دور الشركاء الأوروبيين والآسيويين في صمود قطر

لعبت شراكات قطر الأوروبية دورًا محوريًّا في منع دول الحصار من التصعيد ودعم مكانة قطر السياسية. كما حافظت الشراكات الآسيوية على موقع قطر لاعبًا اقتصاديًّا دوليًّا ودعمت جهودها في بناء الصمود الاقتصادي.
7de7cc7c40314ebda240c96144e812fc_18.jpg
علاقات قطر الأوربية قيَّدت حركة دول الحصار (رويترز)

مقدمة 

توقع أغلب المتابعين أن تداعيات إعلان كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر قطع كل علاقاتها بدولة قطر، في يونيو/حزيران عام 2017، سيجعل دولة قطر، الصغيرة مساحة وكثافة سكانية، تستسلم لإرادة القوة النافذة الكبيرة التي يمثلها رباعي المقاطعة. وبعبارات أكثر وضوحًا، فإن ميزان القوى في هذه الحالة يميل، دون شك، لصالح دول الرباعي بكل المقاييس. لكن، وبعد مضي عام عن الحصار، أجهضت قطر مساعي إرغامها على الاستسلام وذلك من خلال الاعتماد على توظيف أدوات نفوذ لا تناظرية بهدف امتصاص الصدمة الأولى وردع الرباعي عن إتيان المزيد من الأعمال العدائية ضدها، ومن ثم بناء قدرات صمود موثوقة. كان لتلك الأدوات غير التناظرية، وعلى وجه الخصوص توظيف مختلف عناصر القوة الناعمة، دور مفيد في تحويل دولة قطر إلى شريك رئيسي لعدد متباين من اللاعبين الفاعلين على الساحة الدولية. وقد كان لشبكة العلاقات القطرية المتنوعة تلك، خاصة مع القوى الأوروبية والآسيوية، دور أساسي في تحصين قطر من عزلها سياسيًّا واقتصاديًّا تمهيدًا لدفعها عنوة نحو الاستسلام. 

تقليديًّا، كان يُنظر إلى العلاقات القطرية مع الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها الملاذ الأخير لضمان استقرار قطر. لكن، وفي سياق الأزمة الحالية ومنذ بواكيرها، تبين بوضوح أن الإدارة الأميركية، تحت رئاسة دونالد ترامب، لم تعد موثوقًا بها وباتت تمثِّل شيئًا مختلفًا عمَّا كانت عليه سابقًا كضامن لاستقرار منطقة الخليج العربي[1]. فبعد يوم واحد من اندلاع الأزمة الخليجية، بادر الرئيس الأميركي إلى نشر تغريدات على تويتر بدت وكأنها تشير إلى توجه إدارة البيت الأبيض نحو تأييد خطوة خصوم قطر، هذا في الوقت الذي دعت وزارتا الخارجية والدفاع الأميركيتان إلى وقف التصعيد. بعد أربعة أيام على إعلان مطالب دول الحصار، كان وزير خارجية دولة قطر، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، يعقد اجتماعًا مشتركًا مع وزير الخارجية الأميركي السابق، ريكس تيلرسون، الذي أكد ووزير الدفاع، جيمس ماتيس، على أهمية الشراكة القطرية-الأميركية بالنسبة للمصالح الاستراتيجية لبلديهما، وعبَّرا عن التزامهما بتشجيع دول مجلس التعاون الخليجي على الحوار وحل الأزمة[2]. 

مثَّل هذا الوضع حالة غير مسبوقة في السياسة الأميركية، حيث شهدنا تعارضًا علنيًّا بين موقفَي مسؤولَيْن بارزَين في الإدارة الأميركية وموقف رئيسهما. أوضح هذا التناقض، مبكرًا، حالة التخبط الاستراتيجي التي كانت تمر بها الولايات المتحدة وأبان عن عدم الوثوق بها في قيادة الأزمة نحو الحل، وهو ما جعل دولة قطر تبحث عن شركاء خارج واشنطن، وبالتالي الاستثمار في علاقاتها الوثيقة مع الدول الأوروبية المؤثرة ونظيراتها الآسيوية القوية اقتصاديًّا. فقد طورت دولة قطر، خلال العشرية الماضية، علاقات مهمة مع عدد من بلدان القارتين: في المجال الاقتصادي أسهمت قطر، عبر ضخ استثمارات هائلة في الأصول المتعثرة، في تعافي الاقتصادات الأوروبية من آثار الأزمة المالية التي عصفت بها عام 2009، ودعمت مشاريع طموحة في آسيا بهدف تحفيز النمو في عدد من بلدان المنطقة[3]. أما في مجال الطاقة، فتعد قطر شريكًا مهمًّا لأوروبا، التي تسعى باطراد للحد من إشكالية اعتمادها الكلي على إمدادات الغاز الروسي. كما تمد قطر اقتصادات آسيا بالغاز الذي يصنف أولوية قصوى لعدد من بلدان القارة الساعية إلى الحفاظ على وتيرة نموها المتسارع[4]. شكَّل كل ما تقدم خلفية صلبة لإسهام الشركاء الأوروبيين والآسيويين في مساعدة قطر على بناء المتانة السياسية والاقتصادية أمام أخطر أزمة على الإطلاق تواجهها الإمارة الساحلية. 

دور أوروبا في صمود قطر سياسيًّا 

في الأيام الأولى من اندلاع الأزمة، قام وزير خارجية قطر، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، بزيارة لبروكسل للقاء مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فيديركا موغيريني. ثم التقى نظيره الألماني، زيغمار غابرييل، في برلين[5]. كما زار الوزير القطري، خلال شهر يونيو/حزيران 2017، كلًّا من إيطاليا والمملكة المتحدة. خلال مختلف محطات تلك الزيارة، اختار وزير خارجية قطر الترويج علنًا لوزن بلاده الاقتصادي وأشاد باستثماراتها المختلفة بهدف تحفيز الزعماء السياسيين على دعم الوساطة الساعية إلى حل النزاع[6]. قوبلت تلك الدبلوماسية القطرية بردود فعل متعاطفة ومتفهمة من قبل الدول الأوروبية التي تمثل الوجهات الأهم للاستثمارات القطرية، والتي كان زعماؤها أيضًا يعربون عن اهتمامهم الكبير بالانفراجة الحاصلة في عموم المنطقة كمؤشر لبدء شراكة اقتصادية مع إيران في مرحلة ما بعد رفع العقوبات عنها. 

مثَّل موقف ألمانيا حالة فريدة تدعو للتوقف عندها؛ حيث ترى وجهة النظر الألمانية أن الأزمة مع قطر لا تمثل سوى تعقيد غير ضروري وإلهاءً عما يجب أن يكون من توحيد للجبهة المحارِبة للتطرف العنيف، وهو الهدف الذي يجب أن يكون أولوية مطلقة. وكان أن تَوَجَّه عميد دبلوماسية برلين، زيغمار غابرييل، بعد حوالي شهر من اندلاع الأزمة الدبلوماسية داخل مجلس التعاون الخليجي، لزيارة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة من أجل حثهما على بذل جهد نحو التوصل إلى تسوية للنزاع القائم. سريعًا بعد ذلك ظهر غابرييل، في مؤتمر صحفي مشترك في الدوحة إلى جانب نظيره القطري، مؤكدًا على وجوب احترام سيادة قطر ومشيدًا بإدارة الدوحة وتعاطيها مع الأزمة[7]. اعتُبرت تصريحات غابرييل تلك، على نطاق واسع، بمثابة مؤشرات على تعاطف ألماني مع الجانب القطري في الأزمة؛ ففي واقع الأمر تقف العلاقات الألمانية-القطرية على أرضية صلبة من الشراكة الاقتصادية القائمة منذ نهاية تسعينات القرن الماضي، حيث كان صندوق الثروة السيادي القطري، الذي بيده سلطة الاستثمار، مستثمرًا رئيسيًّا في الاقتصاد الألماني إذ استثمر في عدد من الشركات الألمانية مثل "فولكس فاغن" و"هوختيف" و"سيمنس" و"دوتشي بنك"، كما أن للصندوق أيضًا خططًا لزيادة حجم استثماراته في ألمانيا[8]. هذا، بالإضافة إلى أن قطر شريك تجاري مميز لألمانيا؛ حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 2.8 مليار دولار في العام 2015، مع وجود 64 شركة ألمانية عاملة في قطر[9]. 

على غرار العلاقات القطرية-الألمانية المميزة، تأسست أيضًا علاقات قوية بين قطر وفرنسا؛ حيث استثمرت قطر ما يزيد عن 20 مليار يورو في فرنسا، بما في ذلك الاستثمار الريادي في مجال الرياضة، وتحديدًا في فريق باريس سان جيرمان لكرة القدم[10]. هذا، وقد شملت الاستثمارات القطرية أيضًا شراكة بين هيئة الاستثمار القطرية وصندوق الودائع الفرنسي بتخصيص 300 مليون يورو لإطلاق مشروع "أبطال فرنسا المستقبليين" لدعم وتمويل الشركات الصغرى والمتوسطة في فرنسا[11]. في نفس السياق أيضًا تندرج الشراكة المبرمة عام 2012 بين هيئة الاستثمار القطرية و"صندوق الودائع والقروض" الإيطالي لتمويل الشركات الإيطالية الصغرى والمتوسطة[12]. يعد التركيز على الشركات الصغرى والمتوسطة، التي تعتبر مفاتيح الاقتصاد الأوروبي والأكثر معاناة من آثار الأزمات المالية، خيارًا استراتيجيًّا لقطر. لم يقف الاستثمار القطري عند هذا الحد، بل كان له بصمة أيضًا في شركات عملاقة مثل "توتال"؛ ففي العام 2016 ضَمِن عملاق صناعة الطاقة الفرنسي حصة بلغت 30% من عقد امتياز لمدة 25 عامًا للتنقيب عن النفط شراكة مع قطر للبترول في حقل الشاهين، أكبر حقول النفط البحرية في قطر[13]. 

وبشكل عام، فإنه بعد فترة من الحيرة وضياع البوصلة خلال حقبة حكم الرئيس فرانسوا هولاند، الذي انتهجت فيها بلاده سياسة في الخليج اتسمت بتوطيد العلاقات مع السعودية، فإن العلاقات الفرنسية-القطرية تحت حكم الرئيس إيمانويل ماكرون عرفت من جديد ازدهارًا بيِّنًا. وهذا أمر جد مهم خاصة وأن ماكرون يسعى بكل حرص على أن يقدم نفسه في صورة الزعيم الحقيقي للعلاقات الأوروبية على الساحة الدولية. وفي الواقع، فإن ماكرون هو أول زعيم أوروبي ناقش الأزمة الخليجية مع كل الأطراف المعنية بها، بما فيها إيران وتركيا.  

من المفارقات الغريبة، والمفاجئة أيضًا، أن تتغيب قوة أوروبية أخرى عن هذا المشهد، وهي القوة التي تمتلك أقوى وأعمق حضور داخل بلدان مجلس التعاون الخليجي، ألا وهي المملكة المتحدة. فعلى الرغم من أنه كان للمملكة المتحدة علاقات شبه-استعمارية مع البلدان الصغيرة في شبه الجزيرة العربية خلال القرن التاسع عشر، والتي ظل لها دور سياسي حاسم منذ تلك الفترة، إلا أنها اختارت أن تكتفي بلعب دور هامشي في الأزمة الحالية[14]. وذلك رغم عمق العلاقات بين قطر والمملكة المتحدة. وللتذكير، فإن قطر تمد المملكة المتحدة بما يقرب من ثلث احتياجاتها من الغاز، كما أن مؤسسة قطر للبترول تمتلك حصة المسهم الأكبر في الشركة المُشغِّلة للمحطة الرئيسية للغاز الطبيعي المسال في المملكة المتحدة الواقعة في ميلفورد هيفن، والمعروفة تحت اسم شركة ساوث هوك للغاز[15]. وبالإضافة إلى ما تقدم، فإن استثمارات تفوق 35 مليار جنيه إسترليني في قطاعات متنوعة تبدأ من التكنولوجيا وتصل إلى البنية التحتية مرورًا بقطاعات الطاقة والعقارات تجعل المملكة المتحدة تتصدر، بدون منازع، قائمة الدول المستقبلة للاستثمارات القطرية في أوروبا[16]. 

تمتلك قطر أيضًا علامات تجارية بارزة في المملكة المتحدة من قبيل متاجر هارودز، والقرية الأولمبية في لندن، وبرج شارد -الذي يمثل علامة تجارية مهمة للغاية بينما تبدو أهميته السياسية غير جلية-. وتمتلك قطر أيضًا، عبر قطر القابضة، حصة استراتيجية تُقدَّر بـ20% في شركة "بي آي آي" القابضة التي تدير مطار هيثرو الدولي. لكن مثل هذه العلاقات الوثيقة عادة ما يكون لها ما يقابلها من مشاريع مماثلة تستثمر فيها دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وهو ما يضع المملكة المتحدة في وضع المحشور في زاوية ضيقة[17]. وحقيقة تمتع المملكة المتحدة بعلاقات قوية مع طرفي النزاع قد تتيح لها لعب دور الوسيط المهم. لكن في المقابل يبدو أن لندن بلغت، في العامين الماضيين، حالة من الإنهاك جرَّاء الأوضاع السياسية العسيرة التي تمر بها. ذلك الإرهاق السياسي كان نتيجة للجهود السياسية المبذولة في جولات المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول خروج بريطانيا من الاتحاد، وهي العملية المعروفة باسم "بريكست"، التي أقرها البريطانيون في استفتاء 2016 الشعبي. وبالفعل، أعلنت قطر، في ديسمبر/كانون الأول 2017، قرارها بشراء المزيد من الطائرات المقاتلة من شركتي (BAE Systems) البريطانية و(Dassault ) الفرنسية بقيمة 5 مليارات جنيه إسترليني و1.1 مليار يورو على التوالي[18]. 

يمكن أن نجادل هنا بأنه لو كان للمملكة المتحدة أرصدة سياسية أكبر تحت تصرفها، لَرَأينا لندن تلعب دورًا أكبر في حل هذا النزاع الذي يُنظر إليه على أنه بالغ الضرر للمصالح القومية البريطانية. ومع ذلك فثمة استثناء جزئي يتعلق بمجال صناعة الدفاع، وهو ما أعلنت عنه قطر مباشرة بعد بدء الأزمة، والذي يبدو على الأرجح أنه جاء نتيجة لتغير مقاربات الأمن القومي لدى صانع القرار في الدوحة. لكن، وبغض النظر عن الأرباح قصيرة المدى التي حققتها صناعة الدفاع في البلدين، فإن كلًّا من فرنسا والمملكة المتحدة، بل وحتى ألمانيا، بنت حساباتها على أن الأزمة الخليجية لن تأتي بأي شيء إيجابي على المدى البعيد. 

لنفس هذا السبب، كان على بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وغيرها من البلدان الأوروبية مثل إيطاليا، بذل جهود جبارة وإيجاد معادلات توازن معقدة حتى لا تخضع لضغوط قد تدفعها للاصطفاف في خندق أحد طرفي النزاع. في واقع الأمر، وكنتيجة لما تقدم شرحه، فإن غالبية الزعماء الأوروبيين، غير المستعدين لفقدان شركاء مهمين داخل دول الرباعية، عززوا مواقفهم عبر دعم خطابي وغير مجد لمبادرة الوساطة بقيادة دولة الكويت. لكن ومع ذلك، فإن اجتماع وزراء خارجية دول الرباعي المنعقد في القاهرة في السادس من يوليو/تموز 2017 انتهى إلى تمديد المقاطعة دون إعلان خطوات تصعيدية كانت منتظرة، وقد بدا إحجام الرباعي عن التصعيد نتيجةً للضغوط الدولية المطالبة بوقف التصعيد[19]. هكذا يبدو واضحًا أن الموقف الأوروبي المعترض على ممارسة مزيد من النبذ السياسي لقطر قد جنَّبها عزلًا سياسيًّا كاملًا عن الساحة السياسية الدولية.  

دور آسيا في صمود قطر اقتصاديًّا 

إذا كانت أوروبا حليفًا رئيسيًّا في حفاظ قطر على موقعها داخل ساحة السياسة الدولية ومن ثم تعزيز صمودها السياسي، فإنه من المؤكد أن دول آسيا حافظت على موقع قطر لاعبًا اقتصاديًّا دوليًّا ودعمت جهودها في بناء الصمود الاقتصادي. نشير هنا إلى أن كل القوى الآسيوية الرئيسية -الهند واليابان والصين، والدول المسماة بالنمور الآسيوية إلى جانب كوريا الجنوبية وسنغافورة- تعتمد بشكل كبير على الغاز القطري[20] الذي يغذي اقتصاداتها المفعمة بالحياة وسريعة النمو وشديدة الحيوية، والتي لا تزال تعتمد على الوقود الأحفوري بشكل كبير. لكن في المقابل، فإن الهند والصين واليابان تعتمد أيضًا على إمدادات النفط القادمة من السعودية والإمارات[21]. 

زاد هذا الوضع من ترسيخ نظرة تلك البلدان إلى الأزمة الخليجية على اعتبار أنها تمثل تهديدًا لمصالحها ودفعها إلى انتهاج مقاربة براغماتية تضمن لها مصالحها قدر المستطاع. ويشمل هذا، أولًا وعلى وجه الخصوص، الحفاظ على استمرار تدفق إمدادات الطاقة من كلا طرفي النزاع واتخاذ موقف علني رافض للعقوبات المُعلنة، مع بداية الأزمة في يونيو/حزيران 2017، والتي كان يمكن أن تُلحق شللًا جديًّا باقتصاد قطر. من جهتها، أظهرت قطر التزامًا لافتًا بأداء دورها كمصدر للطاقة موثوق به. فقد شقت قطر لنفسها خطوط إمدادات، خارج تلك التقليدية، لتأمين تدفق مستقر للطاقة بما في ذلك إيجاد طرق بديلة لإيصال صادراتها من الطاقة وتحمل ما يترتب على ذلك من تكاليف إضافية بما يضمن خفض وتيرة اضطراب مواعيد التسليم إلى حدها الأدنى. وهكذا، ضمنت تلك الجهود القطرية استمرار وتعزيز العلاقات الاقتصادية مع قوى دولية آسيوية وازنة؛ فعلى سبيل المثال، لعبت الهند دورًا مهمًّا في دعم سعي قطر لتحقيق أمنها الغذائي بعد أن ألحقت به آثار الأزمة ضررًا بالغًا. في الواقع، انعكس أول أثر مباشر من قرار السعودية إغلاق حدودها مع قطر، في شهر يونيو/حزيران 2017، على سوق المواد الغذائية القطري نظرًا لاعتماد قطر بنسبة 80% على المواد الغذائية القادمة إليها عبر تلك الحدود[22]. لكن، وإلى جانب إقامة جسور جوية مع تركيا وسلطنة عُمَان وإيران، كان للهند أيضًا دور مشارك في تأمين السلع الغذائية لقطر. وقد تحقق هذا التعاون ضمن سياق كان قائمًا أصلًا؛ ففي عام 2012، استثمرت قطر 500 مليون دولار في مشروع مشترك، بهدف تطوير الإنتاج الزراعي المحلي، مع شركة "بوش فودز أوفرسيز" (Bush Foods Overseas) المنتجة لأرز بسمتي في نيودلهي[23]. 

وبشكل عام، فإن تمكن قطر من الحفاظ على أمنها الغذائي، الذي يُعزى جزئيًّا إلى مساعدة الهند، كان عاملًا حاسمًا في صمود قطر. وبلا أدنى شك فإن حدوث أزمة في الأمن الغذائي كان سيؤدي إلى خضوع قطر الحتمي لمطالب دول الرباعي. 

كانت اليابان أيضًا على نفس القدر من الأهمية بالنسبة للدوحة؛ حيث للعلاقات القطرية-اليابانية بعض العمق التاريخي. وقد كان لتلك العلاقات أهمية خاصة في مرحلة انطلاق قطار التنمية القطري في حقبة تسعينات القرن الماضي عندما قدمت طوكيو دعمًا حاسمًا في تطوير قطاع الطاقة الناشئ حينها في قطر[24]. وكما هو مشار إليه أعلاه، فإن اليابان واحدة من أكبر الدول المستوردة للغاز القطري الذي ما زال يمثل مصدرًا أساسيًّا لقطاع الصناعات اليابانية. من ناحية أخرى، وبعيدًا عن قطاع الطاقة، كان حجم ونوع الاستثمارات القطرية في الاقتصاد الياباني على غاية من الأهمية؛ حيث شمل بناء مركب قطر للعلوم في مدينة سنداي ومنتزه قطر الرياضي في مدينة شيراكاوا[25]. أخيرًا، وفي أعقاب حادثة التسرب النووي في مفاعل فوكوشيما عام 2010 التي تعد أخطر كارثة طبيعية تصيب اليابان في تاريخها المعاصر، سارعت الدوحة إلى تقديم مبلغ 100 مليون دولار إضافية لتمويل مشاريع مرتبطة بإدارة آثار الكارثة[26]. 

في هذا السياق، يمكن القول: إن موقف الصين من النزاع كان على نفس القدر من الأهمية غير أنه كان أكثر تعقيدًا وحذرًا. فبعد وقت قصير من بداية الأزمة، عرض وزير خارجية الصين، وانغ يي، بطريقة تفتقد الإقناع، وساطته بين الأطراف المتنازعة، لكنه استنكف منذ ذلك الحين عن المبادرة بأية خطوات[27]. وكما ذكرنا آنفًا، فإن للصين علاقات مهمة تربطها بكل أطراف الأزمة، تشمل اعتمادها الكبير على إمدادات الطاقة القادمة من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من جهة، كما لها أيضًا علاقات مهمة مع قطر من جهة أخرى. فالدوحة تؤمِّن أكثر من ثلث واردات الصين من الغاز، مع توقع نمو حجم تلك الصادرات مستقبلًا حيث تخطط بيجين لرفع مستوى استهلاكها من الغاز الطبيعي المسال من نسبة 5% في عام 2012 إلى 10% من إجمالي استهلاكها للطاقة بحلول عام 2020[28]. وكانت شركات صينية قد وقَّعت عقودًا بمليارات الدولارات لتنفيذ مشاريع تتعلق بكأس العالم لكرة القدم 2022، كما بلغ حجم ميزان التبادل التجاري بين البلدين عام 2016 أكثر من 5.5 مليارات دولار[29]. هذا، وقد وقَّع البلدان، منذ العام 2013، عددًا من الاتفاقيات في مجالات متنوعة شملت مجال الطيران المدني والتجارة والبنية التحتية والاستثمار والاتصالات والعملات النقدية. 

على الرغم من عدم وقوعها مباشرة على طريق المشروع الصيني الطموح "حزام واحد، طريق واحد"، الذي يهدف إلى جعل الصين مركزًا للتجارة العالمية في القرن الحادي والعشرين، فإن الدوحة أبدت دعمًا مبكرًا للمبادرة الصينية عبر بنك الاستثمار الآسيوي في البنية التحتية[30]. وبالنظر إلى طبيعة المبادرة الصينية التي تستلزم المرور عبر مفترق طرق، شديد الاضطراب، في إفريقيا والشرق الأوسط، فإن الدوحة يمكن أن تكون وسيطًا أساسيًّا في حل النزاعات المهدِّدة للمبادرة الصينية على غرار دور الوساطة الذي لعبته في أزمة دارفور في بدايات العام 2000. وفي الواقع، فإن العلاقات البينية شهدت توسعًا لافتًا للانتباه في مجال الأمن؛ ففي أواخر العام 2014، اشترت قطر من الصين نظام صواريخ باليستية قصيرة المدى "إس واي-400" (SY-400) بمدى يبلغ حوالي 250 ميلًا، تم تسليمه عام 2017[31]. ثم إن البلدين ناقشا أيضًا تنمية علاقات عسكرية بينية أوثق وأعمق بما في ذلك إجراء تدريبات مشتركة على مكافحة الإرهاب وإقامة أنشطة تدريبية مختلفة. 

إذا كان بإمكان هذه الخطوات الهادفة إلى تكثيف التعاون مع إحدى القوى العالمية الصاعدة أن توفر رادعًا جديًّا، في تقدير الدوحة، يجعل جيرانها يكفون عن تصعيد مواقفهم ضدها، فإنه من المؤكد أيضًا أن الصين تظل مترددة في الإقدام على انخراط كامل في سياسات المنطقة. في الحقيقة، كانت بيجين مترددة في ملء الفراغ الجيو-سياسي الذي تركه تقلص الدور الأميركي في منطقة الخليج، وهو ما بات واضحًا من خلال عدم رغبة الولايات المتحدة في الالتزام بدور قيادي في النزاعات الناشئة مؤخرًا. 

أما بالنسبة للصين، فيبدو أن الاعتبارات الاقتصادية هي ما يحكم حسابات بيجين الاستراتيجية، الرامية إلى تعزيز وضع الصين من دون أن تُجبَر على تحمل الأثمان الباهظة التي يقتضيها الحُلُول مكان الولايات المتحدة كضامن لأمن المنطقة. لكن، تلك الحسابات أيضًا تستلزم رفض الوقوف في صف الرباعي لعزل قطر، وهو موقف مثير للاهتمام نظرًا لطبيعة السياسات الصينية المبنية على أساس تجنب المخاطر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا شديدة الاضطراب. 

خاتمة 

إن حقيقة عدم إظهار أية رغبة من قبل الأوروبيين والآسيويين في إعادة تقييم أو تخفيض علاقاتهم بالدوحة لأمر على غاية من الأهمية نظرًا للعلاقات القوية التي تربط هؤلاء اللاعبين مع بلدان الرباعي. في المقابل، تمكنت قطر من الحفاظ على علاقاتها، بل وتنميتها، بمهارة عالية وتجنبت مصير العزل السياسي والاقتصادي. في الواقع، فإن مخرجات الأزمة قد تتمثل في إعادة رسم وتقييم شبكة العلاقات القطرية، ليس فقط في المنطقة بل وعلى مستوى العالم أيضًا. وفي حال استمرت الولايات المتحدة الأميركية في اتخاذ خطوات من شأنها تحقيق أهدافها البعيدة وخفض انخراطها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإن تعزيز العلاقات مع لاعبين دوليين آخرين سيكون على قدر كبير من الأهمية. وبما أن الجيو-سياسة ترفض الفراغ فإن التدويل المتنوع لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد يكون من بين الرهانات المستقبلية. 

قد تنشأ صراعات جديدة على مستوى المنطقة لتحديد مواقع وموازين القوى على الأرض في مرحلة ما بعد أميركا. وأخذًا في الاعتبار كل ما تقدم، فإن تنويع العلاقات مع لاعبين دوليين متعددين قد يكون من بين الخيارات الوجودية الأهم بالنسبة لدولة صغيرة بحجم قطر.

_____________________________

تشينزيا بيانكو، خبيرة في شؤون الخليج

ملاحظة: أُعد النص في الأصل باللغة الإنجليزية لمركز الجزيرة للدراسات، ترجمه د. كريم الماجري إلى اللغة العربية.

References

1- Stephens, M. “Why key Arab countries have cut ties with Qatar — and what Trump had to do with it”, in The Qatar Crisis, POMEPS Briefings #31, October 2017.

2About the Secretary of Defense’s statements see “Mattis affirms US-Qatar cooperation: Pentagon”, AFP News, 7 July 2017; see also Secretary of State Rex Tillerson and Secretary of Defense Jim Mattis at a Joint Press Availability, Dean Acheson Auditorium, Washington, DC, 21 June 2017, (Visited on 16 May 2018):

https://www.state.gov/secretary/remarks/2017/06/272103.htm

3- Ulrichsen, K. and  Karasik T., “How Asian and European countries helped Qatar maintain sovereignty”, Gulf State Analytics, April 2018, (Visited on 16 May 2018):

https://gulfstateanalytics.com/how-asian-and-european-countries-helped-qatar-maintain-sovereignty/

4Ibid.

5- “EU HR Mogherini meets Foreign Minister of Qatar”, 9 June 2017, Newsroom, Council of the European Union website, (Visited on 16 May 2018):

https://tvnewsroom.consilium.europa.eu/event/eu-qatar-580f16be4153f-15668/eu-hr-mogherini-meets-foreign-minister-of-qatar-1780e;

6- Qatar’s Foreign Minister declared it during the event “The Crisis in the Gulf: Qatar Responds” held at Chatham House in London on 5 July 2017. See the full video at:

https://www.chathamhouse.org/event/crisis-gulf-qatar-responds

7Kettner, J. “Germany and the Qatar crisis”, International Policy Digest, 13 July 2017, (Visited on 16 May 2018):

https://intpolicydigest.org/2017/06/13/germany-and-qatar-crisis/

8- “Wirtschaftsdaten kompakt: Katar”, Annual Report, Germany Trade & Invest, 2017.

9- Ibid.

10- “Qatar investments worth $22bn in France, says French Minister”, Arabian Business, 8 September 2018, (Visited on 16 May 2018) :

http://www.arabianbusiness.com/qatar-investments-worth-22bn-in-france-says-french-minister-644954.html

11- “La Caisse des dépôts et Qatar Holding LLC allouent 300 millions d'euros aux PME françaises” Le Monde, 30 November 2012, (Visited on 16 May 2018):

https://lemde.fr/2Ik5VPs

12-  “Joint venture FSI-Qatar Holding: statements by CDP and FSI management”, Press Release, Cassa Depositi e Prestiti website, 19 November 2012, (Visited on 16 May 2018):

https://en.cdp.it/media/press-releases/joint-venture-fsi-qatar-holding.kl

13- “Qatar: Total celebrates the start of operations on the giant Al-Shaheen oil field alongside Qatar Petroleum”, Press Release, Total website, 7 November 2017, (Visited on 16 May 2018):

https://www.total.com/en/media/news/press-releases/qatar-total-celebrates-start-operations-giant-al-shaheen-oil-field-alongside-qatar-petroleum

14- Jones, C., and Stone J. "Britain and the Arabian Gulf: New Perspectives on Strategic Influence." International Relations 13, no. 4 (1997), p.1-24.

15- Vaughan A., “Qatar crisis highlights rising UK energy reliance on imports”, The Guardian, 8 June 2017, (Visited on 16 May 2018):

https://www.theguardian.com/business/2017/jun/08/qatar-crisis-highlights-rising-uk-energy-reliance-on-imports

16Jones, D. “A new chapter for UK-Gulf trade and investment”, DLA Piper,  22 December 2016, (Visited on 16 May 2018):

https://www.dlapiper.com/en/uk/insights/publications/2016/12/a-new-chapter-for-uk-gulf-trade/

17Ibid.

18- Pocock, C. “Qatar Boosts Its Order for Rafales, And Confirms Typhoons”, AIN, 8 December 2017, (Visited on 16 May 2018):

https://www.ainonline.com/aviation-news/defense/2017-12-08/qatar-boosts-its-order-rafales-and-confirms-typhoons

19- “Qatar should commit to six principles”, Bahrain News Agency, 5 July 2017, (Visited on 16 May 2018):

http://www.bna.bh/portal/en/news/792679#.WV1XMXHPIcY

20-  Piet, R. and Wright S. "The Dynamics of Energy Geopolitics in the Gulf and Qatar’s Foreign Relations with East Asia." In Energy Relations and Policy Making in Asia. Palgrave Macmillan, Singapore, 2016. p.161-179.

21- Al-Tamimi, Naser. "Asia-GCC relations: growing interdependence." Italian Institute for International Political Studies (ISPI), Analysis 179 (2013), p. 11.

22- “Qatar food imports hit after Arab nations cut ties - trade sources”, Reuters, 5 June 2017, (Visited on 16 May 2018):

http://www.reuters.com/article/gulf-qatar-food-idUSL8N1J23IC

23-  “Hassad Food of Qatar Acquires Majority Equity Interest in Bush Foods Overseas, India”, Business Wire, 3 April 2013, (Visited on 16 May 2018):

https://www.businesswire.com/news/home/20130403005982/en/Hassad-Food-Qatar-Acquires-Majority-Equity-Interest

24-  Bartsch, U. “Financial risks and rewards in LNG projects: Qatar, Oman, and Yemen”, Working Paper, Oxford Institute for Energy Studies, 1998.

25Miotto C. and Cafiero G., “The Prospects for Japanese-Qatari Relations”, The Atlantic, 22 June 2016, (Visited on 16 May 2018):

http://www.atlanticcouncil.org/blogs/menasource/the-prospects-for-japanese-qatari-relations

26- Ibid.

27-  Fulton, J, “China’s approach to the Gulf Dispute”, Analysis, China Policy Institute, May 2018, (Visited on 16 May 2018):

https://cpianalysis.org/2018/05/03/chinas-approach-to-the-gulf-dispute/

28- Lin, W., Na Z., and Anzhong G, "LNG (liquefied natural gas): a necessary part in China's future energy infrastructure", Energy 35.11 (2010): p. 4383-4391.

29- Ramani, S, “C hina's Growing Security Relationship With Qatar”, The Diplomat, 16 November 2017, (Visited on 16 May 2018):

https://thediplomat.com/2017/11/chinas-growing-security-relationship-with-qatar/

30Ehteshami, Anoushiravan, and Niv Horesh, (eds). China's Presence in the Middle East: The Implications of the One Belt, One Road Initiative, (London: Routledge, 2017).

31- Fulton, J, “China’s approach to the Gulf Dispute”, op, cit.