مصر والاعتداء على كنيسة القديسين

يزداد الملف القبطي تعقيداً يوما بعد يوم فالعلاقة غير الصحية بين الأقباط وبين الدولة وبعض القطاعات الإسلامية تتفاقم باستمرار نظرا لغياب المشروع الشامل ذي الأهداف الوطنية، فلم تعد هناك علاقات ولاء تربط بين المصريين ودولتهم وتضاءلت الثقة بالأحزاب وتراجعت تقاليد التضامن الاجتماعي.
6 January 2011







 

مركز الجزيرة للدراسات


خلال الساعات الأولى من العام الجديد، تعرضت كنيسة قبطية مصرية بمدينة الإسكندرية لهجوم إرهابي دموي، أودى بحياة واحد عشرين من المواطنين الأقباط، وجرح أكثر من سبعين مواطناً آخرين، بينهم عدد من المسلمين. أثار الهجوم حالة من الذهول في أوساط الدولة والحكم، كما في أوساط الرأي العام. خلال الأيام الثلاثة التالية، شهدت عدة مدن مصرية تظاهرات قبطية غاضبة، كما شهدت تجمعات جماهيرية وحزبية سياسية أعربت عن تضامنها مع المواطنين الأقباط وحرصها على وحدة الشعب المصري. ولكن لا مظاهر التضامن الوطنية ولا حتى كلمات الرئيس مبارك، استطاعت محاصرة الغضب القبطي، الذي تجلى في اشتباكات متفرقة مع رجال الأمن، وتعرض مواكب كبار المعزين من رجال الدولة، بما في ذلك شيخ الأزهر، لحجارة المحتجين من الشبان الأقباط.





يشكل المطلب القبطي بإقرار قانون خاص، ذي طابع ديني، للأحوال الشخصية القبطية واحداً من الإشكاليات الكبرى في العلاقة بين الدولة والكنيسة
في الخارج، قوبل الحادث بسلسلة من التصريحات الغربية، الصادرة عن دوائر مثل الفاتيكان، الحكومات الألمانية والإيطالية والأميركية، وبرقيات التضامن التي أرسلت للرئيس المصري. ولكن اللغة التي استخدمها الرسميون الغربيون، والتي تكاد تكون قد أجمعت على الدعوة لحماية المسيحيين في مصر، استبطنت اتهاماً غير مباشر للحكومة المصرية بالتقصير في حماية مواطنيها الأقباط. وعلى خلفية من أجواء التضامن والاحتجاج، داخل البلاد وخارجها، عقد محامي الكنيسة القبطية مؤتمراً صحافياً دعا فيه الحكومة المصرية إلى إقرار القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية للأقباط وحرية بناء دور العبادة.

وفي حين اشتغلت دوائر الحكم، وعدد كبير من المراقبين، بتحديد طبيعة الهجوم الإرهابي والبحث عن المسؤولين عنه، غاب السؤال الأهم حول السبب خلف الارتباك الملموس الذي شاب المعالجة الرسمية للحادث، وحول حالة القلق والخوف التي انتابت كافة قطاعات الشعب المصري بمجرد إذاعة الخبر. في سياق عالمي من تصاعد وتيرة الإرهاب والعنف، لم يكن حادث الهجوم على الكنيسة القبطية استثنائياً؛ كما أنه في نهاية الأمر كان اعتداءً أمنياً تطلب رد فعل وإجراءات أمنية. ولكن الشعور العام في مصر، وربما في خارجها، عكس خوفاً عميقاً على بنية مصر ووحدة شعبها، خوفاً وجودياً أكثر منه أمنياً. وهذا ما يستدعي رؤية الأبعاد الأعمق والأوسع لحادثة الإسكندرية.


ملف لم يفتح كما ينبغي
مظاهر تأزم
الحادثة الإرهابية
نتائج وتوصيات


ملف لم يفتح كما ينبغي 


ثمة ملف يزداد تعقيداً في مصر يمكن تسميته بلا تردد بالملف القبطي، ويتعلق بالعلاقة غير الصحية بين الجماعة القبطية المصرية، من جهة، والدولة وبعض القطاعات الإسلامية، من جهة أخرى. تعود جذور هذا الملف إلى أن عملية الانتقال الاجتماعي – السياسي في مصر (كما في عدد آخر من بلاد المشرق) من نظام الملل العثماني إلى دولة المواطنة، تعثرت ولم تكتمل مطلقاً. في نظام الملل التقليدي، حافظت الجماعات الدينية على استقلال نسبي في إدارة شؤونها الذاتية؛ أما في الدولة المركزية الحديثة، دولة المواطنة، فقد كان يفترض أن يصبح المواطنون أفراداً متساوين أمام القانون وفي المجال الاجتماعي – السياسي، وأن تسبق الهوية الوطنية وتعلو على الهوية الدينية أو الطائفية.


بالرغم من أن نظام الملل تضمن في بعض الحالات قيوداً نسبية على نشاطات الجماعات الدينية غير الإسلامية، إلا أنه في النهاية حافظ على وجود هذه الجماعات، وعلى السلم الاجتماعي عموماً. منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، بدأ التخلي التدريجي عن نظام الملل وترسباته. ولكن عوامل عدة تتعلق بالسيطرة الأجنبية، بضعف الكيانات القطرية التي ولدت بعد الحرب العالمية الأولى في المشرق العربي – الإسلامي وشعورها الدائم بالتهديد، وبسيطرة أنظمة مستبدة وضيقة القاعدة على الحكم، ساهمت في تعثر نضج دولة المواطنة الحديثة وحلولها محل نظام الملل التقليدي. أدى هذا التعثر في حالات إلى بناء دول محاصة طائفية، كما في لبنان، أو الارتداد لنظام المحاصة، كما في العراق، أو إلى تدهور متفاقم في العلاقات بين الجماعات الدينية والطائفية، كما في مصر والسودان.


في مصر، يرفض نظام الحكم تدخل الدين في السياسة، ويؤكد على الهوية المدنية للدولة. ولكن الدولة تقبل التعامل مع الكنيسة بصفتها ممثلاً للجماعة القبطية؛ وهو ما يثير شعوراً بالمرارة لدى قطاعات واسعة من المسلمين، الذين يرون أن الدولة تتنكر لحق الأكثرية في التعبير الإسلامي – السياسي، وأنها استولت على أوقاف المسلمين وسيطرت على شأنهم الديني، بينما تبدو أضعف من أن تفرض القانون على الدوائر الكنسية القبطية. وفي الوقت نفسه، أدت نشاطات الأقباط في الخارج، وارتباط مصر بالقوى الغربية الرئيسية، إلى تزايد الضغوط الغربية على مصر بشأن أوضاع الأقباط، وانتشار شعور ما في الدوائر القبطية الكنسية بأنها تتمتع بنوع من الحماية الغربية. المشكلة أن مثل هذا الوضع يسهم في ازدياد خشية الدولة من ردود الفعل الإسلامية، ويجعلها أكثر تردداً في الاستجابة لبعض المطالب القبطية، التي لا يخفى أن بعضها مبرر ومشروع، وبعضها الآخر غير مبرر وغير مشروع في دولة مدنية.





تعمل الكنسية على إعادة الأقباط إلى التصرف والحياة باعتبارهم ملة مستقلة ذاتياً، تقودهم الكنيسة، بينما هي تطالب الدولة بتطبيق حقوق المواطنة.
على سبيل المثال، يندر أن يحتل أقباط مواقع متقدمة في المؤسسة العسكرية،و في الأجهزة الاستخباراتية. وفي حين لا تخلو حكومة مصرية من عدد من الوزراء الأقباط من أعضاء الحزب الوطني الحاكم، فإن وجودهم في سلك المحافظين يظل نادراً. وبالرغم من مساهمة الأقباط المصريين في الحياة الثقافية والفنية والعلمية، يندر أن يعين قبطي رئيساً لجامعة حكومية، أو عميداً لإحدى الكليات الجامعية البارزة. ويشكو الأقباط من أن ثمة قيوداً على بناء الكنائس، بالرغم من أن من النادر أن ترفض الدولة طلب بناء كنيسة ما، وأن بناء الكنائس في حالات عديدة تحول إلى مظهر تحد رمزي وإثبات وجود أكثر منه تجلياً لحاجات تعبدية. ويشكل المطلب القبطي بإقرار قانون خاص، ذي طابع ديني، للأحوال الشخصية القبطية واحداً من الإشكاليات الكبرى في العلاقة بين الدولة والكنيسة، نظراً لقوانين الكنيسة الصارمة في مجال الأحوال الشخصية، التي تجد معارضة حتى في أوساط ملموسة من الأقباط.

نجم عن هذا الاضطراب في بنية الاجتماع – السياسي المصري خلال السنوات الأخيرة، سيما بفعل توجهات واعية ومخططة لدى البابا شنودة والأساقفة المؤيدين له، تحول الكنيسة إلى جدار عازل بين الأقباط والفضاء الوطني العام، بحيث أحكمت الكنيسة قبضتها على حياة أغلبية رعيتها. تراجعت المشاركة القبطية في الحياة السياسية، وتقدمت الهوية القبطية على الهوية الوطنية المصرية. بكلمة أخرى، تعمل الكنسية على إعادة الأقباط إلى التصرف والحياة باعتبارهم ملة مستقلة ذاتياً، تقودهم الكنيسة، بينما هي تطالب الدولة بتطبيق حقوق المواطنة. في الآن نفسه، تصاعدت حدة الجدل بين الناطقين باسم الكنيسة والهوية القبطية، من جهة، وبين عدد كبير من الشخصيات الإسلامية العامة، بما في ذلك المعارضين للنظام السياسي منهم.


ما يزيد الملف القبطي تفاقماً غياب المشروع الوطني؛ بمعنى أن المصريين يفتقدون لأهداف وطموحات ودوافع وطنية، تجمع بينهم وتحتوي عوامل التوتر في صفوفهم، بحيث لم تعد هناك علاقات ولاء وثيقة تربط بين المصريين ودولتهم؛ وقد تضاءلت ثقة المصريين بالأحزاب السياسية الوطنية؛ وتراجعت تقاليد التضامن الاجتماعي.


وفي المقابل، تتصاعد معدلات التدافع والاستقطاب بين القوى الاجتماعية المختلفة، بين الطوائف والجماعات الدينية، وداخل كل قوة اجتماعية أو دينية. المجتمع المصري، باختصار، يتجه سريعاً نحو فقدان الروح الوطنية والتشظي، بينما يزداد حجم الدولة وأجهزتها اتساعاً وثقلها وطأة.


مظاهر تأزم 


في مناخ التأزم الذي يحيط بالملف القبطي، تتسم تصرفات الدولة وبعض المسلمين، من جهة، والكنيسة وبعض الأقباط، من جهة أخرى، في كثير من الأحيان بالارتباك، وغياب الحكمة، بما يضعف الرابطة الوطنية ويؤدي إلى اتساع الهوة بين المسلمين والأقباط ومن عزلة الأقباط وانكفائهم على الذات. وهذه بعض الأمثلة على هذه التصرفات:






  1. تتسم تصرفات الدولة وبعض المسلمين، من جهة، والكنيسة وبعض الأقباط، من جهة أخرى، في كثير من الأحيان بالارتباك، وغياب الحكمة، بما يضعف الرابطة الوطنية ويؤدي إلى اتساع الهوة بين المسلمين والأقباط ومن عزلة الأقباط وانكفائهم على الذات.
    بفعل الخشية من ردود الفعل الإسلامية، وبينما تتراجع معدلات انخراط الأقباط في الحياة السياسية، يتجنب الحزب الوطني، الذي يسيطر على الحكم والبرلمان المصريين سيطرة قاطعة وحاسمة، ترشيح أعداد كافية من الأقباط في مقاعد آمنة؛ مما يفاقم من ظاهرة غياب الأقباط عن الساحة السياسية.


  2. تحجم الدولة في كثير من الأحيان عن اللجوء لقوة القانون في الحوادث ذات الصلة بحالة التوتر الطائفي، حتى تلك التي تعتبر حوادث إجرامية جنائية، مثل الاعتداءات على الحياة والملكية، أو الاغتصاب، وتلجأ بدلاً من ذلك إلى تسويات غير قانونية، مما يعمق من الانطباع بضعف الدولة وعجزها عن التعامل مع الملف القبطي.


  3. تطور في الآونة الأخيرة في أوساط الكنيسة وأنصارها خطاب قصير النظر، يكشف من جهة عن استقواء متوهم بالخارج واستضعاف للدولة، ومن جهة أخرى عن قصر نظر وعدم إدراك لتاريخ مصر ومساراته، مثل القول إن المسلمين ضيوف على مصر، وأن عليهم العودة إلى الجزيرة العربية، ومثل تضخيم تعداد الأقباط ونسبتهم من السكان، ومثل السعي إلى بناء كنائس في مواقع تثير استفزاز بعض ضيقي الأفق من المسلمين، ومثل الدعوة إلى التدخل الخارجي أو المحاصة في البرلمان ووظائف الدولة.


  4. تلجأ الكنيسة، في سعيها لتوكيد دورها وقوتها، أو لشعورها الخفي بالخوف والحصار، إلى تحويل قضايا محدودة من اعتناق أفراد مسيحيين للإسلام إلى أزمات وطنية، تصطدم بمشاعر الأكثرية المسلمة، كما حدث عندما أصرت في مناسبتين اثنتين على الأقل على تسلم وامتحان امرأتين مسيحيتين أعلنتا إسلامهما، ثم قامت بإخفائهما في أديرة بعيدة، مع الادعاء بأن اعتناقهما للإسلام لم يكن صحيحاً. والمشكلة في الحالتين أن الدولة تواطأت مع الكنيسة لرغبتها في استرضاء الكنيسة وتجنب إثارة النشاطات القبطية المعارضة في الخارج.


  5. وحتى في ردود الفعل على الحادث الأخير، وبالرغم من دعوة البابا شنودة الشبان الأقباط إلى الهدوء، فلم يكن مفهوماً إعلانه رغبته في عدم استقبال المهنئين المسلمين بعيد الميلاد المسيحي الشرقي لهذا العام، سوى أنه تعبير عن توكيد الانقسام الوطني وانكفاء الجماعة القبطية على ذاتها.

الحادثة الإرهابية 


في مثل هذه الأجواء، ليس من الصعب إدراك أن من خطط لهجوم الإسكندرية كان يدرك بالفعل حساسية الملف القبطي، ويسعى إلى توظيفه كوسيلة لتفجير الوضع السياسي المصري الداخلي. بمعنى أن هذا عملاً إرهابياً محسوباً، في مكانه وزمانه، يستهدف إظهار ضعف النظام وكشفه أمام تناقضات الداخل وضغوط الخارج. ورغم البيان الصادر عن وزارة الداخلية المصرية الذي ذكر بأن الهجوم قد نفذ من قبل انتحاري، إلا أن هناك من يشكك في هذه الرواية سواء داخل مصر أو خارجها. وفي ظل الاتهامات بالتقصير الأمني الموجهة لأجهزة الأمن، فإنه إذا تبين أن أداة الهجوم كانت سيارة مفخخة، فسيعد ذلك تقصيراً أمنياً مضاعفاً، بالنظر إلى ما تعنيه السيارة المفخخة من وجود خلية إرهابية ملموسة العدد من الخبراء المدربين على تجهيز السيارات المتفجرة وإعداد أجهزة التفجير عن بعد.


مهما كان الأمر، فمن غير المستبعد أن يكون العمل من تدبير خلية مرتبطة بالقاعدة فعلياً، أو أنها مجرد مجموعة من المتأثرين بأفكار القاعدة وتوجهاتها. الاحتمال الآخر أن تكون المجموعة مصرية بحتة، دفعها إلى هذا العمل باهظ التكاليف أجواء التوتر المتصاعدة في العلاقة بين المسلمين والمسيحيين.


المشكلة الآن أنه إن كانت حادثة إرهابية واحدة قد تسببت في كشف هشاشة البنية الوطنية المصرية، وهذا الارتباك الكبير في موقف الحكم، وردود الفعل الغربية، فكيف إن تكررت الحادثة ضد هدف قبطي آخر؟


نتائج وتوصيات 



  1. لم يعد لا من مصلحة مصر، ولا حتى من مصلحة النظام، استمرار تجاهل الملف القبطي والتظاهر بعد وجود أزمة في مجمل علاقات الأقباط بالدولة وبالمسلمين. وقد بات من الضروري أن يفتح الملف على مصراعيه وأن يطرح على الساحة الوطنية بكل فئاتها، ليصل فيه المصريون معاً، مسلمين وأقباطاً، إلى علاج وطني الإطار، يستجيب لمطالب الأقباط المشروعة وطنياً، ويعبر عن موقف الأكثرية ويحمى بإرادتها.





  2. المشكلة الآن أنه إن كانت حادثة إرهابية واحدة قد تسببت في كشف هشاشة البنية الوطنية المصرية، وهذا الارتباك الكبير في موقف الحكم، وردود الفعل الغربية، فكيف إن تكررت الحادثة ضد هدف قبطي آخر؟
    في الآن ذاته لابد أن يعاد التوكيد على دور الدولة فيما يتعلق بحماية مواطنيها ومساواتهم جميعاً أمام القانون، بغض النظر عن انتماء المواطنين الديني أو الطائفي. انسحاب الدولة يعزز الانطباع بخوفها وعجزها؛ وبالرغم من أنه يوفر تهدئات مؤقتة فإنه يؤدي على المدى البعيد إلى تفاقم التوتر الطائفي.


  3. على الكنيسة والمجموعة المحيطة بالبابا شنودة أن تختار بين سيطرتها على الشأن القبطي وعزل الأقباط عن الفضاء الوطني العام، وبين المطالبة بتعزيز بنية المواطنة المصرية والدولة المدنية والمطالبة بحقوق الأقباط كمواطنين مصريين. أن تلعب الكنيسة الدورين معاً لن يؤدي إلا إلى انفجار طائفي في البلاد، سيوقع خسائر بجميع الأطراف وبالبلاد ككل، ولكن الأقباط سيكونون فيه الخاسر الأكبر، مهما كانت إغراءات الدعم الخارجي.


  4. ليس ثمة أمة يمكنها أن تحمي بنيتها الوطنية بدون مشروع وطني. ومصر في حاجة ماسة لتبلور مشروع وطني، يعزز وحدتها الداخلية ويعيد بناء دورها الإقليمي ووزنها على المسرح العالمي. دولة كبرى بلا دور ولا أهداف كبرى، ستكون عرضة لتضخم تناقضاتها الداخلية.