بوركينافاسو..هل ستنتهي الأزمة بحل كتيبة الحرس الرئاسي؟

يتناول هذا التقرير تطورات الأزمة السياسيات والأمنية في بوركينافاسو ومآلاتها في ضوء ما حصل بعد الانقلاب العسكري الفاشل الذي دبرته كتيبة الحرس الرئاسي، وقد أثار ذلك الانقلاب حراكا داخليا واهتماما إقليميا، ونتج عنه اتفاق بين أطراف الأزمة سيواجه تطبيقه على أرض الواقع عقبات عديدة.
27 September 2015
201592711833175734_20.jpg
السياسي أدي كومبويغو أحد ستة مرشحين منعوا من الترشح بموجب قانون العزل السياسي الجديد (الفرنسية)

ملخص

أظهرت تطورات الأزمة في بوركينافاسو مؤخرا انقساما حادا في بنية الجيش البوركينابي؛ فقد أوشك الاستقطاب الحاد بين كتيبة الحرس الرئاسي التي نفذت انقلابا عسكريا في السابع عشر من شهر سبتمبر/ أيلول 2015 وبين بقية كتائب الجيش أن يصل إلى حد الاقتتال بين الفريقين. نجحت منظمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإكواس اختصارا) في احتواء هذه الأزمة وفي التوصل إلى اتفاق من ثلاثة عشر بندا كان من أبرزها عودة الرئيس الانتقالي ميشيل كافاندو إلى الحكم بعد أن تم احتجازه أسبوعا مع رئيس وزرائه من طرف كتيبة الحرس الرئاسي. غير أن هذا الاتفاق سيجد أمامه جملة من العقبات التي قد تنسف به، ومن أبرزها سحب أسلحة كتيبة الرئاسي وهي أقوى كتائب الجيش وأكثرها تنظيما وأشرسها معارضة للحكومة الانتقالية، وكذلك قانون العزل السياسي الذي يستهدف أنصار الرئيس المخلوع بليز كومباوري وهم قوة سياسية واقتصادية واجتماعية لا يستهان بها.

خرجت حكومة كافاندو من هذه الأزمة وقد حظيت بتعاطف داخلي قوي ومساندة إقليمية واضحة إلا أنها ستواجه تحديات جسيمة ومعقدة ومتنوعة منها: تنظيم انتخابات عامة رئاسية وتشريعية شفافة وحرة في شهر نوفمبر /تشرين ثاني القادم، ومنها حل كتيبة الحرس الرئاسي العتيدة، ومنها فتح الملف القضائي المتعلق بتشريح جثمان الرئيس الأسبق توماس سانكارا الذي سيُدخل في دائرة الاتهام عند التحقيق في نتائج التشريح رؤوسا كبيرة من نظام الرئيس المعزول بليز كومباوري.

تسارعت الأحداث في بوركينا فاسو ورافقتْ ذلك التسارعَ تحليلاتٌ كثيرة ومتشعبة في وسائل الإعلام لكنها تحليلاتٌ قصَّرتْ أحيانا في تقديم تفسير منطقي لما يجري؛ فتطورات الوضع البوركينابي التي تسير بخطى حثيثة ومتقلبة، وتعقيدات مواقف اللاعبين لا تسمح في أوقات كثيرة للمتابعين والمهتمين بالشأن البوركينابي بإعطاء روية منسجمة؛ لذلك ظل أغلب ما يقدم في وسائل الإعلام: إما عام جدا كربط الأزمة بعجز الطبقة السياسية عن تقديم بدائل لتشرذمها وضعف أدائها، أو لتدخل الجيش السافر والمطرد في الشأن العام منذ انقلاب الرئيس الأسبق توماس سانكارا في أغسطس/ آب 1984، أولتخلف البلاد التنموي واستشراء الفساد، وإما ناقص ومبتسر لاعتماده في التحليل على معلومات جزئية وتفاصيل لا تقدم صورة كاملة ولا تضع في الاعتبار حيثيات متداخلة يعرفها المشهد البوركينابي المعقد في تركيبه والمتنوع في تفاصيله.

واللافت للمراقب أن أسبوعًا من التأزم والترقب والمفاوضات المعلنة وغير المعلنة كان كافيا -فيما يبدو- لإنهاء مرحلة من مراحل أزمة بوكينافاسو العصية، فقد عاد رئيس الحكومة الانتقالية ميشيل كافاندو لمهامه، وانسحبت كتيبة الحرس الرئاسي إلى ثكنتها بعد انقضاء هذا الأسبوع وبعد أن أوشك الجيش الوطني الموالي للحكومة الانتقالية على المواجهة معها يوم الثلاثاء 22 سبتمبر/ أيلول 2015.

الاستقطاب داخل الجيش مظهر من مظاهر الأزمة

لم تقع المواجهة التي كانت وشيكة بين كتيبة الحرس الرئاسي المدربة أحسن تدريب والمسلحة بأجود عتاد والتي تعمل بإمرة الجنرال الانقلابي جيلبير دِيَنْدَرِيه، الذي أعلن نفسه رئيسا لما سماه المجلس الوطني من أجل الديمقراطية في 17 سبتمبر/ أيلول 2015، وبين كتائب الجيش التي زحفت على العاصمة البوكينابية واغادوغو (المعروفة اختصارا بواغا) لإنقاذ الرئيس الانتقالي ميشيل كافاندو مع رئيس وزرائه إسحاق يعقوب زايْدا الذيْن ظلا محتجزيْن مع وزيرين آخرين في الحكومة من طرف كتيبة الحرس الرئاسي طيلة أسبوعِ الانقلاب.

تحول الوضع السياسي الانتقالي في هذا البلد الغرب إفريقي الحبيس منذ يوم الانقلاب في السابع عشر من سبتمبر/ أيلول الجاري إلى حالة من التأزم والترقب فتحت البلاد على مستقبل متوتر وشدت أنظار دول منظمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا المعروفة اختصارا بالإنجليزية باسم الإيكواس (وبالفرنسية باسم CEDEAO)، فضلا عن اهتمام فرنسي قديم ومتجدد بمستعمرتها السابقة.

أثبتَ هذا الفصل من الأزمة البوركينابية أن الجيش هو أبرز اللاعبين في المجال السياسي في بوركينافاسو، كما تبين أيضا أن الجيش ليس على قلب رجل واحد، فهنالك استقطاب قوي داخل المؤسسة العسكرية بين توجهين رئيسيين: فمن جهة توجد كتيبة الحرس الرئاسي بقيادة الجنرال دِيَنْدَرِيه، الذي كان تولى قيادة الأركان العامة وغيرها من الوظائف السامية في عهد الرئيس السابق بليز كومباوري المطاح به في 31 أكتوبر/ تشرين أول 2014، وبين سائر فصائل الجيش الوطني الذي يتبع لقائد الأركان العامة الجنرال بينغرنوما زاغري (Pingrenoma Zagré)، والذي يمنح ولاءه للحكومة الانتقالية برئاسة ميشيل كافاندو.

فبعيْدَ اطلاق السيد شريف سي، وهو رئيس المجلس الوطني الانتقالي (البرلمان)، نداءه الموجه إلى الجيش للتدخل إنقاذا للموقف، سارع الجنرال زاغري للتحذير من مغبة الإضرار بالقيم الجمهورية وبأن الجيش وحده هو من يضمن حماية الأشخاص والممتلكات، قبل أن يعلن ولاءه للحكومة الانتقالية المطاح بها، ثم ما لبث أن هدد باجتياح العاصمة واغادوغو لاستخلاص رئيس الدولة ورئيس وزرائه ومن معهما من أيدي كتيبة الحرس الرئاسي(1). إن هذه الثنائية في الولاء داخل بنية الجيش البوركينابي تعكس توجهات واصطفافات داخل النخبة السياسية في البلاد وداخل مكونات المجتمع المدني المهتم بالشأن العام على نطاق واسع. ولا تقتصر تلك الاصطفافات على البعد السياسي الحاضر بقوة في حياة الناس بل توجد أيضا اصطفافات اجتماعية  وجهوية، فكل مسؤول سياسي وكل ضابط عسكري له مرجعية اجتماعية وانتماء قبلي وارتباطات مناطقية تؤثر بشكل قوي في علاقاته وحتى في رؤيته للأمور.

أظهر مشهد الأحداث في بوركينافاسو أن في الجيش اصطفافا بين كتيبة الحرس الرئاسي القوية تنظيما والجيدة تسليحا وبين بقية مكونات الجيش الوطني الأخرى الأكثر عددا والأقل كفاءة وتجهيزا من كتيبة الحرس الرئاسي، لكن هذا الاصطفاف لم يمنع خلال تطورات هذه الأزمة مع منتصف شهر سبتمبر/ أيلول الجاري من وجود قنوات اتصال بين الطرفين، وهي قنوات متعددة ومنتوعة. ومن أبرز تجسيدات قنوات الاتصال هذه ما قام به الزعيم التقليدي ذو السلطة الرمزية موغو نابا (Mogho Naba)، ملك قبائل الموسي وهي أوسع وأهم تشكيلة قبلية في البلاد، فقد دخل الزعيم نابا على الخط وباشر عملية التفاوض بين الطرفين، وكان حاضرا توقيع الاتفاق الذي تم التوصل إليه بينهما(2). وتعكس فاعلية هذا النوع من القنوات ودوره المؤثر في حلحلة الأزمات جانبا مهما من طبيعة المجتمعات الإفريقية التي تقوم القبيلة فيها بأدوار غاية في الأهمية عندما تدخل التوترات بين السياسيين أو داخل المؤسسة العسكرية  في مسالك معقدة.

الإيكواس والتفاعل الإقليمي مع الأزمة

إلى جانب دور القيادات التقليدية نشطت منظمة الإيكواس في التوصل إلى اتفاق بين الطرفين، فقد ظل وفد الإيكواس ممثلا في الرئيسين: السنغالي مكي صال والبينيني توماس بوني يايي مرابطين بفندق لاَيْكا بالعاصمة واغادوغو وعلى اتصال متواصل مع أطراف الأزمة من الحرس الرئاسي ومن قيادات الجيش الوطني وغيرهما من الفعاليات السياسية والمدنية(3). كما كان السفير الفرنسي بواغادوغو: جيل تيبو حاضرا لتطورات المفاوضات ومستجداتها. وكان الهدف الرئيس للمفاوضات يصب في عودة الحكومة الانتقالية إلى الحكم، وفي وقت لاحق تجنيب البلاد مواجهة بين فصائل الجيش المنقسمة على نفسها.

ومن المعلوم أن كتيبة الحرس الرئاسي ظلت جزءا أساسيا من النظام الحاكم في بوركينافاسو منذ أزيد من عشرين سنة، خصوصا بعد أن تأسست في عهد الرئيس المخلوع بليز كومباوري سنة 1995. ومع مرور الوقت، ارتبط اسم الحرس الرئاسي في أذهان البوركينابيين بنظام الرئيس بليز القمعي وتورطه المطرد في معاقبة ومطاردة معارضيه في الداخل والخارج، ومن أمثلة ذلك مصرع الصحفي الاستقصائي البوركينابي المعارض نوربير زونغو الذي عثر على جثته متفحمة في يناير/ كانون الثاني 1998 وامتدت أصابع الاتهام في ذلك الوقت لكتيبة الحرس الرئاسي. وتتكون كتيبة الحرس الرئاسي في بوركينافاسو من ألف و300 مائة جندي أي ما يقارب نسبة 10% من مجموع الجيش البوركينابي(4).

قبلت كتيبة الحرس الرئاسي، التي نظمت وأطرت انقلاب 17 سبتمبر/ أيلول الجاري، بمقترحات الوساطات الداخلية والإقليمية فرجعت إلى ثكنتها المعروفة باسم "نأبا كوم"(5)، والموجودة قرب قصر كوصيام الرئاسي، كما انسحبت من المراكز الحيوية بالعاصمة واغادوغو والتي كانت تحت قبضتها. وفي المقابل التزمت كتائب الجيش الوطني الأخرى والواقفة مع شرعية الحكومة الانتقالية بفك الحصار عن العاصمة والابتعاد 50 كيلومترا عن مشارفها حقنا لدماء عناصر الحرس الرئاسي وعائلاتهم(6).

نجحت الوساطات المحلية والإقليمية في التوصل إلى هذا الاتفاق الأولي الذي لا يعني بالضرورة حلا نهائيا للتوتر بقدر ما يعني ترحيلا للأزمة إلى المستقبل. إن أفراد كتيبة الحرس الرئاسي، التي أشرف الرئيس المطاح به بليز كومباوري على تأهيلهم وتحسين أدائهم حتى صاروا نخبة الجيش البوركينابي، قد انسحبوا إلى ثكنتهم لكنهم لم يسلموا أسلحتهم، وهذا هو مربط الفرس في هذه الأزمة. أعلنت الحكومة الانتقالية في أول اجتماع لها يوم الجمعة 25 سبتمبر/ أيلول الجاري في بيانها الختامي عدة إجراءات أمنية من بينها حل الحرس الرئاسي(7)، لكن ما دام سلاح الحرس الرئاسي البوركينابي بأيدي عناصره فإن نذر تجدد الأزمة قائمة وانكشافها من جديد محتمل(8).

إن هذا الاتفاق الأولي بين الطرفين قد حقق نتيجة هامة وهي الإفراج عن الرئيس الانتقالي ميشيل كافاندو الذي أعيد ترسيمه من جديد يوم الثلاثاء 22 سبتمبر/ أيلول 2015 وبحضور رموز المجتمع القبلي والديني، وأغلب تشكيلات الطيف السياسي المحلي، ومنظمات المجتمع المدني فضلا أربعة رؤساء من أعضاء الإيكواس وهم رؤساء: النيجر، بينين، غانا والتوغو وخامسهم نائب الرئيس النيجيري بينما غاب الرئيس السنغالي. ويعد هذا الحضور المحلي والإقليمي المكثف تأكيدا على وقوف القوى الداخلية ودول الإيكواس وراء هذا المسار ودعما لعودة البلاد إلى الشرعية. ومع أن موقف الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة من الانقلاب في بوركينا فاسو كان حاسما في تنديده بما جرى فإن منظمة الإيكواس وخصوصا مبعوثاها الرئيسان: السنغالي والبنيني ظلا متأرجحين في تصريحاتهما حيث كان القبول بالأمر الواقع في مرحلة من المراحل جزءا من مفردات خطابهما التفاوضي. والملاحظ أن مواقف منظمة الإيكواس من الأزمة البوركينابية منذ اندلاعها في نهاية أكتوبر/ تشرين أول 2014 لم يكن دائما محل إجماع أو رضى الفرقاء السياسيين في البلاد؛ حيث لم تكن أحزاب المعارضة ولا تشكيلات المجتمع المدني بالراضية عن إعلان وسطاء الإيكواس في السنة الماضية بضرورة اعتماد مبدإ العفو الشامل عن شخصيات نظام الرئيس المطاح به بليز كومباوري، كما أن النقطة الثانية عشرة من النقاط الثلاث عشرة المشكلة للاتفاق الذي أبرمته الإيكواس بين أطراف الأزمة البوركينابية تنص على العفو عن مدبري انقلاب 17 سبتمبر/ أيلول الجاري(9).

والواقع أن نتائج وساطة الإيكواس تصب في عدة اتجاهات من أهمها: إعادة المرحلة الانتقالية إلى مسارها، والعودة بها إلى حيث وصلت غداة انقلاب السابع عشر من ستمبر/ أيلول الجاري؛ وقد جسدت ذلك إعادةُ ترسيم الرئيس كافاندو في منصبه. ومن تلك الاتجاهات كذلك استصدار عفو عام عن الانقلابيين من ضباط الحرس الرئاسي الضالعين في تأجيج هذه الأزمة(10)، وهو أمر قد لا تنفذه الحكومة الانتقالية التي قررت حل كتيبة الحرس الرئاسي في أول اجتماع لها بعد فشل الانقلاب.

ومن أبرز بنود هذه الاتفاق البند الذي ينص على تأجيل الانتخابات العامة التي كان مقررة في 11 أكتوبر/ تشرين أول 2015 إلى 22 نوفمبر /تشرين ثاني 2015 أي أنها أجلت بقرابة شهر ونصف. وهناك بند آخر ينص على إلغاء قانون كانت قد تمت المصادقة عليه في إبريل /نيسان 2015 ويقضي بمنع العديد من الشخصيات المقربة من الرئيس المخلوع بليز كومباري من التقدم للوائح المرشحين ضمن الانتخابات المقبلة. ومن بين من شملهم تطبيق هذا القانون فاتو دِيَنْدَرِيه زوجة الجنرال الانقلابي، وكذلك صديقه الحميم أدي كومبويغو (Eddie Komboïgo). وتعتبر فاتو من أبرز وجوه حزب المؤتمر من أجل الديمقراطية والوحدة (CDP) المتأسس سنة 1996 والذي كان الحزب الحاكم في عهد الرئيس المخلوع بليز كومباوري، أما أدِّي فليس سوى رئيس الحزب نفسه. وأدّي رجل أعمال قوي ينحدر من نفس المنطقة التي ينحدر منها الجنرال دِيَنْدَرِيه وهي ولاية ياكو (Yako)، وما زال لحزبه المؤتمر من أجل الديمقراطية والوحدة حضور قوي في المشهد السياسي البوركينابي. وقد تمسك زعيم الانقلابيين الجنرال جيلبير دِيَنْدَرِيه بقوة أثناء المفاوضات بهذا المطلب الساعي إلى إلغاء هذا القانون المطالب بإبعاد مقربي الرئيس بليز من الترشح للاستحقاقات القادمة(11).

تعقيدات داخلية تهدد اتفاق الإيكواس

من الصعب عزل ما يحدث في بوركينا فاسو عن مسألة قديمة متجددة وهي تشريح جثمان الرئيس البوركينابي الأسبق ذي الكاريزما الخاصة بين الشباب الإفريقي: توماس سانكارا الذي لقي مصرعه سنة 1987 على أيدي جنود مجهولين. وقد تولى بليز كومباوري السلطة غداة اغتياله، وظل الرئيس بليز ومقربيه، ومن بينهم الجنرالي الانقلابي دِيَنْدَرِيه، متهمين بالضلوع في اغتيال سانكارا.

ما فتئ الجنرال دِيَنْدَرِيه يتقلب منذ ذلك التاريخ في الوظائف السامية في السلطة البوركينابية، ومن الصعب ألا يكون على اتصال وثيق وتماس مُلامس لمختلف الملفات السرية الكبرى التي مرت بالبلاد والتي من بينها مصرع سانكارا. ومن الملاحظ تزامن انقلاب الجنرال دِيَنْدَرِيه مع الإعلان عن أولى  نتائج تقارير تشريح بقايا جثمان الراحل سانكارا التي استخرجت من قبره قبل بضعة أشهر، وكان سيتم الكشف عن نتائج التقارير حتى جاء انقلاب السابع عشر من سبتمبر/ أيلول الجاري(12). ثم إن الجنرال دِيَنْدَرِيه المقرب من الرئيس كومباوري كان قائدَ الأركان العامة في عهده، ثم رئيسَ الحرس الشخصي لبليز الذي تحول إلى كتيبة الحرس الرئاسي كما تولى منصبَ مدير المخابرات.

على أن هذا الانقلاب الذي خطط له فيما يبدو الجنرال دِيَنْدَرِيه قد تم احتواؤه بما قدمته منظمة الإيكواس من مساع وتم التوصل إلى اتفاق إطار من ثلاثة عشر بندا، إلا أنه اتفاق لم يكن محل إجماع ولا مباركة من طرف المشهد السياسي الحزبي وتنظيمات المجتمع المدني البوركينابي. فمن الملاحظ أن هناك انقساما داخليا حادا حول مآلات المسار التفاوضي السياسي الذي قادته الإيكواس في البلاد. فإذا كانت الأحزاب والتشكيلات السياسية البوركينابية المحسوبة على نظام بليز كومباوري المعزول، وعلى رأسها المؤتمر من أجل الديمقراطية والوحدة (CDI) تبارك مساعي الإيكواس، فإن أغلب أحزاب المعارضة في البلاد ترى أن هذا الحل إنما جاء لإرضاء أطراف متصارعة في الجيش، ومنحهم ما يريدون، مما يعني تكريس وضع المؤسسة العسكرية بمختلف توجهاتها في الشأن السياسي العام. فهذا الاتفاق في نظر أحزاب المعارضة لا يحل الأزمة البوركينابية بقدر ما يفسح المجال أمام الجيش ليظل اللاعب الأبرز في شأن البلاد السياسي كما يرى السياسي المعارض روش-مارك كابوري (Roch-Marc Christian Kaboré) وهو أحد المرشحين المحتملين للرئاسيات القادمة في بوركينافاسو(13). وكانت منظمات المجتمع المدني ممثلة في أكثرها تصلبا وهي منظمة "مكنسة المواطن" قد صرح الناطق الرسمي باسمها غي-أرفي كام (Guy-Hervé Kam) أن ما قامت به الإيكواس ليس سوى دفع فدية لإرهابيين مقابل إطلاق سراح رهائنهم(14).

خلاصات مستقبلية

استطاعت الإيكواس أن تضع حدا للتوتر الذي نتج عن الانقلاب العسكرية المدبر من طرف كتيبة الحرس الرئاسي بزعامة الجنرال دِيَنْدَرِيه. وربما ينتج عن هذا الاتفاق عدة معطيات ستؤثر في مستقبل بوركينا فاسو ومنها:

  • كون ما حدث سيشكل فرصة مواتية لحكومة ميشيل كافاندو الانتقالية لإعادة ترتيب أوضاعها ولكسب المزيد من التعاطف المحلي والإقليمي، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن تسيير هذه الحكومة الانتقالية لعدد من الملفات السياسية والتنموية لم يكن على المستوى المطلوب؛ خصوصا وأن نقابات البلاد ما فتئت تهدد بإضرابات جراء الأوضاع المادية المتدنية للمواطن البوركينابي. ففي المستقبل القريب تعتبر محاولة الانقلاب الفاشلة هذه قد صبت في مصلحة هذه الحكومة الانتقالية.
  • سيكون الوضع صعبا بالنسبة لحزب المؤتمر من أجل الديمقراطية والوحدة ورئيسه أدي كومبويغو المقرب من الجنرال دِيَنْدَرِيه وخصوصا في الاستحقاقات الانتخابية المقرر إجراؤها في شهر نوفمبر/ تشرين ثاني القادم. بل ربما يصل الأمر إلى اجتثاث هذا الحزب في ظل الموافقة السابقة على القانون الانتخابي الجديد الذي يمنع تقدم شخصيات نظام الرئيس المخلوع بليز كومباوري لأي استحقاقات انتخابية سيتم تنظيمها. وقد عبر السفير الفرنسي ونظيره الأمريكي بواغادوغو أكثر من مرة عن رغبتهما في عدم المصادقة على قانون العزل السياسي هذا(15).
  • قد يكون هذا المخرج الذي عرفته هذه الأزمة بداية نهاية الجنرال دِيَنْدَرِيه الذي لم تصب تطورات هذه الأحداث في صالحه، بل ربما تبدأ إجراءات محاكمته وبالتالي سجنه بتهم متعددة لعل من أبرزها الاتهام بالضلوع في مصرع الرئيس الراحل توماس سانكارا.
  • لعل حل كتيبة الحرس الرئاسي الذي بدأت الحكومة الانتقالية في إجراءاته الأولى وجعل هذه الكتيبة جزءا من الجيش الوطني وتجريدها من الامتيازات التي كانت تحظى بها سيكون بداية لوضع جديد في بوركينا فاسو. ويبقى التساؤول واردا: هل ستنجح الحكومة الانتقالية في هذا المسعى؟ وما تداعياته الأمنية على البلد؟ وما مستقبل علاقة الجيش بالسياسة في بوكينا فاسو؟
  • يشكل وقوف المجتمع الدولي والإقليمي بحزم في وجه انقلاب الجنرال دِيَنْدَرِيه عائقا أمام محاولة انقلابية محتملة في المستقبل.

______________________________
د. سيدي أحمد ولد الأمير - باحث بمركز الجزيرة للدرسات.

الإحالات
1 – انظر موقع "بوركينا 24"، وقد تم تصفحه بتاريخ 26 سبتمبر 2015:
http://burkina24.com/2015/09/19/general-pingrenoma-zagre-je-condamne-fermement-tous-les-actes-de-violence-a-lencontre-des-populations/
وكذلك موقع "لوفاسو" وقد تم تصفحه يوم 25 سبتمبر 2015:
http://www.lefaso.net/spip.php?article67072
2 – انظر موقع إذاعة فرنسا الدولية (RFI)، وقد تم تصفحه بتاريخ 25 سبتمبر 2015:
http://www.rfi.fr/afrique/2min/20150922-direct-burkina-faso-crise-liberation-isaac-zida-ultimatum-rsp-diendere-putch
3 – يتكون وفد الإيكواس وموافقيه من عدة أطراف وهي: الرئيس السنغالي مكي صال وهو الرئيس الدوري لمنظمة الإيكواس، ومعه نظيره البينيني توماس بوني يايي، ويساعدهما في مهمتمها التفاوضية الدبلوماسي الغاني: محمد بن شامباس كبير الوسطاء الخاص والمشترك بين الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، والسياسي البوركينابي كادريه ديزيريه ويدراوغو رئيس لجنة المنظمة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس". ومعهما من الوسطاء المحليين: الرئيس جان بابتيس ويدراوغو رئيس أساقفة مدينة بوبوديولاسو، والأسقف بول ويدراوغو، وقائد الأركان العامة الجنرال بينغرنوما زاغري، والأمين العام لوزارة الدفاع، العقيد الحسن موني. انظر: موقع لوبسيرفاتور وقد تم تصفحه يوم 26 سبتمبر 2015:
http://www.lobservateur.bf/index.php/editorial/item/4379-mediation-13-points-pour-sortir-de-la-crise
4 - انظر موقع مجلة جون آفريك، وقد تم تصفحه يوم 24 سبتمبر 2015:
http://www.jeuneafrique.com/mag/235761/politique/burkina-rsp-garde-a-vous/
5 – نابا كوم: Naaba Koom هو أحد سلاطين قبيلة الموسي في القرن التاسع عشر، وقبيلة الموسي هي أكبر الأعراق الاجتماعية في بوركينا فاسو وينحدر من قبيلة الموسي أبرز السياسيين والعسكريين البوركينابيين مثل الرئيس المخلوع: بليز كومباوري ورئيس الوزراء الحالي إسحاق يعقوب زايدا.
6 – انظر: مجلة "جون آفريك"، تم تصفح الموقع يوم 25 سبتمبر 2015:
http://www.jeuneafrique.com/267688/politique/burkina-statu-quo-apres-premier-conseil-ministres-coup-detat/
7 – انظر موقع "سيدوايا"، وقد تم تصفحه يوم 26 سبتمبر 2015:
http://www.sidwaya.bf/m-8050-compte-rendu-du-conseil-des-ministres-du-25-septembre-2015.html
8 – انظر موقع جريدة "لوموند" الفرنسية وقد تصفح الموقع يوم 25 سبتمبر 2015:
http://www.lemonde.fr/afrique/article/2015/09/23/burkina-retour-a-la-case-depart_4768116_3212.html
9 – انظر موقع "لو ربورتير" البوركينابي، وقد تم تصفحه يوم 26 سبتمبر 2015:
http://www.reporterbf.net/index.php/component/k2/itemlist/tag/putsch
وكذلك موقع "لوبسيرفاتور" البوركينابي، وقد تم تصفحه في 26 سبتمبر 2015:
http://www.lobservateur.bf/index.php/editorial/item/4379-mediation-13-points-pour-sortir-de-la-crise
10 – انظر موقع جريدة "لوفيغارو" الفرنسية، وقد تم تصفحه يوم 25 سبتمبر 2015:
http://www.lefigaro.fr/international/2015/09/21/01003-20150921ARTFIG00088-putsch-au-burkina-faso-un-projet-de-sortie-de-crise.php
11 – انظر موقع "جون آفريك" وقد تصفحه يوم 25 سبتمبر 2015:
http://www.jeuneafrique.com/mag/265792/politique/burkina-faso-diendere-putsch-premedite-ou-putsch-recupere/
12 – نفس المرجع السابق.
13 – انظر موقع جريدة "لوفيغارو" الفرنسية وقد سبق ذكره.
14 – نفس المرجع السابق.
15- انظر موقع "لو فاسو" البوركينابي، وقد تم تصفحه يوم 25 سبتمبر 2015:
http://www.lefaso.net/spip.php?article67063

ABOUT THE AUTHOR