسق أيديولوجي إلا أن الجدل حول طبيعة الدولة بدأ مبكرًا، ورغم أن المسار السياسي كان واضحًا من خلال الإعلان الدستوري، إلا أن تلك الخارطة التي رسمها الإعلان رغم ما ظهر فيها من عوار بعد ذلك، كانت إطارًا متفقًا عليه وانطلق الجدل حوله.

وقد برز بعد ذلك عدَّة ظواهر، مثل روح المغالبة والميول نحو الأيديولوجيا، وظهر ذلك في سياق نتائج الانتخابات التي انتهت بفوز حزبين كبيرين وُصِفا بالإسلامي والعلماني، ولم يكن هناك ترويكا ولا أحزاب متعددة يمكنها أن توازن المشهد، وبرز كذلك العنف وانتشار السلاح عبر ميليشيات مختلفة، ثم الاغتيالات التي انتشرت في مدينة بنغازي. وصاحَبَ هذه الظواهر فشل في إدارة الدولة من قِبل حكومة علي زيدان، وانعكس هذا الفشل في مؤسسات الدولة. وفي هذا السياق استفتح فوكوياما كتابه عن النظام السياسي بمثال ليبي، وهو اختطاف علي زيدان رئيس الوزراء كمؤشر للكيفية التي يمكن أن تفشل فيها مؤسسات الدولة وتصبح مجرد مكاتب غير قادرة على ممارسة الحكم وإدارة البلد(1).

التعقيدات السياسية للأزمة

بعد فشل العملية السياسية بدأ عدد من الفاعلين السياسيين يلقون باللوم على المؤتمر الوطني العام، ونادت حملة سُمِّيت: لا للتمديد بإسقاط المؤتمر، وشكَّل المؤتمر على إثرها لجنة سُمِّيت لجنة فبراير/شباط التي قرَّرت إجراء انتخابات برلمانية والدخول في مرحلة انتقالية جديدة . صاحَبَ ذلك إعلان الجنرال المتقاعد خليفة حفتر الحرب على ما وصفه بالإرهاب، وقام بعدة محاولات لدخول بنغازي بعد معارك على مشارف المدينة. وقد صاحب ذلك في المنطقة الغربية عملية فجر ليبيا التي أراد مُطلِقوها من الكتائب المسلحة في مدن عدة من المدن الغربية قطع الطريق على تكرار سيناريو بنغازي في المنطقة الغربية؛ حيث اعتبر ما فعله حفتر ثورة مضادة تريد إعادة نظام القذافي.

بعد انتخاب مجلس النواب انتقل المجلس لمدينة طبرق مبررًا ذلك بوجود عوائق أمنية لانعقاد أول جلسة في بنغازي كما هي مقترحات لجنة فبراير/شباط؛ الأمر الذي اعتُبر مخالفًا للدستور؛ حيث نشأت إشكالية أخرى حول تسليم السلطة بين المؤتمر الوطني ومجلس النواب، وإشكالات دستورية أخرى، وقد رأت الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في 6 نوفمبر/تشرين ثاني 2014 بعد ذلك أن مقترحات لجنة فبراير/شباط من الأساس غير دستورية واعتبر المؤتمر ذلك حلًّا للبرلمان ولم يفهم البرلمان أن إلغاء مقترحات اللجنة طعن في شرعية انتخابه، واعتبر أن الحكم صدر تحت تهديد السلاح.

وما إن بدأ المجلس جلساته حتى أعلن دعمه لعملية الكرامة، وما أن انتصرت قوات فجر ليبيا على كتائب الصواعق والقعقاع في طرابلس حتى أعادت المؤتمر الوطني كجهة شرعية للبلد واختير السيد عمر الحاسي رئيسًا للوزارة في حكومة الإنقاذ، وهكذا دخلت البلد في انقسام سياسي وجدل حول شرعية الحكم وصراع عسكري بين قوتي فجر ليبيا والكرامة. وبعد أن كان هناك إعلان دستوري يضم الجميع صار هناك جسمان بمسميين مختلفين، وذراع عسكرية لكل خارطة سياسية، مع استخدام لموارد البلد الواحد والأسلحة التي انتشرت بعد الثورة، وارتفاع لعدد القتلى. وهذا التوصيف جعل البعض يعتبر ما يحدث في ليبيا حربًا أهلية بينما رأى آخرون أنها ثورة مضادة، فقد عادت الأجهزة الأمنية السابقة في المنطقة الشرقية للبلد وظهر بعض التصريحات التي تدعم، تلميحًا أو تصريحًا، عملية الكرامة، كما صرَّح بعض أتباع النظام السابق بأن القوات التي جاءت لبنغازي هي نفس القوات التي قدمت إبَّان ثورة السابع عشر من فبراير/شباط 2011(2).

بالإضافة إلى توصيف الأزمة بأنها حرب أهلية هناك توصيف آخر وهو كونها حربًا بالوكالة؛ حيث إن تدخل دول الإقليم لم يعد خافيًا في المسألة الليبية، فمن خلال وجود حكومة انقلابية في مصر تدعم عودة الأنظمة العسكرية للمنطقة والقضاء على الإسلام السياسي، كان هناك دعم واضح ومعلن وإرسال لطائرات لضرب الشرق والغرب الليبي، وكان هناك تفسير للأمر على أنه حرب على ما يُسمَّى: الإرهاب، لكن كل ذلك من الناحية المنهجية يعني وجود دفع من جهة خارج ليبيا لطرف من الأطراف لحكم البلد أو مساعدته في الحرب على ما يوصف بالإرهاب، وهذا هو المقصود بالحرب بالوكالة. وهنالك ثلاثة نماذج تحليلية للوضع: الثورة المضادة والحرب بالوكالة والحرب الأهلية. ويرى كثيرون أن لا تناقض بين الثورة المضادة والحرب الأهلية؛ إذ إن الثورة المضادة هي وصف للأطراف المشارِكة بينما الحرب الأهلية تصف طبيعة المعركة داخل البلد، أمَّا الحرب بالوكالة فهي إما نتيجة أو سبب، كلا الأمرين جائز وإن كان الأخير أقرب.

السيناريوهات المحتملة

تساعد هذه النماذج التحليلية في فهم ما يجري في حوار مدينة الصخيرات في المغرب وما يوازيه من حوار في الجزائر بين القوى والأحزاب السياسية؛ فمنذ أن خَلَف المبعوث الأممي برناردينو ليون المبعوث السابق طارق متري، وفي ظلِّ الظروف السابقة كان هناك حديث عن حلٍّ سياسي للأزمة، وكان عدد من الدوائر الغربية في اجتماعاته المعلنة والسرية يتحدث عن ضرورة إيجاد حل سياسي.

ويمكن فهم ذلك على أن عددًا من الدول الغربية رأى في الأمر حربًا أهلية يجب أن تنتهي بالحوار، وتعزز هذا الأمر بفكرة محورية وهي ضرورة وجود حكومة تمثل الدولة الغائبة، وتعمل كمؤسسة لحل مشاكل عاجلة، أهمها: العنف والهجرة غير الشرعية. وهذا ما اقترحه ليون عقب توليه مهامه في ليبيا في 14 أغسطس/آب 2014، إلا أنه لم يَرُقْ للكثيرين تجاوز مسألة السلطة التشريعية، وربما بحث كل فريق عن دوره في المرحلة المقبلة، ورغم أن حوار الجزائر أقرَّ ضرورة وجود حكومة وحدة وطنية إلا أنه أُخذ عليه إغراقه في العموم وعدم وجود آليات حقيقية تساعد في تسيير دفة الأحداث؛ لذا لجأ ليون لمقترحات أخرى تنبع من فهم للديمقراطية التوافقية من حيث تعدد الأجسام والمشاركين لإيجاد صورة مستقبلية لتموضع الأطراف المشاركة في الحوار وذلك عبر اقتراح تشكيل مجلس رئاسي وبرلمان وحكومة وحدة وطنية ومجلس للبلديات، وهكذا تتعدد الأجسام ليشارك الجميع، وبدا ليون حذرًا في التوفيق بين الاقتناع بحل البرلمان ونهاية ولاية المؤتمر الوطني العام.

وباعتبارها حربًا أهلية قد دارت رحاها منذ سنة تقريبًا يمكن تصنيف هذه الحرب الأهلية على أنها حرب سياسية، وهذه حروب قصيرة زمنيًّا في الغالب. ومع مرور هذه السنة بدون وجود حلٍّ يلوح في الأفق، ومع افتراض فشل الحوار فإن الحرب الأهلية في الغالب ستأخذ مداها في ثلاث سنوات، حيث ينتهي أغلبها بتفاوض سياسي يسمح به نوع من الحسم العسكري(3).

إن ما يُعقِّد المشهد في ليبيا أمران، هما: وجود الموارد المالية للطرفين، والحرب بالوكالة التي تضمن توفير هذه الموارد، ومن ثم يستمر الصراع سواء من أجل الحسم أو من أجل الاستفادة من الحرب من قِبل تجار الحروب، واستمرار الشركات الراعية للبلد إبَّان حكم القذافي، من خلال العقود طويلة الأجل، في تأجيج الصراع حتى تضمن مصالحها من أحد المنتصرين في هذه الحرب(4).

وقد ظهر نموذج الحرب بالوكالة جليًّا في حوار الصخيرات، فبعد عدة محاولات برز المقترح النهائي غريبًا عن المتحاورين، فمن أبرز المقترحات استمرار البرلمان لمدة سنتين وعدم تحديد مدة عمل لجنة صياغة الدستور بمدة زمنية محددة، وقد صاحب الحوار تصعيد عسكري في ظل انتقاد من طرف خفي لليون.

في الحوار كان الجدل حول الشرعية قائمًا، إلا أن المؤتمر اقترح الحل الشامل للمشهد الليبي. ولأن النموذج التحليلي السائد للمؤتمر هو الثورة المضادة، فقد كان الحديث المتكرر عن ثوابت ثورة السابع عشر من فبراير/شباط، ولأن البرلمان يرى أنه جسم شرعي يثور عليه جسم غير شرعي فقد رفض طيلة أشهر الحوار اللقاء المباشر مع وفد المؤتمر الوطني.

ينظر البرلمان لنفسه كسلطة تريد أن تستوعب معارضين، وقد جاء لمدينة الصخيرات وهو في اتساق تام مع الجنرال خليفة حفتر الذي صار قائدًا للجيش الليبي المسمى بالجيش الوطني التابع للبرلمان؛ حيث انطلق جُلُّ المقترحات من احتفاء بالشرعية ورغبة في تثبيت الوضع القائم للجنرال، والاستفادة من الحوار من أجل الدخول لطرابلس سياسيًّا بعد أن استعصت عسكريًّا، لكن المقترح الذي قدَّمه ليون كان مشروعًا يشي بوجود حرب بالوكالة داخل ليبيا؛ فالمقترح -كما صرَّح صالح مخزوم رئيس فريق الحوار بالصخيرات في نهاية شهر إبريل/نيسان- خارج سياق الحوار؛ حيث اعتبر في مؤتمر صحفي في طرابلس في 27 إبريل/نيسان أن مقترح المبعوث الأممي ليون حول الاتفاق بين الأطراف الليبية، الذي تم استلامه مخيِّب للآمال ولا يحترم ما تم تداوله في جلسات الحوار بمدينة الصخيرات، بضرورة الوصول لحل متوازن.

جدل الصخيرات

فتح المقترح الأخير لليون باب التكهنات حول الأسباب الكامنة وراء الوضعية التي جعلت المؤتمر الوطني كالمعلَّقة، فلا هو جزء من الحكم ولا هو خارج عن إطار السلطة؛ حيث إن تلك المقترحات تجعل البلد في انتظار فترة انتقالية ثالثة، مما يمهد لحالة من التخبط وانعدام في الرؤية الصحيحة للمشهد الليبي.

ومنح المقترح البرلمان الليبي فترة سنتين كسلطة تشريعية، فبدل أن تنتهي ولايته في شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل، صار بفعل المقترحات الأخيرة حاكمًا لمدة سنتين، وهذا يعني إعلان فترة انتقالية ثالثة، بل إن المقترح يرفع أي سقف زمني يغطي مدة عمل لجنة إعداد الدستور، أي إن الحل المنتظر ازداد صعوبة.

في المقابل، يراد لحكومة الوحدة الوطنية، التي يُفترض أن تبدأ في وضع مؤسساتها، والتعامل مع ملف النازحين والمهجَّرين، وبناء مؤسسات الجيش والسلطة، وإيقاف نزيف الدم، ونزع السلاح من كافة التشكيلات المسلحة، أن تكون رهن إشارة البرلمان الذي بإمكانه -وفق المقترح- حلُّ تلك الحكومة وقتما شاء، وأنها بعكس ما يقتضي المنطق يجب أن تأخذ النصيب الأكبر من السلطة وألا تخضع إلا إلى مفهوم المؤسسة السياسية ذات الوظائف المحددة، تصبح عرضة لنفس المناكفات السياسية السابقة؛ الأمر الذي يجعل هذا المقترح مجرد تأطير لوظيفة محددة عمرها سنتين.

كل ذلك جعل الشك يزداد ويُفسَّر بمنطق المؤامرة في عقول المناوئين لبرلمان طبرق خاصة أن الأعمال العدائية والعسكرية مستمرة، والتصريحات التي تؤكد هذا المعنى يلقيها الأطراف هنا وهناك، بين تصريح لخليفة حفتر بأنه مع أي إجراء تتخذه مصر ولو على حساب مصلحة ليبيا، والتصريحات المتوالية لمصر بالتدخل في ليبيا بحُجَّة ضرب تنظيم الدولة. كما أن إصرار فرنسا على دعم رئيس الوزراء لحكومة الأزمة التابعة للبرلمان، عبد الله الثني، جعل الشك يرتقي لمرحلة اليقين، وعندما صرَّحت الخارجية السعودية بأنها ستقف في جانب عدم التدخل المصري-الفرنسي-الإماراتي أصبح الأمر كأنه يقين، وتبين أن تلك المقترحات صُمِّمت لهذا التحالف.

صراع الاستراتيجيات

يعاني حوار الصخيرات من تناقض الاستراتيجيات والإرادات، واستمرار عدم التفريق بين مؤسسات الدولة والنظام السياسي، فكما يؤكد تشارلز تيلي، عالم الاجتماع الشهير، أن الشرعية في المراحل الانتقالية تصبح غير محددة وضبابية نظرًا لغياب معنى السلطة؛ فالدولة في تلك المراحل، خاصة في بلد مثل ليبيا عانت من نظام يؤمن بالفوضى، تصبح في حالتها الأولى التي نظر لها الإمام الجويني في كتابه "الغياثي" وما تبعه من حديث عن القوة عند هوبز.

إن هذا التشكيل البدائي يقتضي الاهتمام بمؤسسات قادرة على الحكم، مؤسسات عسكرية ومدنية ودستورية وقضائية؛ حيث إن غياب تلك المؤسسات يعقِّد المشهد، وما دامت القوى الداخلية تجعل الشرعية سواء من جانب حكم المحكمة الدستورية القاضي بعدم دستورية مقترحات لجنة فبراير/شباط أو البرلمان الذي يعتقد مخطئًا أن صندوق الانتخابات يعني حرية التصرف في القرار السياسي ولو على حساب كيان الدولة وفشلها من عدمه، فإن الجدل في الصخيرات سيستمر ويمهِّد لفراغ كبير في القرار السياسي ويعرِّض البلد لمزيد من التدخل الإقليمي والدولي.

في الجانب الدولي هناك عدة استراتيجيات: استراتيجية شاملة تتخذها أميركا وبعض الدول في حلف الناتو التي تسعى لإعطاء نموذج للتحول الديمقراطي من خلال تدخل الناتو واستراتيجيته المسماة: light foot print، التي تعرضت لانتقاد شديد بعد ما حدث في ليبيا، وأنها لم تنجح في الانتقال الديمقراطي، كما تسعى دول الاتحاد الأوروبي لإيجاد مؤسسة يمكن التعامل معها لحل مشكلة الهجرة غير الشرعية القادمة عبر ليبيا. أمَّا دول كفرنسا وإيطاليا فإنها تنظر لمصالح آنية تمكِّنها من السيطرة على منابع النفط أو القدرة على بناء مجال استراتيجي لفرنسا يمكِّنها من الاستمرار في لعب دور مهم في المنطقة، في ظل سياسة القيادة من الخلف التي تتخذها الولايات المتحدة الأميركية.

خاتمة

بناءً على المعطيات السابقة تبقى الإشكالية الكبرى في ليبيا هي عدم وجود مؤسسات تمنع الدولة من الفشل؛ حيث إن تأخير حلِّ مسألة الشرعية لصالح بناء مؤسسات تتعامل مع القضايا الحرجة وتمنع مزيدًا من الاحتراب وحماية الحدود وإرجاع الخدمات الاجتماعية الأساسية، هو ما قد يساعد على قدرة الأطراف على الخروج من ضغط الأزمة. ويبقى دور الأمم المتحدة مهمًّا لمواجهة الأطراف التي تغذِّي الحرب في ليبيا، وما لم تقم الأمم المتحدة ومبعوثها بذلك فإن وساطتها ودورها في إنهاء الأزمة سيبقى محلَّ شكٍّ ومحدودًا.
_________________________________
نزار كريكش - باحث ومحلل سياسي ليبي

المراجع
1-The political Order and Political Decay , Francis Fukuyama , New York , 2013
2 - Understanding Civil War , Edward Newman , Rot-ledge Studies , 2014
3- Rotledge HandBook of Civil War , EDWARD NEWMAN ,2014
4- Washington Post ,Is it proxy war ? 24 oct 2014
http://www.washingtonpost.com/blogs/monkey-cage/wp/2014/10/24/is-libya-a-proxy-war/

ABOUT THE AUTHOR