في الوقت الذي انصب فيه اهتمام المغرب على تدبير هجرة مواطنيه بالخارج، والانكباب على إعداد سياسة عمومية تستجيب لحاجياتهم، ويوفر لهم الدعم والمؤازرة أمام ما يعترضهم من مشاكل في بلدان الاستقبال أمام صعوبات الاندماج، في موازاة ضمان ارتباطهم بالمغرب كهوية، ووطن، وقيم عن طريق خلق وإنشاء مؤسسات دستورية تعنى بذلك، فإن موقع المغرب الجغرافي، القريب من أوروبا، وطباع المجتمع المغربي المتسامح، جعلته نقطة جذب ومسار مفضل لدى المهاجرين الأفارقة، الذين تجمعوا في غابات محيطة بمدن شمال و شرق المغرب، ترقبا لفرصة الهجرة إلى أوروبا " الفردوس الأوروبي".
غير أن عسر وشدة المراقبة على حدود الخارجية لدول شينغن، وسنها تشريعا ، واتخاذها سياسة موحدة في ميدان الهجرة، و خلقها وكالات مختصة في تلك المراقبة "فرونتكس"، وتعاقدها مع دول جنوب المتوسط، و الساحل وجنوب الصحراء في أفريقيا، ومنها المغرب في إطار التدبير التعاوني للهجرة، من أجل محاربة الهجرة غير "النظامية"، كل ذلك جعل المغرب يتحول إلى بلد استقبال.
غير أن المغرب الذي نهج خطة سياسية و استراتيجية جديدة لتمركز قوي في أفريقيا، وحاجته إلى ضمان ود الدول الأفريقية، وحاجته إلى فك كل ألغاز العملية الأمنية في إطار نهجه الاستباقي، ومراعاة لالتزاماته بمقتضى القانون الدولي، و تقديره للجانب الإنساني والتضامني، فقد أقر بوجود أعداد من المهاجرين جنوب الصحراء فوق إقليمه يقدرون بالآلاف، و أعلن منذ 2014 عن نهجه سياسة استثنائية في ميدان الهجرة، بفتح الباب لتسوية الوضعية الإدارية للمهاجرين فوق ترابه، وهي الآن في نسختها الثانية منذ منتصف دجنبر 2016.
إلا أن هذا التطبيع لأوضاع المهاجرين الإدارية، لن يكون مكتملا إلا إذا أقترن بإجراءات وتدابير مادية، في إطار المنافذ الحقيقية للاندماج، لكفالة حقوق وحريات المهاجرين، وأبنائهم في التعليم والشغل والصحة والسكن وغيرها، وهي حقوق لها ارتباط وثيق بالموارد المالية للمغرب.
بيد أن الآني يقتضي القيام بحملات توعوية لدور الهجرة والتنوع في غناء المجتمعات و مناعتها، درءا لأعمال عنصرية قد تتولد عن فعل الاحتكاك اليومي، ونفس التحسيس مطلوب بين المهاجرين ليراعوا قيم ومشاعر مجتمع الاستقبال المغربي في سلوكهم وتصرفاتهم درءا لسقوطهم في المحظورات، التي يعاقب عليها القانون. فالهجرة معادلات صعبة، وفي خضمها يوجد الإنسان، الذي يجب أن يستأثر باهتمام الجميع.
تقديم
إن الفقر والعجز عن كسب وإنتاج ما يكفي لإعالة المرء وأسرته، بجانب الحرب والصراع والاضطهاد وغياب الأمن، كلها دوافع شخصية تدفع، وتُكره كثيرًا من الناس على الهجرة، بحثًا عن العمل، أو التماسًا للحماية عبر اللجوء في بلد ومكان آخر. ويمكن الحديث أيضًا، عن دوافع مرتبطة بسيكولوجية الشخص الميَّالة إلى السفر، إرضاء لرغبة، أو تحصيلًا للعلم، أو ركوبًا لمغامرة. وكلها أسباب تتأرجح وتدور في مجملها بين واقع وظروف دولة مصدر المهاجر، والمهاجر نفسه. وبجانبها، فللهجرة علاقة بالخارج، بسبب سياسات جاذبة للمهاجرين، وكان ذلك نهج مجموعة من الدول الأوروبية، في مراحل معينة من تاريخها؛ بغية إعادة البناء والإعمار، بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، نتيجة ما أحدثته من دمار، أو لتغطية حاجات اقتصادها من الأيدي العاملة، والأدمغة، أو من أجل إيجاد توازن لإخلال في سكانها.
بيد أن السياسة المستميلة، والجاذبة للمهاجرين، لم تعرف اطِّرادًا(1)، مع تداول برامج سياسية مختلفة على تسيير الشأن العام في أوروبا، بين أحزاب اليمين والأحزاب الاشتراكية. فالأولى، وخاصة المتطرفة منها، تنظر إلى الهجرة، كخطر على الأمن والهوية الوطنية(2)، يجب الحد منها، بينما الثانية ترى في تنوع المجتمعات وتعددها غِنى ومصدر قوة إضافية لها، يجب المراهنة عليه.
إلا أن الأزمة الاقتصادية، وتورط المواطنين الأوروبيين، جذورهم أجنبية، ومن المهاجرين في مشاكل أمنية وعمليات إرهابية، رجَّح اللجوء إلى الهجرة الانتقائية، واعتماد سياسات التشدد وإحكام المراقبة، لدرء الهجرة المفروضة. وهكذا، ومنذ السبعينات، وبعد عقود من الانفتاح، لوحظت بوادر التشدد في دخول الإقليم والتراب الأوروبي من الشرق والجنوب، وأُطبق هذا الإحكام، أكثر في سنوات التسعينات. حيث اعتمد جُلُّ الدول الأوروبية نظام التأشيرات للسماح بالدخول إلى إقليمها وترابها، فاضمحلت بسبب ذلك، إمكانيات وفرص دخول شباب المستعمرات الأوروبية القديمة، في إفريقيا إلى القارة العجوز، بالطريق القانوني والعادي.
أوروبا تتوحد في ميدان الهجرة وتنقل عبء الحراسة للمغرب
غير أن سياسة إغلاق الحدود ومراقبتها من البر والجو والبحر، بقيت بعيدةً، عن أن تشكِّل عائقًا ماديًّا يحول بين الشباب وتحقيق حلم وطموح الهجرة إلى أوروبا، فظهرت محاولات ناجحة للهجرة، والسفر خارج نقط العبور المعتادة: مطارات وموانئ ومراكز الحدود البرية، واتخذت مغامرات السفر والهجرة مسارات سرية، ووعرة، وباستعمال وسائل خطيرة، أو عبر معابر نظامية، باستعمال هويات مزيفة، وهو الشيء المعبَّر عنه تارة، بالهجرة غير الشرعية، وتارة أخرى بغير القانونية، وأحيانًا أخرى بالسرية، أو غير النظامية.
إلا أن الدول الأوروبية لم تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا التحدي، تحدي نجاح المهاجرين بدخول إقليمها بأعداد غفيرة يوميًّا، الذي مرده قدرة الشباب المهاجر الخارقة، على تخطي الحواجز المادية، والقانونية، والتكنولوجية، ولو تضحيةً ومغامرة بالنفس، وتقديم الرُّوح فداء وقربانًا للحلم بالحياة، فعمدت الدول الأوروبية بدايةً إلى توحيد سياساتها في ميدان الهجرة، منذ قمة تامبير 1999، ولاهاي 2004، وستوكهولم 2008، وجعلت من أولى أولوياتها، محاربة الهجرة غير القانونية؛ حيث تحولت سياسة الحيلولة دون ولوج الشباب الإفريقي لأوروبا، إلى تدابير مادية تمنعهم، وقواعد قانونية زجرية تعاقبهم على مجرد ممارسة الحق في مغادرة أوطانهم(3).
وهي السياسات، التي أقرها البرلمان والمجلس الأوروبي من ذي قبل، سواء في الميثاق الأوروبي للهجرة واللجوء، الذي صادق عليه المجلس الأوروبي في 15 و16 أكتوبر/تشرين الأول 2008(4)، أو في مذكرة البرلمان والمجلس الأوروبي CE/2008/115، بتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول 2008، المتعلقة بالقواعد والمسطرة المشتركة بين كافة الدول الأعضاء، من أجل ترحيل وعودة مواطني الدول الغير، في وضعية غير قانونية، ويُعرف هذا التوجيه الأوروبي بمذكرة "العار" أو مذكرة الطَّرد. وهي في جميع الأحوال اتفاقيات غير مطابقة للقوانين الدستورية الأوروبية، ومخالفة للقانون الدولي لحقوق الإنسان، وتتناقض حتى مع القوانين الداخلية لدول الاتحاد الأوروبي وللدول المتعاقدة معها في خطط وبرامج محاربة هذه الظاهرة.
وقد أدرك خبراء وسياسيو أوروبا أن هذه السياسة، وهذه التدابير لن يُكتب لها النجاح، ما لم تنخرط في تنفيذها دول المصدر، ودول العبور، فبدأ مسلسل توريط هذه الدول قانونيًّا وفعليًّا، عن طريق إبرام اتفاقات ثنائية معها، تحت اسم التدبير التعاوني في ميدان الهجرة، تضع بموجبها دول الاستقبال الأوروبية التزامًا على عاتق دول المصدر في إفريقيا، وواجبًا بالمساهمة والمشاركة في مراقبة وصدِّ أفواج الهجرة، والحد منها ومراقبتها، وقبولها بترحيل المهاجرين من مواطنيها إليها(5).
وفي مقابل هذا التعاون، فإن دول العبور والمصدر تستفيد من حصة في الهجرة الشرعية، ووعود من أجل الدعم والمنحة، والمساعدة بعناوين متنوعة، بحسب كل مرحلة؛ منها المساعدة من أجل التنمية، أو الشراكة من أجل التنمية، أو مساعدات في إطار الوضع المتقدم، الممنوح لبعض الدول، منها المغرب وتونس، ولا يتعدى في أحسن الأحوال ما تخصصه الدول الأوروبية لأداء التزامها المذكور، نصف نقطة من ناتجها الوطني.
وقد نتج عن تلك السياسة وقوع دول الشمال والغرب الإفريقي في شَرَك وخطيئة اتفاقيات التعاون في ميدان تدبير الهجرة؛ حيث فرضت الدول الأوروبية عليها واجب مراقبة حدودها الخارجية، بل وقبولها أحيانًا بالمساهمة البشرية الأوروبية في الفعل المباشر لعمليات المراقبة، فوق إقليم بعض الدول الإفريقية، وفي مناطق محددة، معروفة بنقط العبور السرية السوداء، وخاصة على السواحل المغربية والموريتانية؛ حيث تشارك قوات من حرس خفر السواحل الإسباني مع القوات المساعدة المغربية، أو مع القوات الموريتانية.
حجم الهجرة الإفريقية جنوب الصحراء والعابرة للمغرب
كان اهتمام المغرب، ولعقود تلت استقلاله مباشرة، بتدبير وتقنين ومراقبة هجرة مواطنيه إلى الخارج، كبلدٍ مصدِّر للمهاجرين، وخاصة إلى فرنسا وباقي بلدان أوروبا الشمالية، ثم إلى أوروبا الجنوبية، ومن بعدها إلى الدول العربية، ثم إلى أميركا، وأخيرًا إلى إفريقيا في ظل واقع يَطبَعُهُ فتح الحدود، ولم يكن يخطر بباله أنه سيتحول إلى بلد عبور واستقبال؛ ذلك أن نهج جُلِّ الدول الأوروبية لسياسات حماية لحدودها، واعتماد سياسة الترخيص المسبق قبل دخول أراضيها، عبر اعتماد التأشيرة، وتعقيد إجراءات الحصول عليها، والأداء عنها، وبقاء معيار منحها يدور حول مدى توفر الطالب على ضمانات عودته، ورفضها في حالة الريبة، وظهور مؤشرات تدل على الاشتباه في الطالب، أنه يشكِّل مشروع مهاجر في أوروبا، كل ذلك جعل الشباب المهاجر في إفريقيا، خاصة، الذي يبحث عن سبل لتحسين وضعه الاقتصادي، أو هروبًا من الحرب، وخلاصًا من العنف والاضطهاد، والتماسًا للأمان والحماية في مكان وبلد آخر، أو لمجرد تحقيق حلم وُلِد وكبر في ذهن الشباب الإفريقي، كل ذلك جعله، يبحث عن مسارات بديلة للسفر، خارج نطاق المعتاد القانوني. والتحاقه بأقرب نقطة جغرافية قريبة من أرض الحلم، فينتقي بين الخيارات، تبعًا لعدَّة عوامل يرجحها، بما يصل إلى سماعه أو علمه من تجارب ومغامرات سبقت ونالت النجاح، عن المجتمع الذي سيحل به ضيفًا في انتظار تحقيق الحلم، وفي غالب الأحيان يحط الاختيار على بلدان شمال إفريقيا، وخاصة المغرب، وهو ما فرض على المغرب اهتمامًا، وعبئًا إضافيًّا.
غير أن طول انتظار مقام المهاجرين من الدول الإفريقية، وجنوب الصحراء لتَحَيُّن ونجاح فرصة الهجرة وبالتالي العبور إلى أوروبا، أو تكرارها بعد محاولة، أو محاولات آلت وباءت بالفشل، وبسبب عُسر المراقبات وشدتها وكثافتها، جعلهم يجدون أنفسهم بحكم الواقع مع توالي الأيام، والشهور، والسنين عالقين، في المغرب، وفي أماكن خاصة، في الغابات والجبال المتاخمة لمدينتي سبتة ومليلية المحتلتين من قبل الإسبان، وفي وجدة، ومدينة طنجة، حيث يظهر لهم "الفردوس" قريبًا بالعين المجردة بعد أن كان مجرد حلم يراودهم طيلة مسار الطريق، ويخففون به هول، ومتاعب، ومشاق، وجحيم الهجرة ووعورتها، وهم يقطعون المسافات الطويلة إلى أقرب نقطة العبور ولا يفصلهم عنها في المغرب، غير كيلومترات معدودة، لا تتعدى 14كيلومترًا من مياه البحر المتوسط. كل ذلك جعل الغشاوة حول مدة مقامهم، التي طالت في انتظار تحقيق الحلم؛ إذ أصبحوا مستقرين، ومقيمين بحكم الواقع، والقانون في المغرب.
وينحدر المهاجرون الأفارقة، الذين وجدوا أنفسهم مضطرين، غير مختارين، للإقامة بالمغرب بسبب عُسر واستحالة العبور، من بلدان إفريقية جنوب الصحراء متعددة ومختلفة، بحسب، لغتها، ودينها، والجهة التي كانت مستعمِرة لها، وفي علاقاتها مع المغرب، وقد رصدت الإحصائيات المختلفة، أن أصول المهاجرين من نيجيريا، ومالي، والسنغال، وأنجولا، وساحل العاج، والكاميرون، وغامبيا، وغانا، وليبيريا، وسيراليون. وهذا الترتيب، إنما تم وفقًا وحسب حجم عدد المهاجرين من كل دولة مشار إليها، من العدد الأكبر إلى العدد الأصغر.
وقد أدى هذا الواقع الجديد، والمفروض، على المهاجر والمغرب على حدٍّ سواء، إلى تغيير طال وصف المغرب، كدولة، معروف عنها، أنها مصدِّرة للمهاجرين، ثم بلد عبور خلال العقدين الأخيرين، وبالضبط منذ بداية التسعينات من القرن الماضي، إلى أنها بحكم الواقع والسياسة دولة استقبال، وخاصة مع نهاية العقد الأول من القرن الحالي، الحادي والعشرين.
غير، أن الواقع الجديد، لم يسبِّب إلغاء، أو إزاحة، أو تجريد المغرب من لائحة بقية الصفات التي اكتسبها سابقًا، بل إن كل، وكافة الأوصاف والمميزات والسمات، اتحدت واجتمعت فيه كاملة، فالمغرب يظل دولة مصدِّرة للمهاجرين من مواطنيه؛ حيث حوالي 10% من سكانه، مغتربين في مختلف بلدان العالم، و90% منهم بأوروبا، كما أن المغرب دولة عبور واستقبال للمهاجرين من دول الغير، وخاصة من الدول الإفريقية جنوب الصحراء وغيرها من الدول العربية، وخاصة السوريين والعراقيين والليبيين، بنِسَب متفاوتة، وبعض الآسيويين. دون أن يجعل ذلك من المغرب حالة فريدة في المنطقة؛ إذ تماثله مجموعة من الدول الإفريقية ودول الجوار، منها: الجزائر، والسنغال، والنيجر، وموريتانيا، التي أصبحت بدورها؛ دول عبور واستقبال.
وقد كانت الإحصائيات، التي مصدرها مديرية الهجرة ومراقبة الحدود بوزارة الداخلية، تتحدث عن أن عدد المهاجرين من الدول الإفريقية جنوب الصحراء، والذين كانوا يرابطون في غابات "كروتشا" قرب مدينة فرخانة، المتاخمة لمليلية، أو غابة "بليونش" المحاذية لمدينة سبتة، أو في غابة "كورو" قرب سلوان بالناظور، وفي الشرق بمدينة وجدة، ذات الحدود مع الجزائر، النقطة التي كان يُرحَّل إليها المهاجرون الأفارقة من قِبل السلطات المغربية، تنفيذًا لأحكام، كانت تنعدم فيها وفي الإجراءات التي تمهِّد لها شروط وضمانات المحاكمة العادلة، أو في مدينة طنجة، القريبة جغرافيًّا من الجزيرة الإيبيرية، يبلغ أربعين ألفًا، وهو أقصى العدد الذي أعلنه وزير الداخلية المغربي بمناسبة الإفصاح عن نية المغرب تسوية أوضاع 850 لاجئًا و25 ألفًا من المهاجرين، وأنه يوجد في المغرب ما بين 25 ألفًا و40 ألف مهاجر في وضعية إدارية غير قانونية.
دول مصدر المهاجرين: المسارات والمعابر
لم تُثْنِ شدة المراقبة وإغلاق الحدود وتجريم الهجرة(6)، المهاجرين من دول جنوب الصحراء عن الهجرة، بقدر ما أثَّر ذلك مباشرة في مسار الهجرة وحقوق المهاجرين؛ لأنها سياسات، لم تفلح في بلوغ هدف منع ومحاربة الهجرة، ولأن ذلك لم يُثنِ المهاجرين جنوب الصحراء من سلوك السفر في اتجاه نقط العبور الأقرب، أو يدفعهم إلى اتخاذ قرار العودة إلى أوطانهم وبلدانهم بعد اطِّلاعهم على واقع الصعوبة في السفر، بقدر ما فتح المجال للبحث عن مسارات جديدة هدفها الوصول إلى "الفردوس الأوروبي". مسارات وطرق تمتاز بكونها أكثر بُعدًا، وأكثر خطورة، وهما عاملان فرضهما، تفادي نقاط التفتيش، والمراقبة برًّا، وتفادي البحرية الملكية المغربية، والقوات البحرية الإسبانية، في البحر الأبيض المتوسط، وعلى طول شواطئ المغرب على المحيط الأطلسي، وتفادي طلعات الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، المادية والتكنولوجية(7).
فأصبح المسار أكثر كلفة إنسانيًّا، بالنظر إلى عدد الضحايا الذين كانوا يموتون غرقًا، والذي كان يربو على الأربعين ألفًا في كل سنة، أو بالنظر إلى أعداد المفقودين المرتفعة بسببها، والذين لم يُعرف لهم مصير، وتوجد قبور لضحايا مجهولين في المدن الساحلية الإسبانية. ورغم عدم توقف الفعل والرغبة في الهجرة، واتخاذ المهاجر لسبل أخرى بديلة، وفي بلدان أخرى، فإن فعل المراقبة والتعاون المغربي مع أوروبا، أعطى نتائجه؛ حيث انخفض العدد سنة 2011، ولم يتعدَّ عدد من لقوا حتفهم في عرض البحر، على مستوى جبل طارق ألفًا وخمسمئة(8)، واستمر الانخفاض على هذه السواحل سنة 2015 إلى مئة، وسنة 2016 إلى ستة وتسعين ميتًا، في مقابل ارتفاعه في مناطق أخرى، منها خط ليبيا-لامبيدوزا، وليبيا-مالطا، إلى أربعة آلاف وسبعمئة واثنين وأربعين غريقًا سنة 2016، وفي طريق اليونان إلى أربعمئة وتسعة وعشرين هالكًا، وذلك بسبب وعورة المسالك وطولها وخطورتها.
وتُدرِج الدراسات والباحثون والخبراء، الطريقَ المغربيَّ، بمعابره الشاطئية شمالًا على البحر الأبيض المتوسط، وغربًا على الأطلسي، التي يبلغ طولها حوالي ثلاثة آلاف وخمسمئة كلم، ضمن المسار الأول، والثاني في مسالك الهجرة الإفريقية(9)، إلى جانب كلٍّ من الجزائر وتونس، أما المسار الثالث، فهو الخط، من السواحل الغربية لإفريقيا نحو جزر الكناري، ونقطُهُ متعددة، وغالبًا ما كان يتم الانطلاق من الجنوب، ما بين أكادير أو بوجدور أو في سواحل العيون في اتجاه تنيريفي. بينما الطريق أو المسار الرابع، فهو الخط من مصر وليبيا في اتجاه إيطاليا ومالطا واليونان، وقد عبر منه مئة وثلاثة وسبعون ألفًا وثمانية مهاجرين نحو أوروبا سنة 2016، بزيادة ثلاثين ألفًا عن العدد المسجَّل سنة 2015 (وهو: 144.305)، وهو الطريق الذي دأب المهاجرون على اتخاذه، بالنظر إلى ما آلت اليه ليبيا؛ حيث يشير التقرير الأخير للأوروبول إلى أن ثمانمئة ألف شخص يرابطون بليبيا من أجل العبور نحو أوروبا، وأن 90% من الناجحين في العبور عبروا على أيدي مافيات تهجير البشر، ويرجع ذلك بالأساس إلى الفوضى، وتدهور بنية الدولة منذ الثورة، وحتى الآن، حيث لم يهتد فرقاء السياسة لتوافق حول السلطة يعيد لليبيا استقرارها.
ولكل طريق مميزاته، بحسب صنف المهاجرين الذين يسلكونه، والغرض من اختيارهم للهجرة، فبينما يمتاز الخط الأول والثاني والثالث بالدافع الاقتصادي للمهاجرين الذين يتخذونه(9) بحثًا عن فرص العمل في البلدان الأوروبية لتحسين وضعهم المادي، فإن الطريق الرابع يختلط فيه المهاجر الاقتصادي، بملتمسي وطالبي الحماية واللجوء، بمعنى أنه يخضع لمفهوم الهجرة المزدوج، ذو الدوافع الإنسانية والسياسية والاقتصادية في آن واحد، وقد بلغ عدد الذي انطلقوا منه خلال سنة 2014 ما يقارب مئة وسبعين ألفًا وستمائة وأربعة وستين شخصًا، وارتفع العدد بنسبة الثلث سنة 2016، حيث تمكن خمسة آلاف وأربعمئة وخمسة وأربعون شخصًا من العبور منه إلى إسبانيا(10).
ومثلما لم يكن سهلًا، التمييز في دواعي ودوافع، اختيار المهاجرين للهجرة، والذين يدَّعون ويتذرعون دائمًا، الاضطهاد والعنف والخوف على حياتهم، فإن هذا العسر يمتد إلى عمليات التعرف بدقة على كافة جنسيات المهاجرين الذين كانوا يعبرون المغرب في اتجاه أوروبا، لأن سفرهم وتنقلهم وعبورهم غالبًا ما يتم سرًّا، ويسلكون المسالك غير الخاضعة للمراقبة، ولا تخضع للتصريح، وإن فوجئوا وبُوغتوا، وتعرضوا للتوقيف، لوقوعهم في قبضة الدرك الملكي المغربي، أو أفراد شرطة الأمن الوطني، أو القوات المساعدة، فإنهم غالبًا ما يسافرون بدون أوراق هوية، أو يُدلون بهويات مزيفة ووهمية، ولا يفصحون عن حقيقة جنسيتهم مخافة ترحيلهم مباشرة إلى بلدانهم.
المغرب وإقامة المهاجرين: صعوبات الاندماج وضعف الإمكانيات
اعتمد المغرب سنة 2014 عملية تسوية الوضعية الإدارية للمهاجرين فوق إقليمه، وقد تمكنت السلطات المغربية عبر هذا التدبير من تحديد مصدر المهاجرين بدقَّة، لاشتراطها الإدلاء بأوراق تُثبت الهوية، وجواز السفر، أو ما يقوم مقامه. وقد يكون ذلك التعريف إحدى أولويات وغايات العملية، ومن أهداف ما كانت ترمي إليه الاستراتيجية الجديدة في مجال الهجرة واللجوء، لإدارة تدفق المهاجرين، بعد الاهتداء إلى احتمال دسِّ عناصر تُشكِّل خطرًا أمنيًّا وسط المهاجرين، وبهذه الطريقة أعلن المغرب، عبر وزير داخليته، أن جنسيات المهاجرين الذين تمت تسوية وضعياتهم الإدارية أو المقدمين للطلبات خلال سنة 2014، توزعت على 116 دولة، ووفقًا لما صدر عن أمين المجلس الوطني لحقوق الإنسان، من إحصائيات، والتي أعلنها من جنيف، بتاريخ 15 يونيو/حزيران 2016، فإن عملية التسوية شملت 92% من بين 27 ألف وأربعمئة وثلاث وستين حالة، منهم عشرة آلاف من النساء، كما تم قبول خمسمائة وسبعة وسبعون طلبا للجوء.
وتجدر الإشارة إلى أن الإحصائيات الرسمية، تتباين، وتتناقض، عند مقارنتها بباقي الأرقام، التي تكشف عنها وكالة حماية الحدود الأوروبية الخارجية، "فرانتيكس"، أو جمعيات المجتمع المدني المغربية؛ ومنها: المركز المغربي للحريات والحقوق، وجمعية كوديم، والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وجمعية ضحايا الهجرة السرية؛ حيث ثبت لها عدم اهتمام مجموعة كبيرة من المهاجرين من الدول جنوب الصحراء بالعملية، وعدم اكتراثهم بها، بل إنهم ينظرون إليها بعين الريبة، ويعتقدون أنها ستثنيهم عن هدفهم الكبير في السفر والهجرة إلى أوروبا.
وعلاوة على ذلك، فالعملية لم تنسحب على كافة المهاجرين؛ لأنها وضعت شروطًا للاستفادة منها، والخضوع لهذه الشروط أقصى جزءًا كبيرًا منهم؛ وهو ما يجعل العدد الرسمي المعلَن غير جدير بالاطمئنان إليه، عند مقارنته بعدد الاعتقالات السنوية، التي تعلنها وزارة العدل، والتي كانت تتراوح بين 25 ألفًا وثلاثين ألفًا عن كل سنة، وكذا مقارنةً بعدد الطلبات المسجَّلة في عمليات تسوية الأوضاع الإدارية، التي أطلقها المغرب بمقتضى المرسوم الملكي لتسوية الوضعية الإدارية للمهاجرين، وكلها تشير إلى أن العدد يفوق العدد المعلن عنه بكثير، ويقترب من 50 ألفًا ونيف، وأقرَّت السلطات المغربية ضمنيًّا بصحة هذه المعلومات بإطلاقها فعليًّا للنسخة الثانية للتسوية يوم الخميس 15 ديسمبر/كانون الأول 2015.
التعقيدات القانونية التي تطرحها الهجرة الإفريقية للمغرب
صار المغرب شريكًا أساسيًّا للسياسة الأوروبية في ميدان الهجرة، منذ مارس/آذار سنة 1992، بتوقيعه على أول اتفاقية تسمح لإسبانيا بترحيل المهاجرين المغاربة(11)، الذين يعبرون إليها بطريقة غير قانونية وغير نظامية، وأعقباها باتفاقية أخرى سنة 2007، تسمح لإسبانيا بترحيل مهاجرين مغاربة من القاصرين غير المرافقين، وهي الاتفاقية التي جرَّت على المغرب انتقادات، من طرف المنظمات غير الحكومية، لعدم تقديرها للمصلحة الفضلى والعليا للطفل، قبل الترحيل. وأخيرًا اتفاقية 2012، التي يسمح المغرب بموجبها بعودة المهاجرين من غير مواطنيه إليه، أو ما يُسمى في الصحافة الإسبانية، بالعودة فوق المياه الدافئة، (12) (las devoluciones en agua caliente de subsaharianos) .
بيد أن عدم تحقيق الدول الأوروبية منفردة للنتائج المرجوة، من تدبير الهجرة في إطار ثنائي مع دول الجنوب، منها المغرب، بسبب تمرد مجموعة من الدول الإفريقية على الانخراط لأسباب مختلفة، وبالتحديد دولة مالي، جعل دول الاتحاد الأوروبي، تلجأ إلى الحل الثاني بالتعامل الخارجي مع الدول المعنية بالهجرة مباشرة، عن طريق التحرك الجماعي في المفاوضات، لفرض وإجبار دول الجنوب، منها المغرب، على القبول بشروطها. وهكذا، أصبح المغرب في إطار الاتحاد من أجل المتوسط، أو في إطار الوضع المتقدم مع الاتحاد الأوروبي، أو في إطار الاتفاق من أجل الشراكة والهجرة وحركية الأشخاص، بتاريخ 6 يونيو/حزيران 2013، مع تسع دول أوروبية، مُلزَمًا بقبول استقبال الأجانب، وخاصة الأفارقة من الدول جنوب الصحراء المرحَّلين من لدن الاتحاد الأوروبي من فوق أراضيه.
وهكذا، فبعدما فُرِض بدءًا على المغرب، في إطار المقاربة الشمولية للهجرة، تجريم حق التنقل، في إطار المادة 50، من قانون دخول وإقامة الأجانب والهجرة غير الشرعية، ضدًّا على رُوح المادة 13 من الاتفاق العالمي لحقوق الإنسان، الذي يضمن لكل شخص الحق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، والعودة إليه، ونفس الحق أكَّد عليه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. فإن انخراط المغرب في سياسة إغلاق الحدود مع أوروبا، وقبوله بترحيل المهاجرين الأفارقة إليه، أثَّر في نفس الوقت على حق المهاجرين من دول جنوب الصحراء، في التماس الحماية عبر نظام اللجوء في البلدان الأوروبية، خلاصًا وهربًا من العنف والحروب والاضطهاد، وهو الحق الكفول بمقتضى المادة 14 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وهذا القبول المغربي بترحيل المواطنين من دول الغير إليه، والمسمَّى أيضًا بالترحيل الفوري، والمخالِف للقانون الدولي للهجرة، والقانون الدولي لحقوق الإنسان؛ لأنه يكون مجردًا من الضمانات القانونية، التي تفرض إقراره بحكم قضائي، وتنفيذه تحت مراقبة قضائية، تنتج عنه تداعيات لعلاقات المغرب مع الدول الإفريقية، مصدر المهاجرين المرحَّلين والمطرودين. هذه العلاقات التي يوليها المغرب أهمية واهتمامًا خاصَّيْن، بدليل صياغته لسياسة واستراتيجية جديدة لعلاقاته مع الدول الإفريقية، يتخذ فيها شخص الملك دورًا محوريًّا، والمحرك الأساسي فيها، ودعت تضامنًا منه مع هذه الدول، ومن منطلق إنساني، إلى إطلاق المغرب لحملة تطبيع أوضاع المهاجرين سنة 2014، والإعلان عن بدء فترة ثانية لعمليات التسوية الإدارية لأوضاع المهاجرين فوق إقليمه في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2016؛ لأن المغرب في غنى عن قبول الخضوع لتدابير ترحيل المهاجرين فوق أراضيه لخرقها لحقوق الإنسان الملتزم بمقتضياتها، ولحاجته لضمان ودِّ كافة الدول الإفريقية، حضنه الطبيعي، ضمانًا لمواقفها السياسية لصالح قضاياه الحيوية والاستراتيجية.
وقد كان الاتفاق المغربي-الأوروبي هدفًا لمنظمات حقوقية، منها منظمة هيومان رايتس وتش، التي طالبت بمنع ترحيل المهاجرين إلى المغرب من سبتة ومليلية(13). ونتج عن هذه التدابير، قبل سنة 2014، تاريخ إطلاق العملية الأولى لتسوية أوضاع إدارية لإقامة المهاجرين، أن وجد آلاف الأشخاص أنفسهم يتحركون مكرهين بسبب الطرد وسط مناطق محددة، من المغرب إلى الجزائر وموريتانيا ليبقى هذا السيناريو قائمًا من الجزائر إلى مالي والنيجر، ومن موريتانيا في اتجاه السنغال ومالي، ومن ليبيا في اتجاه النيجر ومالي.
فالطرد الجماعي، يخرق حقوق الإنسان، المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، والعهدين الدوليين، واتفاقية حقوق المهاجرين وأفراد أسرهم، والاتفاقية الدولية 1993، واتفاقية 1951، الخاصة باللجوء، وبروتوكول 1956، والاتفاقية الدولية لحقوق الطفل 1989، والتزام المغرب وإسبانيا وفقًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان وطبقًا لدستوريهما -إسبانيا المادة 13 من دستور 1978، والقانون 2/2009، والقانون التنظيمي 557/2011، واتفاقية دبلن 2004 الخاصة بالقواعد المشتركة للجوء في أوروبا، والمغرب في ديباجة دستور الفاتح من يونيو/حزيران 2011- وفي قوانينهما الداخلية بحماية حق التنقل وتوفير الحماية وعدم الطرد الجماعي، وضرورة أن يتم الطرد وفقًا للقانون وتحت إشراف قضائي وعدم شمول الأطفال القاصرين به.
كما أن تداعيات ظاهرة الهجرة داخليًّا، اتخذت طابعًا اجتماعيًّا وحقوقيًّا وإنسانيًّا، خاصة بعد ما أسفر الواقع الجديد، الذي يطبعه اتخاذ المهاجرين الأفارقة للمغرب موطنًا ومستقرًّا لهم، وتفاعله مع واقع مغربي في كافة تجلياته، عن بروز نوع من ردَّات فعل مجتمعية، بالرفض أحيانًا، تجسَّدت في أعمال عنف، واصطدامات أحيانًا، بين المواطنين المغاربة والمهاجرين، بسبب الاحتكاك، أو تتخذ شكل تعبيرات أو كتابات أو سلوكيات عنصرية، أو جرائم، ويتم السيطرة عليها، واحتواؤها أمنيًّا، وتصاحبها مبادرات محتشمة للمجتمع المدني، بحملات التوعية والتحسيس، مثل مبادرة "ماشي سميتي عزي". وهذا الوضع هو نسخة طبق الأصل لسابق ما عاشته إسبانيا خلال بداياتها مع الهجرة، سواء مع المغاربة، أو الأفارقة(14).
وغالبًا، ما يدور جوهر وموضوع الأحداث، حول انتهاكات لحقوق المهاجرين، قد يصل حدَّ انتهاك الحق في الحياة، أو ضلوع المهاجرين في قلاقل ومشاكل اجتماعية، أو تحولهم لفاعلين لجرائم تمس بحقوق وممتلكات باقي المواطنين، كاحتلالهم لمساكن في حي بوخالف بطنجة شمال المغرب، وهو ما يستدعي التفكير في سياسة اندماج حقيقية، من شأنها ضمان التوازن بين كفالة حقوق المهاجرين الأساسية، وتحسيسهم وتوعيتهم بالامتثال للقوانين، وضمان حقهم في التقاضي وولوج العدالة، وباقي الحقوق الأخرى مثل التغطية الصحية، وشمولهم بنظام "راميد" على غرار ما تستفيد منه الفئات المعوزة في المجتمع، في إطار الإمكانيات الاقتصادية المتاحة، وأن يتم تدبير كل المشاكل التي تعترض الإدارة والمجتمع تحت إشراف قضائي.
المقاربة المغربية: الحلول الممكنة في ظل عمليات التسوية
اختلفت وتنوعت طرق تعامل المغرب مع الهجرة والمهاجرين، واتخذت صيغًا عديدة ومتعددة، لكنها تَتَّحِدُ في دواعي إقرارها، إما تلبية واستجابة لأداء التزام اتفاقي، أو تعاقدي، أو سياسي أو أمني، وهو الغالب، أو إنساني، وقد دشَّن المغرب السياسة الأولى بتشديد المراقبة لسواحله، في الشمال على المتوسط، كما في الغرب على المحيط الأطلسي، قبالة جزر الكناري، بالإضافة إلى تأهيل موظفيه من شرطة الحدود العاملة في نقط العبور، ثم تأهيل ترسانته القانونية لتواكب التغيرات والتطورات الجديدة، في عالم جرائم التزوير والتزييف للهويات والوثائق وانتحالها، وتأهيل فرق مكافحة الجرائم وتفكيك العصابات المتخصصة في ميدان تهريب البشر؛ حيث بلغ عدد الشبكات المفككة خلال سنة 2014 وحدها 105 شبكات تتاجر في البشر، وهو ما انعكس انخفاضًا، في النتائج السنوية الخاصة بأعداد العابرين بطريقة غير قانونية إلى أوروبا، الذي لم يتجاوز 1500، أو في انخفاض عدد الغرقى، وفي عدد الاعتقالات، أو في تغيير مسارات الهجرة إلى بلدان ونقط أخرى.
إلا أن جديد السياسة المغربية يكمن في عملية التطبيع، التي نهجها المغرب منذ يناير/كانون الثاني 2014، باتخاذه قرار تسوية الأوضاع الإدارية للاجئين والمهاجرين، في إطار الرؤية الجديدة والشاملة للهجرة، والمعبَّر عنها تارة، بالسياسة الجديدة للمغرب في ميدان الهجرة، وتارة أخرى بالاستراتيجية الجديدة في مجال الهجرة واللجوء، والتي عبَّر عنها الملك أول مرة، في سبتمبر/أيلول سنة 2013، بِحَثِّه للوزراء المتدخلين، في العدل والداخلية والخارجية، إلى المبادرة إلى إصلاح سياسة استقبال المهاجرين على التراب المغربي، على إثر ما توصل إليه المجلس الوطني لحقوق الإنسان في تقريره. وهو ما مكَّن من تسوية وضعية ما يناهز، سبعة عشر ألفًا وتسعمئة وستة عشر شخصًا خلال سنة 2014، وتمثَّل 90% من عدد المهاجرين في وضعية إدارية غير قانونية، حسب تصريح وزير الداخلية المغربي، كما تمت الاستجابة لكافة طلبات التسوية الخاصة بالأطفال والنساء.
وبالرغم من الوصف الذي أُطلق على هذه المبادرة المغربية، واعتبارها استثناء في المنطقة، ولا شك في ذلك، مثلما لا ريب في شجاعة المغرب في الإقدام على تلك السياسة، التي أصبحت مع تواليها بإطلاق حملة ثانية، ديسمبر/كانون الأول 2016، سياسة مهيكلة، إلا أن ذلك السبق لا يلغي الإقرار بأن العملية ككل، في جوهرها، وحقيقتها، هي مجرد تطبيع لأوضاع، عن طريق تنزيل التزام قانوني دولي، أخذه المغرب على عاتقه من ذي قبل، سواء في القانون الدولي لحقوق الإنسان، أو القانون الدولي للهجرة، والشرعية الدولية، بتوقيعه ونشره لمجموعة من المواثيق، والاتفاقيات، والمعاهدات الدولية، التي أصبحت -وفقًا لمكانة المعاهدات الدولية الموقَّعة والمنشورة في الجريدة الرسمية المغربية- جزءًا من تشريعه الوطني، تفرض عليه احترامها وتطبيقها، وكفالة الحقوق والحريات الواردة فيها، للأجانب الموجودين فوق إقليمه، تنفيذًا لمقتضيات تلك الاتفاقيات، وانسجامًا مع الدستور المغربي، للفاتح من يوليو/تموز 2011(15)، الذي ينص على مكانة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية في علاقتها بالقوانين الوطنية، ويضعها في مرتبة القوانين الداخلية الواجبة التطبيق(16).
إلا أن جرأة وشجاعة المغرب، في مطابقة، وملاءمة تدبيره لقواعد القانون الدولي؛ فلا يؤول التدبير والقانون المتخذ للمثالية والكمال، لأنه لن يكون قمينًا بتحقيق الهدف والمبتغى، ما لم تكن السياسة مصحوبة بسياسة اندماج وإدماج المهاجرين، عبر مداخله في الشغل والتكوين والتعليم، وتمكينهم من حقهم في الصحة والسكن وغيرها، بما يضمن كرامة المهاجرين الأفارقة، الذين تعيش مجموعة منهم الآن على التسول، وهو كفالة ستبقى محدودة، ودون تلبية لكافة حقوق المهاجرين، ودون انتظارات وطموحات الحقوقيين، والجمعيات غير الحكومية، التي تشتغل في موضوع الهجرة، مع الإشارة، إلى أن ذلك القصور في الحقوق والحاجات والضرورات، لم يكن ليطول المهاجرين وحدهم، بل يمتد ليطول المواطنين والأجانب على السواء، دون تمييز، فيما بينهم، وهو مرتبط بتكلفة الهجرة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي(17)0
خاتمة
لقد وجد المغرب نفسه، من حيث لا يحتسب، أمام معادلة صعبة(18) وامتحان عسير؛ قوامه كيف يجد الانسجام بين ملتمساته وطلباته ومرافعاته بتوفير وكفالة حقوق المهاجرين المغاربة في الدول الأوروبية التي يتم هضمها دون أن يكون ذلك أولوية دبلوماسية(19)، وبين الضرورة القانونية، والأخلاقية بضمان نفس الحقوق للمهاجرين الأفارقة بالمغرب، في ظل مصادقة المغرب على مجموعة من الاتفاقيات الدولية لصالح تلك الفئة، وفي ظل موارد متواضعة من جهة، وبين ضرورة الإذعان والخضوع لمجموع القواعد والإجراءات والتدابير المادية والتعاقدية، غير المطابِقة لحقوق الإنسان بين المغرب والاتحاد الأوروبي ككتلة جماعية، وبين المغرب والدول أعضاء نفس الاتحاد في إطار اتفاقات ثنائية، من جهة أخرى. يضاف إليه إكراه والتزام آخر، هو: كيف يحافظ المغرب على حُسن وجودة علاقاته مع الدول الإفريقية أصل المهاجرين، في إطار سياسة المغرب الجديدة في إفريقيا؟
غير أن تعدد أطراف معادلة الهجرة، وصعوبة إدراك حل يحفظ الانسجام والتوازن بين حقوق كافة أطرافها لا يعطي المبرر، ولا يشفع للمغرب ولا لغيره في النَّيْل من حقوق الطرف الأساسي في المسألة، وهو شخص المهاجر، فهو الإنسان، تجب ضمان وصيانة حقوقه وحرياته الأساسية، ووضعها فوق كل اعتبار آخر سياسي، أو مصلحي؛ فالإنسان مكرَّم بطبعه وأصله، بمقتضى القانون والشريعة.
فهل سيستدرك المغرب ذلك، وينتفض تمردًا على مجموعة من الاتفاقيات، التي تجمعه مع الاتحاد الأوروبي في ميدان الهجرة، التي لا تحترم في جوهرها حقوق الإنسان، ولا تتطابق مع القانون الدولي لحقوق الإنسان، خاصة بعد إلغاء المحكمة الأوروبية للاتفاق الزراعي بين المغرب والاتحاد الأوروبي، بداعي عدم ملاءمة الاتفاق لقاعدة قانونية في ميثاق الأمم المتحدة، وغضب المغرب على المفوضية الأوروبية بادِّعائه عدم احترام أوروبا لالتزامها السياسي والتعاقدي مع المغرب، وعدم إقامتها وزنًا واعتبارًا لمبادراته، ومنها قراره الفريد بتطبيع وتسوية الوضعية الإدارية لمجموعة من المهاجرين، واللاجئين فوق إقليمه؟
أم أن المغرب سيرضخ للضغط السياسي، ويستسلم لحاجته له وللعائد المالي ويستمر في تسويق قدراته الأمنية أمام أوروبا؛ فيقيم الحجة على هواجسه، ويقيم الريبة على حقيقة مبادرته، أن خلف دوافعها الحقوقية والإنسانية والتضامنية تختفي السياسية(20)، ويستمر رهينًا، وملتزمًا وفيًّا بحراسة الأبواب الخلفية لشنغن، التي تمتد حتى مدينتي سبتة ومليلية بطريقة تسوية أوضاع الأجانب الإدارية فوق إقليمه؟
______________
* خبير في القانون الدولي والهجرة ونزاع الصحراء.
(9) انظر: حسين مجدوبي، 1 نوفمبر 1988 غرق أول ضحية للهجرة السرية وكان مغربيًّا…20 إبريل 2015 أكبر فاجعة بغرق 800…ويستمر العالم يتفرج (تم التصفح في 4 ديسمبر/كانون الأول 2016): اضغط هنا