غامبيا والأفق السياسي المسدود

يقدم هذا التقرير قراءة للوضع السياسي في دولة غامبيا في غرب إفريقيا، وهي دولة يحكمها الرئيس يحيى جامي منذ أزيد من اثنتين وعشرين سنة بنظام يمتاز بكثير من الإكراهات الأمنية وتهميش المعارضة الديمقراطية والاعتماد على تغيير الحلفاء الإقليميين والدوليين للتمكين لهذا النظام.
49eef06593d84e1c9cfea706ca418c0a_18.jpg
الرئيس يحيى جامي في السلطة بغامبيا منذ 1994 (Daylife)

أسَّس الرئيس الغامبي الراهن، يحيى جامي، منذ إطاحته في انقلاب عسكري، سنة 1994، بسلفه داوودا جاورا، لنظام شمولي لا يعتمد على نظام الحزب الحاكم الوحيد والأوحد فقط بل أيضًا على توظيف القبيلة في الحكم، والاعتماد على الولاء العِرقي فضلًا عن تهميش المعارضة والزج بها في السجون وتخوينها. ومنذ بعض الوقت كرَّس نظام جامي خطابًا تصعيديًّا ضد الدول الغربية وخصوصًا بريطانيا وأميركا فهما في نظر الرئيس جامي تؤويان المعارضة وتسعيان لزعزعة بلاده؛ لذلك نجده توجه شطر بعض الدول الأخرى للبحث عن سند كالصين والبرازيل وتركيا وبعض الدول الخليجية. وقد استطاعت غامبيا أن تجد -ولو مؤقتًا- عونًا ماليًّا ودعمًا تنمويًّا من هذه الدول استطاعت من خلاله تسيير اقتصاد هشٍّ يعتمد أساسًا على الزراعة، لكن تفشي الأمراض كالملاريا وانتشار الجفاف وتصاعد الاحتقان السياسي يجعل هذا البلد الإفريقي الغربي في مهب رياح العنف، خصوصًا وأن غامبيا ذات المنفذ على المحيط الأطلسي ليس لها أي حدود برية إلا مع السنغال، ومنذ بعض الوقت لم تستطع الجارتان تسيير علاقاتهما الثنائية بشكل مرض، مما يضفي بظلال سلبية على مستقبل دولة غامبيا. ويبقى مستقبل غامبيا في ظل الوضع السياسي القلق وفي ظل نظام مستبد يطرح أكثر من سؤال.

مثُلَ ثلاثة نشطاء غامبيين (1) أمام محكمـة بانجول بعــد توجيـه الاتهام لثلاثتهم بالإساءة المتعمدة لشخص الرئيس يحيى جاميه، ووفقًا للائحـة الاتهام فإن الملاحقـة أعقبت إطلاق النشطاء لتصريحات تضمنت اتهام الرئيس بالعداوة السافــرة ضـد قومية الماندينغو التي ينتمي إليها زعيم المعارضة؛ وفوق هذا حمَّلت القـوى المعارضـة السلطات الغامبية مسؤولية اختطاف سولو صاندينغ، وهو أحد أبرز قـادة المعارضة، والقيادي في الحزب الديمقراطي المتحد، وكان قد اعتُقل، في 14 إبريل/نيسان 2016، لتخرج بعد ذلك بيومين تظاهرة جرَّاء الإعلان عن وفاته داخل الحجز في ظروف غير واضحة. كما اعتُقل القيادي في نفس الحزب، إبريما صولو كروماه، ليلقى هو الآخر حتفه، في 20 أغسطس/آب 2016.           

غامبيا: احتقان داخلي وبحث عن حلفاء خارجيين غير غربيين 

اضطــر الرئيس يحـيى جامي، الذي أمضى حتى الآن 22 سنة في الحكم، بعد تظاهرات المعارضـة في بانجول للقيــام بزيارات شملت المناطق الداخلية من أجل التحدث عـن "نموذجه الديمقراطــي". وفـي أغلب محطات الجولـة كان الرئيس جامي يستهل خطاباته بالتأكيد على عداوة دول الغرب لنظامه فضلًا عن مهاجمته المعارضـة المقيمة في الخارج: "أنا هـو أفضل ديمقراطي حتى من النظام البريطاني مجتمعًا، وأود أن أكرر هنا: أنا لا أتودد للغرب"(2). 

طبقًا لمؤسسات التصنيف الدوليـة فإن الظروف الاقتصادية تتعاظم صعوباتها أمام المواطنين في سادس أفقـر دولة في العالـم. وللمساهمـة في دفع عجلـة اقتصاد متعثِّر تُشكِّل الودائـع والتحويلات المالية للمهاجرين الغامبيين العاملين في الخارج نحو 20% مـن الناتج المحلـي الإجمالي للاقتصاد الغامبي(3). لكن الرجل القوي في غامبيا لا يعير تلك القيمة الاقتصادية اهتمامًا عندما يكون من بين هؤلاء معارضون؛ لذلك يحذِّر مواطنيـه مـن مغبـة التمادي في تلقــي الأموال التي تصلهم من أقاربهم المغتربين "أنا أحذِّر كل غامبي، بـل إننـي أقسم على القرآن الكريم، إنه إذا تمخَّض ارتباطكم بأحد أقاربكم المغتربين ممن تم تجنيده بواسطة الرواتب التي يتلقاها في الغرب، عن محاولـة الاستفادة من تحويلات مالية من لدنـه.. فإنني أحذِّركـم مـن أنكـم ستجـدون أنفسكـم أيضًا مضطرين للخروج من البلاد"(4). 

أسفرت المظاهرات التـي قادتها المعارضـة ببانجـول في وجـه ما أسمته تكريسًا للأحادية في الإصلاحات المتعلقة بالعمليـة الانتخابية عن مصرع ثلاثة نشطاء واعتقـال عشـرات المتظاهريـن من أبرزهم زعيم المعارضـة ورئيس الحزب الديمقراطـي الموحد، الأستاذ الحسينو داربوا، وزادت الدعوة التـي أطلقها بعض النشطاء ممن يأملون في أن يسفـر الوضـع المحتقـن عـن ربيـع إفريقي تنطلق شرارته من بانجـول من غضب الرئيس جامي الذي بات معروفًا في خطاب المعارضة باسم "ديناصـور النهـر". ولعل تقرير جريـدة لوموند الفرنسية يلخص تلك التطورات وهو تقرير نُشر في شهر مايو/أيار 2016، تحت عنوان: "غامبيا: تغوص في الخوف"(5). 

وهكذا يواجه النظام حالة احتقان متعاظمة دون أن يضمن الأرضية الشعبية التي يستند عليها والتي قد لا تكون راضيـة بدورها عن بعض سياساته وخاصـة منها ما يتعلق منها بالتقليل من حدَّة الفقـر. وكما فعل الرئيس جامي عقب فشـل آخر المحاولات الانقلابية، في ديسمبر/كانون الأول 2014، فإنه دشن خطابات سجالية تقوم مفرداتها على تنقيص خصومه السياسيين "أُحذِّر طفيليات الشر المدعوة معارضة: إذا كنتم ترغبون في زعزعة استقرار البلاد، فأنا سوف أدفنكم تحت تسعة أقدام سحيقة ولن يكون ساعتها بمقدور دولة غربية مهما كانت أن تنطق بكلمة واحدة"(6). 

أسهم الاحتقان الذي تعرفه غامبيا بشكل كبير في انسداد قنوات التواصـل بين النظام والمعارضة، كما أسهم في تدهور المناخ الاجتماعي والتفاوضـي، والأوروبيون يرون أنه لا بديل عن المضي قدمًا في الإصلاحات المؤسسية لتحقيق التنمية المستدامة والديمقراطية، أما في واقـع الأمـر فإن نظام يحـيى جامي وفي كافة المواقف المعلنة، والرؤى السياسية والاقتصادية والعسكرية الصادرة عنه يبدي تخوفه من الدور المشبـوه لحكومات الغـرب وبعض المنظمات الدائرة في فلكها، قبـل أن يولي وجهه نحن الدول التـي تبحث في إفريقيا عن "الحـاكم القوي" للتعامل معـه (وتعتبر الصين والبرازيل نموذجين لهذه الدول)، وربما تنبـع رغبة دول عديـدة في التعاون الاقتصادي مع القادة الأقوياء والذيـن عادة ما يكونون أكثر فعالية من المؤسسات الديمقراطية القائمـة في بلدانهم. 

وبهذا الشأن، أبدت غامبيا تفضيلها لمعسكـر البرازيـل والصين فـي البدايـة ثم تركيا ودول الخليج العربي الغنيـة وعلى وجه التحديـد السعودية؛ حيث وقَّـعت عددًا معتبرًا من الاتفاقيات الثنائيـة. وقد ركَّز السعوديون على تقديم العون الإغاثي والدعم الإنساني والمالي لحكومة بانجول. ولـم تفوِّت المعارضة -ساعتها- فرصـة التندر والتعليق على التوجه الجديد لرئيس دولـة باتت تحتـل المركز 165 من بين 187 دولة ضمن مؤشر التنمية الدولـي، فكتب المعارض الغامبي ووزير الخارجية السابق، سيدي صانييه، في حسابه على تويتر: إن "جامي المتــعطِّش لأموال التنمية بسبب سجله المؤســـف في ما يتعلق بحقوق الإنسان وسوء الإدارة الاقتصادية، يتطلع إلى العالم العربي كبديل ومصدر لمساعدات التنمية". 

وبالفعـل، فإن النظام الغامبي شهد تحولًا سيـاسيًّا متسارعًا على مدى السنوات القليلـة الماضية، بحيث لا تزال العوامل المحرِّكة لحزب التحالف من أجل إعادة التوجيه والبناء الوطني (APRC) الحاكم بعيدة كل البعد عمَّا يمكن أن نطلق عليه: التشاركية السياسيـة مع الخصوم أو الرغبة في إخراج عامة الشعب من دائرة الفقر. ولا يخفـى أن جزءًا من هذا التحليـل يعتمـد على أن فلسفـة الحكـم فـي غامبيـا باتت تركـن إلى أعراف وقوانين مجتمعها لإدارة شؤونه، وبدون الإعلان عن ذلك، فالحاج يحـيى جامي يستند إلى الحُجَّـة القائلـة بتسيير الجماعة الإفريقيـة من لدن الكبار من ذوي الحكمة والخبـرة والحنكـة وفق الموروثات السياسيـة الإفريقية التي تَعُـُّد الإنصات للوجهاء وممثليهم في الحكومة والجيش إحدى أدوات الحكم التي يكاد لا ينسجم نهجها مع كتيب قواعـد الديمقراطيـة الليبرالية كما في الولايات المتحدة وأوروبا، لكنــه لا يعارض نهج الحكامة في الدول العربية المحافظة؛ ولذا ليس من باب المفاجأة أن يلوذ الحاج يحـيى جامي بالدول السخيـة والغنيـة. 

على إثر فكِّ الارتباط بين الدول الأوروبيـة والاقتصاد الغامبـي بدأ الأخير يعانـي انكماشًا غير مسبوق منذ الاستقلال، كما عكست المؤشرات المالية لدى البنك الدولي(7) طوال هذه الفترة وجهًا سالبًا لمجهودات الحكومـة. وفي ظل استنزاف موارد الدولـة فـي سياق محاربة المجاعـة والجفاف تدخلت الاستثمارات التركية والعربيـة لنجـدة غامبيا؛ ففـي الحالة السعـوديـة استطاعت غامبيـا الحصول على العديد من المنح المالية وإبرام اتفاقيات تمويل بمئات الملايين من الدولارات مع مجموعـة البنك الإسلامـي للتنميـة خصصتها لتطوير الخدمات الصحية في المناطق الريفية وجامعـة غامبيا وغيرها من مشاريع البنى التحتية؛ كما وقـَّعت غامبيا مع الجانب القطـري اتفاقيات ثنائية أخرى تختص بتجنب الازدواج الضريبي وتعزيز الخدمات الجويـة، فكيف ستكافئ بانجول حلفاءها العرب؟ في العام 2010 التقطت بانجول الإشارات السياسية القادمة من السعـوديـة بشأن مخاطـر التوغل الإيراني في غرب إفريقيا السُّنِّي؛ فسارع الرئيس جامي إلى طي صفحة الود مع طهران، وكشف عن استغلالها للأراضي الغامبية لتخزين شحنات عسكرية موجهـة لحزب الله اللبناني؛ ومن ثم تم قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران. 

إذا كان يحيى جامي قد وصل إلى حكم بلاده بقـوة الانقلاب وأصبح يُنظـر إليـه الآن كأب للجمهوريـة الإسلامية بها، فإنه بإمكان بريطانيا أيضًا أن تدَّعي أنها هي الأم، فمنـذ عام 1843 أضحت غامبيا مستعمرة ضمن مستعمرات التاج البريطاني ثم دخلت نطاق الكومنولث، ومنذ بعض الوقت أصبحت بريطانيا مغضوبًا عليها من طرف الرئيس يحيى جامي الذي لم يعد يرى فيها سوى الدمار لغامبيـا سواء في وقت الاحتلال أو في الوقت الراهن بتدخلاتها في شؤون حكومته وخيارات شعبه، على حـدِّ ما يتحدث عنه دائمًا في خطاباته. وتتويجًا لهذه القطيعة أعلن الرئيس جامي، في أكتوبر/تشرين الأول 2013، انسحاب بلاده من رابطـة الكومنولث متذرِّعًا بنيَّته قطـع صلاته بالاستعمار. 

ليس هناك ما يؤكد قيام تعاون استراتيجي عربي-غامبي بديـل عن الغرب؛ لكنه إذا كان يحيى جامي خلال السنوات القليلة الماضيـة قـد كرَّس جهدًا كبيـرًا لمهاجمة التركـة الاستعمارية ممثلة برابطة الكومنولث واللغة الإنجليزية فإنه عمـل أيضًا علـى توطيـد علاقات نظامه ثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا مع العالم العربي والإسلامي، وهو ما أفضى لاحقًا إلى اعتماد اللغة العربيـة لغة رسمية لجمهورية غامبيا "الإسلاميـة"، كما انفتح النظام الغامبي فـي وجه العملاق الصيني الذي صدَّر إليه سنة 2014 ما نسبته 31.3% واستورد منه ما يُقدَّر بـ37.5% في العام 2011. 

لا تزال بانجول مدفوعـة بداعميها الرئيسيين تحافظ على نسق تصاعدي في مواجهتها مع الغرب عمومًا، وعلى هذا النحـو سبق للحكومة الغامبية توجيـه الاتهام للولايات المتحدة عقب فشـل محاولـة إسقـاط الحكـم، في ديسمبر/كانون الأول 2014، من طرف منشقيـن يقيـم بعضهم في الولايات المتحدة وبريطانيا، وهو الاتهام الذي نفته وزارة الخارجيـة الأميركية حينها قبل أن تندد بالانقلاب. وفي مقابلته مع مجلة "جون أفريك" ردَّ الرئيس يحيى جامي بغضب وانفعـال على تقارير منظمـات العالـم الحـر بشأن اغتيال المعارض البارز سولو سيندينغ: "بإمكان بان كي مون ومنظمة العفو الدولية أن يذهبا للجحيم، من هما ليطالبا بذلك؟"(8). 

كانت دولة غامبيا قبل الأزمـة مع الاتحاد الأوروبي تعتمد على علاقاتها بالمملكة المتحدة والولايات المتحدة اللتين أوقفتا العون المباشر الموجَّه لغامبيا، فأما الولايات المتحدة فقد استثنت بانجول في وقت مبكر من مزايا مبادرة "آغوا"(9) التي أقرَّها الكونجرس الأميركي لفائـدة الواردات الإفريقية الموجَّهة إلى الأسواق الأميركية، أما الاتحاد الأوروبي فبينما كانت دول الاتحاد الأوروبي سنـة 2012 تقدِّم ما نسبته 25.2% من الواردات بالنسبـة للغامبيين(10)، قام الرئيس يحيى جامي بطرد ممثل الاتحاد الأوروبي من غامبيا؛ وذلك تحت طائلـة مطالب المملكة المتحـدة ودول أوروبية أخرى لبانجول بضرورة إجراء تحسينات في الحياة الديمقراطية، وهـو الإجراء الذي ردَّ عليـه الأوروبيون بإلغاء مباحثاتهم السياسية مع نظام بانجول. 

تحليـل وتفكيـك الواقـع الغامبي 

لـم يكتفِ رجل غامبيا القوي بإدارة ظهره للغــرب والعمل على إرساء علاقات تجارية وسياسية مغايرة مع أطراف دولية أخرى، بل إنه، ولإغاظة أعدائه في الداخل والخارج، أعلن، في العام 2006، أنه بفضل قدراته الاستثنائية يأمل أن يقود غامبيا "مليارات السنوات القادمة"، ومن ثمـة أطلـق على نفسه، وفقًا لموقع الرئاسة الغامبية، أوصافًا وألقابا عديدة، من أهمها: فخامة رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة، الشيخ البروفيسور الحاج الدكتور، قاهر النهر، وناصــر الدين يحيى عبد العزيز جيموس جونكونغ جامي. فيما يؤكِّـد نشطاء شبكات التفاعل الاجتماعي أن يحيى جامي يُعِدُّ لإعلان غامبيا مملكة إسلامية، ولإشهار نفسه "سلطانًا وأميرًا للمؤمنين" مدى الحياة. ويعيد إلصاق هذه التوصيفات إلى الأذهان صورة العقيد الليبي معمر القذافي، الذي اشتُهر بغرابة أطواره، وتصرفاته غير المألوفة، لكن الآباء المؤسسين لإفريقيا لم يكونوا بدعًا من محاولات إجبار شعوبهم على عبادة الفرد وتقديس أفعاله والتغني بأمجاده، فهذا الرئيس الكاميروني، أحمدو بابا توري أحيجو، كان يزعم أنه يُوحَى إليه ويُلقِّب نفسه بعديد من الألقاب، ومن بينها: "المسيح الإفريقي" و"موسـى الكاميرون". 

يبدو أن الخصام السياسي في غامبيا لم يكن وليد الاستقطابات الدائرة حاليًّا بين قوى المعارضة وداعميها الأساسيين في الغرب وبين النظام الحاكم وخياراته المحدودة لتدبير التداول السلمي على السلطة عبر عملية انتخابية حرة ونزيهة، فمنذ أواخر ثمانينات القرن العشرين أدَّت الظروف التي اكتنفت التحول نحو دمقرطة الحياة السياسية، كما شهدها كثير من دول غرب إفريقيا، إلى حصول إجماع إفريقي على فشل وعجز الأنظمة المحلية التي يسيطر على السلطة السياسية فيها حزب واحد. 

يربط الكاتب ذو الأصول الكونغولية، إيمانويل مارتن، إنشاء الدولة "المدنية" بعيدًا عن الدولـة "العِرقية" بالقدرة على الانفتاح الاقتصادي الذي يستند على الديمقراطية التعددية(11). لذلك السبب حاجَّ بعض الدارسين للحالة الإفريقية بصعوبـة بناء ديمقراطية انتخابية في إفريقيا عمومًا؛ ومن أبرز المدافعين عن هذا الاتجاه جاك شيفرييه؛ ففي كتابه "فشل الأنظمة السياسية الإفريقية" الصادر 1975، يقول: "ولكن في إفريقيا، تنطوي عملية اختيار المرشحين على عدد محدود من الأفراد الذين يجري انتقاؤهم من بين أوساط الطبقة السياسية القائمة، على أن يكون هؤلاء منخرطين في الحزب وأن تكون لهم، في نفس الوقت، حظوة ونفوذ كبير. أمَّا بالنسبة للانتخابات نفسها، فإنها عادة ما تنتهي بوجود المصوِّتين الكبار لفائدة الحزب واحد"(12). وفي وقت مبكر حاول بعض الدراسات العلمية، سبر الروابط العلائقية بين الأنظمة الإفريقية التي أعقبت حقبة الاستعمار وشعوبها، فكان الاتجاه يصب في هذا الصدد إلى أن عملية تأسيس الدولة الإفريقية أو صنعها ما زالت محدودة بالمركز، ومـن ثم فإن استراتيجية "القمة-القاعدة" لا تناسب الظروف والواقع الإفريقي ولا تستطيع تذليل المشكلات التي تعاني منها الدولة بإفريقيا، وتعرض النخبة الإفريقية أنها وجدت أمامها أكثر مـن 80% من السكان أميين، ويتربص بأغلبهم شبح المجاعة، فكان الاتجاه إلى الحاضنات التقليدية التي نمت إبَّان الاستعمار وازدادت حدَّة شوكتها، ولا شك أن أصحاب هذه النظرية قد مهَّدوا لما يمكن تسميته بـ"قبلنة" السُّلطة أي إلباسها لبوسًا مرتبطًا بالقبيلة. 

ووفقًا لأطروحة عالم الاجتماع الإيفواري، البروفيسور سيللا لانسينييه SYLLA Lancine، مؤلِّف كتاب "القبلية والحزب الواحد في إفريقيا السوداء: الخطوط العريضة لنظرية التكامل الوطني"(13)، فإن دينامية الترابط بين القبلية والشعور الوطني، ظلَّت تخدم السلطات الاستعمارية، وعندما أحرزت الدول استقلالها ظلت القبلية حاضرة وقوية من خلال التنظيمات السياسية والاجتماعية. ويرى هذا الباحث أن الحزب الواحد لم يكن سوى خادم للقوى التقليدية والتي استطاعت امتطاءه للسيطرة على العملية الديمقراطية برمتها. 

 يستند الآباء المؤسِّسون إلى ما أسموه الرغبة في الحفاظ على اللُّحمة الاجتماعية والوحدة الوطنية لبلدان حديثة النشأة بحيث تُوُقِّـع حينها أن تعدد الأحزاب يمكن أن يكون عامل تشـظٍّ وتهديد للجمهوريات حديثة النشأة بالانقسامات القبلية والجهوية، إلا أنه وابتـداء مـن منتصف ثمانينات القـرن العشرين ستبرز انشغالات جديدة لسياسيي القارة على أن تكون من ضمن الأولويات تحقيـق التحول صوب الديمقراطية التعددية والتداول السلمي على السلطة؛ "شهدت القارة الإفريقية منذ منتصف الثمانينات تجارب ناجحة في التداول السلمي للسلطة ظهرت في إجراء انتخابات تعددية في عدد من الدول، وتنحي بعض القيادات بصورة سلمية عن السلطة نزولًا عند رغبة الإرادة الشعبية، وتحول الحكم في بعض الدول من الحكم العسكري إلى الحكم المدني إلا أن هذه الإجراءات لم تؤدِّ الي انتشار الاستقرار في القارة"(14). 

ولعلنا لا نغـالي إذا ما أكدنا، أن غامبيا لـم تكن بدعًا من جوارها الإفريقي، فرئيسها المؤسس، السِّير جاوودا جاوارا (1965-1994)، بعـدما استلم رئاسة الحكومة بعيـد الاستقلال عن المملكـة المتحدة في ظل نظام برلماني يطبق التعددية الحزبية، عـاد سريعًا إلى أحضان دعاة التوجس من الديمقراطية التعددية في إفريقيا وترأَّس غامبيا التي سيهيمن حزب الشعب التقدمي على السياسة فيها طيلة 30 عامًا، وهكـذا انضاف الشعب الغامبي إلى شعوب عديدة في غينيا بيساو وموريتانيا والرأس الأخضر وغيـرها من الجوار الإفريقي ذات نظم الحزب الواحد، الذي طال انتظـاره للحياة التعددية والديمقراطية الحقة. 

اتجاهات الوضـع الراهن في غامبيا 

يتباهـى المحلِّلون بالاستثناء الإيجابي للديمقراطية التي تنسَّم السنغاليون نسائمها ابتداء من سبعينات القرن العشريـن؛ فبعــد فتـرة ما بعـد الاستقلال وما شابهها من اضطرابات مألوفة في دول منطقـة غرب إفريقيا؛ تخلَّـى الرئيـس الشاعـر، ليوبولد سيدار سنغور، عن السلطـة قبل انتهاء فتـرة ولايته، لزعيـم المعارضـة آنذاك، عبدو ضيـوف، الـذي سبق لـه أن أسَّس الحزب الاشتراكي ضمن أجواء التعدديـة الحزبيـة، وهكذا سيصبح الاستثناء السنغالي مفخـرة هذا البلد، بعدما تمكَّن من تجاوز الصعاب التي تنخـر -وقتها- النخبَ السياسيـة لدول غرب إفريقيا. إن مقومات هذا الدرس لـم تمكِّن الشعوب المجاورة من استزراعها، كما لم يُكتب لاتحاد غامبيا والسنغال في جمهورية واحدة النجـاح؛ حيث اتضح أن السيـر داوودا جاوارا كان مدفوعًا بالخوف من استيلاء الجيش الغامبي على السلطة. 

تجدر الإشارة إلى أن دور الجيوش في الحياة السياسية لا يقتصـر على دولـة غامبيا، بل يمتـد ليعُـمَّ القارة الإفريقية بأسرها فخلال ستين عامًا الماضية وصل عدد الانقلابات في إفريقيا إلى قرابة 186 انقلابًا وتمردًا على الحكم، أما حظ غامبيـا من هذا الملف فيقل عن عشـر محاولات، أهمها استيلاء مجموعة من صغار الضباط بقيادة الملازم يحـيى جامي على السلطـة سنة 1994. ويمكن القـول: إن فشل الرئيس المؤسِّس في إرسـاء نهج الدولة الحديثة يعود إلى سيطرة أجهزة الاستخبارات البريطانية وتحكمها في اختيار النخب المساعـدة له، بما فـي ذلك تحديـد ميوله الشخصيـة فبعدما نال داوودا جاوارا لقب "السيـر" تزوج من سيدة بريطانيـة واعتنق الديانة المسيحيـة، وهي كلها عوامـل تنضاف إلى استمرار نظام الحزب الواحد لفتـرة زمنية طويلة في الحكـم مما فرض على المؤسستين المدنية والعسكريـة تمجيـد شخصية الرئيس والولاء لـه لا للدولة، ثمة سبب وجيه آخر للانقلاب على حزب الشعب التقدمي هو الرغبة في إنهاء تكريس هيمنته على السلطة. 

كان من نتائـج فشل استزراع الدولة الحديثة في غامبيـا، طيلـة الـ50 عامًا الأخيرة، أن نمت داخل الأوساط الشعبيـة والطبقة السياسية والنخب العسكرية نظرة سلبية تجاه الديمقراطية وأدواتها، وترسخت داخل دوائر النظام وباطِّـراد النزعات القَبَلية والعِرقيـة والطائفيـة، ما جعــل المواطــن الذي انتقـل حديثًا من نظام العشيـرة يكرِّس ولاءه من جديـد للقبيلة على حساب الدولـة، وعلى الأرجح، فإن المواطنين الغامبيين ينظرون إلى السلطة الحاليـة باعتبارها تمثـِّل حقبة قومية ديولا (Dioula) التي ينحدر منها الرئيس يحيى جامي، ولا يُخفي هؤلاء شعورهم بهيمنتها وريادتها على بقيـة المكونات العِرقية. من هنـا، يمكننا فهـم استهداف أبرز قيادات المعارضـة ذات الانتماء الإثني لقومية المَانْدينْغُو من قبل السلطة. 

والملاحظ أن نظام الرئيس يحيى جامي قد سدَّ الباب أمام حرية التعبير حيث تم غلق وسائل الإعلام المستقلة، كما أعاد كتابة القواعد الانتخابية وتغيير نظم الاقتراع، وأزيد من هذا فقد استخدم قوات الأمن والجيش في ضرب وتبديد طموحات خصومه بغيـة توطيد أركان حكمه والبقاء أطول مدة في السلطـة، وهذه كلها عوامل تجعل العديـد من المتابعين يردِّدون؛ أن نظـام جامي، الذي يحكـم بلاده بقبضـة من حديـد يظـل مرشـحًا للاستمرار فـي الحكـم خاصـة مع حالة العجـز والهزال البنيوي للتشكيلات الحزبيـة المعارضة. 

ويجري هذا الانسداد في الأفق السياسي في سياق تعيش معه غامبيا تداعيات موجة من الجفاف دامت سنيـن عددًا، وقد دفـعت بالآلاف من المزارعين والرعاة خارج أراضيهم، يضاف إلى ذلك عجـز الحكومة عـن التقليـل من حدَّة الإصابات بالملاريا داخل الأوساط الشعبيـة بعـدما بددت موارد مضاعفة فـي القضاء على وباء الإيبولا. وتبقى غامبيا إحـدى أفقـر الدول مع أن ساكنتها لا تتجاوز 1.96 مليـون نسمـة، تكمن المشكلـة الأساسية بالنسبة لساكنتها في الوفيات المرتفعـة نتيجة مرض الملاريا. 

يعتمـد اقتصاد غامبيا على المحاصيـل الزراعيـة وخاصـة الفول السوداني الذي يشتغـل به حوالي 77.77% من السكان بحيث يعد أهم مصادر اقتصاد غامبيا قاطبة، وعلـى صعيد كهذا تتخوف مجموعة البنك الإفريقي للتنمية(15) مـن تبعات تقلُّص الاقتصاد الغامبي من 4.3 بالمئة سنة 2013 إلى حدود 0.7 بالمائة خلال العام 2014، ينضاف إلى ذلك استمرار العجز في الميزانية المقدَّر بـ8.7% والديون الثقيلة المقدَّرة بـ100% من الناتج المحلي الإجمالي.

_____________________________

عبيد ولد إميجـن - كاتب موريتاني مهتم بالشأن الإفريقي.

References

1 - Gambie: Trois hommes en justice pour avoir accusé Yahya Jammeh d'animosité envers les mandingues

http://koaci.com/gambie-trois-hommes-justice-pour-avoir-accuse-yahya-jammeh-danimosite-envers-mandingues-99586.html

تم التصفح في 26 أغسطس/آب 2016.

2 – See: http://fr.allafrica.com/stories/201605201089.html

تم التصفح في 25 أغسطس/آب 2016.

3 – http://www.expert-comptable-international.info/fr/pays/gambia/economie-3 

تم التصفح في 23 أغسطس/آب 2016.

4 – See: http://jotay.net/yaya-jammeh-menace-ses-opposants-de-mort-si-vous-voulez-destabiliser-ce-pays-je-vais-vous-envoyer-neuf-pieds-sous-terre-et-pour-sept-mille-ans/

تم التصفح في 27 أغسطس/آب 2016.

5 – http://www.lemonde.fr/afrique/article/2016/04/19/la-gambie-plongee-dans-la-peur_4904819_3212.html

تم التصفح في 25 أغسطس/آب 2016.

6 – نفس المرجع السابق.

7 - http://donnees.banquemondiale.org/pays/gambie

تم التصفح في 27 أغسطس/آب 2016.

8 – http://www.jeuneafrique.com/328988/politique/yahya-jammeh-a-j-a-ne-suis-quun-dictateur-developpement/

مقابلة مجلة جون أفريك مع الرئيس يحيى جامي تحت عنوان: "أنا لست سوى ديكتاتور من أجل التنمية!".

تم التصفح في 25 أغسطس/آب 2016.

9 - United States removes three countries from AGOA

 http://www.ictsd.org/bridges-news/bridges-africa/news/united-states-removes-three-countries-from-agoa

تم التصفح في 25 أغسطس/آب 2016.

10 – http://www.diplomatie.gouv.fr/fr/dossiers-pays/gambie/presentation-de-la-gambie/

تم التصفح في 23 أغسطس/آب 2016.

11 – Démocratie africaine : la problématique de la « nation »

انظر في الرابط:

http://www.libreafrique.org/Kodia_Martin_democratie_afrique_210411

تم التصفح في 25 أغسطس/آب 2016.

12 – Crise des institutions, coups d’Etat, dépendance accrue L’échec des systèmes politiques africains, Par Jacques Chevrier, Page 20, Edition 1975.

13 – Tribalisme et Parti Unique en Afrique Noire : Esquisse d’une Théorie Générale de l’Intégration Nationale. (Thèse de Doctorat d’Etat en Sociologie Politique, publiée par la Fondation Nationale de Science Politique (Paris, Presses de la Fondation Nationale de Science Politique, 1977).

14 - مقالة الحكم في إفريقيا: من الانقلابات العسكرية إلى التداول السلمي، للأستاذة أميرة عبد الحليم المنشور في مجلة الأهرام الديمقراطية،

http://democracy.ahram.org.eg/UI/Front/InnerPrint.aspx?NewsID=319

تم التصفح في 25 أغسطس/آب 2016.

15 - يمكنك مراجعة بيانات البنك الإفريقي للتنمية حول غامبيا من خلال الرابط:

http://www.afdb.org/fr/countries/west-africa/gambia/gambia-economic-outlook/

تم التصفح في 25 أغسطس/آب 2016.