يعد بحر الصين الجنوبي ساحة لنزاع إقليمي بين بلدان عدَّة تتنازع السيادة على أجزاء مختلفة منه، وقد تصاعدت حدَّة التوترات فيه على نحو غير مسبوق خلال العام الماضي (2015) على خلفية قيام الصين باستصلاح أراض بحرية هناك، انطلاقًا من سياستها التوسعية التي تسميها "خط القطاعات التسعة"؛ ما أدَّى إلى إحداث تغيير جذري للوضع القائم في المنطقة. وعلى الرغم من أن دولًا أخرى، مثل فيتنام والفلبين، تنتهج نفس النهج الصيني في هذه المنطقة، إلا أنها لا تسير بنفس وتيرة الإنشاء المتسارعة ولا تمتلك نفس الرغبة التسليحية التي تمتلكها الصين، لاسيما أن توجهات هذه الأخيرة قد تجعل من بحر الصين الجنوبي بؤرة صراع متفجر.
مقدمة
شكَّل بحر جنوب الصين أزمة كبرى على مدار السنوات القليلة الماضية، وأصبحت الأوضاع في هذه المنطقة تنذر باحتمال تحولها إلى منطقة نزاع، في ظل عدم التدخل لوقف هذا الخطر المحدق، فهذا المسطح المائي الضخم يمثِّل شريانًا بحريًّا حيويًّا للتجارة العالمية نظرًا لكونه بوابة عبور لما يربو على نصف السفن التجارية في العالم، وتُقدَّر قيمة البضائع التي تُقلُّها تلك السفن بأكثر من 5 تريليونات دولار سنويًّا، وهي قيمة تُعادل ما يزيد على إجمالي الناتج المحلي للهند واتحاد دول جنوب شرق آسيا (آسيان) مجتمعة(1). وتشهد هذه المنطقة عددًا من النزاعات الإقليمية المتقاطعة في ظل السيادة المُتنازع عليها بين العديد من الدول، فبالإضافة إلى المزاعم التوسعية للصين، ثمة دول أخرى لها نفس المزاعم الإقليمية والقضائية في السيادة على هذه المنطقة مثل الفلبين وفيتنام وماليزيا وبروناي وتايوان. ولا تقتصر النزاعات القائمة في بحر جنوب الصين على حق استغلال الموارد فحسب، بل إن هناك قلقًا حقيقيًّا من جانب الولايات المتحدة الأميركية والدول المتنازعة من محاولات الصين تقييد حرية الملاحة في المنطقة دون مراعاة القيود التي حددتها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
استصلاح الأراضي وحرية الملاحة
تصاعدت حدَّة التوتر في بحر جنوب الصين بشكل كبير خلال العام الماضي، 2015، في ظل محاولات الصين تغيير الوضع القائم في المنطقة عن طريق بناء الجزر واستصلاح الأراضي على نطاق واسع. وشرعت بيجين في تنفيذ هذه الاستراتيجية (استصلاح الأراضي) على نحو متسارع؛ ما دفع بالولايات المتحدة إلى تغيير طريقة تعاطيها مع ملف بحر جنوب الصين وسعت لاستصدار قرار دبلوماسي متعدد الأطراف لهذه الأزمة.
كما أدَّى إنشاء الصين جزرًا اصطناعية في جزر "سبراتلي" إلى دخولها في مواجهة شاملة مع أميركا اتهمتها خلالها الأخيرة بمحاولة فرض سيطرتها الفعلية على الجزز محل النزاع. وقد قام الرئيس الأميركي باراك أوباما بتقييم استراتيجية بيجين لاستصلاح الأراضي بكل وضوح قائلًا: "إن قلقنا مما تقوم به الصين نابع بالضرورة من عدم التزامها بالقوانين والأعراف الدولية، ومحاولتها بسط قوتها واستعراض عضلاتها لإجبار بعض الدول على الخضوع والاستسلام"(2). وبعبارات أكثر صراحة، أكَّد قائد الأسطول الأميركي في المحيط الهادي، الأدميرال هاري هاريس، على تصريحات أوباما بقوله: "إن الصين تستخدم استصلاح الأراضي لتشييد "سور عظيم من الرمال" في المناطق المتنازع عليها في بحر جنوب الصين باستخدام حفارات وجرافات"(3).
وبلغت هذه الأزمة نقطة حرجة في ظل القرار المرتقب للمحكمة الدائمة للتحكيم المدعومة من الأمم المتحدة، التي تعكف على دراسة دعوى قدَّمتها الفلبين ضد الصين تطالب فيها بحق مانيلا في استغلال الموارد الطبيعية في المنطقة الاقتصادية الخالصة الممتدة في المناطق التي تدَّعي سيادتها عليها في بحر جنوب الصين. وسوف يشكِّل قرار المحكمة، بالإضافة إلى انتخابات الفلبين الرئاسية، التي أفرزت رئيسًا جديدًا للبلاد هو السيد رودريغو دوتيرتي، تراجعًا في حدَّة النزاع خلال الأشهر القادمة، ذلك أن دوتيرتي أعرب عن رغبته في الدخول في مفاوضات ثنائية ومباشرة مع بيجين حول هذه الأزمة على وجه التحديد، وهو موقف مغاير تمامًا لموقف سلفه الذي كان يتبنى منهج التعاون مع بلدان اتحاد دول جنوب شرق آسيا في مواجهة الصين.
وكردِّ فعل على تنفيذ الصين أعمال استصلاح الأراضي بوتيرة متسارعة قبل صدور أي قرار من محكمة التحكيم الدائمة، تمضي واشنطن قُدمًا في عمليات حرية الملاحة في الجزر والمناطق محل النزاع؛ الأمر الذي يثير حفيظة الصين صاحبة مزاعم السيادة الأكبر على تلك المنطقة. وعلاوة على ذلك، ثمة احتمال ضعيف بأن تقلِّص الصين من وتيرة توسعها ومطالبتها ببسط سيادتها على المزيد من الأراضي، بل إنها تسعى، بدلًا من ذلك، إلى ترسيخ وجودها في تلك المناطق من خلال تنفيذ عمليات مستمرة لإنشاء المزيد من البنى التحتية على أهم الجزر التي تدعي تبعيتها لها مثل شُعب "ميستشيف" و"فيري" المرجانية الواقعتين في جزيرة "سبراتلي".
هذا وتقود الولايات المتحدة تحالفًا فضفاضًا مع حلفائها الإقليميين في محاولة لتعزيز الالتزام ووقف مساعي بيجين لتغيير الوضع القائم في الجزر المتنازع عليها، لاسيما أن الولايات المتحدة ترتبط باتفاقية دفاع مشترك مع الفلبين، التي تعد طرفًا أصيلًا في النزاع مع الصين وحليفًا قويًّا للولايات المتحدة في نفس الوقت.
وتُعزى أسباب التوتر الأخير الذي شهدته منطقة بحر جنوب الصين على مدار الأشهر الماضية إلى أنشطة استصلاح الأراضي والبناء التي تقوم بها الصين في الأراضي الواقعة تحت سيطرتها في جزر "سبراتلي" المتنازع عليها بين كلٍّ من الصين والفلبين، لاسيما وأنه تم التقاط مجموعة صور عالية الدقة لهذه الأنشطة عبر الأقمار الاصطناعية بغرض التوثيق.
من جهته، قام المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) بنشر صور عديدة توثِّق بالتواريخ أعمال التوسع وإنشاء البنى التحتية التي تنفِّذها بيجين بشكل متسارع على الشواطئ المحاذية لشعب "ميستشيف" المرجانية والعديد من شواطئ الشعب المرجانية الأخرى في جزر "سبراتلي". وإلى جانب التبعات القانونية التي ستواجهها الصين بسبب هذه الأنشطة التوسعية، فإن جميع الحلفاء والشركاء في المنطقة يراقبون عن كَثَب الطريقة التي ستنتهجها واشنطن في التعاطي مع هذه الأزمة.
وصلت العلاقة بين الصين والفلبين إلى منعطف حرج فيما يتعلق بالنزاع القائم بين البلدين حول السيادة في بحر جنوب الصين، فقد أقامت الفلبين دعوى قضائية ضد الصين لدى إحدى محاكم التحكيم الدولية في لاهاي، وتقوم هذه المحكمة بدراسة الدعوى لتحديد ما إذا كانت مخولة قانونًا للنظر فيها أم لا. وتستند دعوى مانيلا إلى تفنيد مزاعم بيجين بالسيادة على بحر جنوب الصين طبقًا للمادة (287) والملحق السابع من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وهي الاتفاقية التي وقَّعَ عليها كل من الصين والفلبين.
التسليح ومنطقة تحديد الدفاع الجوي
على الرغم من احتمالية استمرار الصين في تنفيذ مشاريع استصلاح الأراضي على مدار الأشهر القادمة، هناك تحرك آخر بدأ يلوح في الأفق، فمن الممكن أن تتيح هذه المشروعات الفرصة لبيجين لاستخدام أدوات أخرى لفرض نفوذها على بحر جنوب الصين، مثل الرادار البعيد المدى، وأنظمة الصواريخ المتقدمة، قبل أن تحتاج إلى الاستعانة بالطائرات في نهاية المطاف. وهنا نشير إلى أن الصين قد انتهت بالفعل من إنشاء مساحة من اليابسة لاستخدامها مهبطًا للطائرات بالقُرب من شُعب "فيري" المرجانية المُتنازع على سيادتها بين كل من الفلبين وفيتنام وتايوان، دون أي اكتراث باحتجاجات واشنطن وحلفائها وشركائها، ولا شك في أن هذه التطورات تسهم في تغيير الوضعية الراهنة للمنطقة، كما أنها ستسمح لبيجين بفرض سيطرتها على المجال الجوي في المناطق والجزر محل النزاع.
وعلى وجه التحديد، تؤسس التحركات التي تقوم بها بيجين لإعلان منطقة تحديد دفاع جوي من قبلها فقط، ما سيجبر جميع الطائرات التي تستخدم هذا المجال الجوي على الالتزام بمجموعة من القواعد، مثل: تحديد خط مسار الطيران، والاستعانة بأجهزة الإرسال عن بُعد وأجهزة الإرسال والاتصال اللاسلكي للتواصل مع السلطات الصينية، مع العلم بأنه ثمة تقارير صدرت في العام الماضي، 2015، تشير إلى شروع عدد من مسؤولي الدفاع الصينيين في وضع خطط تتعلق بمنطقة تحديد الدفاع الجوي في بحر جنوب الصين، بيد أن بيجين سارعت إلى نفي ما ورد في هذا التقرير بصفة رسمية، وأكدت على أن "الجانب الصيني لا يستشعر أي تهديد لأمنه الجوي من قبل دول جنوب شرق آسيا، وأنه ينظر بتفاؤل إلى علاقاته مع دول الجوار وإلى الوضع العام في منطقة بحر جنوب الصين".
ورغم ذلك، تدرك الصين تمامًا أن من حقها فرض منطقة تحديد الدفاع الجوي في الأراضي الخاضعة لسيادتها متى ما شاءت، ولعل هذا ما يثير القلق في منطقة بحر جنوب الصين، وعلى الرغم من أن الإعلان الرسمي عن منطقة تحديد الدفاع الجوي أمر أقل أهمية من الوضع الراهن، فإن الصين تحتفظ بهذه الورقة في جعبتها لاستخدامها في حالة تصاعد التوتر في المنطقة أو عند استشعارها أي خطر أو تهديد لسيادتها، فمن الواضح أن إعلان منطقة تحديد الدفاع الجوي من قبل الصين مرهون بسلوك الدول الأخرى التي تنازعها السيادة في بحر جنوب الصين وأنها تحتفظ بهذه الورقة للإمعان في تهديد تلك الدول.
وفي حال أقدمت الصين على هذه الخطوة، فلن يحمل الأمر مفاجأة بالنسبة لأي طرف في المنطقة، نظرًا لما للصين من سابقة في هذا المجال، ففي نوفمبر/تشرين الثاني عام 2013 اتخذت بيجين قرارًا أحاديًّا بإعلان منطقة تحديد الدفاع الجوي في بحر الصين الشرقي الذي يغطي المجال الجوي لمساحة كبيرة من الأراضي منها جزر سنكاكو التي كانت تخضع لسيطرة وإدارة اليابان، وقد قامت الصين بهذا الإعلان على الرغم من إعلان اليابان للأمر ذاته في وقت سابق. ونظرًا لامتداد منطقة الدفاع الجوي المعلنة إلى منطقة شُعب "إيودو" المرجانية، الذي تنازعت عليها الصين وكوريا الجنوبية، فقد أدَّى ذلك إلى تأجيج التوتر في تلك المنطقة. وقد أدانت اليابان والولايات المتحدة بشدة تلك الخطوة التي أقدمت عليها الصين آنذاك، معتبرين إيَّاها عملًا استفزازيًّا. وكان السبب الرئيسي وراء قرار الصين استخدام هذه الورقة هو حالة الجمود التي شهدتها محاولات إقناع اليابان بالاعتراف بوجود نزاع حول جزر سنكاكو في بحر الصين الشرقي.
والسؤال الآن: هل يمكن أن تُقدِم الصين على إعلان منطقة تحديد الدفاع الجوي في بحر جنوب الصين في المستقبل القريب؟
لا يزال هذا القرار ضمن الخيارات السياسية المطروحة على طاولة بيجين، ولا شك أن اتخاذ مثل هذا القرار سوف يؤدي إلى ردَّة فعل دبلوماسية عنيفة من قِبل اتحاد دول جنوب شرق آسيا وكذلك من قبل الولايات المتحدة، ومن غير المستبعد أن تُقدِم الصين على هذا القرار في أي وقت خلال العام الجاري، لاسيما في ظل القرار المرتقب من المحكمة الدائمة للتحكيم بعدم الاعتراف بأنشطة استصلاح الأراضي التي تنفذها الصين.
وفي هذا السياق، صرَّح الأدميرال صامويل لو كلير، قائد القوات الأميركية في المحيط الهادئ، أمام الكونغرس في العام الماضي، 2015، بأن أعمال استصلاح الأراضي التي تقوم بها الصين تسمح لها ببسط نفوذها بشكل أكبر على منطقة متنازع عليها في الوقت الحالي، وأنها قد تشكِّل بذلك أساسًا تنطلق منه لإنشاء منطقة تحديد الدفاع الجوي إذا ما رغبت في ذلك، "وهذه المساحة الرمادية تمنح الصين خيارًا ونفوذًا لفرض منطقة تحديد الدفاع الجوي دون أي خوف أو قلق من العواقب الدبلوماسية".
تجدر الإشارة إلى أن هناك مخاوف حقيقية من أن يكون الهدف من تحرك الصين في هذا الاتجاه باتباع أساليب الإكراه وسياسة الأمر الواقع هو تقييد حرية الملاحة فوق بحر جنوب الصين، ولعل ذلك ما حدا بوزارة الدفاع الأميركية لاتهام الصين مطلع شهر يونيو/حزيران 2016 بالقيام باعتراض "غير آمن" لطائرة استطلاع عسكرية فوق بحر جنوب الصين. وكانت الصين قد نشرت طائرات مقاتلة مطلع الشهر المشار إليه أيضًا على خلفية قيام الولايات المتحدة بتنفيذ عمليات حرية الملاحة في إحدى الجزر الصينية المتنازَع عليها في بحر جنوب الصين(4).
خاتمة
من المرتقب أن تشهد منطقة بحر جنوب الصين حالة مستمرة من التقلب وعدم الاستقرار على مدى الأشهر المقبلة لأسباب، منها: التوتر المتزايد بين الصين والدول المتنازعة معها على السيادة في المنطقة مثل الفلبين وفيتنام، والأهم من ذلك حالة المنافسة الاستراتيجية المتزايدة بين واشنطن وبيجين. وعلى العموم، إن طريقة تعاطي الولايات المتحدة، المقبلة على انتخابات رئاسية، والصين مع هذا الخلاف، هي التي ستحدد مدى قدرة البلدين على الحدِّ من المخاطر واحتمالات الصدامات غير المقصودة في المستقبل القريب.
__________________________________
جوناثان بيركشير ميلر: باحث متخصص في دراسات شرق آسيا بمركز دراسات الشرق والغرب.
ملاحظة: النص أُعِدَّ باللغة الإنجليزية لمركز الجزيرة للدراسات وترجمه إلى العربية كريم الماجري.
1- Bonnie Glaser, “Armed Clash in the South China Sea,” Council on Foreign Relations, April 2012.
http://www.cfr.org/world/armed-clash-south-china-sea/p27883
2- Matt Spetalnick and Ben Blanchard, “Obama Says Concerned China Bullying Others in South China Sea,” Reuters, April 10, 2015.
http://www.reuters.com/article/us-usa-obama-china-idUSKBN0N02HT20150410
3- “Balancing China’s Great Wall of Sand,” American Interest, March, 2015.
http://www.the-american-interest.com/2015/03/31/balancing-on-chinas-great-wall-of-sand/
4- Idress Ali and Megha Rajagopalan, “Chinese jets intercept US military plane over South China Sea: Pentagon,” Reuters, May 19, 2016.
http://www.reuters.com/article/us-usa-china-south-china-sea-idUSKCN0Y92ZA