مقدمة
تُعد الأزمة الخليجية الحالية من الأزمات الإقليمية الحادة، التي لم تشهد العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي مثيلًا لها منذ أن تأسست هذه الدول بعد مرحلة الاستعمار البريطاني، في سبعينات القرن العشرين. وحِدَّة هذه الأزمة تتمثَّل، بشكل خاص، في كونها شملت مجالات مختلفة (سياسية، ودبلوماسية، واقتصادية، وإعلامية...)، وتم اللجوء فيها إلى إجراءات غير مسبوقة، مثل الحصار الاقتصادي، وطرد المواطنين القطريين...
في علم النزاعات الدولية، يتم التمييز عادة بين نوعين من النزاعات: نزاعات ذات طابع قانوني ونزاعات ذات طابع سياسي(1). بخصوص الأزمة الخليجية الراهنة، يمكن القول: إنها نزاع دولي سياسي؛ لأن القواعد القانونية الدولية لا يبدو أنها كافية ومناسبة لطبيعة نقاط الاختلاف بين أطراف النزاع (السياسة الخارجية لقطر، وعلاقات قطر ببعض الحركات السياسية...).
بعد اندلاع هذه الأزمة، اتخذت الدول مواقف مختلفة، لكن الموقف السائد، على الأقل علانية، هو موقف الحياد والدعوة للحوار. والمغرب من الدول التي تبنَّت هذا الموقف السائد من الأزمة الخليجية، الذي يتمثَّل في عدم الانحياز لأي طرف من أطراف الأزمة.
تاريخيًّا، كانت العلاقات المغربية-الخليجية علاقات قوية، خصوصًا من الناحية السياسية، وتطورت العلاقات الاقتصادية بين الجانبين بشكل ملحوظ مؤخرًا. فبعد أحداث "الربيع العربي"، اقترحت دول مجلس التعاون الخليجي على المغرب، إلى جانب الأردن، الانضمام إلى المجلس، لكن تغير بعد ذلك هذا المقترح إلى شراكة استراتيجية، تتضمن التمويل المالي لمجموعة من المشاريع التنموية(2).
على ضوء هذه الخلفية التاريخية، وفي ظل الأزمة الخليجية الحالية، سنحاول في هذا التحليل أولًا: رصد مؤشرات التفاعل المغربي مع هذه الأزمة، وثانيًا: بيان محددات الموقف المغربي، وأخيرًا: السيناريوهات الممكنة لتطور العلاقات المغربية-الخليجية بعد الموقف الأخير من هذه الأزمة.
مضمون الموقف المغربي من الأزمة الخليجية
صدر أول بلاغ لوزارة الشؤون الخارجية والتعاون المغربية، بخصوص الأزمة الخليجية، بتاريخ 11 يونيو/حزيران2017، أي بعد ستة أيام من اندلاع الأزمة وإعلان كل من السعودية، والإمارات، والبحرين، ومصر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر واتهامها علنًا بـ"دعم الإرهاب"، بتاريخ 5 يونيو/حزيران 2017. وأكد هذا البلاغ الانشغال البالغ للمملكة المغربية بخصوص هذه الأزمة، وأشار إلى قيام الملك باتصالات موسعة ومستمرة مع مختلف الأطراف، داعيًا إياها لضبط النفس والتحلي بالحكمة. كما حرص البلاغ على التأكيد على أن المملكة المغربية تفضِّل حيادًا بنَّاء لا يمكن أن يضعها في خانة الملاحظة السلبية لمنزلق مقلق بين دول شقيقة(3).
الملاحظة الأولى التي يمكن إبداؤها بخصوص هذا البلاغ، هي أن المغرب لم يعبِّر عن موقفه إلا بعد مرور ستة أيام، وهو ما يؤكد أن موقف الحياد لم يُتخذ بشكل استعجالي، وإنما بعد دراسة الموضوع لمدة يمكن اعتبارها كافية. والملاحظة الثانية هي أن الصياغة اللغوية للموقف المغربي جاءت واضحة غير قابلة لأي تأويل، من خلال التأكيد على حياد المغرب إزاء هذا النزاع، لكن مع الحرص على وصف هذا الحياد بأنه حياد بنَّاء وليس حيادًا سلبيًّا، وهو ما يعني انخراط المغرب في الجهود الرامية لإيجاد حل لهذه الأزمة الإقليمية.
وفي اليوم الموالي، أي بتاريخ 12 يونيو/حزيران 2017، صدر بلاغ ثان لوزارة الشؤون الخارجية والتعاون المغربية، ينفي ربط الموقف المغربي، من هذه الأزمة، بأي حال من الأحوال، مع مواقف أطراف غير عربية أخرى، تحاول استغلال هذه الأزمة لتعزيز تموقعها في المنطقة، والمس بالمصالح العليا لهذه الدول. وقام البلاغ بسرد بعض المحطات التاريخية التي تؤكد تضامن المغرب مع الدول الخليجية (حرب الخليج الأولى، دعم سيادة الإمارات على جزرها الثلاث، المشاركة في التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن ...)(4).
جاء هذا البلاغ الثاني من أجل تفسير البلاغ الأول، ويبدو أنه صدر لتجاوز سوء فهم، حاصل أو محتمل، يربط الموقف المغربي المحايد من الأزمة الخليجية بأطراف غير عربية أخرى، في إشارة إلى كل من إيران وتركيا.
وبنفس التاريخ، 12 يونيو/حزيران 2017، صدر بلاغ ثالث لوزارة الشؤون الخارجية والتعاون المغربية، يخبر بأن الملك أمر بإرسال مواد غذائية إلى دولة قطر، ويؤكد أن هذا القرار لا علاقة له بالجوانب السياسية للأزمة القائمة بين دولة قطر ودول شقيقة أخرى(5).
مباشرة بعد هذه المواقف، أوفد ملكُ المغرب وزيرَ الشؤون الخارجية والتعاون الدولي إلى ثلاث دول خليجية، (الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، والكويت)، حاملًا رسالة شفوية. والملاحظ أن وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي المغربية، لم تُشِر، في موقعها الرسمي على الإنترنت، إلى مضمون الرسالة الشفوية المبعوثة إلى كلٍّ من ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد والملك سلمان بن عبد العزيز، لكنها حرصت، فيما يتعلق بأمير الكويت، صباح الأحمد الجابر الصباح، إلى الإشارة إلى الدعم الكامل من طرف ملك المغرب، محمد السادس، لأمير دولة الكويت في إطار المساعي والجهود التي يبذلها لرأب صدع البيت الخليجي واحتواء الأزمة الخليجية.
على ضوء هذا، نتساءل عن محددات الموقف المغربي من الأزمة الخليجية الراهنة.
محددات الموقف المغربي من أزمة الخليج
يمكن أن نميِّز بين أربعة محددات رئيسية للموقف المغربي من الأزمة الخليجية الراهنة: أولًا: طبيعة الأزمة في حدِّ ذاتها، ثانيًا: وجود مرتكزات وثوابت تحكم العلاقات المغربية-الخليجية، ثالثًا: الوضع الداخلي في المغرب (سياسيًّا واقتصاديًّا)، ورابعًا وأخيرًا: الموقف الدولي من هذه الأزمة.
المحدِّد الأول: طبيعة الأزمة الحالية
ثمة شبه إجماع دولي على أن الاتهام السعودي-الإماراتي لقطر بدعم الإرهاب هو اتهام لا يقوم على حجج أو أدلة سليمة، ولا يعدو أن يكون وسيلة ضغط من أجل إجبار قطر على الانصياع لمطالب دول الحصار بتغيير سياستها الخارجية. وهو ما جعل هذه الأزمة تبدو، في كثير من جوانبها، أزمة مفتعلة ولم تكن أبدًا نتيجة منطقية لتطور الخلافات بين الدول المعنية. لقد ظهرت هذه الأزمة بشكل مفاجئ، وأغلب المتتبعين لم يكن يتوقع أزمة بهذه الحدة وهذا المستوى من الإجراءات القاسية في حق دولة قطر.
وقد عبَّر عن هذا الرأي، بشكل أو بآخر، العديد من الدول؛ مثل الولايات المتحدة الأميركية، التي تساءلت المتحدثة باسم وزارة خارجيتها، قائلة: هل كانت التحركات فعلًا بشأن مخاوفهم إزاء دعم قطر المزعوم للإرهاب أم هي بشأن شكاوى تعتمل منذ فترة طويلة بين دول مجلس التعاون الخليجي(6)؟
يعبِّر هذا التساؤل عن تشكيك أميركي صريح في الدوافع المعلنة للأزمة الخليجية الحالية، وهو ما يعني وجود أسباب أخرى، تفسِّر هذه الأزمة، غير تلك المعلنة. في هذا الإطار، يمكن القول: إن الدوافع الحقيقية لهذه الأزمة مرتبطة بملفين رئيسيين:
- ملف "الربيع العربي": يبدو أن الأزمة الخليجية الحالية هي امتداد للصراع الذي وقع في المنطقة خلال مرحلة "الربيع العربي"، وتعبير عن رغبة بعض الدول في "الانتقام" من قطر التي اتخذت مواقف داعمة للانتفاضات التي عرفتها هذه المرحلة، سواء من خلال الدعم السياسي لها أو من خلال المواكبة الإعلامية من طرف قناة الجزيرة. فالأزمة الحالية هي محاولة لتصفية الحساب مع كل من دعَّم أو ساند "الربيع العربي" بأي شكل من الأشكال، سواء كان دولة (قطر) أو وسيلة إعلامية (الجزيرة) أو حركة سياسية (الإخوان المسلمون). ولهذا يمكن أن نطلق على أزمة الخليج الراهنة أنها المظهر الإقليمي للثورات المضادة، التي نجحت على المستوى القُطري في العديد من الدول (مصر بدرجة كبيرة وليبيا بدرجة أقل...).
- الوضع الداخلي للسعودية: يربط البعض بين طموحات الأمير محمد بن سلمان لتولي العرش والأزمة الخليجية الراهنة؛ حيث كتبت الصحفية المصرية، هدير محمود، بتاريخ 11 يونيو/حزيران 2017، أي قبل تنحية ولي عهد السعودية محمد بن نايف، بتاريخ 21 يونيو/حزيران 2017، بأن الأزمة الراهنة هي جزء من الإجراءات الرامية لتهيئة الأجواء لتولي محمد بن سلمان ولاية العهد والمُلك لاحقًا؛ حيث ستسمح الأزمة الخليجية بإنهاء أي تأثير قَطَري في الساحة الخليجية وعلى مستوى الإقليم، حتى لا تصطدم المملكة بأية معارضة خليجية في حال الانقلاب على ابن نايف وإعلان ابن سلمان ولي العهد الجديد(7). يعني هذا الأمر أن الأزمة الحالية لها رهانات على المستوى الداخلي بالنسبة للمملكة العربية السعودية، وبالتالي فإن نتائجها ستكون لها تبعات على موازين القوى والصراع على الحكم بين أجنحة العائلة الحاكمة في السعودية. هذا الارتباط بين الأزمة الخليجية والصراع على السلطة في السعودية يعتبر عاملًا مُؤَجِّجًا للأزمة؛ لأنه يحوِّلها إلى صراع من أجل البقاء بالنسبة لبعض الأطراف.
إن وجود أسباب غير معلنة للأزمة، وافتعال أسباب غير حقيقية، نَزَعَ المصداقية عن المحور السعودي-الإماراتي، وهو ما أدى في نهاية المطاف بالمغرب إلى اتخاذ موقف محايد من الأزمة الخليجية.
المحدد الثاني: ثوابت العلاقات المغربية-الخليجية
الثابت في المواقف المغربية تجاه دول الخليج هو عدم التدخل في الخلافات البينية لدول مجلس التعاون الخليجي، ولم يحدث أن اصطف المغرب بشكل علني وواضح مع دولة خليجية ضد دولة خليجية أخرى. بالمقابل، فإن مواقف المغرب تكون مختلفة في حالات النزاع بين دول خليجية ودول أخرى غير خليجية؛ حيث غالبًا ما يعلن المغرب عن مواقف صريحة بالاصطفاف إلى جانب الأولى. وعلى سبيل المثال، يمكن أن نشير إلى قطع المغرب لعلاقاته الدبلوماسية مع إيران سنة 2009 تضامنًا مع البحرين(8).
في الأزمة الخليجية الحالية، ظهرت بوادر الموقف المغربي المحايد قبل اندلاع هذه الأزمة بحوالي شهر؛ حيث ألغى العاهل المغربي، خلال شهر مايو/أيار 2017، زيارتين إلى كل من المملكة العربية السعودية ومصر. وقد كان قرار إلغاء الزيارتين قرارًا مرتبطًا بحسابات المصالح التي سيحصل عليها المغرب، الذي قد يكون توصل إلى معلومات تؤكد له أن نتائج القمة العربية-الإسلامية-الأميركية في السعودية لن تكون لها فائدة بالنسبة له. وبالتالي، فإلغاء الزيارتين كان الهدف منه تجنب الانخراط في الحسابات الإقليمية الخاصة ببعض الدول الخليجية(9).
مثل هذه المواقف، الصادرة قبل اندلاع الأزمة الخليجية، تعطي إشارات إلى وجود ثوابت في تعامل المغرب مع الدول الخليجية، تتجلى في عدم الانخراط في الصراعات بين هذه الدول والتزام الحياد.
بالإضافة إلى هذا، يُمكن أن يُقرأ الموقف المغربي الحالي على ضوء خلافات مغربية-خليجية في بعض الملفات؛ ومن هذه الملفات الملف المصري؛ حيث اختلف الموقف المغربي من انقلاب عبد الفتاح السيسي على الرئيس المنتخب، محمد مرسي، عن الموقف السعودي-الإماراتي. ففي الوقت الذي سارعت فيه العربية السعودية والإمارات إلى الترحيب بانقلاب السيسي ودعمه ماليًّا، فإن المغرب تريث قبل اتخاذ أي موقف. وبقيت العلاقات المغربية-المصرية في حدودها الدنيا منذ هذا الانقلاب، بل وشهدت مراحل توتر، بفعل لجوء مصر إلى استعمال ملف الصحراء من أجل الضغط على المغرب، باستقبال وفد عن جبهة "البوليساريو"استقبالًا رسميًّا، خلال انعقاد جلسات البرلمان الإفريقي في مصر، بمناسبة مرور 150 عامًا على إنشاء البرلمان المصري(10). كما رفضت مصر الطلب المغربي بالتوقيع على تجميد عضوية "البوليساريو"، كشرط لعودته للاتحاد الإفريقي(11). بالإضافة إلى تقارير إعلامية مصرية، تهاجم المغرب وتحاول الإساءة إليه(12).
أمام هذه التوترات بين المغرب ومصر، لم تتخذ السعودية والإمارات موقفًا واضحًا ومساندًا للمغرب، ولم تسع إلى التدخل لدى مصر من أجل تخفيف حدة التوتر. وربما يندرج الموقف المغربي من الأزمة الخليجية، بصيغة من الصيغ، ضمن مبدأ المعاملة بالمثل. وبالتالي، فقد اختار المغرب التعامل مع الأزمة الخليجية بنفس الحياد الذي تعاملت به السعودية والإمارات مع الأزمة بين المغرب ومصر.
المحدد الثالث: الوضع الداخلي
في الوضع الداخلي، سنميز بين الوضع الاحتجاجي والوضع الاقتصادي بالمغرب.
- الوضع الاحتجاجي:
يشهد المغرب حاليًّا بروز عدة حركات احتجاجية، ويشكِّل حراك الريف بالحسيمة، في شمال المغرب، أبرز حركة احتجاجية في الوقت الراهن، نظرًا أولًا لطول المدة التي استغرقها؛ حيث بلغ شهره التاسع، وثانيًا لحجم انخراط الساكنة المحلية ومهاجري المنطقة بالخارج في الأنشطة الاحتجاجية لهذا الحراك.
ويمكن الجزم بأن هذه الحركة الاحتجاجية تعد أهم تحدٍّ تواجهه السُّلطة في المغرب، منذ أن استطاعت تجاوز حراك 20 فبراير/شباط 2011، الذي كان النسخة المغربية لـ"الربيع العربي". ورغم كل المحاولات التي سعت إلى تخفيف التوتر بمدينة الحسيمة، إلا أن الوضع ما زال على حاله، خصوصًا في ظل حجم الاعتقالات والتعامل العنيف مع المظاهرات.
قد يكون هذا الوضع الاحتجاجي بالمغرب، وفي الحسيمة بشكل خاص، أحد مبررات اتخاذ المغرب لموقف محايد من الأزمة الخليجية؛ لأن أي انحياز لموقف أي طرف من أطراف هذه الأزمة قد يدفع بالطرف الآخر إلى استعمال احتجاجات الحسيمة كنوع من الضغط على الدولة المغربية.
- الوضع الاقتصادي:
لا شك في أن المتغير الاقتصادي يلعب دورًا مهمًّا في تحديد السياسة الخارجية للدول؛ إذ هناك ارتباط قوي بين الدبلوماسية والقوة الاقتصادية للدول(13). بالنسبة للمغرب، وعلى غرار كل الدول، وبالخصوص الدول النامية، فإنه يحتاج إلى الاستثمار الأجنبي من أجل تعزيز نموه الاقتصادي وتحسين الوضع الاجتماعي لمواطنيه. ومن أجل تحقيق هذا المسعى، لابد من توفير بيئة قانونية واقتصادية ملائمة، لكن يلزم أيضًا علاقات دبلوماسية سليمة وغير متوترة، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالاستثمارات التي تقوم بها الدول أو صناديق الاستثمار السيادية التابعة لها، كما هي الحال بالنسبة لدول الخليج، وليس الأفراد أو الشركات الخاصة.
بالنسبة إلى المغرب، تعد دول الخليج من أهم مصادر الاستثمار الأجنبي؛ حيث مثَّلت نسبة 28% من مجموع الاستثمارات الأجنبية في المغرب خلال عام 2015، أي ما مقداره 1.09 مليار دولار من مجموع الاستثمارات الأجنبية التي بلغت 3.9 مليارات دولار(14). وتتصدر الإمارات العربية المتحدة قائمة الدول الخليجية الأكثر استثمارًا في المغرب، بنسبة 65% من مجموع الاستثمارات الخليجية، ثم السعودية في المرتبة الثانية بنسبة 17%، وقطر في المرتبة الثالثة بنسبة 9%(15). تؤكد هذه المعطيات الإحصائية الدور المهم الذي تلعبه الاستثمارات الخليجية في الاقتصاد المغربي. ورغم التباين في حجم مساهمة كل دولة خليجية، إلا أن حاجة المغرب إلى هذه الاستثمارات تبقى ملحَّة من أجل تحسين أداء الاقتصاد الوطني وخلق فرص التشغيل. بالإضافة إلى الاستثمارات الأجنبية، تستقبل كل من الإمارات والسعودية أكبر جالية مغربية بعد أوروبا، وهو ما يزيد من أهمية الدور الاقتصادي لدول الخليج في المغرب.
ولهذا، فإن من بين دوافع الموقف المغربي المحايد من الأزمة الخليجية يوجد العامل الاقتصادي، والذي يهدف إلى الحفاظ على الاستثمارات الخليجية في المغرب وتشجيعها؛ لأن الانحياز سيجعل المغرب طرفًا في الأزمة وستقوم الأطراف الأخرى في الأزمة باتخاذ إجراءات عقابية في حقه، وعلى رأسها سحب استثماراتها، وهو إجراء ستكون له انعكاسات سلبية، سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية.
المحدد الرابع: الموقف الدولي من الأزمة الخليجية
الموقف الدولي الغالب بخصوص الأزمة الخليجية هو موقف الدعوة إلى الحوار بين دول مجلس التعاون الخليجي من أجل حل الأزمة الراهنة، فقليلة هي الدول التي تبنَّت نفس الموقف السعودي-الإماراتي، الرافض للحوار والساعي لفرض إملاءات على قطر.
وحتى بين دول مجلس التعاون الخليجي لا يوجد إجماع أو موقف واحد من الأزمة الخليجية؛ ففي الوقت الذي اختارت فيه كل من الكويت وسلطنة عُمان موقف الحياد من الأزمة، تقوم المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين بتسويق مواقفها على أنها تعبير عن الموقف الرسمي للمجلس.
بالنسبة إلى مواقف الدول الكبرى، فإن الولايات المتحدة الأميركية بدا موقفها في البداية ملتبسًا وغير منسجم، بين المواقف الصادرة عن الرئيس دونالد ترامب، الذي يبدو أقرب للموقف السعودي-الإماراتي، ومواقف وزارة الخارجية ووزارة الدفاع، التي تبدو أكثر توازنًا بين أطراف الأزمة(16)، إلا أن حدة تناقض مواقف مؤسسات النظام الأميركي خفَّت مؤخرًا لصالح التوازن بدل الانحياز.
أما موقف الاتحاد الأوروبي، فإنه يدعم الوساطة الكويتية من أجل حلِّ الأزمة الخليجية الحالية، مؤكدًا على أهمية وحدة واستقرار المنطقة، والحاجة الملحَّة للحوار لتجنب التصعيد وإيجاد حل للخلافات(17).
وهو تقريبًا نفس الموقف الذي عبَّرت عنه روسيا، بالدعوة إلى الحوار من أجل حل الأزمة الخليجية(18).
يقسِّم الأستاذ في المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية في باريس، صلاح القادري، مواقف الدول من الأزمة الخليجية الحالية إلى ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: المؤيدون للمقاطعة وهم سبع دول، وليست كلها بنفس الدرجة؛ لأن الطرفين الأساسيين، هما: السعودية والإمارات، والبقية "تابعون لا يملكون في القرار ناقة ولا جملًا".
- القسم الثاني: الدول المتحفظة التي لم تعلن أي موقف حتى الآن؛ لأنها لا ترغب في خسارة أي طرف من أطراف الأزمة، أو لعدم اهتمامها بالمنطقة.
- القسم الثالث: الدول التي دعت للحوار، وبالطبع فليس الجميع لديهم قدرة على دفع أطراف الأزمة لطاولة المفاوضات باستثناء الكويت وتركيا بما لهما من علاقات جيدة مع المملكة(19).
من خلال استعراض مواقف الدول من الأزمة الخليجية، نجد أن الموقف المغربي جاء منسجمًا مع الموقف الدولي السائد، والذي يدعو إلى الحوار ولا يقوم بالاصطفاف مع طرف ضد آخر، تفاديًا لتأزيم وتأجيج الأوضاع أكثر.
سيناريوهات تطور العلاقات المغربية-الخليجية
بعد اتخاذ المغرب لموقف محايد من الأزمة الخليجية الراهنة، بناء على المحددات التي سبقت الإشارة إليها، فإن هناك ثلاثة سيناريوهات أساسية محتملة لتطور العلاقات المغربية-الخليجية: سيناريو حالة الثبات أو الركود، وسيناريو الأزمة مع دول الحصار، والسيناريو الوسطي.
- سيناريو الثبات أو الركود: يتمثل هذا السيناريو في عدم تأثر العلاقات المغربية-الخليجية بالموقف المغربي المحايد من الأزمة الحالية، وبقاء العلاقات على ما كانت عليه قبل اندلاع الأزمة، وهو ما يعني أن مستوى العلاقات الدبلوماسية والاستثمارات الخليجية في المغرب لن يتراجع.
- سيناريو الأزمة مع دول الحصار: وهو سيناريو متشائم يتمثل في رد فعل سلبي من طرف دول الخليج الثلاث (السعودية، والإمارات، والبحرين) تجاه المغرب، من خلال إجراءات دبلوماسية واقتصادية تمس مصالحه، قصد الضغط عليه للتراجع عن الموقف المحايد والاصطفاف إلى جانبها.
- السيناريو الوسطي: هو سيناريو يقع في منطقة وَسَط، بين السيناريو الأول والسيناريو الثاني. يتمثل هذا السيناريو في اتخاذ إجراءات سلبية من طرف دول الحصار، لكن دون أن ترقى العلاقات إلى مستوى الأزمة. إنه سيناريو الأزمة المحدودة، التي تتمثل في بعض المناوشات الإعلامية أو في مواقف سلبية تجاه المغرب من أطراف غير رسمية في الدول الخليجية المعنية.
نظرًا للبُعد الجغرافي بين المغرب والمنطقة الخليجية، فإن مواقف المغرب ليس لها تأثير مباشر ووازن على أزمات هذه المنطقة، ولهذا فرغم كون كل من السعودية والإمارات والبحرين غير راضية عن الموقف المغربي المحايد إلا أنه لم يسؤها(20). كما أن المغرب لا يزال طرفًا في التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، وتتقاطع مصالحه مع مصالح الدول الخليجية الثلاثة في الكثير من الملفات (مثل العلاقة مع إيران).
وبناء على ذلك، فإن السيناريو الراجح هو السيناريو الوسطي، الذي بدأت بعض مؤشراته تظهر في علاقات الطرفين، وذلك من خلال:
- أولًا: استقرار العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين الطرفين وعدم ظهور متغيرات مهمة حتى الآن، يمكن أن تكون عنوانًا لتحول جذري في علاقات المغرب بالدول الخليجية المعنية. كما أن الزيارات التي يقوم بها حكام ومواطنو هذه الدول إلى المغرب، بقصد السياحة أو الاستثمار، استمرت بشكل طبيعي(21).
- ثانيًا: ظهور خطاب إعلامي سعودي وإماراتي يشير إلى وجود بوادر لعدم الرضا عن الموقف المغربي بخصوص الأزمة الخليجية الراهنة؛ حيث تبنَّت بعض وسائل الإعلام، المحسوبة على هاتين الدولتين، خطابًا جديدًا بخصوص نزاع الصحراء، من خلال وصفها بـ"الصحراء الغربية" بدلًا من "الصحراء المغربية"، الذي دأبت هذه الوسائل على استعماله قبل اندلاع الأزمة الحالية. هذا بالإضافة إلى وصف جبهة البوليساريو، الطرف الذي يتنازع مع المغرب حول الصحراء، بـ"الجمهورية العربية الصحراوية". هذه بعض التغيرات التي تؤشِّر على عدم رضا سعودي-إماراتي عن الموقف المغربي المحايد، ويستبعد أن يتحول عدم الرضا هذا إلى موقف رسمي، بل يُرجَّح أن يبقى في حدود المناوشات الإعلامية.
تبقى هذه السيناريوهات الثلاثة مرتبطة بتطورات الأزمة الخليجية، فحل هذه الأزمة سيعزز السيناريو الأول (سيناريو الاستقرار)، أما اشتدادها فإنه سيرجح السيناريو الثاني (سيناريو الأزمة)، وسيدفع بالمحور السعودي-الإماراتي إلى البحث عن الدعم لتعزيز موقفه، من خلال ممارسة ضغوط على الدول المحايدة، ومن بينها المغرب، باتخاذ إجراءات دبلوماسية واقتصادية قاسية في حقها.
________________
نور الدين أسويق- باحث مغربي في القانون العام بجامعة محمد الخامس بالرباط
1- حمود، كمال، النزاعات الدولية: دراسة قانونية دولية في علم النزاعات، (الدار الوطنية للدراسات والنشر والتوزيع، 1998)، ط 1، ص 20-21.
2- Rousselet, Lélia, “Evolutions in the relations between Morocco and the Gulf Cooperation Council (GCC): a singular illustration of multilateralism in the Arab world”, SciencesPo, (Visited on 28 July 2017): http://www.sciencespo.fr/psia/sites/sciencespo.fr.psia/files/ROUSSELET_Lelia_KSP_Paper_Award.pdf
3- "بلاغ: المملكة المغربية تتابع بانشغال بالغ الأزمة الخليجية"، الموقع الرسمي لوزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي المغربية، 11 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 22 يوليو/تموز 2017): https://www.diplomatie.ma/arab/Politiqueétrangère/MondeArabe/tabid/1618/vw/1/ItemID/14796/language/en-US/Default.aspx
4- "بيان وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي المغربية"، 12 يونيو/حزيران 2017، الموقع الرسمي للوزارة، (تاريخ الدخول: 22 يوليو/تموز 2017):https://www.diplomatie.ma/arab/Politiqueétrangère/MondeArabe/tabid/1618/vw/1/ItemID/14802/language/en-US/Default.aspx
5- "بيان وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي المغربية"، 12 يونيو/حزيران 2017، الموقع الرسمي للوزارة، (تاريخ الدخول: 22 يوليو/تموز 2017):
6- "الخارجية الأميركية تشكِّك في الدوافع وراء مقاطعة دول خليجية لقطر"، رويترز، 20 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 25 يوليو/تموز 2017):
http://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKBN19B2SW
7- محمود، هدير، "مقاطعة قطر.. تمهيد لإعلان "محمد بن سلمان" ملكًا"، موقع البديل، 11 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 28 يوليو/تموز 2017):
https://elbadil.com/2017/06/مقاطعة-قطر-تمهيد-لإعلان-محمد-بن-سلمان/
8- "إيران: قرار المغرب قطع العلاقات يضر بالوحدة الإسلامية"، الجزيرة نت، 8 مارس/آذار 2009، (تاريخ الدخول: 25 يوليو/تموز 2017):
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2009/3/8/إيران-قرار-المغرب-قطع-العلاقات-يضر-بالوحدة-الإسلامية
9- Bennis, Samir, “Why Morocco chose to be neutral on the Gulf crisis”, Aljazeera.com, 14 June 2017, (Visited on 25 July 2017):
10- "استقبال مصر لوفد من البوليساريو يثير ضجة واسعة في المغرب"، موقع CNN بالعربية، 17 أكتوبر/تشرين الأول 2017، (تاريخ الدخول: 28 يوليو/تموز 2017):
https://arabic.cnn.com/middleeast/2016/10/17/egypt-polisario-african-parliament
11- "البوليساريو وإثيوبيا.. كلمتا السر في الحرب البادرة بين مصر والمغرب"، ساسة بوست، 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):
https://www.sasapost.com/egypt-vs-morocco/
12- "أزمة المغرب ومصر قد يكون مردها البوليساريو"، الجزيرة نت، 3 يناير/كانون الثاني 2015، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2015/1/3/أزمة-المغرب-ومصر-قد-يكون-مردها-البوليساريو
13- الصديقي، سعيد، صنع السياسة الخارجية المغربية، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الأول وجدة (المغرب)، مارس/آذار 2002، ص 269-270.
14- "الخليجيون يستحوذون على 28? من الاستثمارات الوافدة بالمغرب"، الخليج أونلاين، 24 أكتوبر/تشرين الأول 2016، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):
15- شعبان مبروك، شريف، "الاستثمارات الخليجية في دول المغرب العربي: شراكة مصالح.. وتكامل الشعوب والدول"، آراء حول الخليج، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):
http://araa.sa/index.php?view=article&id=3736:2016-05-09-08-13-19&Itemid=172&option=com_content
16- “Trump team sending mixed messages on Qatar and Gulf crisis", abcnews, (Visited 27 July 2017):
http://abcnews.go.com/Politics/trump-team-sending-mixed-messages-qatar-gulf-crisis/story?id=48657883
17- “EU backs mediation efforts to resolve Gulf crisis, European External Action", eeas.europa.eu, (Visited 27 July 2017):
18- "روسيا تدعو إلى الحوار لحل الأزمة الخليجية"، الجزيرة نت، 5 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2017/6/5/روسيا-تدعو-للحوار-لحل-الأزمة-الخليجية
19- "طبيعة المواقف العربية والدولية من الأزمة الخليجية"، الجزيرة نت، 7 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):
20- فتحي، خالد، "المغرب والجزائر والأزمة الخليجية"، الأيام 24، 13 يوليو/تموز 2017، (تاريخ الدخول: 26 يوليو/تموز 2017):
http://www.alayam24.com/articles-41014.html
21- "وصل العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، يوم الخميس، 15 يوليو/تموز 2017، إلى المغرب في إجازة خاصة"، روسيا اليوم، (تاريخ الدخول: 26 يوليو/تموز 2017):
https://arabic.rt.com/news/832346-العاهل-السعودي-يصل-إلى-المغرب/