عقيدة الجزائر الأمنية: ضغوطات البيئة الإقليمية ومقتضيات المصالح الأمنية

يتناول هذا التقرير العقيدة الأمنية الجزائرية التي ظلت قائمة على مبادئ من أهمها مبدأ السيادة وعدم التدخل الأجنبي. ووفقًا لذلك، رصد التقرير تطورات هذه العقيدة ومدى تكيفها مع لعبة التوازنات الإقليمية والدولية التي أصبحت شيئًا فشيئًا تنحو نحو اختراق السيادة واستباحة الحدود.
2fa15837b023477ca5b52f8d835746df_18.jpg
الجيش الجزائري يتولى حماية حقول الغاز التي تواجه تهديدًا من مسلحي القاعدة (الأوروبية)

مقدمة 

تعيش الجزائر اليوم في بيئة إقليمية على درجة عالية من عدم الاستقرار بسبب انتشار المخاطر والتهديدات غير الدولتية، نتيجة لضعف وترهُّل الدولة في المنطقة، وبسبب التدخلات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة في الإقليم المغاربي-الساحلي. خلقت هذه التهديدات غير الدولتية (إرهاب، جريمة منظمة، انتشار الأسلحة... وحتى الهجرة السرية) المتنامية في المنطقة سياقًا أمنيًّا في قطيعة مع المشهد الأمني التقليدي. وبما أن المسائل الأمنية استعجالية بطبيعتها، فإن معضلة التدخل أصبحت الشغل الشاغل للجزائر التي ترفضه، بحكم طبيعة عقيدتها الأمنية والسياسية، طارحة بدائل لمواجهة القلاقل والتهديدات المتصاعدة في المنطقة دون خرق مبادئها الأساسية. وفي هذا السياق تجد نفسها بين سندان ضغوطات البيئة الإقليمية والدولية ومطرقة مصالحها الاستراتيجية وعقيدتها الأمنية. ونجم عن هذا توتر ناشئ بين المستلزم الأخلاقي (المبادئ) والمستلزم المصلحي (المصالح الأمنية) لم تعهده الجزائر من قبل. سنركز في هذه الورقة على بعض جوانب معضلات عقيدتها الأمنية في سياق إقليمي مضطرب. 

عقيدة الجزائر الأمنية 

تقوم عقيدة الجزائر السياسية والأمنية على جملة من المبادئ تحولت مع مرور الزمن إلى ثوابت: الشرعية الدولية (كل تحرك يجب أن يكون بإذن الأمم المتحدة)، والانخراط في كل الآليات الدولية لضبط التسلح، والسيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ورفض التدخل الأجنبي، وعدم تدخل الجيش الجزائري خارج حدود البلاد (باستثناء المشاركة في حربي 1967 و1973 ضد إسرائيل)، ورفض الخيار العسكري وتفضيل التسوية السلمية، ومساندة حركات التحرر، وعدم اللجوء إلى القوة، والتسوية السلمية للنزاعات، وأمن غير منقوص لكل الدول، ونظام أمني خاص بكل دولة، واستقلال أمني بعيدًا عن أية مظلة خارجية أو وجود أجنبي على أراضيها(1). لذا، رفضت الجزائر في 2013 طلب روسيا منحها تسهيلات بحرية مقابل مزايا عسكرية، مبررة رفضها بمبدئي السيادة وحسن الجوار مؤكدة امتناعها عن أي تهديد لجيرانها في غرب المتوسط وللولايات المتحدة (الوجود الأميركي في المتوسط)(2). للتذكير، طلب منها الاتحاد السوفيتي، لاسيما في نهاية الستينات، منحه تسهيلات عسكرية بحرية، إلا أنها رفضت؛ حيث أكدت حينها أنها لم تقم بإجلاء القواعد العسكرية الأجنبية من أراضيها لاستقبال أخرى(3). فمنذ إجلاء القواعد الفرنسية (1970-1967) من رغان، كولومب-بشار (قاعدة جوية-أقصى غرب البلاد ليس بعيدًا عن الحدود مع المغرب)، والمرسى الكبير (قاعدة بحرية) بوهران (غرب البلاد)، وبوصفر (قاعدة جوية-غرب البلاد)، لم تستقبل الجزائر أية قوة أجنبية على أراضيها. 

على أساس هذه المبادئ ولاسيما منها رفض المظلة الأجنبية، حددت الجزائر الوضعية الاستراتيجية لجيشها؛ إذ يحكم تطوير المنظومة الدفاعية الجزائرية عاملان أساسيان: تصميمها لدرء العدوان وليس للاعتداء على الغير أو للتدخل خارج الحدود؛ واستقلالية القرار الاستراتيجي أي عدم الاعتماد على تحالفات خارجية أو اتفاقات دفاعية لضمان أمنها القومي. 

يعد المبدأ المزدوج القاضي بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والتدخل الأجنبي، بما في ذلك عدم نشر قوات جزائرية خارج الحدود، جوهر عقيدة الجزائر الأمنية والموجِّه الأساسي لسلوكها السياسي. فعلى أساسه رفضت التدخل في ليبيا وسوريا واليمن ومالي، وإن كان موقفها تطور بعض الشيء في الحالة الأخيرة. وعلى أساسه أيضًا رفضت المشاركة في القوة العربية المشتركة، والتي أُرجئ إنشاؤها إلى أجل غير مسمى، محذِّرة من عسكرة العلاقات العربية البينية. وباسمها، رفضت الانضمام إلى "التحالف الإسلامي ضد الإرهاب" (ائتلاف يضم 34 دولة بقيادة السعودية). كما تنأى بنفسها عن النزعات والنِّزاعات الطائفية، وتحديدًا "الشرخ" السني-الشيعي الْمُوظَّف سياسيًّا، في المشرق العربي، متمسكة باستقلالها الاستراتيجي. وقد تسببت مواقف الجزائر، على المستوى العربي، في خلق بعض التوتر مع فاعلين عرب ذوي توجهات وسلوكات تدخلية في المنطقة، إما بشكل مباشر أو عبر أطراف ثالثة. وعملًا بهذا المبدأ المزدوج أيضًا، ترفض الجزائر الانضمام إلى القوة المشتركة لمجموعة الساحل-5، وحتى إلى هذه المجموعة. 

هناك انطباع مفاده أن الجزائر لا تلعب الدور المنوط بها ولا تبذل الجهد الكافي لخدمة الأمن الإقليمي. وهذا إجحاف بحقها، بغضِّ النظر عن الانتقادات التي قد تُوجَّه لسياستها. فهي في الحقيقة البلد الأكثر ذودًا عن الأمن الإقليمي؛ إذ تكرس له إمكانات أكبر بكثير من غيرها. بحكم تمسكها باستقلالية قرارها الاستراتيجي، تعتمد الجزائر حصريًّا على إمكاناتها الخاصة ما يجعلها أهم بلد في المنطقة التزامًا بالأمن الإقليمي من حيث المساهمة فيه سياسيًّا وعسكريًّا. فبالرغم من عدم تورطها في أي من الصراعات في تخومها فإنها تبذل "مجهودًا حربيًّا" ضخمًا، من حيث العُدَّة والعتاد والمال، لحماية حدودها وبالتالي حدود جيرانها، فضلًا عن المساعدات التي تقدمها لهم: 

الجدول رقم (1) يوضح إنفاق الجزائر العسكري 2010-2016 (مليار دولار)(4)

2010

2011

2012

2013

2014

2015

2016

5.313

7.603

8.001

8.642

9.953

10.413

10.654

يفسر هذا المجهود الحربي المعتبر أهمية إنفاق الجزائر العسكري المرتفع، والذي تضاعف بين 2010 (5.313 مليارات دولار) و2016 (10.654 مليارات دولار). ويعود تسلحها القوي، خلال السنوات الأخيرة، إلى تمسكها باستقلالها الأمني وإلى عوامل بنيوية أخرى (تأخر متراكم في برامج تسلحها لأسباب داخلية) وطارئة، لكنها تنحو لتصير هي الأخرى بنيوية، والمتمثلة في القلاقل الأمنية في بيئتها الإقليمية، (الأزمتان الليبية والمالية)، علمًا بأن جزءًا من الأسلحة الثقيلة، مثل المقاتلات، يُستخدم في مراقبة الحدود(5)

ولا نقول شططًا إن اعتبرنا الجزائر أهم عامل استقرار في الإقليم المغاربي-الساحلي؛ فهي تدعم، سياسيًّا وماليًّا وأمنيًّا وحتى عسكريًّا، تونس ومالي والنيجر وليبيا (تستفيد هذه الأخيرة من الدعم السياسي والأمني). ويمكن التعبير عن هذا الدور بالتذكير ببعض الأرقام، فضلًا عن تلك الخاصة بالإنفاق العسكري. فحسب تصريح أحمد أويحي، الوزير الأول الجزائري، على هامش القمة الإفريقية المنعقدة في أبيدجان، في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2017، قدمت الجزائر مساعدات، في إطار محاربة الإرهاب، لدول الساحل (مالي والنيجر وموريتانيا وتشاد وبوركينافاسو)، وبلغت مساعدة الجزائر لليبيا أكثر من مئة مليون دولار خلال السنوات الثماني الأخيرة(6). كما قدمت مساعدات مالية لتونس في 2014، بقيمة 250 مليون دولار، فضلًا عن مساعدات أخرى (منها هبة وقروض بفوائد رمزية ووديعة لدى البنك المركزي التونسي) منحتها إياها في 2011 عقب رحيل زين العابدين بن علي(7). إلا أن الجزائر تعاني منذ حوالي ثلاث سنوات شحًّا في الموارد المالية جرَّاء تراجع عائداتها النفطية، ما يضع "مجهودها الحربي" إقليميًّا على المحك. 

مقتضيات الواقع: تعديلات على الهامش لعقيدتها الأمنية 

ظلت عقيدة الجزائر الأمنية حبيسة تصورات تقليدية لصراعات وحروب بين جيوش نظامية، لأنها صُمِّمت في البداية لمواجهة تهديدات دولتية المصدر قادمة بالأساس من الحدود الغربية، بسبب التوتر البنيوي مع المغرب. ولم تستوعب، كما ينبغي، القطيعة الاستراتيجية في مجال التهديد، مستبعدة، أو على الأقل مقلِّلة من شأن، التهديدات غير الدولتية. لكنها بدأت تستوعب تدريجيًّا التحول في طبيعة التهديدات وتراجع الصراعات بين الدول فيما تستفحل الصراعات الداخلية. فمع انتشار الاضطرابات الأمنية في جوارها وتوسع رقعتها، وجدت نفسها في مواجهة تهديدات هجينة لم يسبق لها أن وضعت تصورات للتعامل معها. ومن ثم فالاحتكاك الميداني معها هو الذي قاد إلى مراجعة تصوراتها(8)، وإن كانت خبرة مكافحة الإرهاب المحلي في تسعينات القرن الماضي سمحت لقواتها بالتأقلم بسرعة مع التدفقات الأمنية القادمة من الجوار. 

يتوافق سلوك الجزائر حيال الأزمات في جوارها والمبادئ المؤسِّسة لعقيدتها. بيد أن تحليلًا معمَّقًا لسلوكها يبيِّن أن تعديلات طفيفة تطرأ على عقيدتها وفق مقتضيات الواقع الأمنية ولكنها تبقى تعديلات هامشية. ويمكن أن نستشف هذه التعديلات من خلال طبيعة حزمة الإجراءات الأمنية التي اتخذها الجيش الجزائري وهيكلة بعض بناه العملياتية لحماية حدود البلاد في سياق الأزمتين الليبية والمالية. كما يمكن أن نستشفها أيضًا من خلال تغير في سلوك الجزائر حيال الأزمة المالية. فإبَّان هذه الأزمة، اتخذت الجزائر قرارات تسير في الاتجاه المعاكس لمبادئها؛ حيث فتحت مجالها الجوي للمقاتلات الفرنسية للتدخل في شمالي مالي في ديسمبر/كانون الأول 2012، ويعد هذا القرار قطيعة نوعية في عقيدتها الأمنية. كما دعمت القوات الفرنسية المتدخلة في مالي لوجستيًّا بتزويدها بالوقود في أقصى جنوب البلاد. وشاركت الجزائر في الاجتماعات الإقليمية لتحضير التدخل الفرنسي في مالي، بإشراف فرنسي (ربما يُقصد من مشاركتها في هذه الاجتماعات تجنب سياسة المقعد الشاغر ومحاولة التأثير على كيفيات التدخل وأهدافه). كل هذا في الوقت الذي كان فيه الخطاب الرسمي يؤكد على رفض التدخل العسكري وعلى ضرورة التسوية السلمية. يوضح هذا التناقض بين الخطاب الرسمي والسلوك أن تعديلًا طفيفًا وظرفيًّا طرأ على عقيدتها الأمنية، مفاده أن الجزائر لم تعد ترفض وبشكل مطلق فكرة التدخل وأنها تقبل بتدخل محدود. يعني هذا التناقض بين خطاب وطني-سيادي من جهة والمبادئ من جهة ثانية، تكيفًا مع الواقع وفقًا لمقتضيات مصالح الساعة(9). بمعنى التوافق بين المصالح الأمنية لكل من الجزائر وفرنسا خلال هذه الأزمة. تفيد كل هذه التحولات بوجود تعديلات طفيفة ظرفية لكن دون مراجعة جوهرية لعقيدتها الأمنية. وتعبِّر هذه التعديلات أيضًا عن توتر بين المبادئ ومقتضيات الواقع. 

توتر ناشئ بين المستلزم الأخلاقي (المبادئ) والمستلزم المصلحي (الأمن) 

تسببت طبيعة التهديدات غير الدولتية وانتشار الأزمات في تخومها وتعقدها في بعض التناقض في مواقف الجزائر وذلك جراء التوتر الناشئ بين المبادئ (المؤسِّسة لعقيدتها الأمنية) والمصالح (الأمنية)، ما حتم تعاملًا مرنًا مع بعض المبادئ وفق الحالات الاستعجالية، كما يدل على ذلك تطور موقفها من الأزمة المالية. فإذا كان قرار فتح المجال الجوي، والذي يعد سابقة في عقيدتها الأمنية، يتناقض ومبادئها وخطابها الرافض للتدخل، فإنه يتوافق ومصلحتها الأمنية، لأن التدخل الفرنسي يخلِّصها أيضًا من تهديد إرهابي على حدودها. ومن ثم تعد أزمة مالي نموذجًا للتوتر الحاد الناشئ بين المستلزمين الأخلاقي والمصلحي ولكيفية إدارة الدولة لتناقضات موقفها. 

إنه وضع جديد بالنسبة للجزائر ذلك أن التوتر بين المستلزمين توتر ناشئ. فلأول مرة تجد نفسها معنية مباشرة بتهديدات غير دولتية مرتفعة الحدة على حدودها. إنها محنة أمنية بالنسبة لعقيدتها، خاصة أن التمسك بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، بشكل مطلق، في وقت غابت فيه الدولة في ليبيا وكادت تغيب فيه في مالي، يحول دون قراءة متجددة للتهديدات فيما تستمر تدفقات المخاطر والتهديدات على ترابها والتي تجبر قواتها على خوض حرب استنزاف. من هذا المنظور، يمكن القول: إن هذا المبدأ أصبح خطرًا على أمنها القومي(10). خلق هذا التوتر أيضًا تناقضًا في سلوك الجزائر قاريًّا كما يتضح من موقفها من القوة الإفريقية الجاهزة؛ فهي تقول بمبدأ عدم نشر قواتها خارج الحدود وفي الوقت نفسه تدعو الدول الإفريقية إلى التكفل بالأمن الإقليمي. 

معضلة (عدم) التدخل: إشكالات عقيدة الجزائر الأمنية ودعاة التدخل 

إن موقف الجزائر القاضي بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وبعدم التدخل الأجنبي لا يمكن الثبات عليه في حال الأزمات مرتفعة الحدة في دول الجوار (حالة مالي). حتى وإن كان التدخل يتسبب في مشاكل أمنية أكثر مما يقترح حلولًا، فإنه جنَّب، في الحالة المالية، المنطقة قيام "إمارة إرهابية". بالطبع، تقدير مدى خطورة أي وضع أمني مرهون بمدركات التهديد والشواغل الأمنية والمصالح، البنيوية والظرفية، لذا تختلف مواقف الدول باختلاف الأزمات وجغرافيتها. وهذا ما يفسر تطور موقف الجزائر من التدخل في مالي؛ رفضته قبل أن تسايره وتدعمه لوجستيًّا. 

إنه من الصعوبة بمكان التذرع بهذا المبدأ المزدوج، لعقيدة الجزائر الأمنية في الحالتين الليبية والمالي؛ إذ لا يمكن التذرع به في حال انهيار الدولة (ليبيا) أو قاب قوسين من الانهيار (مالي قبل التدخل الفرنسي)، خاصة أن تأمين الحدود، الذي هو أولوية أمنية قصوى بالنسبة للجزائر، يكون صعب المنال في ظل غياب دولة أو ممثل شرعي لها، كما هي الحال في ليبيا؛ ما يعني استمرار تدفق التهديدات نحو الأراضي الجزائرية. وحتى ولو وُجِد محاوِر دولتي، كما هو الوضع في مالي، فهو يفتقر للقدرة الكافية لمراقبة أراضيه ناهيك عن حدوده. وهنا مكمن المعضلة الجزائرية التي تشدِّد على استبعاد أي تدخل في شؤون جيرانها، حتى ولو كانوا يتخبطون في فوضى تجعل ترابهم معقلًا للجماعات الإرهابية المحلية والعابرة للحدود. بتصرفها هذا تبدو أنها تتعامل مع هذه التهديدات وكأنها دولتية الطبيعة، كما لا يمكن التذرع بهذا المنطق في سياق ترهُّل الدولة في المنطقة وطبيعة التهديدات غير الدولتية (هجينة، متنقلة، تفاعل بين الإرهاب المحلي والمستورد...)، لاسيما أن هذه الدول أصبحت مصدر تهديد للأمن القومي الجزائري (ليبيا كانت نقطة انطلاق لهجمات إرهابية في التراب الجزائري كما حدث مع الهجوم، في يناير/كانون الثاني 2013، على المركز الغازي في تيغنتورين، ليس بعيدًا عن الحدود الليبية 2013). بالنظر لطبيعة هذه التهديدات، يمكن القول: إن أمن الجزائر القومي يُصان أيضًا بعيدًا عن حدودها الجغرافية(11). لكن على عكس الاتحاد الأوروبي الذي أدرج هذا التحول في تصوراته الأمنية معتبرًا أن خط الدفاع الأول، عن الأمن الأوروبي، سيكون في الغالب بعيدًا عن الحدود الأوروبية(12)، لم تراجع الجزائر عقيدتها الأمنية لتستوعبه. 

تقوم الجزائر بمساعدة دول المنطقة لتضطلع بنفسها بمهمات الأمن الإقليمي كبديل للتدخل الأجنبي، لكن من الصعب تحقيق ذلك نظرًا لعطل الدول (ضعيفة، منهارة...)؛ إذ لا يمكن لدول فاشلة محليًّا(13) أن تنجح إقليميًّا. من منظور الجزائر، لا يعني تكفل دول المنطقة بالأمن الإقليمي رفضًا مطلقًا لدور القوى الخارجية؛ فهي تحدد دور أميركا والاتحاد الأوروبي في مهام معينة (تكوين، استخبارات، مساعدات اقتصادية...). رغم وجاهة تصورها الاستراتيجي، فإنه يُعاب عليه عدم أخذه بعين الاعتبار مصالح الفاعلين المحليين وتفضيلاتهم الاستراتيجية (منح الغلبة للتحالفات مع قوى خارجية على التعاون الإقليمي) وأيضًا إمكاناتهم المحدودة، ومصالح الفاعلين الخارجية. 

بالرغم من التزام الجزائر بأمن المنطقة، يطالبها فاعلون إقليميون ودوليون بالتدخل والاضطلاع عسكريًّا بمهمة الأمن الإقليمي. لكن كيف بها أن تتدخل بينما يؤكد تطور الأحداث، في مختلف مسارح التدخل، صواب موقفها وصحة مقاربتها؟ رغم ذلك، فإن موقف الجزائر يصعب الثبات عليه في حال أصبحت فيه الفوضى الأمنية عارمة، خاصة أن البدائل التي تطرحها لم تحقق الأهداف المرجوة. أما موقف دعاة التدخل(14) (فرنسا قبل وصول ماكرون إلى الحكم، وبريطانيا، ومصر، والعربية السعودية...) فلا يمكن الثبات عليه هو الآخر؛ فهم جرَّبوا ويجربون التدخل وفشلوا في إحلال السلم في الدول التي تدخلوا فيها؛ فتدخُّل بعضهم في ليبيا حولها أشلاء ممزقة. فهم يُوقِعون أنفسهم في فخ الحلقة المفرغة للتدخل: تدخل جديد لتصحيح مساوئ واختلالات تدخل سابق... علمًا بأن أي تدخل ينجم عنه المزيد من عدم الاستقرار(15). إن التجربة الميدانية أثبتت أن التدخلات تقود دائمًا إلى المزيد من التأزم والقلاقل الأمنية. ولمواجهة حمى التدخل تعرض الجزائر مقاربة الأمن عبر التعاون والوساطة طارحة جملة من البدائل. 

استراتيجية الجزائر الأمنية إقليميًّا: بدائل متكاملة للتدخل 

تقوم استراتيجية الجزائر الأمنية لمواجهة القلاقل المتصاعدة في تخومها الجغرافية وصيانة الأمن الإقليمي عمومًا على مقاربة الأمن من خلال التعاون، والتي تعتبرها بديلًا للتدخل الذي يتخذه بعض الفاعلين أسلوبًا لإدارة وتسوية الأزمات. وتتمحور هذه الاستراتيجية المتكاملة حول خمسة محاور:

  • يتضمن الأول، وهو عملياتي، التدابير الأمنية والعسكرية وطنيًّا (على الحدود) التي اتخذتها الجزائر منذ اندلاع الأزمة الليبية، في 2011، والتي وسَّعتها لتغطي تقريبًا كل حدودها البرية مع التركيز على الحدود مع تونس وليبيا والنيجر ومالي.
  • فيما يتمثل الثاني في مسارات تعاونية سياسية وأمنية ثنائية مع دول الجوار (تونس وليبيا ومالي والنيجر) بدعمها سياسيًّا وماليًّا (مساعدات وقروض)، وأمنيًّا (حراسة الحدود، دوريات مشتركة، تقاسم المعلومات الاستخباراتية، تدريب قوى الأمن)، وحتى عسكريًّا (مساعدات عسكرية، تسليح، تدريب...).
  • أما الثالث؛ فهو إقليمي المستوى ومتعدد الأطراف ويتمثل من جهة في إطلاق مسارين ثلاثيين (الجزائر-تونس-ليبيا، والجزائر-تونس-مصر) للتعاون والتنسيق، يخصان الأزمة الليبية، وفي مبادرات لحشد جهود دول المنطقة وتنسيقها من جهة أخرى، ومنها مبادرة دول الميدان (الجزائر والنيجر ومالي وموريتانيا) التي أُطلقت عام 2010.
  • فيما يُعنى الرابع بتسوية أزمات المنطقة باعتماد خيار التعاون والوساطة، حيث قادت وتقود الجزائر عدة وساطات في جوارها.
  • أما الخامس، فيخص التعامل مع المكونات المحلية في بؤر الأزمات بعزل العنصر السياسي عن الإرهابي. تتوافق هذه المحاور/البدائل والمبادئ المؤسِّسة لسياستها الخارجية والأمنية(16)، كما تسير كلها في اتجاه واحد وهو تكفُّل دول المنطقة بأمنها؛ ذلك أن عقيدة الجزائر الأمنية تستند أيضًا إلى مبدأ أساسي وهو ضرورة اضطلاع دول المنطقة بالأمن الإقليمي تجنبًا للتدخل الأجنبي وسعيًا للانعتاق الاستراتيجي. 

لم تحقق بعد هذه البدائل المتكاملة التي تطرحها الجزائر، عوض التدخل، النتائج المرجوة. صحيح أن التدابير الأمنية على الحدود أسهمت في الحد من انتشار التهديدات وفي حماية حدود بلدان تعيش اضطرابات أمنية مثل ليبيا ومالي وجزئيًّا تونس. وصحيح أيضًا أن المسارات التعاونية الثنائية وثلاثية الأطراف حققت هي الأخرى بعض النتائج. لكن المسار الإقليمي متعدد الأطراف والمتمثل في مبادرة دول الميدان لم يُؤت أُكُله. أما وساطاتها، لاسيما في مالي وليبيا، مستندة لخبرتها وسمعتها في مجال الوساطة الدولية، فلم تحقق هي الأخرى الأهداف المرجوة منها. فبعد ما يقارب ثلاثة عقود من الوساطة بين الأطراف المالية، لم تتمكن الجزائر بعد من إحلال السلم في البلاد وذلك بسبب قصور في استراتيجيتها وخاصة بسبب تعقد الأزمة وتعارض مواقف الحكومة المالية والحركات الأزوادية (وانقساماتها) وتفاعلات التنافس الإقليمي والدولي التي تجهض مساعيها. أما في ليبيا، فهناك مساران للوساطة، الأول تقوده الجزائر والثاني يقوده المغرب، وما لذلك من ازدواجية في العمل وتحييد متبادل. أما فيما يتعلق بتعاملها مع أطراف الأزمات الداخلية، تعمل الجزائر بمبدأ الحوار الشامل تجنبًا لإقصاء أي طرف من الأطراف المتصارعة في ليبيا ومالي ولضمان تسوية سلمية دائمة تنخرط فيها جميع الفصائل، كما تعمل على الفصل بين الجماعات الإرهابية، التي تجب محاربتها، والحركات السياسية، التي يتعين إشراكها في مسار التسوية. حاولت الجزائر تطبيق هذه الاستراتيجية في مالي ولم تفلح، لكن الوساطة التي قامت بها بعد التدخل الفرنسي والتي تُوِّجت بتوقيع اتفاق الجزائر في 2015 بين الفرقاء الماليين، أكدت مجددًا وجاهة استراتيجية الفصل بين العنصرين، السياسي والإرهابي، خاصة أن المقاربة الجزائرية صائبة وضرورية، لأنها تتعامل مع مشكلة شمالي مالي سياسيًّا معيدة الأزمة إلى مربعها (السياسي) الأول وطارحة تسوية سلمية دائمة. 

وختامًا: تساؤلات مركزية 

هل سيقود عدم الاستقرار المتنامي في الإقليم المغاربي-الساحلي، بفعل التهديدات غير الدولتية، وترهل الدولة في المنطقة واختراقها من قبل فاعلين كبار (قوى غربية) وصغار (دول الخليج، وتحديدًا السعودية والإمارات)، فضلًا عن انسداد الأفق السياسي داخليًّا، هل سيقود الجزائرَ إلى مراجعة عقيدتها الأمنية؟ الملاحَظ أن بعض المبادئ المؤسِّسة لهذه العقيدة بدأ يطرأ عليها بعض التعديل أو على الأقل التكييف، لكن دون أن يقود ذلك إلى مراجعة لخياراتها الاستراتيجية. وفي ظل غياب صراع واسع النطاق يمس بشكل مباشر وخطير بترابها، فإنه من غير المرجح أن تعيد الجزائر النظر في سياستها الأمنية بشكل جوهري، خاصة أن تطورات الوضع تؤكد صواب تصوراتها. بما أن الجزائر ترفض التدخل وتقول بمقاربة الأمن عبر التعاون والوساطة طارحة جملة من البدائل، بينما فاعلون أُخَر لا يزالون يقولون بالتدخل كوسيلة لإدارة وتسوية الأزمات، وحالها كحال المستجير من الرمضاء بالنار، فإن السؤال المطروح هو: لمن ستكون الغلبة: لقوة الحجة (الحل السلمي الذي تقول به الجزائر) أم لحجة القوة (التدخل العسكري الذي يقول به فاعلون إقليميون ودوليون)؟ إذا كانت الجزائر لا تملك كل الأوراق فإن ثقلها في المنطقة يسمح لها بالعمل على تغليب الخيار الأول على الثاني. صحيح أن الفاعلين الداعين للتدخل بإمكانهم أن يقوموا بعمل عسكري في دول الجوار رغم معارضة الجزائر لكن لا يمكنهم إحلال السلام فيها دون انخراط الجزائر، كما تدل على ذلك إدارة ما بعد الحرب في ليبيا وفي مالي. فضلًا عن ذلك، فإن كل هندسة أمنية إقليمية لا تكون محلية المنشأ والأداء، وإن كانت تستفيد من دعم خارجي، من الصعب أن يستتب أمرها. بيد أن هذا الثقل لا يجعل الجزائر في غنى عن الحد الأدنى من الأرضية السياسية والأمنية المشتركة والتوافق الاستراتيجي مع الفاعلين الكبار. يشير هذا التشابك والتداخل إلى مدى تعقد الاعتماد المتبادل سياسيًّا وأمنيًّا.

_______________________________________

عبد النور بن عنتر- أستاذ محاضر، جامعة باريس 8، فرنسا

ABOUT THE AUTHOR

References

1 - عن عقيدة الجزائر الأمنية، انظر: بن عنتر، عبد النور، البعد المتوسطي للأمن الجزائري: الجزائر، أوروبا والحلف الأطلسي، (المكتبة العصرية، الجزائر، 2005).

وعن هذه العقيدة في ظل الاضطرابات الإقليمية، انظر:

Benantar, Abdennour, "The State and the Dilemma of Security Policy", in Luis Martinez and Rasmus Alenius Boserup (eds), Algeria Modern: From Opacity to Complexity, (Hurst, London), p. 93-110.

 2 -  انظر: "الجزائر رفضت طلبًا روسيًّا بالحصول على امتيازات في قواعد بحرية"، القدس العربي، 16 أبريل/نيسان 2013، (تاريخ الدخول: 20 أبريل/نيسان 2018):

http://www.alquds.co.uk/?p=34341

3 - Laqueur, Walter, "The Soviet Union and the Maghreb", in Alvin J. Cottrell and James D.Theberge (eds), The Western Mediterranean: its Political, Economic and Strategic Importance, (Praeger Publishers, New York, 1974), p. 221.

4- "Military expenditure by country", SIPRI 2017, (acceded 22 April 2018):

https://www.sipri.org/sites/default/files/Milex-constant-2015-USD.pdf

5 - عن محددات تسلح الجزائر، راجع: بن عنتر، عبد النور، "إشكالية التسلح في المغرب العربي"، المجلة الجزائرية للعلوم السياسية والعلاقات الدولية، عدد 3، ديسمبر/كانون الأول 2014، ص 31-62.

6 – Voir : “Lutte antiterroriste: 100 millions USD octroyés par l'Algérie aux pays du Sahel", 30 Novembre 2107, (consulté le 21/03/2018) :

http://www.aps.dz/algerie/66443-lutte-antiterroriste-100-millions-usd-octroyes-par-l-algerie-aux-pays-du-sahel

7 – انظر: "مساعدات جزائرية لتونس بقيمة نصف مليار دولار"، موقع الشروق، 4 مايو/أيار 2014، (تاريخ الدخول: 22 أبريل/نيسان 2018):

https://goo.gl/2wVmZV

8 - بن عنتر، عبد النور، "الجزائر في مواجهة التهديدات اللادولتية"، السياسة الدولية، عدد 210، أكتوبر/تشرين الأول 2017، ص 101. 

9 - Abdennour Benantar, "Les Principes de la politique étrangère et de sécurité de l’Algérie mis à l’épreuve", Questions internationales, n°81, septembre-octobre 2016, p. 90-91.

10- بن عنتر، "الجزائر في مواجهة التهديدات اللادولتية"، مصدر سابق، ص 101.

11 - Benantar, "The State and the Dilemma of Security Policy", op.cit, p. 103-104.

12 – "A Secure Europe in a Better World: European Security Strategy", Council of the European Union, Brussels, 12 December 2013, (acceded 22 April 2018:

http://www.consilium.europa.eu/media/30823/qc7809568enc.pdf

13 - عن حالة الدولة المالية مثلًا، انظر:

Chena, Salim et Tesseron, Antonin, "Ruptures d’équilibre au Mali: entre instabilité et recompositions", Afrique contemporaine, n°245, 2013/1, p. 71-84

14 - لم تعترف القوى المتدخلة في ليبيا بخطيئتها الاستراتيجية إلا مؤخرًا. ونذكر بهذا الصدد تقرير البرلمان البريطاني الذي عاب على حكومتي توني بلير ونيكولا ساركوزي الانطلاق من "مسلَّمات خاطئة" و"تحليل جزئي" دون "التأكد من "التهديد" ضد المدنيين؛ ما تسبب في انهيار سياسي واقتصادي وأمني في ليبيا وأخلَّ بأمن المنطقة:

Libya: Examination of Intervention and collapse and the UK’s Future Policy options, House of Commons, Foreign Affairs Committee, September 2016 - (acceded 23 April 2018).

https://publications.parliament.uk/pa/cm201617/cmselect/cmfaff/119/119.pdf

من جانبه، أقرَّ الرئيس الفرنسي الحالي، إيمانويل ماكرون، خلال زيارته لتونس، مطلع فبراير/شباط 2018، بأن التدخل العسكري في ليبيا كان "خطأ فادحًا" وبأن بلاده وبريطانيا وأميركا تتحمل المسؤولية فيما يحدث في المنطقة.

https://www.courrierinternational.com/article/tunisie-macron-qualifie-lintervention-militaire-contre-kadhafi-de-grave-erreur(consulté le 22/04/2018).

15 - Benantar, "The State and the Dilemma of Security Policy", op.cit, p. 110.

16 - لتفاصيل عن هذه المتغيرات، انظر:

Benantar, "The State and the Dilemma of Security Policy", op.cit, p. 104-110.

وكذلك: ابن عنتر، "الجزائر في مواجهة التهديدات اللادولتية"، مصدر سابق، ص 98-100.