اليونان: خلافات مع الجوار وأزمة للاتحاد الأوروبي

تعتبر اليونان حجرًا أساسيًّا في البناء الأوروبي رغم خلافاتها مع الجوار كما عانت تاريخيًّا من عدم الاستقرار الداخلي، وهو ما تجدَّد مؤخرًا، وإن بشكل آخر، بسبب الأزمة المالية التي من أهم أسبابها عدم الشفافية والفساد، وطرحت شكوكًا حول مستقبل أوروبا كمنظومة اتحادية واحدة.
20151119105137281734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
لاشك أن مؤسسة الدولة في اليونان عريقة، لكن طبيعة النظام فيها تعرضت إلى تغيرات على مرِّ التاريخ؛ ففي القرن الماضي تقلَّبت طبيعة النظام اليوناني بين النظام الملكي المطلق إلى المقيد، ثم إلى نظام جمهوري برلماني، فعودة إلى الملكية تلتها فترة الديمقراطية البرلمانية وعضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وفتحت تلك التقلبات الباب أمام أزمات داخلية وخارجية عديدة، بات بعضها مستعصيًا على الحل وتتجاوز مواجهته إمكانيات البلاد.

داخليًّا، يطغى ثقل الأزمة المالية حتى باتت هي المحدِّد والبوصلة التي يعتمدها الفاعلون السياسيون المحليون والإقليميون والدوليون في التعامل السياسي مع الحكومات اليونانية المتعاقبة. أمَّا خارجيًّا، وبالإضافة إلى نزاعات حدودية وتاريخية مع أغلب دول الجوار، فإن السياسات الاقتصادية أيضًا هي مصدر خلافات حادَّة بين أثينا وبروكسل وسواها. ومع الدعم المالي الهائل المقدَّم من قبل الاتحاد الأوروبي دون إخراج اليونان من مأزقها، فيبدو أن أزمة هذه الأخيرة هي مظهرٌ كاشفٌ لأزمة هيكلية حقيقية في الديمقراطية الأوروبية.   

إن الحديث عن اليونان(1) يقتضي بالضرورة الحديث عن أوروبا وعن مستقبل أكبر مشروع للأمم الأوروبية أي الاتحاد الأوروبي. وقد حصلت أوروبا على اسمها من الفكر الأسطوري اليوناني قبل ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة خلَتْ، واليونان بالنسبة للأوروبيين هي مهد الديمقراطية، لكنها أيضًا مهد الأرستقراطية والديكتاتورية وقمع العسكر. إن كامل تاريخ أوروبا، سواء أكان تاريخ أوروبا ما قبل المسيحية أم تاريخها المسيحي، مُلهَم بقوة الروح الإغريقية ومُشرَب بإرثها الثقافي. ولهذا السبب نجد أن العديد من المحللين اليوم يشيرون إلى واقع اليونان الكئيب، الذي هو في نهاية الأمر يعبِّر على موقف عبودية المدين اليائس، ويصفون أزمة اليونان بأنها جزء من أزمة منطقة اليورو الأوروبية، أي باعتبارها أزمة مشروع الاتحاد الأوروبي السياسية.  

مدخل تاريخي

تقع جمهورية اليونان على أقصى الجزء الجنوبي الممتد على شواطئ شبه جزيرة البلقان، وتبلغ مساحتها 131.957 كيلومترًا مربعًا. لها حدود مع كلٍّ من ألبانيا ومقدونيا وبلغاريا إلى جهة الشمال، في حين تحدها تركيا من الشرق. تغمر مياه بحر إيجه أراضي اليونان من جهة الشرق، أمَّا من جهة الغرب فأراضي اليونان تقع وسط مياه البحر الأيوني. هذان البحران، هما في الواقع خليجان متفرعان عن البحر الأبيض المتوسط، وهو ما يجعل من اليونان أرضًا مركزية تحتل مكانًا بين مفترق الطرق المؤدية إلى كل من أوروبا وآسيا والقارة الإفريقية، ويجعل منها موقعًا جيوستراتيجيًّا بالغ الأهمية. تشتمل اليونان على أكثر من ثلاثة آلاف جزيرة منها 200 مأهولة، وهي أكثر بلدان أوروبا تجانسًا قوميًّا-دينيًّا حيث يعتنق 95% من سكانها الديانة المسيحية الأرثوذكسية. أمَّا الأقليات المعترف بها في اليونان فهي: الأتراك والألبانيون والمقدونيون. 

حصلت اليونان على استقلالها عام 1830 عقب خوضها عددًا من الثورات المسلحة والحروب مع الإمبراطورية العثمانية، وقد تواصلت تلك الحروب وما تخلَّلها من هدنات حوالي عشر سنين. تلقَّت اليونان في الحروب التي خاضتها في سبيل التحرر، مساعدات عسكرية من الإمبراطورية الروسية وإنكلترا وفرنسا، وفي مؤتمر لندن المنعقد عام 1832، نصَّبت القوى العظمى حينها -إنجلترا وفرنسا وروسيا- ملكًا على رأس " اليونان المستقلة"، هو الأمير البافاري أوتو فون فيتلزباخ، وكان حينها قاصرًا، وامتد حكمه إلى غاية خلعه عام 1862، ثم نصَّبت القوى العظمى خليفة له، هو الأمير الدانماركي وليام يوراي الأول ليحكم اليونان لمدة خمسين عامًا، قبل أن يُغتال في منطقة صولون عام 1913. خلَفَ وليام الأول على عرش اليونان الملكُ اليوناني قسطنطين الأول، وهو أيضًا صهر قيصر ألمانيا فريدريك الثالث، كما كانت سياسته متأثِّرة بالكامل بالمدرسة الألمانية، وكان قسطنطين الأول حريصًا على إبقاء اليونان، بأي ثمن، محايدة خلال الحرب العالمية الأولى، وهي سياسة لم ترُقْ لقوات التحالف، بقيادة إنكلترا، فعملت على تقسيم هرم النظام اليوناني ما أدَّى إلى تشكيل حكومتين: إحداهما موالية لألمانيا في أثينا، والثانية موالية لبريطانيا في صولون. وفي نهاية المطاف أُجبر قسطنطين على التنازل عن عرشه لابنه ألكسندر الأول الذي ألحق اليونان بقوات التحالف.

ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، كافأت قوات التحالف اليونان على مشاركتها بإعطائها جزءًا من الأراضي الواقعة في آسيا الصغرى قرب مدينة أزمير؛ الأمر الذي أدى إلى نشوب الحرب اليونانية-التركية من 1919 إلى 1922. وساندت إنكلترا وفرنسا اليونان بقوة في حربها تلك ضد تركيا، لكن الأتراك بقيادة كمال باشا أتاتورك تمكَّنوا من دحر الجيش اليوناني عام 1922 إلى خارج منطقة الأناضول بأكملها، فما كان من الجيش اليوناني المنهزم إلا أن نظَّم انقلابًا عسكريًّا أطاح بالملكية، ثم تلا ذلك، في العام 1935، انقلاب آخر أنهى الحكم الجمهوري وأعاد نظام الملكية تحت حكم الملك يوراي الثاني. وفي عام 1941 احتلت القوات الفاشية الألمانية اليونان، وهرب الملك إلى مصر حيث توفي عام 1947. وخلال فترة الحرب العالمية الثانية اندلعت في اليونان حرب أهلية بين الشيوعيين وأنصار الملكية امتدت إلى عام 1947(2).

مثَّل عدم استقرار اليونان السياسي، وخضوعها إلى حركة شيوعية قوية خلال فترة الحرب الباردة التي قسمت العالم، تهديدًا دائمًا لمصالح الغرب السياسية والعسكرية في جنوب القارة الأوروبية، فتم ضمُّ اليونان، وفقًا لإجراءات خاصة وتحت إصرار أميركي كبير، إلى حلف الناتو، وهكذا حُصِّنت دولة اليونان ضد العدوان الخارجي، لكن ذلك لم يكف لتحقيق الأمن الداخلي.

في العام 1967، حدث انقلاب عسكري نُفي على إثره الملك، وتولت الطغمة العسكرية، التي عُرفت باسم "ديكتاتورية العقيد" حُكم البلاد إلى حدود العام 1974، لتُنظم حينها استفتاءً عامًّا عبَّر خلاله الشعب عن تخليه نهائيًّا عن نظام الملكية واعتماد نظام برلماني جمهوري. ومنذ ذلك التاريخ دشنت اليونان حقبة من الأمن الداخلي  والنمو الاقتصادي المستقرَّيْن نسبيًّا، وأصبحت منذ العام 1981 عضوًا في الجمعية الأوروبية، ثم عضوًا في الاتحاد الأوروبي ومنطقة عملة اليورو، وهي المنطقة المالية التي تضم 19 دولة، من بين 28 دولة عضوًا في الاتحاد الأوروبي، اعتمدت اليورو عملة جماعية مشتركة. وكانت نتيجة انضمام اليونان إلى الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو أن ارتفعت وتيرة أدائها الاقتصادي وتحسن مستوى عيش مواطنيها ليقترب من نظيره في دول أوروبا الغربية. لكن العام 2009، حمل إلى اليونان أزمة مالية خانقة، لا تختلف كثيرًا في فجائيتها عن الانقلابات العسكرية، أعقبها انخفاض حاد في النمو الاقتصادي صاحبته إجراءات تقشفية غاية في القسوة، تبعها إفقار سريع لليونانيين.

أزمة الديون اليونانية وتداعياتها

كان أصحاب الاستثمارات الكبرى، وإلى حدود انضمام اليونان إلى منطقة عملة اليورو عام 2001، ينظرون إلى اليونان على أنها بلد ذو اقتصاد متوسط النمو تسيِّره حكومات غير مقتدرة، وبالتالي، فقد كان الاستثمار في البلد يحمل مخاطر دائمة. بدخول اليونان منطقة عملة اليورو حصل اقتصادها على ضمان البنك المركزي الأوروبي، فعادت ثقة المستثمرين في أدائه.

إلا أنه لاحقًا، وبعد أن بلغت ديون اليونان لدى البنوك الأجنبية حدًّا هائلًا، اكتشف المحلِّلون الماليون أن الحكومة اليونانية كذبت بشأن التقارير المالية التي أخفت قيمة الدَّيْن اليوناني الحقيقي عند انضمامها إلى منطقة عملة اليورو في العام 2001، "وتم الكشف عن أن بنك التمويل الأميركي، غولدمان ساكس، كان شريكًا للحكومة اليونانية في صناعة تقارير كاذبة تقول: إن اليونان قد استوفت الشروط التي تفرضها معاهدة ماستريخت قبل الانضمام إلى منطقة عملة اليورو. وتفرض تلك الشروط، وفقًا للمعاهدة، عدم إمكانية التحاق الدول المرشحة لعضوية منطقة عملة اليورو إذا تجاوز سقف ديونها نسبة 3% من ناتجها المحلي الإجمالي وتجاوز دَيْنها العام 60% من ناتجها المحلي الإجمالي. لم يكشف رئيس الوزراء اليوناني السابق، جورج باباندريو، إلا في العام 2009 عن أن نسبة العجز السنوي في ميزانية اليونان عام 2000 لم تكن 3% بل بلغت 12,7%(3)، وإلى جانب ذلك، يجب إضافة مبلغ 1,6 بليون يورو تم صرفها بسندات دَيْن على صفقة شراء أسلحة ومعدات عسكرية، ودَيْن آخر تم اقتراضه عام 2001 من بنك غولدمان ساكس بقيمة 2,8 بليون يورو، والذي ارتفعت قيمته الفعلية عام 2005، بعد عملية حسابية معقدة وغامضة، إلى 5,1 بليون يورو؛ ما رفع إجمالي الدين العام اليوناني إلى ما يفوق نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي. إلا أنه، وبالرغم من كل ذلك، فإن المستثمرين شعروا بالأمان وضخوا، عبر بنوك أجنبية، أموالًا ضخمة في السوق اليونانية، لأن ضمانتهم في ذلك كان البنك المركزي الأوروبي.

من ناحية ثانية، فإن الحكومة اليونانية، وفي خطوة غير متوقعة وبطريقة "مبتكرة"، رفعت من قيمة الإنفاق العام؛ فعلى سبيل المثال، تم صرف مبالغ إضافية عبر توظيف أعداد كبيرة من منتسبي الأحزاب في مؤسسات الدولة الإدارية، وصرف بدل راتب كمكافأة للموظفين في القطاع العام، بالإضافة إلى إقرار نظام غريب لمنح حوافز مالية متعددة للموظفين المواظبين على الحضور إلى أماكن عملهم أو حسن إنجازهم لمهامهم وغيرها من الحوافز.

بالتوازي مع إغراق الاقتصاد اليوناني بأموال طائلة من طرف مؤسسات ائتمان أجنبية، فقد تم تسجيل انخفاض متواصل للموارد الداخلية العامة المتأتِّية من الضرائب والجمارك. كما كان للحكومة اليونانية علاقات محسوبية مع الأوليغارشية المحلية وأصحاب رؤوس الأموال ووسائل الإعلام، وكل هؤلاء أُعفوا، مقابل دعمهم الانتخابي للحكومة، من الضرائب المستحقة عليهم للدولة. وهكذا على أرض الواقع، كان الفساد مظهرًا عامًّا ومُمنهجًا داخل المجتمع اليوناني، أطرافه هي الأحزاب الحاكمة وزعماء الأوليغارشية المهيمنة.

انفجرت فُقاعة الديون اليونانية مع نهاية العام 2009، وأعلنت حكومة أثينا عدم قدرتها على الإيفاء بتعهداتها بشأن سداد الديون الخارجية وطلبت مساعدات مالية من "الترويكا الأوروبية" (البنك المركزي الأوروبي، والمفوضية الأوروبية-حكومة الاتحاد الأوروبي) وصندوق النقد الدولي حتى تقدر على سداد خدمة الديون المقترضة. ومنذ العام 2010 إلى الآن، ضُخَّ ما مجموعه 240 بليون يورو، ولكن دون تحقيق نتيجة تُذكر. وفي عام 2015، وجدت اليونان نفسها أمام حالة إفلاس، فطلبت من الترويكا الأوروبية دعمًا ماليًّا إضافيًّا لمواجهة سداد ديونها وبقائها ضمن منطقة عملة اليورو.

في تحليله لصرف خدمة الديون، كتب الاقتصادي اليوناني، يانيس موزاكيس، من جامعة أثينا: "من مبلغ الـ240 بليون يورو الذي اقترضته اليونان، دُفِع مبلغ 83 بليون يورو لسداد ديون في ذمة الدولة اليونانية لدائنين أغلبهم من ألمانيا وفرنسا، ودُفع مبلغ 41 بليون يورو لتسديد تراكم الفوائد لصالح حكومات وبنوك أوروبية دائنة، بالإضافة إلى مبلغ 48 بليون يورو تم تخصيصها لإنقاذ البنوك اليونانية الخاصة، والتي تعود مِلكية معظمها إلى أفراد الأوليغارشية اليونانية الذين لا يدفعون الضرائب إلى الدولة. وتم صرف مبلغ 35 بليون يورو لخدمة الديون المقترَضة من الترويكا الأوروبية عام 2012، وبهذا يبلغ مجموع ما صُرف على خدمة الديون 207 بلايين يورو من مبلغ  240 بليون يورو، وهو القرض الذي حصلت عليه اليونان إلى حدِّ الآن... وفي نهاية المطاف فإن المبلغ المتبقي، وهو 27 بليون يورو، هو الذي انتهى إلى خزينة الدولة أو استُثمر في البنية التحتية(4).

غيَّرت الأزمة المالية المستمرة منذ سنوات طويلة المشهد السياسي اليوناني بشكل كبير؛ حيث فقد حزبا باسوك والديمقراطية الجديدة ثقة أغلب المواطنين، وظهر بالمقابل حزب يساري راديكالي جديد اسمه سيريزا، حصل على ثقة الشعب على أساس وعود أطلقها بإلغاء الإجراءات التقشفية الصارمة. وقام زعيم الحزب ورئيس الوزراء الحالي تسيبراس، بكل ما أمكنه من مناورات على الساحة السياسية الأوروبية لإنجاح رؤية حزبه؛ ففي خطاب شعبوي اتهم ألمانيا بمسؤوليتها الرئيسية عن إدخال اليونان في "العبودية" المتأتية من الديون، وطالب بأن تدفع إلى اليونان تعويضًا عن الخسائر التي تكبَّدتها أثناء فترة الاحتلال خلال الحرب العالمية الثانية، وبالتالي تمكينها من إرجاع الدَّيْن اليوناني الحالي.

وفي أثناء ذلك شنَّت وسائل الإعلام اليونانية، ذات التوجه اليساري، حملة تدعو الحكومة اليونانية الحالية إلى الامتناع عن تسديد الديون التي اقترضتها الحكومات اليونانية السابقة الفاسدة، وساقت وسائل الإعلام تلك مثال امتناع الاتحاد السوفيتي عن تسديد ديون الإمبراطورية الروسية، أو أيضًا مثال رفض الجمهورية الإسلامية الإيرانية إرجاع الديون التي اقترضها نظام الشاه، رضا بهلوي. أمَّا داخل الدوائر السياسية الأوروبية الراديكالية، بشقيها اليساري واليميني، فقد شُنَّت حملة أخرى قوية طالبت بإسقاط وشطب جزء كبير من الدَّيْن اليوناني، ومرة أخرى سِيق مثال ألمانيا، التي شطب دائنوها حينها نصف ديونها من أجل إعطائها فرصة إعادة بناء اقتصادها وتوطيد علاقاتها مع المجتمع الأوروبي والدولي، بعد مغامرتها الفاشية، وهو ما جعلها تبني اقتصادًا أصبح محرك الاقتصاد الأوروبي.

لكن ذلك لم يُلِنْ من موقف الترويكا الأوروبية، الذي أصرَّ على أن تفي اليونان بكل تعهداتها السابقة. ومن أجل تعزيز دور حزبه المتزعم للتوجه الجديد لدولة اليونان إزاء الاتحاد الأوروبي وكذلك إزاء دائنيها، طرح تسيبراس في الخامس من يوليو/تموز 2015 على الشعب اليوناني الاستفتاء حول سياسته الداعية إلى رفض إجراءات التقشف التي فرضتها الترويكا الأوروبية، وقد صوَّت اليونانيون لدعم تلك السياسة بنسبة 61,31%. لكنَّ ذلك لم يُغيِّر من موقف الترويكا الأوروبية هذه المرة أيضًا؛ فاليونان يسري عليها ما يسري من قوانين على باقي أعضاء الاتحاد الأوروبي التي استدانت أموالًا من الترويكا الأوروبية، مثل: إيرلندا والبرتغال وقبرص، وهذه البلدان تُسدِّد ديونها بشكل منتظم. ومع ذلك فقد قدمت الترويكا الأوروبية عرضًا سخيًّا إلى اليونان لمناقشة أزمة ديونها، لكن وفقًا للشروط التي يفرضها الاتحاد الأوروبي، حيث تم تقديم حزمة ثالثة من المساعدات إلى الاقتصاد اليوناني، صادق عليها برلمان أثينا في 16 يوليو/تموز 2015، وفيما يلي عرض مختصر لأهم ما تضمنته تلك الحزمة: 

  • قبلت اليونان حزمة المساعدات الثالثة المقدَّمة من الترويكا الأوروبية والمخصصة للسنوات الثلاث القادمة، وحصلت وفقًا لذلك على 86 بليون يورو في شكل قروض جديدة لخدمة الديون غير المستوفاة ودعم اقتصادها.
  • التزمت اليونان بمواصلة تنفيذ خطة التقشف المتفق عليها وإدخال إصلاحات في المجالات التالية: رفع قيمة الواردات الضريبية، وتخفيض مساهمة الدولة في صندوق ضمان التقاعد وتخفيض قيمة التقاعد للمواطنين، وتقليص حجم مؤسسات الدولة الإدارية، وتسريح أعداد من الموظفين، ومواصلة خصخصة رأس مال الدولة في المؤسسات العمومية. 
  • تلتزم اليونان بتأسيس صندوق خاص بقيمة 50 بليون يورو ليكون ضمانة لاسترداد القروض التي حصلت عليها في إطار حزمة المساعدات الثالثة.

وتحمَّل زعيم حزب سيريزا، رئيس الوزراء تسيبراس، العبء الأكبر من نتائج قبول اشتراطات الترويكا الأوروبية، وانقسم الجناح اليساري الراديكالي للحزب إلى قسمين، رفض القسم الأكثر راديكالية الانصياع لاتباع رؤية تسيبراس الذي قدَّم استقالته ودعا إلى تنظيم انتخابات برلمانية جديدة في 20 سبتمبر/أيلول 2015.

أظهرت نتائج آخر انتخابات برلمانية أن الساحة السياسية اليونانية منشطرة بين توجهين سياسيين: أحدهما يساري راديكالي والثاني يميني راديكالي. حصل حزب سيريزا على 34,46% من الأصوات فيما حصد حزب الديمقراطية الجديدة الجديد على 28,27% من أصوات الناخبين، وحصل حزب الفجر الجديد القومي على 6,9% والحزب الاشتراكي "باسوك" على 6,4%، والحزب الشيوعي على 5,5%، في حين حصل حليف سيريزا اليميني في الحكومة السابقة "اليونانيون المستقلون"، على 3,7%، وقد اختار، رئيس الوزراء الجديد- القديم، ألكسيس تسيبراس، التحالف مع اليونانيين المستقلين لتشكيل حكومة ائتلافية، وهو تحالف يمثِّل أغلبية نسبية داخل البرلمان اليوناني بعدد مقاعد يبلغ 155 من أصل 300 مقعد. وهكذا سيطر، من جديد على الحياة السياسية العبثية في اليونان، التوجهان: اليساري واليميني السياسيان الراديكاليان، وبذلك ضاع الخيار الوسطي وسط الدخان الكثيف للأزمة العامة اليونانية، وهو ما لا يخدم لا مصالح اليونان ولا مصالح الاتحاد الأوروبي ولا مصالح جيران اليونان.

علاقات اليونان مع دول الجوار

مثل معظم باقي دول البلقان، لدى اليونان عدد من الخلافات الحدودية العالقة وأثقال موروثات تاريخية تخيِّم على علاقاتها مع جيرانها وأكثرها تعقيدًا تلك التي لها مع تركيا. بدأ الاجتياح العسكري التركي لشمال قبرص عام 1974 بدافع التحسب من قيام وحدة بين قبرص واليونان، ثم تواصل العداء بين الدولتين بسبب ادِّعاء كلٍّ من تركيا واليونان وقبرص ملكية حقول النفط والغاز المكتشفة مؤخرًا بالقرب من المياه الشاطئية الواقعة على الحدود بين هذه البلدان الثلاثة. وتُقدَّر سعة حقول الغاز الطبيعي المُكتشفة في البحر الأبيض المتوسط، والممتدة من شواطئ غزة إلى حدود الشواطئ الجنوبية لتركيا، بما يوازي سعة حقول الغاز الطبيعي العراقية. يُضاف إلى ذلك الخلاف، خلاف آخر قائم منذ عشرات السنين يتعلق بترسيم الحدود البحرية في مياه بحر إيجه وادعاءات الطرفين حقهما في ملكية عدد من الجزر غير المأهولة في المناطق المحيطة(5).

العلاقات اليونانية –الألبانية بدورها مُثقلة بأحداث الحرب العالمية الثانية، حيث تؤكد ألبانيا أن الجيش اليوناني "قام بتطهير عِرقي" للسكان الألبانيين بالقرب من منطقة "تشيميريا". من ناحيتها، ترى اليونان أن التفسير الألباني لتلك الأحداث غير صحيح، وتعرقل أثينا عملية انضمام ألبانيا إلى الاتحاد الأوروبي بسبب عدم رضاها عن طريقة ألبانيا في كتابة التاريخ وتعليمه لأجيالها في المناهج المدرسية.

أمَّا الخلاف الأكبر بين البلدين فهو حول احترام الترسيم الحدودي داخل مياه البحر الأيوني؛ فاليونان، وفقًا لتأكيدات ألبانية، تحاول ضم منطقتين حيويتين تقعان أصلًا داخل المياه الإقليمية الألبانية، حيث اكتُشفت مدخرات نفطية هائلة تُقدَّر بأربعة مليارات برميل، إضافة إلى 1.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي(6).

وكانت اليونان الدولة الأوروبية الوحيدة التي عطَّلت عملية الاعتراف الدولي بمقدونيا بعد إعلان هذه الأخيرة استقلالها، وهي واحدة من الجمهوريات الست التي كان يتألَّف منها الاتحاد اليوغسلافي، وذلك اعتراضًا من اليونان على تسمية "مقدونيا" لاسيما وأنهم يطلقون على المقدونيين وبلدهم وصف "سلافيو سكوبيا" ويتهمونهم بأنهم زوَّروا تاريخ اليونان، وأن لهم مطامع بأرض اليونانيين لأن "مقدونيا" الحقيقية كانت بلد البطل الأسطوري والفاتح القديم الإسكندر المقدوني الذي عاش في القرن الرابع قبل ميلاد المسيح. ويعترض اليونانيون حتى على العلم المقدوني وذلك بذريعة استخدام رمزية الإسكندر المقدوني فيه. ولا تزال اليونان، العضو في حلف الناتو، تستعمل حق الفيتو ضد انضمام مقدونيا إلى الحلف حتى تغيِّر اسمها، وأدانت محكمة العدل الدولية في عام 2008 تصرفات اليونان تلك، لكن ذلك لم يجعل اليونان تتراجع عن موقفها المتشدد ومطالبتها المستميتة بتغيير مقدونيا اسمها واختيارها اسمًا آخر لا تكون له أية علاقة مع تاريخ اليونان. وللأسباب ذاتها تعطَّلت عملية انضمام مقدونيا إلى الاتحاد الأوروبي، لكنَّ المطلعين على دواخل السياسة اليونانية الحالية يرون أن الخلاف اليوناني-المقدوني أعمق من قضية اسم مقدونيا(7).

ومن الجدير بالذكر في هذا السياق الإشارة إلى أن علاقات اليونان مع جارتها بلغاريا، هي العلاقة الوحيدة الطبيعية مع دول الجوار ولا يثقلها إرث تاريخي عميق.

الدور إقليميًّا ودوليًّا

إن اليونان، بثقافتها وتاريخها وسياستها وأمنها واقتصادها، جزء لا يتجزأ من بنية العالم الغربي الأورو-أطلسية. فباعتبارها عضوًا في كلٍّ من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، فإن ما تحمله من أمراض اجتماعية مستعصية ينتقل بحكم العدوى إلى محيطها المجاور، وفي ذلك خطر هيِّن، لكن ما ينتقل منها إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي من أمراض اتسم بالخطورة الشديدة خاصة ما يتعلق بالأخيرة منها. إن الإفلاس الفعلي لدولة اليونان وما يمكن أن يليه من خروجها من منطقة اليورو ومن ثم من الاتحاد الأوروبي سيقود إلى التشكيك في أكبر مشروع سياسي في تاريخ أوروبا والاتحاد الأوروبي؛ وما خسارة 370 بليون يورو -وهي قيمة الديون اليونانية إلى حدِّ الآن، أي ما يعادل 2% من ناتج الاتحاد الأوروبي المحلي- سوى خسارة بسيطة مقارنة بما يمكن أن ينتج عن خروج اليونان من الاتحاد الأوروبي من تداعيات.

إن طريقة سقوط اليونان ستشجِّع بقوة حركات اليسار واليمين والقوميين الأوروبيين المشكِّكين في مشروع الاتحاد الأوروبي. وهناك تخوف مشروع ومبرَّر من أن تؤول البنية الهيكلية لمشروع التكامل الأورو-أطلسي غير المكتمل إلى الانهيار الكامل، ولن يكون بالإمكان، ولو نظريًّا، العمل على توسعة الاتحاد الأوروبي. أمَّا محاولة إنقاذ الاقتصاد اليوناني المنهك عن طريق منشآت مالية خارجة عن سيطرة الاتحاد الأوروبي، والمؤسسات الغربية عمومًا، فسيفتح الباب أمام التأثير الروسي-الصيني السياسي والاقتصادي المتنامي داخل منطقة البلقان "خاصرة أوروبا الرخوة". كما أن هناك مخاوف مبررة من أن يواجه مشروع التكامل الأورو-أطلنطي غير المكتمل، إلى جانب الحالة الأوكرانية، حالة أخرى تضع أوروبا والولايات المتحدة الأميركية أمام تحدٍّ أخطر يتمثل في الصراع والتنافس بين مفهومين مختلفين للقوة في العالم على أرض أوروبا: مشروع الحلف الأورو-أطلنطي ومشروع الحلف الأورو-آسيوي. وقد أجمع كل مهندسي النظام العالمي الجديد من الأوروبيين والأميركيين على ضرورة تجنُّب الوصول إلى وقوع مثل تلك المواجهة على أرض أوروبا بأي ثمن، فالتحدي الذي تطرحه اليوم قضية أوكرانيا بالكاد تستطيع تحمله الصيغة التي وضعها الحلف الأورو-أطلنطي للنظام العالمي الجديد.

أمَّا على المستوى الإقليمي، فإن التشدد الذي يشهده المشهد السياسي اليوناني الداخلي قد يحرِّك مياه الخلافات والصراعات المجمدة مع جيران اليونان. وأظهر انهيار يوغسلافيا أن مثل تلك الصراعات إذا نشبت فإن السيطرة عليها لن تكون ممكنة، وأنها ستجلب إلى الساحة الداخلية، إلى جانب اللاعبين الصغار، لاعبين كبارًا آخرين، وذلك على غرار ما كان من أمر حروب البلقان والحربين العالميتين الأولى والثانية وكذلك الحرب التي دارت رحاها في أعقاب انهيار يوغسلافيا.

وبكل بساطة، فإن كلَّ حرب إقليمية نشبت في البلقان دائمًا ما قادت إلى تضارب مصالح القوى العظمى التي يكون من الصعب جدًّا التوفيق بينها، وتلك الصراعات، في الغالب، تنتهي إلى توافقات هشَّة غير قادرة على الصمود من دون ضمانات تقدمها القوى العظمى، وأكثر الأمثلة تعبيرًا عن ذلك هو اتفاق دايتون للسلام.

لحل أزمة الديون اليونانية وتحقيق استقرار دائم في البلد، فإن علاقات التفاهم بين الاتحاد الأوروبي وأميركا حول أثينا تبدو أكثر أهمية من علاقات الحكومة اليونانية مع الاتحاد الأوروبي وأميركا، وهذا ما أثبتته جولة المفاوضات الماراثونية التي دارت بين حكومة أثينا والاتحاد الأوروبي في بروكسل في شهر يوليو/تموز من هذا العام. كما أنه من الصعب تصور تحمُّل وصبر ألمانيا والترويكا الأوروبية على كل ما صدر عن رئيس الوزراء اليوناني تسيبراس من شتائم واتهامات خطيرة، وذلك في الوقت الذي لم تتقبل فيه واشنطن بالمرة تصرفاته. وفي هذا السياق، فإن الرسالة الواضحة التي أُرسلت إلى اليونان، هي أن اليونان دولة مهمة جدًّا، وستبقى حجرًا لا غنى عنه في بناء هيكل الحلف الأورو-أطلنطي في زمن النظام العالمي الجديد.

خاتمة

وفقًا للحكمة القديمة "إن الأمر الذي لا يقتلك، يقوِّيك"، فإن الاتحاد الأوروبي يمكنه أن يخرج من تجربة الأزمة اليونانية أكثر صلابة وتماسكًا، لاسيما أن الحالة اليونانية أظهرت كل النقائص ونقاط الضعف داخل الهياكل القانونية والمؤسسية للاتحاد الأوروبي. إن الوحدة الاقتصادية في "منطقة اليورو" الحالية وبكل بساطة غير قادرة على التماسك إذا ما بقيت محافظة على الشكل التقليدي للسيادة القومية للدول الأعضاء؛ فالبنك المركزي الأوروبي غير قادر على ضمان تماسك واستقرار اليورو باعتباره عملة مشتركة، ولا ضمان استقرار الاقتصادات الوطنية للدول الأعضاء في غياب إجراءات وأدوات قوية قادرة على المشاركة في صياغة الاقتصادات الوطنية والسياسات المالية وغيرها من أوجه الصرف العام داخل الدول الأعضاء. إن القدرة على إدخال مثل تلك الإجراءات والأدوات في البناء القانوني للاتحاد الأوروبي سيعني، بكل تأكيد، تقوية دور الاتحاد باعتباره دولة على حساب سيادة الدول القومية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وبعبارة أخرى، فإن مثل هذه الخطوة ستنقل الاتحاد إلى المرحلة الثانية من المشروع الأوروبي أي بناء اتحاد الدول الأوروبية على غرار الولايات المتحدة الأميركية.

لقد حان الوقت لأن تُفصح الدول الأوروبية عمَّا إذا كانت مستعدة لمثل هذا المشروع، فإذا كانت كذلك فإن هذا سيخلق وضعًا جديدًا بالكامل على مسرح القوى العالمية، أمَّا إذا كانت غير مستعدة فإن هذا يعني انهيار هيكل الاتحاد الأوروبي كما هو عليه الآن، وسيفتح الباب أمام تنافس محموم وسباق بين الدول الأوروبية، وهو ما يعني في سياق التاريخ الأوروبي، تعميق الأزمات ونشوب الحروب.
______________________________
نصرت تشانتشار  - ديبلوماسي وأكاديمي عمل أستاذا في الحضارة والتاريخ الإسلامي في الجامعات البوسنية، متخصص بشؤون البلقان.

ملاحظة: النص بالأصل أُعِد لمركز الجزيرة للدراسات باللغة البوسنية، وترجمه إلى العربية الباحث المتخصص بشؤون البلقان كريم الماجري.

المصادر
1) بعض الأرقام المتعلقة باليونان: عدد السكان: 10.775.643، معدَّل أعمار اليونانيين: 43.8 عامًا، معدل النمو السكاني: 0.01- %، الديانة: 98% (رسميًّا) مسيحيون أرثوذكس. الدخل القومي: 284.3 بليون دولار، معدل نمو الدخل القومي: 0.8% للعام 2014، 3.9- % في 2013، و606- % في 2012.الدخل القومي للفرد: 25.900 دولار، الدَّيْن الخارجي: 524.4 بليون دولار (تقديرات ديسمبر/كانون الأول 2014). الدَّيْن العام: 174.5% من الدَّخْل القومي، حجم الصادرات: 35.8 بليون دولار، حجم الواردات: 62.8 بليون دولار، معدل البطالة: 26.5%، وفي صفوف الشباب تتجاوز 50%. للمزيد انظر:
CIA The World Factbook
تاريخ الدخول 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2015
2) Svoronos, Nikos., History of Modern Greece, Greenwood Press, Westport Publishing, 2009
3) Engdhal, William., Greek Guilt and Syriza Perfidy, New Eastern Outlook, 16th July 2015, http://journal-neo.org/2015/07/16/greek-guilt-and-syriza-perfidy/
4) Ibid
5) Ortoland, Didier., The Greco-Turkish dispute over the Aegean Sea, La revue geopolitique, 10th April 2009, http://www.diploweb.com/The-Greco-Turkish-dispute-over-the.html
6) Blerim, Reka., Albanian and Grece tensions over Ionian Sea dispute, World Review, http://www.worldreview.info/content/albania-and-greece-tensions-over-ionian-sea-dispute
7) Kornfein, Iva., Nomen est Omen: Vje?ni spor Gr?ke i Makedonije, 9th September 2013.

ABOUT THE AUTHOR