المشهد الليبي: استمرار تعقيدات الحل السياسي والعسكري

الاتفاق السياسي في حدِّه الأدنى يوجد معادلة تحرم المتصارعين حالة الانفراد بالنفوذ السياسي والعسكري، بتوسيع المنطقة الرمادية التي تضمن مكاسب للطرفين. وفي حين يواجه مشروع حكومة الوفاق تعقيدات لمباشرة الأعمال من طرابلس، فإن الأطراف الإقليمية والدولية لا تملك أغلب الأوراق المؤثِّرة بالمسار الداخلي.
bf21e8d417174493bb9119403bc806a1_18.jpg
الاتفاق السياسي في حدِّه الأدنى يوجد معادلة تُوسِّع المنطقة الرمادية التي تضمن مكاسب للطرفين المتصارعين (أسوشيتد برس)

 

تتداخل في الحالة الليبية عوامل تأزيم داخلية وخارجية، تبدأ من معوقات اعتماد حكومة الوفاق الوطني التي انبثق عنها حوار الصخيرات؛ وهي معوقات تتوزع بين السياسي المحلي، والعسكري، وتعقيدات المشهد الإقليمي.

 

إن توقف مستقبل الأوضاع في ليبيا على إقرار حكومة الوفاق الوطني استقرارًا واضطرابًا أصبح في حكم المسلَّم به، ولكنه ليس وحده الحاكم على المستقبل القريب والمتوسط، فهناك الصراع في المنطقة الشرقية ومآلاته، وهي تعتبر محدِّدًا أساسيًّا من محددات مستقبل ليبيا. وهناك عامل تنظيم الدولة، وما يمثِّله من عامل جالب لعدم الاستقرار، ومستدع للتدخل الدولي.

ودوليًّا، ربما تشهد الفترة القادمة سيناريو فرض عقوبات من قبل الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي على بعض الشخصيات التي توصف أمميًّا بأنها معرقلة للانتقال السياسي.

هنالك حالة من عدم الثبات التي تطبع المشهد السياسي الليبي وسرعة تغيراته وتقلباته، وتعود تعقيدات المشهد الحالي إلى تداخل أبعاده وتقاطع المصالح القبلية والجهوية والأيديولوجية(1) والتدخل الإقليمي والدولي. ولعل شكل المجلس الرئاسي(2) لحكومة الوفاق أوضح مثال يعكس جزءًا مهمًّا من ملامح الأزمة الليبية؛ حيث عكس هذا المجلس الأزمة في بُعدها الجهوي والقبلي والفكري، كما أن التدخل الإقليمي برز في اختيار بعض أشخاصه، بل وفي تشكيلة الحكومة، لاسيما في الخلاف الذي رافق اختيار وزير الدفاع المهدي البرغثي لهذه الحقيبة؛ ذلك أن اختيار البرغثي، المنحدر من إحدى القبائل المشكِّلة لأكبر تحالف قَبَلي(3) في الشرق الليبي، لمنصب وزير الدفاع في حكومة الوفاق، يمثِّل خطوة أولى في طريق إبعاد خليفة حفتر، الذي تثير شخصيته جدلًا داخليًّا وخارجيًّا، من المشهد العسكري والسياسي الليبي؛ فالبرغثي من أهم قادة المحاور القتالية في بنغازي، ويحظى بثقة باقي قادة المحاور الأخرى، وهو أيضًا من الضباط الذين شاركوا في ثورة السابع عشر من فبراير/شباط سنة 2011.

حَلُّ العقدة الإقليمية

مثَّلت حقيبة الدفاع واختيار المهدي البرغثي لتولي وزارتها صيغة حلٍّ لمعضلة داخلية وخارجية؛ فحفتر يثير حفيظة القوى الثورية(4) التي ظلَّت تقاتله على مدى قرابة العامين، وهو مقرب إلى حدِّ التماهي مع أجندة بعض الدول العربية، وإذا كان المهدي البرغثي يشترك معه في قتال بعض تشكيلات الثوار، إلا أنه غير منخرط في اللعبة الإقليمية بشكل واضح، وربما يكون أقرب إلى إمكانية التصالح مع القوى الداخلية، خصوصًا ذات الميول الإسلامية التي لا ترى فيه عدوًّا وجوديًّا، كما ترى ذلك في حفتر.

وإذا أُضيف إلى هذا تحالف البرغثي وقائد حرس المنشآت النفطية، إبراهيم جضران(5)، على المستوى العسكري الممثَّل سياسيًّا داخل المجلس الرئاسي بفتحي المجبري نائب رئيس الحكومة، وهو شخصية مدنية لديها احترام واسع في برقة، ويُكمل شكل معادلة سياسية وعسكرية في الشرق الليبي، فإن هذا يمثِّل تهديدًا حقيقيًّا للمشروع الإقليمي في الشرق الليبي، المتمثِّل في تمكين حفتر عسكريًّا والاستمرار في التحكم في القرار السياسي عبر رئاسة البرلمان، خاصة أن اختصاصات البرلمان سوف تقلُّ بعد اعتماد الحكومة.

في المقابل، نفهم قبول تيار ثورة السابع عشر من فبراير/شباط في غرب ليبيا بهذه التسوية، وإن كان على مضض؛ فهم بين مَنْ سَئِمَ الحرب ولا يرغب في القتال، ومن يفضِّل أن يلعب دورًا سياسيًّا بعيدًا عن الجبهات، ومن يرى أن الحل السياسي يمثِّل آخر فرصة للمحافظة على ما تبقى من إنجازات الثورة، مقابل مواجهة الصعوبات التي تواجه ليبيا على المستوى الأمني والاقتصادي(6) مع تيار سياسي يخشى مصيرًا مجهولًا في حال انهيار اتفاق الصخيرات.

إن القبول بالمهدي البرغثي كوزير للدفاع مقابل ذهاب حقيبة الداخلية للعارف الخوجة، وهو شخصية مدنية محسوبة على تيار الثورة، وقريبة من الإسلاميين، قد مثَّل تسوية مقبولة لهذا الفريق، كما مثَّل مخرجًا من العُقدة الإقليمية، خاصة أن المعادلة الأمنية والعسكرية ما زالت هي المتحكمة في القرارت السياسية والمصيرية لأطراف الأزمة الليبية.

معارضة التناقضات

يمكن تسمية الجبهة المعارضة للاتفاق السياسي بجبهة المفارقات، فمكوناتها تجمع أكبر تناقضات المشهد الليبي، ذلك أن طرفيها اختلفا في كل شيء، واتفقا في رفض مخرجات حوار الصخيرات، رغم أنهم كانوا جزءًا منه حتى آخر مراحله، وربما كانت خلافاتهما الجوهرية، التي يحاولان تغطيتها الآن دون نقاش، أهم العقبات التي واجهت مسار الصخيرات خلال أكثر من عام.

جبهة الحوار الليبي-الليبي التي أعلنت عن نفسها بلقاء(7) رئيس المؤتمر الوطني، نوري بوسهمين، ورئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، في مالطا لم تناقش فيما بينها كلَّ النقاط الخلافية والتي احتاج نقاشها أكثر من سنة من المتحاورين في الصخيرات للوصول لصيغة يقبل بها الطرفان.

اتفق طرفا الجبهة على أهم شيء يجمعهما، وهو إسقاط اتفاق الصخيرات، وأهم مخرجاته المجلس الرئاسي، استشعارًا من الفريقين بقرب خسارة المكانة السياسية التي يتمتع بها كل فريق بين أنصاره بذهاب أغلب الصلاحيات والنفوذ إلى حكومة الوفاق حسب نص الاتفاق السياسي.

استعصاء الحسم

خلال العامين الفارطين وصلت جميع الأطراف الليبية، وربما أغلب القوى الإقليمية المتحالفة معها، إلى نتيجة استعصاء حسم المشهد الليبي عسكريًّا، أو حتى سياسيًّا وانتخابيًّا، وآل مجمل القراءات إلى وجود حالة من استمرار المقاومة السياسية والعسكرية، تمنع سيطرة أي طرف على مقاليد الحكم في ليبيا، أو حتى على الأمور في جزء من الأراضي الليبية.

ولم تستطع قوات الكرامة(8) بكل آلة الحرب التي استهلكتها، والعتاد الذي سخَّرته، والدعم الإقليمي(9) والدولي الذي تلقته استخباراتيًّا، وعسكريًّا ولوجستيًّا وسياسيًّا، أن تحسم المعركة العسكرية في مدينة واحدة هي بنغازي، مع أن القوة المقابلة هي بضع عشرات(10) من الشباب الذين تفصلهم مئات الكيلومترات عن أقرب حلفائهم.

كما استعصى على قوات فجر ليبيا(11) في مركز قوتها بالغرب الليبي إخضاع منطقة ورشفانة عسكريًّا، رغم وقوعها بين العاصمة طرابلس، والزاوية وصبراتة، وهي كلها مراكز ثقل لقوات فجر ليبيا.

قرابة سنتين من القتال، المتواصل في بنغازي، والمتقطع في مناطق أخرى، لم يتمكن أي من الطرفين من بسط سيطرته العسكرية على مواطن تركُّز قوته.

وسنتان من إبرام التحالفات السياسية والاجتماعية ونقضها، لم تمكِّن أيَّ طرف من تحصين جبهته السياسية من التصدعات الداخلية أو التأثير الخارجي؛ فلا البرلمان تماسك خلف معسكر الكرامة، أو انخرط بالكامل في أجندة حفتر السياسية، وهو ما يمكن التدليل عليه بما آلت إليه الأوضاع في البرلمان اليوم(12)، ولا المؤتمر الوطني العام ظلَّ موحَّد الموقف من القضايا الكبرى، وأبرزها: استمرار الصراع المسلح، والاتفاق السياسي ومخرجاته، بل ظلَّت التصدعات والانشقاقات المستمرة السمة الغالبة على كلتا الجبهتين.

استعصاء الحسم العسكري، وعجز الأطراف عن ابتكار حلول سياسية مقنعة، جعل الاتفاق السياسي (ضمانات "الحد الأدنى" لكل فريق) يخلق معادلة سياسية وعسكرية جديدة تُفقد أطراف الاستقطاب السياسي حالة الانفراد بالنفوذ السياسي والعسكري، بتوسيع المنطقة الرمادية التي آوت إليها الكتلة الأكبر من السائمين من الحرب والباحثين عن تسوية تضمن لهم الحدَّ الأدنى من المكاسب، كل حسب تطلعاته.

عقبات في طريق الحكومة

أشرنا آنفًا عند الحديث عن رافضي الاتفاق إلى بعض العقبات السياسية التي تعترض حكومة الوفاق الوطني. والواقع أن كل ما سبق الحديث عنه هو من العقبات التي تعترض الحكومة، وبالإضافة إلى ما تقدم هناك تشكيلة المجلس الرئاسي ذاتها التي ينقصها الانسجام، حتى في الموقف من الاتفاق السياسي المنشئ لمناصب أعضائه، فمن بين أعضاء المجلس الرئاسي مَنْ يعتبر وجوده في المجلس لحفظ مكاسب طرف بعينه، حتى ولو أدَّى ذلك إلى نسف التوافق من أصله. ويَعتبر علي القطراني، وهو أحد نواب رئيس المجلس الرئاسي، أن مكانة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، فوق أي اتفاق سياسي، وهو ما عبَّر عنه في أكثر من مناسبة(13)، وامتنع بسببه عن التوقيع على قرار تشكيل الحكومة، في حين ينص الاتفاق على أن التعيين في المناصب السيادية من صلاحيات المجلس، وهذا مجرد مثال على تناقض منطلقات أعضاء المجلس، ومواقفهم من القضايا المختلفة.

وتواجه الحكومة الآن سؤالًا رئيسيًّا متعلقًا بالشرعية، وتمريرها حكومة الوفاق ببيان موقَّع من 100 عضو من أعضاء مجلس النواب، وليس عبر جلسة يتم فيها التصويت. صحيح أن هؤلاء يمثِّلون أغلبية في المجلس كفيلة بمنح الثقة للحكومة، لكنهم لم يصوِّتوا في جلسة رسمية حتى الساعة؛ ما يجعل بيانهم أقرب إلى التشريع السياسي للحكومة منه إلى قرار قانوني، تترتب عليه مقتضيات منح الثقة.

هذا البيان السياسي جرى تعزيزه على مدى الأسبوعين الماضيين بمباركة من لجنة الحوار السياسي واعتراف دولي وإقليمي تُوِّج بدعوة رئيس الحكومة، فائز السراج، لتمثيل ليبيا في القمة الإسلامية المنعقدة في إندونيسيا(14).

كل هذا لا يمنح الحكومة شرعية مطلقة أو يحصِّنها ضد الطعون الدستورية، وأبعد من ذلك لا يمنحها حصانة سياسية ضد تهمة التبعية للأجنبي، التي تُعتبر اليوم أبرز أيقونات الدعاية المضادة لها.

تواجه الحكومة عوائق على الأرض لا تقل خطورة عن التي تواجهها سياسيًّا وقانونيًّا، فمباشرة أعمالها من طرابلس التي تُعد شرطًا سياديًّا لتحقيق وجودها الفعلي، تواجه معارضة صريحة من بعض التشكيلات المسلَّحة المتمركزة في طرابلس، والتي لا تُخفي موالاتها لرئاسة المؤتمر الوطني وحكومة الإنقاذ برئاسة خليفة الغويل، وإن كان في حكم المتوقع ألا يتأخر بعضها في إظهار موقف داعم لمبدأ التوافق، وبالتالي لن يتأخر كثيرًا في الموافقة على التعاطي مع الحكومة إذا أصبحت واقعًا دستوريًّا وفعليًّا.

تحدَّثْنا في السابق عن حلِّ معضلة إقليمية معقَّدة تتعلق ببناء الحكومة، إلا أن هذا الحل ربما يُبقي وراءه معارضة إقليمية لأصل الاتفاق السياسي وأهم مخرجاته، ولا نريد هنا المجازفة بالجزم بأن مصر، وهي من أهم الفاعلين الإقليميين على الساحة الليبية بحكم الموقع الجغرافي، والتاريخ المشترك، والعلاقات المتشابكة مع النخبة السياسية والعسكرية والأمنية في الساحة الليبية، تعارض أصل الاتفاق السياسي، لكننا نستطيع الجزم بأن الدولة العميقة في مصر لا ترضى بتطبيق الاتفاق بما يُوجد حكومة قوية في طرابلس، وذات سلطة حقيقية على الثروات والأراضي الليبية، لما يُشكِّله ذلك من تهديد لبعض المصالح التي تتحقق في ظل الحكومات الضعيفة والانقسام السياسي.

التدخل الخارجي: مواقف متداخلة

عبَّرت دول جوار ليبيا (مصر والجزائر وتونس) عن موقف شبه موحَّد من التدخل الخارجي في ليبيا، لكن التوحد في الموقف الظاهري الرافض للتدخل، يُخفي حقيقة التباينات في دواعي هذا الرفض وحدوده؛ فمصر ترفض تدخلًا خارجيًّا لا تكون طرفًا رئيسيًّا فيه، وهي متورطة بالفعل في التدخل العسكري في ليبيا على مستويات عدَّة، من أكثرها ظهورًا مشاركة طيرانها في قصف مواقع(15) بليبيا أكثر من مرة. كما أنها عبَّرت عن دعمها رفع الحظر عن توريد السلاح إلى ليبيا، وهو ما يؤشِّر إلى أنها ترى أن دعم حلفائها فيما تسمِّيه حربهم على الإرهاب، يضمن لها دورًا في التدخل، كما أنه يمكن أن يكون بديلًا عن التدخل الصريح.

وتتمسك الجزائر وتونس بموقف رافض للتدخل الأجنبي لاعتبارات متقاربة في جانب منها، فهما تتفقان في الوعي بخطر استهداف مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا، لما قد يجرُّه ذلك من فرار لعناصر التنظيم، والبحث عن ملاجئ في حدودهما الشاسعة مع ليبيا من جهة، ولما قد يشكِّله التدخل من جذب للمقاتلين من دول مختلفة إلى ليبيا، وهو ما يعني مزيدًا من الضغط الأمني عليهما.

وتنفرد تونس بالتخوف من زيادة أعداد النازحين الليبيين إليها، والذي تختلف التقديرات بشأن عددهم الحالي، كما تتخوف من اضمحلال أي فرص لبقاء عمالتها في الأراضي الليبية، إذا اندلعت حرب بسبب تدخل بري.

إن هذه الأطراف الإقليمية على أهميتها لا تملك أغلب أوراق اللعبة، وتعد إلى حدٍّ ما دائرة في فَلَك القوى الكبرى ومشاريع مواجهة ما يُعرف بالإرهاب، والهجرة غير النظامية.

إن الحديث عن مواقف الأطراف الإقليمية يُعد مجرد مدخل جزئي للحديث عن تأثير التدخل الخارجي في المشهد الليبي، ويمكن وصف هذا التدخل عمومًا بأن تأثيره السلبي أقوى بكثير من تأثيره الإيجابي، في أغلب الأحيان، وهو ما يجعل مواقف الأطراف التي تستثمر في الفوضى في الشأن الليبي أقوى وأسرع تأثيرًا؛ ذلك أن الاستثمار في الفوضى يجد أرضية ليبية خصبة من النزاعات التي تتناسل بفعل عوامل الاقتتال الداخلي والصراعات الاجتماعية والسياسية التي تنشأ عنه، وتغذِّيه في نفس الوقت.

أمَّا الاستثمار في الجانب الإيجابي، أي دعم التوافقات، فإنه يواجه صعوبات الأرضية غير المهيأة، والمقاومة لتغيير الواقع، نظرًا لنمو لوبيَّات مصالح الحروب.

من هنا، كان التدخل الإقليمي أكثر فاعلية وتأثيرًا على الأرض، فبرز الدور المصري-الإماراتي في دعم قوات الكرامة عسكريًّا ولوجستيًّا؛ مما أسهم في إطالة أمد الحرب في مدن ليبية أبرزها بنغازي.

أمَّا الدور الدولي، ورغم توحد القوى الكبرى في دعم التوافق السياسي، ووجود ظهير إقليمي نشط، تقوده تركيا وقطر، وتقف إلى جانبه السعودية والمغرب، وتدعمه الجزائر، إلا أن هذا الدور ظل محدود الأثر حتى الآن، وإن كان من الواضح أن الكفة ستميل لصالحه في النهاية.

المسار إلى أين؟

تتجه الأوضاع في بنغازي إلي سيطرة قوات الكرامة على كامل بنغازي؛ مما يعني سيطرة شبه كاملة على أهم المراكز في الشرق الليبي، ويعني أيضًا انتهاء "شرعية الحرب" التي يتمتع بها حفتر، لصالح "شرعية السلْم" التي ربما يكون وزير الدفاع بحكومة الوفاق، المهدي البرغثي، أكثر تأهيلًا لتشكيل قطبها الآن. وهو ما يعني أن تحالفات ما بعد الانتصار قد تفكِّك التحالفات القديمة وتشكِّل تحالفات جديدة بقيادة العقيد المهدي البرغثي؛ الأمر الذي قد يسهم في إبعاد حفتر من المشهد في بنغازي؛ ما سيدفع الرجل إلى البحث عن حرب أخرى، قد تكون في درنة أو سرت في محاولة منه للبحث عن مبرر وجود جديد يستمر عبره كرقم مع أرقام أخرى في المعادلة الميدانية ولكن ليس رقمًا وحيدًا.

وينبني هذا السيناريو على اعتبار أن حكومة الوفاق أصبحت واقعًا، وهو ما تشير إليه الوقائع السياسية، داخليًّا وخارجيًّا، بعد توقيع البرلمانيين ولجنة الحوار، وتزايد وتيرة الاعتراف الدولي(16).

وسيكتمل هذا السيناريو بدخول حكومة الوفاق إلى طرابلس؛ ما يعني أنها ستسيطر بشكل نهائي على كامل التراب الليبي، وتبقى الفاعل الرئيس في المعادلة كلها، وهو ما يعني إقبال البلاد على مرحلة تقدم، تنغصها في البداية أشهُر من الحرب على تنظيم الدولة، ومضاعفات الأزمة الاقتصادية، على معيشة السكان، لكن سنة واحدة كفيلة بإنجاز تقدم في أكثر الملفات تعقيدًا.

أمَّا إذا استطاعت القوى المعارضة للاتفاق السياسي استدامة عرقلته في نقطتي عبور الحكومة نحو طرابلس، وإنهاء "شرعية الحرب" التي يعتمد عليها حفتر، بإدامة دعم المقاتلين المناهضين لحفتر في بنغازي، وتفكيك بعض الترتيبات التي نجحت فيها الدوائر العسكرية المقربة من الحكومة، فإن ذلك يعني تحول حكومة الوفاق ومشروع الاتفاق السياسي إلى عقدة جديدة، تحرم المواطن من بعض الخدمات، بفعل تأثيرها على مؤسسات الدولة، ذات الارتباطات الخارجية، وبالأخص مصرف ليبيا المركزي، والمؤسسة الوطنية للنفط، وهو ما يعني تحول اقتصاد الحرب ولواحقه إلى مصدر وحيد للرزق في ليبيا، ويعني سيرًا سريعًا إلى نمط الدولة الفاشلة، بمزيد من التمدد لتنظيم الدولة، وتفكك القبضات الأمنية وانهيار العملة وتدهور الحالة المعيشية، ومزيد من غارات الطيران الغربي، وربما تتوسع دائرة ضحاياه لتشمل مدنيين، بسبب ضعف التنسيق على الأرض، ودخول عناصر التنظيم إلى أماكن آهلة بالسكان.

إن واقع ليبيا اليوم ومواقف الأطراف الدولية الفاعلة في الصراع ونظرة القوى المالية، وبعض القوى العسكرية إلى المآلات المحتملة ترجِّح تحقق السيناريو الأول، مع تعديلات تُبطئ وتيرة إنجاز استحقاقاته. وعلى كل الأحوال فالأسابيع القليلة (الثلاثة أو الأربعة) القادمة كفيلة بتوضيح اتجاه البوصلة.
_______________________
وليد أرتيمة - خبير في الشأن الليبي
References
1- إن التنوع القبلي في برقة ومؤشرات صعود النفوذ وانخفاضها من خلال طول مدة القتال وتأخر الحسم من ناحية، وعبر معالجة حفتر للمقاربة البرقاوية عبر تشكيل توازناته القبلية بالارتكاز على قبائل الدرسة التي ينتمي إليها الحجازي المنشق مؤخرًا والحاسة وقبائل مدينة المرج التي لا تمثِّل ثقلًا سياسيًّا عبر تاريخ برقة، وإبعاد العبيدات والبراعصة القبائل الأكثر ثقلًا في برقة مع صعود شخصية المهدي البرغثي العاقوري والمتحالف قعيم العبدلي وبولغيب العاقوري وهم أهم قادة محاور القتال في بنغازي، زِدْ عليه تحالفهم مع قائد حرس المنشآت النفطية، إبراهيم جضران، المنتمي لقبيلة المغاربة إحدى أكبر قبائل برقة البيضاء. 
2- يضم المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق 9 أعضاء بواقع ثلاثة أعضاء عن كل إقليم من الأقاليم الثلاثة، الملحق رقم 1 من الاتفاق السياسي. 
3- قبيلة البراغثة هي أحد فروع التحالف القبلي المعروف بالعواقير، وهي أحد أكبر قبائل برقة البيضاء والتي تتمدد من المرج غربًا إلى مدينة أجدابيا؛ وهي القبيلة التي ينتمي لها العقيد المهدي البرغثي وزير الدفاع بحكومة الوفاق الوطني.
4- يتشكَّل مجلس شورى ثوار بنغازي من التشكيلات الثورية المسلحة على رأسها كتيبة 17 فبراير وبعض كتائب دروع الشرقية، وتشير تقديرات إلى أن مقاتلي المجلس لم يتعدوا في أكبر التقديرات حوالي 150 شخصًا مع مقاتلي أنصار الشريعة، ويشترك في بعض محاور القتال في بنغازي مع مقاتلين منتمين لتنظيم الدولة مجلس شورى مجاهدي درنة ويتكون بشكل أساسي من كتيبة شهداء بوسليم وكتيبة صلاح الدين. وطرد المجلس تنظيم الدولة من المدينة بمشاركة أهالي درنة، وما زال يخوض المعارك ضد التنظيم خارج المدينة.
5- إبراهيم جضران ينتمي إلى قبيلة المغاربة في مدينة أجدابيا. سُجن في بوسليم أيام القذافي، يقود حرس المنشآت النفطية في الشرق. أوقف تصدير النفط بدعوى فيدرالية، ويرأس المكتب السياسي لإقليم برقة.
6- وصلت نسبة العجز في الموازنة الليبية لعام 2015 إلى نحو 51.2% من النفقات، ونحو 120% من الإيرادات كنتيجة لانخفاض الصادرات النفطية الليبية إلى حوالي الربع وانخفاض سعر النفط لحوالي 30 دولارًا للبرميل؛ للمزيد: http://loopsresearch.org/media/images/photoswl4gt41y3.pdf 
7- انطلق الحوار المعروف إعلاميًّا بالحوار الليبي-الليبي بوثيقة إعلان المبادي في السادس من ديسمبر/كانون الأول 2015 من العاصمة التونسية، وتُوِّج بلقاء جمع رئيسي المؤتمر الوطني والبرلمان في مالطا في الخامس عشر من نفس الشهر، وعقدت لجنتا الحوار لقاءً جديدًا قبل أيام في طرابلس، 
8- انطلقت عملية الكرامة في منتصف شهر مايو/أيار عام 2014؛ حيث دخل الطيران الحربي لقصف المدن كتطور جديد في حالة الاقتتال الداخلي في ليبيا.
9- نفَّذ الطيران الإماراتي، مدعومًا لوجستيًّا من سلاح الجو المصري، ضربات جوية استهدفت قوات فجر ليبيا في غرب العاصمة طرابلس أثناء عمليات القتال الدائرة حول المطار بين قوات فجر ليبيا وكتائب الصواعق والقعقاع التي كانت تسيطر على مطار طرابلس.
10- لم يتجاوز أعداد مقاتلي مجلس شورى ثوار بنغازي، في أوج قوته ما بين 150 إلى 200 مقاتل، بحسب عارفين، وتوزعت انتماءات هؤلاء المقاتلين بين سرايا معروفة إبَّان ثورة 17 فبراير، مثل: سرية مالك التي يقودها زياد بلعم، وكتيبة حماية بنغازي، وكتيبتي 17 فبراير وليبيا الحرة التي يقودها وسام بن حميد، ومقاتلين ينتمون لأنصار الشريعة، وتتداخل هذه القوات مع مقاتلين منتسبين لتنظيم الدولة، في بعض المحاور. 
11- فجر ليبيا عملية انطلقت في يوليو/تموز 2014 بقيادة أكبر التشكيلات الثورية المسلحة في مصراتة المتحالفة مع بعض التشكيلات الأخرى في الغرب الليبي وجبل نفوسة، وانتهت بإخراج كتائب الصواعق والقعقاع التابعة للزنتان من طرابلس في أغسطس/آب من نفس العام.
12- قام حوالي 101 أعضاء من البرلمان الليبي بالتوقيع على مذكرة يعلنون فيها تأييدهم لتشكيلة الحكومة المقترحة من مجلس رئاسة حكومة الوفاق بعد عدم تمكنهم من عقد جلسة علنية في طبرق نتيجة معارضة بعض أعضاء البرلمان من برقةK
14- عُقدت القمة في السابع من مارس/آذار سنة 2016،
15- نفَّذ الطيران المصري قصفًا جويًّا في الخامس عشر من فبراير/شباط من عام 2015 على منطقة شيحة الغربية في مدينة درنة خلَّف مقتل عدد من المدنيين على خلفية الفيديو الذي قيل بأنه عملية ذبح عدد من الأقباط المصريين على يد تنظيم الدولة في سرت.
16- بيان لجنة الحوار:
وتصريحات وزير الخارجية الأميركي: