مركز الجزيرة للدراسات
بخلاف الانتخابات البرلمانية السابقة منذ بروز العدالة والتنمية على المسرح السياسي، غاب عن الحملة الانتخابية هذه المرة جدل "العلمانية"، و"الخوف على مستقبل الجمهورية وقيمها". |
ما حدث أن نتائج الانتخابات جاءت نصرًا كبيرًا لأردوغان وحزبه؛ ولكنها، ولأسباب بسيطة ومعروفة مسبقًا، لم تكن حاسمة تمامًا.
الانتخابات
النتائج
دلالات الانتخابات ونتائجها
هذه هي الانتخابات البرلمانية الثالثة التي يخوضها العدالة والتنمية منذ تأسيسه في 2001. جرت الأولى في العام الثاني للتأسيس، والثانية في 2007، وجرت هذه الدورة بعد أن أُقِرّ تعديل دستوري جعل الدورة البرلمانية أربع سنوات فقط. خاض الانتخابات زهاء العشرين حزبًا، أهمها العدالة والتنمية، الحزب الحاكم منذ 2002؛ وحزب الشعب الجمهوري، الذي يمثل المعارضة الرئيسية، وحزب الحركة القومية، المعارض هو الآخر من موقع قومي راديكالي، وكتلة حزب السلام والديمقراطية الكردية، التي خاض مرشحوها الانتخابات كمستقلين ويُتوقع أن تعلن كتلة برلمانية واحدة بمجرد انعقاد البرلمان.
لم يكن من المتوقع أن يستطيع أي من الأحزاب الصغيرة الأخرى تحقيق شرط الحصول على 10 بالمائة من الأصوات، الضروري لدخول البرلمان؛ وهذا ما حدث بالفعل.
ولكن الملاحظ أن العدالة والتنمية عمل منذ بداية الحملة الانتخابية على استهداف حزب الحركة القومية، آملاً أن يخفق الحزب في تخطي عتبة العشرة بالمائة؛ مما كان سيصل بحصة العدالة والتنمية من مقاعد البرلمان إلى أكثر من 367 مقعدا، رقم الثلثين السحري الذي يسمح بإقرار مسودة الدستور المرتقب بدون اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي.
جرت الانتخابات في ظل أجواء وتبعًا لإجراءات أكثر ديمقراطية وحرية مما عرفته الانتخابات التركية منذ التحول الديمقراطي قبل أكثر من ستين عامًا، بحيث سمح للمواطنين بالإدلاء بأصواتهم بمجرد تقديم بطاقة هوية رسمية، وهو ما وصل بعدد المقترعين إلى ما يقارب الخمسين مليونًا. وقد تنافس أكثر من 7600 مرشح على 550 مقعدًا، التي هي مجمل مقاعد البرلمان، أو المجلس الوطني الكبير.
وبخلاف الانتخابات البرلمانية السابقة منذ بروز العدالة والتنمية على المسرح السياسي، غاب عن الحملة الانتخابية هذه المرة جدل "العلمانية"، و"الخوف على مستقبل الجمهورية وقيمها"، بعد أن أصبح واضحًا عجز الأحزاب المعارضة عن دحر العدالة والتنمية بمثل هذا الخطاب. بدلاً من ذلك، سيطرت مسائل الاقتصاد والتنمية والبطالة والتوزيع العادل للثروة، وفوق ذلك الدستور الجديد المرتقب، على ساحة التدافع السياسي. كما لعبت شخصيات القيادات الحزبية الرئيسية الثلاث: أردوغان وكمال كاليشدار أوغلو ودولت بهشلي، دورًا ملموسًا في التنافس على أصوات الناخبين. وبينما دفع العدالة والتنمية بقوة هائلة من أجل تحقيق مكاسب في المناطق الساحلية الغربية للأناضول، التي اعتُبرت دائمًا معقل حزب الشعب الجمهوري، يُعتقد أن شريحة من مصوتي الأخير قد صوتت تكتيكيًا في بعض الدوائر لصالح الحركة القومية، في مسعى لتعزيز فرصه في العودة للبرلمان، وحرمان العدالة والتنمية من فرصة الحصول على ثلثي المقاعد.
لم تُحدث الانتخابات تغييرًا جوهريًا في مواقع الأحزاب التركية الرئيسية، ولكن بالنظر إلى النتائج التي حققتها هذه الأحزاب في انتخابات 2007 فثمة متغيرات مهمة.
الدلالة الأولى لهذه النتائج أن موقع حزب العدالة والتنمية في السياسة التركية لا يزال صلبًا، وأن منافسيه لا يزالون أضعف بكثير من أن يشكلوا تحديًا حقيقيًا لوضعه الشعبي أو سيطرته على البرلمان أو قدرته على الحكم. |
وقد نجح حزب الشعب الجمهوري أيضًا في رفع عدد المصوتين له أربع نقاط، من 22 إلى 26، وهي نتيجة متواضعة إن وُضع في الاعتبار أن قيادة الحزب الجديدة قد تخلت عن الخطاب الأتاتوركي التقليدي كلية تقريبًا. كما أفاد الحزب من تغيير حدود الدوائر، ليرفع عدد مقاعده في البرلمان من 112 إلى 135. ولكن عجز الشعب الجمهوري عن تحقيق اختراق ملموس في مواجهة العدالة والتنمية، وتراجعه غير المسبوق في مدن الساحل أدى إلى ارتفاع الأصوات المنادية بعقد مؤتمر طارئ للحزب وإطاحة كاليشدار أوغلو.
أما حزب الحركة القومية، الذي تراجعت نسبة الأصوات المؤيدة له قليلاً، من 14 إلى 13 بالمائة، وعدد المقاعد التي حصل عليها بصورة ملموسة، من 71 إلى 53 مقعدًا، فقد نجا على أية حال من الخروج من البرلمان، بعد سلسلة الفضائح الأخلاقية التي طالت عددًا من مرشحيه. وربما كانت هذه النجاة نجاحًا في حد ذاتها، تُعزى إلى بعض التعاطف الشعبي معه، وإلى التصويت التكتيكي لبعض مؤيدي الشعب الجمهوري.
أتاحت هذه النتائج لكل من الأحزاب الثلاثة ادعاء النصر: العدالة والتنمية لأن نصيبه من أصوات الناخبين طال الخمسين بالمائة، وهو إنجاز كبير في ساحة سياسية معروفة بالتشظي؛ والشعب الجمهوري لأنه نجح في زيادة -وإن صغيرة- في نسبة المصوتين وعدد المقاعد؛ والحركة القومية لأنه نجح في العودة إلى البرلمان بعد أن استُهدِف بقوة من حملة العدالة والتنمية الانتخابية. ولكن النجاح الذي لا يمكن الشك في معطياته كان من نصيب الكتلة الكردية، التي حاز مرشحوها المستقلون على عدد أكبر بالفعل من المقاعد، مؤكدين على أنهم رقم مهم في الساحة السياسية التركية، وأن المسألة الكردية ستظل تطارد الدولة التركية لبعض الوقت.
الدلالة الأولى لهذه النتائج أن موقع حزب العدالة والتنمية في السياسة التركية لا يزال صلبًا، وأن منافسيه لا يزالون أضعف بكثير من أن يشكلوا تحديًا حقيقيًا لوضعه الشعبي أو سيطرته على البرلمان أو قدرته على الحكم. وبدلاً من أن يقع الحزب أسير تراكم الأخطاء بعد زهاء العقد من الحكم، كما هو حال الديمقراطيات عادة، احتفظ العدالة والتنمية بصورة نجاح لم تُخدش تقريبًا، ويبدو أنها تزداد تأثيرًا في قدرتها على جذب تأييد وثقة الناخب التركي.
بيد أن النتائج استبطنت رسالة أخرى للعدالة والتنمية وقائده رجب طيب أردوغان، الذي تصاعدت ثقته بالنفس بصورة واضحة في الفترة الأخيرة؛ فبالرغم من السعي المعلن لتحقيق السيطرة على ثلثي مقاعد البرلمان، قرر الشعب التركي أن لا يمنح الحزب وقائده مثل هذا التفويض؛ بل أكثر من ذلك، فقد بات العدالة والتنمية في حاجة لأربعة أصوات إضافية في البرلمان ليحصل على نسبة 60 في المائة من أصوات المشرعين، الضرورية لطرح مسودة الدستور المرتقب للاستفتاء الشعبي. بهذه النتائج، أصبح من الضروري ربما للعدالة والتنمية وأردوغان إظهار بعض التواضع.
وتوحي هذه النتائج أيضًا بأن صياغة الدستور الجديد لن تكون عملية سهلة؛ فإما أن يلجأ أردوغان إلى وضع دستوري توافقي، لا يحقق كل طموحاته لإجراء تغيير جوهري في نظام الحكم التركي، أو أن يستطيع بطريقة ما كسب أربعة نواب آخرين إلى جانبه داخل البرلمان، ويراهن من ثَمَّ على الدعم الشعبي في استفتاء على مسودة دستور تتضمن تصوره وتصور حزبه للأمور، بغض النظر عن تأييد أو اعتراض الكتل الحزبية المعارضة في البرلمان. وسيكون على قائد العدالة والتنمية خلال العام أو العامين المقبلين تقرير ما إن كان انتهاج أي من الطريقين هو الأفضل لمسيرته السياسية وما يريد أن يقوم به في نهاية هذه الدورة البرلمانية، التي هي الأخيرة له كرئيس للحكومة.
وبنهاية الانتخابات، أصبحت حكومة العدالة والتنمية أكثر حرية في التعامل مع الشأن الخارجي، وأكثر شعورًا بالتأييد الشعبي لسياستها الخارجية. والمؤكد أن المسألة السورية ستحتل موقع الأولوية القصوى على رأس اهتمامات الحكومة التركية خلال الأشهر القادمة، واهتمامات وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، الذي أصبح للمرة الأولى في تاريخه السياسي نائبًا برلمانيًا.
الصورة التي عكستها نتائج هذه الانتخابات للخارطة السياسية التركية ستبقى بدون متغيرات كبرى في المدى المنظور. |
والأرجح أن الصورة التي عكستها نتائج هذه الانتخابات للخارطة السياسية التركية ستبقى بدون متغيرات كبرى في المدى المنظور.