اغتيال النائب العام اامصري هو اقسى ضربة توجه لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي (غيتي/الفرنسية) |
ملخص تناقش هذه الورقة عملية اغتيال النائب العام المصري هشام بركات قبل أيام، والتي شكَّلت أقوى ضربة لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ توليه السلطة، وتوقيت هذه العملية والتداعيات المتوقعة لها سياسيًّا وأمنيًّا، وارتباط ذلك بمستقبل المشهد السياسي في مصر عمومًا. وتطرح الورقة جملة من التساؤلات حول الجهة التي تقف وراء عملية الاغتيال، وما إذا كانت هذه العملية تشكِّل نقلة نوعية في مسار عمليات العنف الحالية، ومدى جاهزية سلطات الأمن المصرية لمواجهة خطر تصاعد هذه العمليات وانتقالها من العنف العشوائي إلى العنف المنظم. كما تتناول الورقة تداعيات هذه العملية على ضوء الإجراءات والخطوات الأمنية والقانونية التي اتخذتها السلطة مؤخرًا في إطار ما تعتبره حربًا على الإرهاب. وتخلص الورقة إلى أن الإشكالية هي أن السياسة التي تنتهجها السلطة الحالية تختزل الأزمة في بُعْدها الأمني فقط دون أبعادها السياسية والاجتماعية، وهو ما يعني أن المعالجات الأمنية والقانونية وحدها لن تكون كافية لمواجهة خطر العنف الذي تعيشه مصر حاليًا، والذي ربما يتصاعد في المستقبل في ظل حالة من التصعيد الأمني والانسداد السياسي. |
مقدمة
تعتبر عملية اغتيال النائب العام المصري في تفجير سيارة مفخخة يوم الاثنين 29 يونيو/حزيران الماضي، الضربة الأقسى التي يتعرض لها نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي؛ إذ يُعدّ المستشار هشام بركات البالغ من العمر 65 عامًا أرفع مسؤول حكومي يتم اغتياله منذ عزل الجيش للرئيس السابق محمد مرسي في يوليو/تموز 2013 عقب مظاهرات واحتجاجات واسعة ضد حكم الرئيس مرسي. كما أنها تُعدّ أول عملية اغتيال ناجحة لمسؤول كبير منذ الإطاحة بمرسي وما أعقبها من اضطرابات وأعمال عنف استهدفت بشكل خاص عناصر الشرطة والجيش على يد مجموعات مسلحة، سواء في سيناء أو غيرها من المدن المصرية. وقد ارتبط اسم هشام بركات، الذي تولى مهامه كنائب عام في 10 يوليو/تموز 2013، بقرار فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة في 14 أغسطس/آب 2013، والذي خلّف مئات القتلى والمصابين في صفوف أنصار مرسي وجماعة الإخوان المسلمين. كما كان بركات يتولى التحقيق في الآلاف من القضايا المتهم فيها إسلاميون، وأشرف على إحالة آلاف الإسلاميين من الإخوان المسلمين وأنصارهم للمحاكمات، حيث صدر العديد من أحكام الإعدام بحق المئات منهم. وكان أحد آخر القرارات التي اتخذها قبل اغتياله هو قرار حظر النشر في القضية المعروفة باسم "250 أمن دولة"، والتي تضم العديد من السياسيين والنشطاء والإعلاميين البارزين وغيرهم من الشخصيات التي لعبت دورًا مؤثرًا خلال ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، حيث تقدَّم البعض ببلاغات ضدهم بتهمة تلقي أموال وتمويل من الخارج.
وقد أثار تنفيذ عملية اغتيال النائب العام بهذه الدقة والمهارة وفي ضاحية مصر الجديدة التي يفترض أن تكون أحد أكثر مناطق القاهرة تأمينًا، تساؤلات عديدة بشأن درجة التأمين ومدى كفاءة أجهزة الأمن في توفير الحماية لمسؤول رفيع كالنائب العام، لاسيما أنه يمثل خصمًا لدودًا للكثير من أنصار التيارات الإسلامية والجهادية بالنظر لدوره في القضايا المتهم فيها قيادات وعناصر هذه التيارات بما يجعله هدفًا للتصفية. وقد وجّه البعض أصابع الاتهام للأجهزة الأمنية بالتقصير في حماية وتأمين النائب العام من الاغتيال(1). لكن وزارة الداخلية نفت وجود أي تقصير أمني تسبَّب في نجاح عملية الاغتيال، وأكدت أن سيارة النائب العام كانت مصفَّحة، إلا أن كمية المتفجرات التي استُخدمت في العملية كانت ضخمة؛ ما سبَّب الكثير من الأضرار التي لحقت بالسيارة(2).
وتطرح عملية اغتيال النائب العام تساؤلات حول مدلولات التوقيت والجهة التي يمكن أن تكون وراءها، والتداعيات التي قد تترتب عليها سياسيًّا وأمنيًّا، سواء على صعيد مستقبل عمليات العنف التي تشهدها مصر حاليًا، أو على صعيد العلاقة بين السلطة وجماعة الإخوان المسلمين وحلفائها من التيارات الإسلامية. فهل تعكس هذه العملية تحولًا نوعيًّا في مسار عمليات العنف التي تشهدها مصر منذ نحو عامين، بحيث تنتقل من العنف العشوائي إلى الاغتيالات المنظمة للشخصيات والقيادات في الدولة؟ وهل تكفي الإجراءات الأمنية والقانونية التي اتخذتها السلطات المصرية ردًّا على هذه العملية لمواجهة احتمالات تصاعد أعمال العنف؟ وما هي انعكاسات ذلك على مستقبل المواجهة الحالية بين النظام والإخوان المسلمين، الذين تتهمهم السلطة بشكل مباشر بالمسؤولية عن هذه العملية؟ وهل تتجه الأوضاع في مصر لمزيد من الإجراءات القمعية ومصادرة ما تبقَّى من المجال السياسي العام تحت مبرِّر مواجهة خطر العنف و"الإرهاب"، أم أن هذه العملية ربما تشكِّل فرصة لمراجعات من الأطراف المختلفة وصولًا لانفراج سياسي للأزمة؟
الاغتيال: التوقيت والفاعل
لا يُعرف على وجه اليقين الجهة التي نفّذت عملية اغتيال النائب العام حتى الآن. بل إن الروايات حول ملابسات العملية تتضارب وتتناقض بشكل فادح، بما يزيد من حالة الغموض حول حقيقة ما جرى. وفي ظل هذا الغموض، توجهت أصابع الاتهام لأكثر من جهة، كلٌّ حسب موقعه وموقفه. فالسلطة وجّهت الاتهام مباشرةً وفَوْر وقوع العملية لجماعة الإخوان المسلمين؛ إذ اعتبر بيان للهيئة العامة للاستعلامات التابعة لرئاسة الجمهورية أن "هذه الجريمة المروِّعة هي تأكيد واضح على استمرار هذه الجماعة الإرهابية (الإخوان المسلمين) في نهج العنف والقتل والدماء واستهداف الأبرياء وترويع الآمنين والعبث بأمن واستقرار الوطن"(3). كما اعتبر البيان أن استهداف النائب العام يؤكد مجددًا على "رفض هذه الجماعة لدولة القانون، بل ولفكرة الدولة المصرية من أساسها، وإشاعة لمنهج الفوضى الذي تتبناه الجماعة". لكن البيان الذي استبق أي تحقيقات في الحادث وملابساته،لم يقدِّم أي دليل يدعم هذه الاتهامات أو يثبت تورط الإخوان في هذه العملية. في المقابل، نفى الإخوان تورطهم في هذه العملية، وحمّلوا سلطة الرئيس السيسي المسؤولية عن مقتل النائب العام، ليس فقط لأنها المستفيد من ذلك -حسب الجماعة- ولكن لأنها (السلطة) "هي التي أسست للعنف، وحوّلت الساحة المصرية من تجربة ديمقراطية واعدة إلى ساحات قتل جماعي وعنف ودماء". وأكد المتحدث باسم الإخوان محمد منتصر في بيان له على موقع "فيس بوك" أن هذه الدماء "لن تتوقف إلا بكسر الانقلاب والتمكين للثورة"(4). ورغم رفضه لمبدأ القتل إلا أن المتحدث باسم الإخوان حمّل النائب العام الراحل مسؤولية تقنين العنف والقتل "من خلال تسهيل عمليات القتل والاعتقال والموت البطيء بالسجون والتعذيب والاعتقال التعسفي والحبس الاحتياطي طويل الأمد وعمليات الاختطاف والإخفاء القسري". بينما ذهب البعض إلى اتهام مجموعات مسلحة صغيرة بارتكاب الاغتيال.
تعددت -إذن- الروايات والجهات المتهمة بالتورط في اغتيال بركات، لكن ضخامة ودقّة هذه العملية تشير إلى أنها تحمل بصمات مجموعات ذات خبرة كبيرة، ولديها عناصر على دراية وتدريب يمكنها من القيام بعملية بهذا التعقيد. ومن ثَمَّ من المستبعد أن تكون هذه العملية من تنفيذ مجموعات صغيرة تابعة أو قريبة من الإخوان المسلمين مثل "المقاومة الشعبية" أو "العقاب الثوري" وغيرهما من المجموعات التي تتبنَّى العنف وتستهدف رجال الشرطة بشكل خاص، والتي ظهرت في النصف الثاني من 2014. ويرى بعض المتابعين لنشاط الجماعات الإسلامية والجهادية أن اغتيال النائب العام يحمل بصمات تنظيم "أنصار بيت المقدس"، وهو التنظيم التابع حاليًا لتنظيم الدولة أو ما يُسمى "ولاية سيناء"، والذي كان قد دعا قبل نحو شهر إلى مهاجمة القضاة ردًّا على أحكام الإعدام بحق قيادات في الإخوان من بينهم الرئيس المعزول مرسي. وكان هذا التنظيم قد أعلن مسؤوليته عن عدد من العمليات والتفجيرات الضخمة التي وقعت في السابق مثل تفجير مديريتي أمن الدقهلية والقاهرة، كما تبنَّى محاولة اغتيال وزير الداخلية السابق محمد إبراهيم في شهر سبتمبر/أيلول 2013 بنفس الطريقة.
غير أن التنظيم الذي لا يرى نفسه طرفًا في الصراع الدائر حاليًا بين السلطة الحالية ومعارضيها من الإسلاميين، لم يعلن تبنِّيه لهذه العملية حتى الآن، في حين تحدثت مصادر أمنية عن تورط ضابط جيش مفصول من سلاح الصاعقة في اغتيال النائب العام، وهو ما يزيد الأمر غموضًا والتباسًا.
ورغم أن ما يُسمى تنظيم ولاية سيناء لم يعلن مسؤوليته إلا أنه كان لافتًا أن الجماعة نشرت قبل ساعات من اغتيال بركات شريط فيديو بعنوان "تصفية القضاة"، يُظهِر عملية اغتيال ثلاثة من القضاة وسائقهم في شمال سيناء يوم 16 مايو/أيار الماضي بعد يوم واحد من صدور حكم بالإعدام ضد مرسي وعدد من قيادات جماعة الإخوان(5).
وبغض النظر عن الجهة التي نفّذت عملية الاغتيال، فإن توقيتها بالتزامن مع الذكرى الثانية لمظاهرات 30 يونيو/حزيران، يثير تساؤلات حول المستفيد من ذلك، فثمَّة من يرى من خصوم السلطة أن العملية تصبّ في صالح نظام السيسي الذي سيتخذ من هذه العملية ذريعة لممارسة مزيد من القمع والتنكيل بالمعارضين، ومنع أي مظاهرات مناهضة له من ناحية، ولحشد الدعم والمساندة الدولية التي يحتاجها في مواجهة الأوضاع الداخلية الحالية بحُجَّة محاربة الإرهاب من ناحية أخرى.
في مقابل ذلك، يعتبر مؤيدو النظام أن المستفيد الأول من ذلك هم الإخوان المسلمون وأنصارهم باعتبار أن النائب العام كان خصمًا لدودًا لهم ولأنصارهم الذين كانوا يريدون التخلص منه. ووفقًا لهذه الرواية، فإن الهدف من اغتيال النائب العام -أيضًا- هو بثّ الفزع والرعب في نفوس القضاة الذين ينظرون قضايا الإخوان والتأثير عليها. ثم إن تزامن العملية مع ذكرى مرور عامين على مظاهرات 30 يونيو/حزيران له دلالاته المهمة؛ إذ إن الهدف من العملية قد يكون لإفساد احتفالات السلطة وأنصارها بذكرى 30 يونيو/حزيران الثانية، وتوجيه رسالة مفادها أن هذه السلطة التي جاءت بعد 3 يوليو/تموز 2013 بقيادة السيسي، فشلت بعد عامين في تحقيق الاستقرار والأمن الذي تعهدت به عقب الإطاحة بمرسي، وأنها تبدو عاجزة عن حماية كبار أركان الدولة كالنائب العام، فضلًا عن حماية أرواح ومصالح عامة المصريين.
كما استند من يتهمون الإخوان إلى البيان الذي أصدره مائة وخمسون عالمًا من المقربين من الإخوان، أطلقوا عليه "نداء الكنانة"، والذي تضمن تحريضًا على العنف، ووضع القضاة ضمن قائمة من يجب القصاص منهم.
نقلة نوعية في عمليات العنف
رغم أنها ليست العملية النوعية الأولى التي تشهدها أعمال العنف في مصر منذ 3 يوليو/تموز 2013، إلا أن عملية اغتيال هشام بركات تُعدّ الضربة الأقوى التي توجه للسلطة الحالية؛ إذ يعتبر النائب العام أرفع مسؤول يتم اغتياله منذ بدء الاضطرابات وأعمال العنف التي أعقبت الإطاحة بمرسي. غير أن المسألة الأهم في اغتيال النائب العام ليس فقط في أنها أول عملية اغتيال ناجحة لمسؤول مصري رفيع منذ عزل مرسي، ولكن بالنظر لما تطرحه من احتمالات حول ما إذا كانت هذه العملية بداية تحوُّل نوعي في الصراع الدائر حاليًا بين السلطة المصرية والجماعات الجهادية والإسلامية التي تتبنَّى خيار العنف؛ إذ تشكِّل هذه العملية وما تظهره من دقة ومهارة وخبرة عالية في التخطيط والتنفيذ نقلة نوعية في مسار أعمال العنف ضد الدولة ومؤسساتها منذ الإطاحة بحكم الإخوان، التي يبدو أنها تنتقل من مرحلة العنف العشوائي الذي يضرب الأهداف السهلة إلى مرحلة الاغتيالات التي تستهدف كبار المسؤولين في الدولة. من هنا فإنه من غير المستبعد -في رأي كثيرين- أن تكون هذه العملية بداية لموجة اغتيالات لمسؤولين وقضاة وإعلاميين، ولتصعيد مضاد من الدولة على صعيد الإجراءات الأمنية والقمعية؛ ما يعني أن مصر ربما تكون مُقبِلة على مرحلة صعبة -وقد تطول- من أعمال العنف والعنف المضاد.
وتكشف تحقيقات النيابة العامة والمعلومات التي نشرتها وسائل الإعلام المصرية حول تفاصيل العملية، عن درجة عالية من الاحتراف والخبرة لدى منفِّذيها وامتلاكهم معلومات دقيقة مكّنتهم من تنفيذها بنجاح. فقد ذكرت صحيفة "الوطن" نقلًا عن مصادر أمنية أن عملية الاغتيال جرت على بُعد 200 متر من منزل بركات، وأن السيارة المفخخة التي استُخدمت في الحادث كان بداخلها أكثر من 150 كيلو جرامًا من المتفجرات، وجرى تفجيرها عن بُعد أثناء سير موكب النائب العام. وحسب هذه المصادر، فإنه جرى تتبع خط سير النائب العام بدقة ورصد تحركاته لاسيما في الشارع الذي يسكن به، وهو ما يظهر من تفاصيل العملية، حيث إن السيارة المفخخة استهدفت سيارة النائب العام مباشرة في الجانب الأيمن الذي كان يجلس فيه؛ مما أدى لإصابته بإصابات خطيرة(6).
ولا يُخفي المسؤولون المصريون مخاوفهم من أن هذه العملية لن تكون الأخيرة في سلسلة التفجيرات والعمليات التي تستهدف مؤسسات وقيادات الدولة، فقد أعلن السيسي أن المعركة مع "الإرهاب" معركة طويلة، بينما رجّح خبراء أمنيون أن تشهد الفترة القادمة تصعيدًا في العمليات والتفجيرات التي تستهدف قيادات الدولة ورجال الجيش والشرطة، سواء في القاهرة أو سيناء(7).
وقد تأكدت هذه المخاوف بالفعل، فلم يكد يمضي يوم واحد على اغتيال النائب العام حتى شنّت العناصر الجهادية المسلحة التابعة لما يُسمى تنظيم "ولاية سيناء" سلسلة هجمات منسقة ومتزامنة بقذائف الهاون والأسلحة الرشاشة وبسيارة مفخخة على عدد من الكمائن الأمنية للجيش والشرطة في شمال سيناء؛ مما أسفر عن مقتل وإصابة العشرات من عناصر الجيش والشرطة ومن عناصر التنظيم. ويعتبر هذا الهجوم الأعنف الذي تشنّه العناصر التابعة لتنظيم الدولة في سيناء، والأكبر من حيث الخسائر البشرية في صفوف الجيش والشرطة المصرية منذ الهجوم على كمين كرم القواديس في سيناء في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2014(8).
وفي حال تبيَّن لاحقًا أن تنظيم "ولاية سيناء" هو المسؤول عن اغتيال النائب العام، فإن ذلك سيشكِّل -كما يرى البعض- تطورًا كبيرًا؛ إذ إنه يعني أن هذه الجماعة ستعود لتنفيذ عمليات داخل القاهرة والوادي بعد أن ظلت عملياتها خلال الفترة الماضية محصورة في سيناء، وهذا ما يرجِّح تنفيذ عمليات مماثلة ضد المسؤولين والقيادات في الدولة(9).
على ضوء ما سبق، وفي ظل حالة الانسداد السياسي التي تعيشها مصر حاليًا، وتصاعد المواجهة بين السلطة والمعارضة، فإنَّ المرحلة المقبلة ربما تشهد احتمالات تصاعد خطر عمليات العنف وإمكانية تمددها جغرافيًّا. ويرى البعض أن اغتيال النائب العام والهجمات التي شنّها تنظيم ولاية سيناء هي مؤشرات على أن مصر مقبلة على مرحلة من المخاطر الأمنية ربما تطول(10).
لكن هذا الإدراك لحجم المخاطر الأمنية واحتمالات تصاعدها يطرح سؤالًا عن مدى قدرة أجهزة الأمن وحدها على التصدي لهذه المخاطر، وما إذا كانت السلطة الحالية تملك رؤية استراتيجية واضحة بعيدًا عن الحلول الأمنية؛ لتحقيق الأمن والاستقرار واحتواء خطر العنف والتطرف. وهو ما يقودنا إلى الوقوف على التدابير السياسية والأمنية التي اتخذتها السلطة لمواجهة خطر تزايد أعمال العنف في البلاد.
مزيد من التصعيد والإجراءات الاستثنائية
ثمَّة من يرى أن اغتيال النائب العام وما أعقبه من تصعيد أمني خطير في سيناء قد يشكِّل فرصة مناسبة تدفع السلطة في مصر لإجراء مراجعات فيما يخص الاستراتيجية الأمنية الحالية لمواجهة أعمال العنف، والتي لم تفلح على مدى عامين في وقف هذه الأعمال، لاسيما في ضوء المخاطر المحتملة لتصاعدها مستقبلًا. وكان من المفترض أن تكون هذه المراجعات من خلال حزمة من الإجراءات السياسية التي يمكن أن تُسهِم في تخفيف حدة الاحتقان السياسي في البلاد، وتفتح الباب أمام تهدئة سياسية مع خصومها. لكن المعطيات الواقعية تشير إلى عكس ذلك تمامًا؛ إذ إن الحوادث والعمليات الأخيرة وما تلاها من ردود فعل تُنهي كل التوقعات المتفائلة بإمكانية حدوث تهدئة قريبة بين الدولة المصرية والمعارضة تضع حدًّا للانسداد والاحتقان السياسي الحالي. وقد تجلَّى ذلك في ردود فعل ومواقف الجهات السياسية والأمنية الرسمية التي أظهرت ميلًا واضحًا لتصعيد المواجهة مع المعارضة، وانحيازًا جليًّا للخيار الأمني والقانوني على ما عداه، والتعامل مع الأزمة الحالية باعتبارها مشكلة أمنية لا أزمة سياسية.
وتشير الإجراءات الأمنية العنيفة التي أعقبت اغتيال النائب العام ومن بينها تصفية تسعة من قيادات الإخوان أثناء وجودهم بإحدى الشقق السكنية في منطقة 6 أكتوبر بالجيزة وحملة الاعتقالات الواسعة والمستمرة في صفوف الجماعة، أنّ العلاقة بين السلطة وخصومها تتجه نحو مزيد من المواجهة والتصعيد لا الانفراج. فقد اعتبرت جماعة الإخوان أن تصفية كوادرها بهذه الطريقة "يؤسِّس لمرحلة لا يمكن معها السيطرة على غضب القطاعات المظلومة المقهورة التي لن تقبل أن تموت في بيوتها وسط أهلها"، وهو ما يمكن اعتباره تفهُّمًا للجوء بعض عناصر الجماعة لاستخدام العنف ردًّا على عنف السلطة(11).
ورغم أنه لم يثبت -حتى الآن- وجود أي صلة للإخوان المسلمين باغتيال النائب العام، إلا أنه وفي ظل الاتهام الرسمي للجماعة فإنّ ثمَّة من يرى تشابهًا بين عملية اغتيال بركات وبين اغتيال القاضي أحمد الخازندار عام 1948 على صعيد تداعياتها على مستقبل العلاقة بين السلطة والإخوان. فكما كان قتل الخازندار بداية مواجهة عنيفة بين الدولة والجماعة في أواخر الأربعينات من القرن الماضي، يتوقع البعض أن تطلق عملية اغتيال بركات مرحلة جديدة من المواجهة والصراع بين الطرفين، لاسيما في ضوء إصرار الطرفين على مواصلة هذا الصراع المفتوح حتى النهاية(12). ولا يستبعد أن تكون الرسائل التي حملتها التصريحات الأخيرة للرئيس المصري بشأن جماعة الإخوان المسلمين والإجراءات التصعيدية بحق كوادرها، مُقدِّمة للتعجيل بتنفيذ أحكام الإعدام بحق قيادات الجماعة، خصوصًا بعد تأكيد السيسي أن السلطة ستنفذ أحكام الإعدام والمؤبد ضد المحكوم عليهم في الأعمال الإرهابية فور صدورها(13). هذه التصريحات اعتبرها البعض إشارة واضحة إلى أن الإعدام في حال صدوره بشكل نهائي بحق مرسي ورفاقه سيُنفَّذ، وأن السيسي لن يتدخل لتخفيف الحكم أو إلغائه كما يتوقع البعض.
ويتعزز هذا الاتجاه بالنظر إلى الإجراءات القانونية والأمنية التي اتخذتها الحكومة مؤخرًا تحت غطاء كثيف من التحريض الإعلامي ضد الإخوان وأنصارهم، بل ضد كل من يوجِّه انتقادًا للسلطة واتهامهم بالمسؤولية عن كل أعمال العنف والتفجيرات والاغتيالات التي شهدتها البلاد.
فعلى وقع تصاعد الأصوات المطالبة بإجراءات استثنائية ضد المتورطين في أعمال العنف، مثل تعديل قانون الإجراءات الجنائية للتعجيل في إصدار الأحكام في القضايا التي يحاكم فيها الآلاف من أنصار الإخوان المسلمين أو المنتمين للجماعات المتشددة، أعلن السيسي خلال تشييع جنازة النائب العام أن "يد العدالة الناجزة مغلولة بالقوانين، لكننا سنعدِّل القوانين لنحقق العدالة بأسرع وقت ممكن"، مضيفًا أن الدولة بحاجة إلى قوانين جديدة تناسب الأوضاع الحالية. وفيما بدا استجابة لما طلبه السيسي، سارعت الحكومة بإقرار حزمة من الإجراءات والتعديلات القانونية ضمن ما يُسمَّى قانون مكافحة الإرهاب. ومن بين هذه الإجراءات إدخال تعديلات في قانون الإجراءات الجنائية تتضمن اختصار درجات التقاضي وسرعة نظر قضايا "الإرهاب" عبر إحالتها لدوائر خاصة، ومَنْح القاضي القول الفصل في استدعاء شهود نفي من عدمه حسبما تتطلب القضية، وذلك رغم ما يشكِّله هذا الأمر من إخلال جسيم بحق المتهمين والدفاع عنهم(14).
وإلى جانب تعديل قانون الإجراءات الجنائية، أقرَّت الحكومة المصرية قانونًا مثيرًا للجدل تحت اسم قانون مكافحة الإرهاب، الذي قالت: إنه سيحقِّق "الردع السريع والعادل للإرهاب". ويتضمن الإجراءات "الكفيلة بتجفيف منابع تمويل الإرهاب"، بحسب بيان صادر عن مجلس الوزراء المصري(15). ويضع هذا القانون -الذي يُفترض أن يصدره السيسي بوصفه القائم بالأعمال التشريعية حاليًا في غيبة البرلمان- تعريفًا فضفاضًا لكلمة الإرهاب يجعل كل مَن يفكر في معارضة النظام إرهابيًّا محتملًا(16). كما أنه يوفِّر غطاء قانونيًّا لمراقبة الأشخاص والاتصالات والحسابات المصرفية دون الرجوع للنيابة العامة أو قاضي التحقيق، وهو ما يشكِّل انتهاكًا مباشرًا لمواد الدستور الخاصة بالحقوق والحريات. وينصّ القانون على تشديد العقوبات لتصل إلى الإعدام في حال وقوع ضحايا، والسجن المؤبد والمشدد في بعض القضايا الأخرى(17). كما يضع القانون قيودًا مشددة على حرية الصحافة والنشر؛ إذ تنص المادة 33 من القانون أنه "يُعاقب بالحبس الذي لا تقل مدته عن سنتين، كل من تعمَّد نشر أخبار أو بيانات غير حقيقية عن أي عمليات إرهابية بما يخالف البيانات الرسمية الصادرة عن الجهات المعنيّة، وذلك دون إخلال بالعقوبات التأديبية المقررة في هذا الشأن"؛ وهو ما دفع نقابة الصحافيين والأوساط الصحفية لرفضه بشدة، معتبرة أنه يصادر الحريات الصحفية بالكامل، فضلًا عن أنه مخالف لنصوص الدستور الحالي(18).
ومن شأن هذه الإجراءات القانونية الأخيرة التي صدرت تحت غطاء كثيف من الغضب الرسمي والشعبي الذي خلّفه اغتيال النائب العام والهجمات الأخيرة على الجيش المصري في سيناء، أن تقضي على ما تبقَّى من هامش حريات وتصادر المجال العام. فهذه الإجراءات يمكن أن تستخدم ضد أيٍّ من خصوم السلطة وليس الجماعات المسلحة فقط؛ إذ إنها تتيح لأجهزة الأمن توسيع دائرة الاعتقالات على أساس الاشتباه وفقًا للتحريات الأمنية، كما أن ذلك يعني تعطيلًا واضحًا لكل نصوص الدستور الخاصة بالحقوق والحريات والحياة الخاصة للمواطنين عبر إتاحة التنصُّت والمراقبة بدون إذن قضائي.
وتبدو هذه الإجراءات القانونية المتعجلة التي اتخذتها الحكومة ترجمة لحالة التشنج الحالية التي تسيطر على الأوساط السياسية والإعلامية المؤيدة للسلطة، وهو أمر يبعث على القلق بشأن ضمانات العدالة في مصر، وحق أي متهم في ضمانات كافية لمحاكمة عادلة. كما أن هذا التوجُّه يثير الكثير من المخاوف من إمكانية استخدام هذه القوانين بشكل انتقامي من خصوم السلطة أكثر من نجاحها في وضع حدٍّ لخطر العنف و"الإرهاب" الذي يتطلب إجراءات وسياسات أقل انفعالًا وأكثر عقلانية في مواجهة ما تشهده عمليات العنف من تحوُّل نوعي، والعمل على فهم سياقات ذلك وأسبابه، ومن ثَمَّ وضع السياسيات اللازمة لمحاصرته وعزله شعبيًّا.
في ضوء هذه المعطيات، يبدو أن مصر مقبلة على فترة بالغة الصعوبة والخطورة أمنيًّا وسياسيًّا، لاسيما في ظل حالة الانسداد السياسي وغياب أي إشارة من طرفي الأزمة إلى الرغبة في التوصل لتسوية. كما أن توجه السلطة الحالي المنحاز لمنطق الحلول الأمنية وحدها يعني مزيدًا من القبضة الأمنية والقمع الذي سيزيد من محنة أوضاع حقوق الإنسان، وهي أوضاع بالغة السوء بالنظر إلى حجم التجاوزات والانتهاكات الحالية والتي وثَّقتها المنظمات الحقوقية. من هنا فإن اغتيال النائب العام وإن كان عملًا خطيرًا، فإن الأخطر هو أن مثل هذه الإجراءات -في رأي كثيرين- تكرِّس المناخ الذي قاد لهذه العملية من خلال توفير الحاضنة الاجتماعية لانتشار العنف، وهو ما يعني أن الحلول الأمنية وحدها لن تحول دون تكرار حوادث الاغتيالات، طالما ظلت هذه الحاضنة لمرتكبي أعمال العنف والاغتيالات(19).
تُظهِر طريقة تعاطي السلطة مع مخاطر تزايد عمليات العنف في البلاد حاليًا، إصرارًا واضحًا على التعامل مع الأزمة الحالية باعتبارها أزمة أمنية فحسب، فرغم أهمية ومحورية البُعد الأمني في الأزمة الراهنة وما تشكِّله أعمال العنف المتزايدة من مخاطر جسيمة على الأوضاع السياسة والاقتصادية والاستقرار في مصر، لكن ثمة بُعدًا آخر يتمثل في حالة الانسداد السياسي التي تعيشها حاليًا، وهو بعدُ لا يبدو معترفًا به من قِبل السلطة حتى الآن. وتبدو المعضلة في أنه بينما تسعى السلطة إلى مواجهة تصاعد أعمال العنف، فإن إنكارها للبُعد السياسي للأزمة هو -في حد ذاته- أحد أسباب عدم نجاحها حتى الآن في وضع حدٍّ لهذا العنف بل جعلته يتزايد؛ فمواجهة هذا العنف يتطلب -في رأي المحللين- تجاوز الحلول الأمنية إلى استحقاقات سياسية لا يزال هناك من يحرص على تفاديها(20).
دوامة العنف
تكشف عملية اغتيال النائب العام المصري وما أعقبها من تصعيد نوعي للهجمات التي يشنُّها المسلحون الجهاديون في سيناء أن مصر تواجه وضعًا أمنيًّا بالغ الصعوبة، من شأنه أن يُلقي بظلاله على مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والمعيشية للمصريين، وكذلك على مستقبل الاستقرار في البلاد. كما تظهر التطورات الأخيرة أن الاستراتيجية الأمنية التي تنتهجها السلطة منذ نحو عامين في مواجهة عمليات العنف لم تحقِّق نجاحًا ملموسًا في احتواء وإنهاء هذه العمليات. ويعود الفشل في ذلك إلى اعتماد حلول أمنية تغفل أو تتجاهل الأسباب السياسية والاجتماعية وراء هذا العنف. ومن ثَمَّ فإنه إذا كان اغتيال النائب العام يمثِّل نقلة نوعية في مسار عمليات العنف، فإن مواجهة ذلك عبر تعديل أو تشديد القوانين كما تفعل السلطة حاليًا، أو بالتعجيل بتنفيذ أحكام الإعدام بحق مرسي وقيادات الإخوان كما يطالب البعض، أو بتصفية المتهمين خارج إطار القانون، كلها إجراءات لن تضع حدًّا لأعمال العنف، بل قد تزيدها اشتعالًا من خلال توفير الحاضنة الاجتماعية لهذا العنف؛ فقانون مكافحة الإرهاب الأخير يتضمن موادَّ من شأنها أن تفتح الباب لاحتمالات توسيع دائرة الاشتباه والاعتقالات العشوائية التي قد تُطال الأبرياء، الأمر الذي سيزيد أوضاع الحريات وحقوق الإنسان سوءًا. كما أن التعجيل بتنفيذ أحكام الإعدام بحق قيادات الإخوان -كما يطالب البعض- ربما يدفع شباب الإخوان لمزيدٍ من التطرف والعنف، وهو ما قد يمنح الفرصة لتنظيم "ولاية سيناء" لجذب واستقطاب بعض هؤلاء الشباب، خصوصًا وأن هذا التنظيم يعتمد بالفعل خططًا مكثفة لاستقطابهم ضمن عملياته في سيناء. فضلًا عن ذلك، فإنه إذا كانت هذه القوانين المشددة تصلح في مواجهة تنظيمات أو جماعات محددة، فإنها لا تفيد كثيرًا في مواجهة عنف عشوائي يقوم به أفراد غير معروفين لأجهزة الأمن. إن مثل هذا النوع من العنف لا يمكن مواجهته أمنيًّا فقط، بل عَبْر منظومة سياسية ديمقراطية وتنموية شاملة، وهذا ما يبدو غائبًا حتى الآن، وضمن رؤية استراتيجية لا تبدو متوفرة في الوقت الراهن؛ فالمواقف الصادرة عن السلطة لا تشي بأنها تنوي إجراء مراجعات حقيقية لمواقفها وسياساتها ومعالجاتها للأزمة على مدى العامين الماضيين. كما أن الإخوان وغيرهم من خصوم السلطة في المقابل لا يبدو أنهم على استعداد للتراجع عن مواصلة المواجهة والتصعيد مع النظام الحالي حتى النهاية، خصوصًا بعد كل ما خسروه.