تونس: معركة "المجلس التأسيسي"

الحكومة التونسية تُفعّل قانون الطوارئ لتوسع من صلاحياتها، وقوى تونسية متخوفة من الإسلاميين تسعى إلى إجهاض المجلس التأسيسي، كل ذلك يهدد عملية التحول الديمقراطي بتونس.
11 September 2011
1_1083635_1_34.jpg

رويترز

مركز الجزيرة للدراسات

لا تنفك الساحة السياسية في تونس تفاجئ الجميع بتطوراتها غير المنتظرة والمنتظرة في الآن نفسه. فمع اقتراب البلاد من موعد انتخابات المجلس التأسيسي، المزمع إجراؤها يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول، بدأت في التعالي بعض الأصوات الداعية لإجراء استفتاء في نفس اليوم حول مدة انعقاد المجلس المذكور وصلاحياته. في وقت متزامن انطلق رجال الأمن في سلسلة من التحركات الاحتجاجية التي بلغت ذروتها يوم الثلاثاء 6 سبتمبر/أيلول عندما اقتحم عدد من رجال الأمن المعتصمين في ساحة القصبة قصر الحكومة حيث كان رئيسها المؤقت، الباجي قائد السبسي، يلقي خطابا.



تفعيل قانون الطوارئ

للوهلة الأولى تبدو هذه التحركات غير مرتبطة ببعضها البعض، غير أنها تلتقي في نقطة بالغة الأهمية: التشويش على انتخابات المجلس الوطني التأسيسي الذي ينتظر أن ينجز الدستور الجديد ويأخذ البلاد إلى الجمهورية الثانية ويقطع بصفة نهائية مع النظام القديم. ولم يفت الارتباط بين العنصرين الحاليين الأكثر بروزا حاليا في الأزمة التونسية (الأمن والتأسيسي) رئيس الحكومة المؤقت في خطابه الأخير، حيث بدأه بالحديث عن موضوع الاستفتاء ليشن هجوما لاذعا على نقابات الشرطة نعت فيه رجال الأمن المتمردين "بالقردة".

الرأي العام بكل انقساماته رافض لهذه التحركات من رجال الأمن التي تأتي في خضم الاستعداد للانتخابات وقبل يوم واحد من انتهاء آجال قبول الترشحات لعضوية المجلس التأسيسي، وكذلك قبل أسبوع واحد من عودة الطلاب لصفوف الدراسة

غير أن المتابع لخطاب الرجل يلاحظ دون أدنى شك أنه في حين ادّعى الحياد إزاء الجدل حول موضوع الاستفتاء بالقول أنه لا دخل للحكومة في هذا الموضوع، فإنه اتخذ موقفا صارما إزاء اعتصامات رجال الأمن وتهديداتهم بالإضراب وتدخلهم في عمل الحكومة عن طريق إملاء شروطهم عليها، معطيا الأمر للوزراء والولاة بحل هذه النقابات وبتفعيل قانون الطوارئ.

وأكثر من خطاب رئيس الحكومة ذاته، فإن الأجدر بالاهتمام هو طبيعة رد فعل الشارع على هذا الخطاب وعلى تحركات نقابات الشرطة. من زاوية نظر تاريخية ذكّر خطاب رئيس الحكومة المؤقت المراقبين بخطاب الرئيس الأسبق بورقيبة في ديسمبر/كانون الأول 1962 عند اكتشاف أمر المحاولة الانقلابية آنذاك: التنبيه إلى أن هذا النوع من التحركات يهدد كيان الدولة ذاته وليس الحكومة فحسب، وأن الصرامة تجاه هذه التحركات أمر مطلوب وإلا كانت الحكومة غير جديرة بتسيير البلاد. لم تبرز في الساحة التونسية أية انتقادات لمضمون خطاب الرجل في هذا الاتجاه، مما يعني أن الرأي العام بكل انقساماته رافض لهذه التحركات من رجال الأمن التي تأتي في خضم الاستعداد للانتخابات وقبل يوم واحد من انتهاء آجال قبول الترشحات لعضوية المجلس التأسيسي، وكذلك قبل أسبوع واحد من عودة الطلاب لصفوف الدراسة.

هناك حالة من القلق تسود الرأي العام من رؤية هذه التحركات تؤثر على الموعدين وتدخل الاضطراب على السير العادي للحياة في وقت يفترض أن تبدو فيه السلطة التنفيذية موحدة إزاء الاضطرابات الأمنية في جهات البلاد. ورغم أنه من السابق لأوانه تأكيد وجود دلائل مادية على انخراط نقابات الأمن في مجهود الهدف منه التشويش المتعمد على الانتخابات، فإن اللافت للنظر هو استغلال بعض القوى لما حدث بساحة الحكومة من أجل العودة للحديث عن الجيش وإمكانية أن يكون تسلمه للحكم عبر مجلس عسكري مخرجا لأزمة ضعف الحكومة وهشاشة الحالة الأمنية. وقد أثار ذلك في الحقيقة بعض التساؤلات حول إمكانية أن يكون هذا السيناريو هو الحل الذي ستتجه إليه الأوساط المتخوفة من اكتساح حركة النهضة لمقاعد المجلس التأسيسي خاصة وأنه يتوافق مع مضمون التصريحات التي كان قد أدلى بها منذ أشهر وزير الداخلية المعزول القاضي فرحات الراجحي والذي أشار إلى اتجاه في الأوساط العليا لحسم الأمور على الطريقة الجزائرية في حال فوز الإسلاميين في الانتخابات أو إثارة اضطرابات لمنع أن تتم الانتخابات في ظروف من الاستقرار، وربما إلغاؤها أصلا.

تنبغي الإشارة إلى أن الحديث عن نقابات الأمن دون تدقيق أمر لا يعكس درجة تعقيد الوضع في هذه المؤسسة الحساسة التي حكم بها النظام السابق التونسيين لمدة ربع قرن. فمن ناحية أولى نجد أن هناك عديد النقابات الأمنية التي تشكلت بصورة غير منتظمة منذ بداية عهد فرحات الراجحي على رأس الوزارة المعنية. كما أنها في كثير من الأحيان نقابات متناقضة الميولات والولاءات. وينظر البعض بكثير من التوجس إلى النقابة التي نظمت الاعتصام الأخير ويرى أنها باختيارها هذا التوقيت الحساس لرفع مطالبها إنما تخدم أجندات أعداء النظام الجديد الذي يفترض أن يدخل تأسيسه منعرجا حاسما بالانتخابات.

وبالفعل فإن كبار المسؤولين الأمنيين الذين يشرفون على الوضع الأمني في البلاد حاليا ينتمون لنفس السلطة القديمة، وخاصة للصف الأول والثاني من قيادات النظام الأمني في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، مما يثير الكثير من الشكوك حول إمكانيات تأسيس النظام الديمقراطي الجديد برموز النظام الاستبدادي القديم. لكن بعض النقابات، مثل نقابة قوات الأمن الداخلي، وهي الأقوى حاليا، ترفع بالإضافة إلى المطالب الاجتماعية للأعوان، شعارات تطهير النظام الأمني من أجل ضمان السير نهائيا في طريق الإصلاح وإن كان بعض المتابعين يلاحظ ميلها في الفترة الأخيرة إلى غض النظر عن هذا المطلب واتجاهها إلى التهدئة.

بصفة أكيدة، يبدو احتمال سيطرة قوى ثورية على المجلس التأسيسي، وتشكيلها حكومة وطنية تحاسب رموز النظام السابق، أمرا مخيفا للقيادات الأمنية المتورطة في إخضاع التونسيين للنظام الديكتاتوري في العهد السابق وكذلك في شبكات الإثراء المشبوه والفساد المالي والإداري الذي سجلته منظمة شفافية دولية لسنوات عديدة. ذلك ما يجعل من المطالب السياسية داخل القطاع الأمني إما صادرة عن بعض العناصر الوطنية تخشى من إفساد العملية الانتخابية (مطلب تصفية القطاع الأمني) وإما مدعومة من مراكز القرار الأمني المتبقية من عهد بن علي والمتخوفة من قرارات حكومة ينتخبها مجلس تأسيسي غير موال للنظام القديم. لكن مهما كانت النوايا فإن قوى النظام القديم قد تستغل مطالب قوى أمنية لعرقلة انتخابات المجلس التأسيسي.



مخاطر إجهاض المجلس التأسيسي

الملاحظ أن المدافعين عن الاستفتاء لتحديد صلاحيات المجلس التأسيسي هم نوعان: شخصيات وأحزاب كانت منذ البداية رافضة لفكرة المجلس التأسيسي وهي من المنتمية للنظام القديم أو من الأحزاب التي شاركت في حكومتي الغنوشي (الحزب الديمقراطي التقدمي بزعامة أحمد نجيب الشابي بالخصوص

نفس هذه التخوفات تلقي بضلالها على الساحة السياسية اليوم، وهو ما يظهر بصفة جلية من خلال الدعوة التي بدأت تشتد لتحديد صلاحيات المجلس التأسيسي. ينبغي التذكير أولا أن هذا المطلب كان قد ظهر منذ بداية الصيف عندما اجتمع ممثلون عن 47 حزبا من الأحزاب المتفرعة عن الحزب الحاكم المنحل للمطالبة بإجراء استفتاء حول شكل النظام المقبل وحول مدة عمل المجلس التأسيسي (مؤتمر1 جوان/حزيران). وخال آنذاك المراقبون للساحة السياسية أن هذه الدعوة كانت عبثية لا مستقبل لها، غير أن فشل بعض اليساريين في تضمين وثيقة "العهد الجمهوري" ما يريدون وجعلها في شكل "دستور صغير" يحدد توجهات الدستور الجديد (كانت الفكرة فيما بعد أن يتم تنظيم استفتاء على هذه الوثيقة المقيدة للمجلس التأسيسي وللدستور المقبل على حد سواء) جعلهم يتبنون فكرة الاستفتاء التي رفعتها تلك الأحزاب. والملاحظ أن المدافعين عن الاستفتاء لتحديد صلاحيات المجلس التأسيسي هم نوعان: شخصيات وأحزاب كانت منذ البداية رافضة لفكرة المجلس التأسيسي وهي من المنتمية للنظام القديم أو من الأحزاب التي شاركت في حكومتي الغنوشي (الحزب الديمقراطي التقدمي بزعامة أحمد نجيب الشابي بالخصوص).

وإما من بعض الأطراف اليسارية المتخوفة من سيطرة الإسلاميين على المجلس وتشكيلهم الحكومة المقبلة، مثل محسن مرزوق الذي يقوم مع آخرين بحملة إعلامية كبيرة في هذا الخصوص. غير أن دعاة الاستفتاء، بالإضافة إلى التناقضات القانونية التي يقعون فيها (مثلا: ليست هناك سلطة مخولة حاليا للدعوة إلى استفتاء، ليس من مهام الهيئة المستقلة للانتخابات تنظيم الاستفتاء، عدم جواز إفراغ المجلس التأسيسي من مهامه في حين سيكون أول مؤسسة شرعية منتخبة، من سيشكل الحكومة المقبلة؟ ) فإن تحالفاتهم مع قوى النظام القديم خاصة في المجال الإعلامي (تبني قناتين تلفزيونيتين خاصتين للاستفتاء وهجومهما الإعلامي المكثف في هذا الاتجاه) يصيب دعواتهم بعدم المصداقية.

وبالفعل، فمن وراء الجدل على صلاحيات المجلس التأسيسي المقبل فإن الرهان ليس دستوريا ولا تشريعيا، بل يتعلق بمن سيشكل الحكومة المقبلة. فمع انتهاء مرحلة تقديم الترشحات للمجلس التأسيسي، فإن ما أراده واضعو القانون الانتخابي من تشتيت للأصوات قد حصل بالفعل (حوالي 12000 ألف مترشح ضمن 1700 قائمة في 27 دائرة انتخابية  تتنافس على حوالي 200 مقعد) ولكنه تشتت لن يضر فيما يبدو بأصوات الإسلاميين الذين يحافظون على نفس النسبة في استطلاعات الرأي، أي بما يوازي ربع نوايا الاقتراع. هذا الأمر يبدو وأنه  زاد في شراسة المنهزمين المحتملين في الانتخابات الذين أصبح بإمكانهم اليوم أن يلاحظوا أن القانون الانتخابي الذي وضعوه بأيديهم سيضرهم هم بصفة خاصة، خاصة مع الانهيار الواضح الذي بدا على أداء الخصم الأقوى (سابقا) للإسلاميين وهو الحزب الديمقراطي التقدمي والانقسام الكبير الذي انتاب صفوفه بمناسبة صياغة قائمات الترشح للانتخابات. في الوقت نفسه سيخوض اليساريون وكذلك التجمعيون (الأحزاب المتفرعة من الحزب الحاكم المنحل) الانتخابات منقسمين مما سينعكس سلبيا على حظوظهم الواقعية للفوز بمقاعد في المجلس التأسيسي المقبل وسيجعلهم في مركز ضعيف عندما يحين النقاش على توزيع الحقائب الوزارية في الحكومة التي ستتشكل بعد الانتخابات.

من هنا، فإن الشراسة التي تلاحظ في صفوف المهاجمين لصلاحيات كاملة للمجلس التأسيسي تبدو متعلقة بالأساس بهذا الاستحقاق، وهو ما يجعل أغرب التحالفات تحدث في صفوفهم (تحالف الحزب الديمقراطي التقدمي مع الأحزاب التجمعية مثلا) غير أن الوقت لا يخدم لصالح هذه الدعوات مطلقا، حيث أقرت "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" في اجتماعها يوم الأربعاء 8 سبتمبر/أيلول بالاستحالة التقنية والمادية والقانونية لإجراء الاستفتاء، وهو أيضا ما عبر عنه قانونيون كثيرون أصبحت وسائل إعلام مرئية خاصة تعرض عن دعوتهم لبرامجها للدفاع عن وجهة النظر الرافضة للاستفتاء.

غير أن التخوف الأكبر الذي يشق الساحة السياسية اليوم هو في إمكانية أن يكون المدافعون عن فكرة تحديد صلاحيات المجلس التأسيسي المقبل مدعومين من قوى النظام القديم وأذرعهم الأمنية بل وكذلك من بعض القوى الإقليمية المتخوفة من سيطرة الإسلاميين على المجلس وعلى الحكومة المنبثقة عنه وما يعنيه ذلك من تهديد محتمل لمستقبل مصالحها بتونس.



سيناريو الفوضى

يمكن تلخيص المشهد إذا في سيناريوهين. في الأول ينجح دعاة الاستفتاء في الدفع نحو قرارهم باستخدام الفوضى وتحريك نقابات الشرطة للضغط على السلطة المؤقتة الحالية لاتخاذ القرار في هذا الاتجاه أو تأجيل الانتخابات مرة أخرى وربما إلغاؤها ودعوة الجيش لاستلام مقاليد الأمور. أما في الثاني فانتهاء الانتخابات بإفراز مجلس تأسيسي يسيطر عليه الإسلاميون، عندها لن يدخر خصومهم جهدا في إعادة تحريك نفس العناصر من أجل منعهم من تشكيل حكومة تقطع مع العهد القديم. وفي الحالتين فإن الوضع يعد بمزيد من عدم الاستقرار ويبقى منفتحا على احتمالات كثيرة.