الأثر الاقتصادي للطرق الصوفية في إفريقيا الغربية

تحاول هذه الورقة رصد الأداء الاقتصادي الصوفي بغرب إفريقيا عمومًا وبالسنغال بشكل خاص ومدى تأثيره على سياسة الحكومات بالمنطقة، وكيف يلعب دور المكمل في علاقته بالدولة، دون أن يشكِّل ورقة ضغط، حيث ظل في حدود لا يتجاوزها مقابل أدوار أخرى ذات أهمية للسلطات السياسية.
07d0db7312ab45feb160b7c1d1ea62d0_18.jpg
مسجد طوبى من أكبر المساجد في غرب إفريقيا، وهو أحد أبرز معالم الزوايا الصوفية بالسنغال (الجزيرة)

ليس من اليسير ادعاء وجود اقتصاد صوفي قائم بذاته بالمعنى الدقيق للكلمة من حيث القيم والأفكار والممارسات والمؤسسات، إلا أنه لا يمكن إنكار وجود شريحة عريضة من أصحاب النفوذ والجاه من ساكنة غرب إفريقيا ممن يتحكمون -بشكل أو بآخر- في الشأن المالي والاقتصادي والسياسي ببلدانهم وينتمون للطرق الصوفية، ويدورون في فلكها ومحسوبون عليها. هذا، وتحظى العائلات الصوفية بشرعية دينية وتاريخية واجتماعية، وإن كان الأمر أظهر في بعض الدول من بعض، وفي مدن أكثر من غيرها.

ويتميز اقتصاد غرب إفريقيا بانتمائه إلى الدول النامية أو في طور النمو، وبعضها يُصنَّف ضمن قائمة الدول الأقل نموًّا، أي الاقتصادات المتخلفة مع تباين درجات التخلف، والسنغال معدود من بين تلك الدول، ومن خصائصه:

  • الاعتماد على المواد الأولية وغَلَبة الاقتصاد غير المهيكل.
  • سيطرة دول المتروبول على مفاصل الاقتصاد.
  • ضعف البنية التحتية مع تأخر ملحوظ في مواكبة التطور العلمي والتكنولوجي.
  • الفساد الإداري والسياسي "سرطان إفريقيا".
  • وجود فرص مواتية لتحول اقتصادي واعد.
  • اقتصاد قائم على تأمين ضرورات الحياة وليس على الرفاهية وتوفير الكماليات.

تتوزع المنطقة موانئ بحرية على امتداد شواطئ المحيط الأطلسي، وثروات طبيعية ومعدنية وقوة ديمغرافية شابة وتنوع ثقافي وعرقي وحضاري، وكونها جسرًا جويًّا واصلًا بين أقصى الشرق بالغرب، وسوقًا اقتصادية واعدة، وهذه الرقعة اليوم موضع تنافس محموم بين القوى التقليدية التي ترى فيها الحديقة الخلفية ومجال نفوذها الحيوي والقوى الصاعدة الباحثة عن موطئ قدم على تعددها.

وعملاق الاقتصاد الإفريقي النيجيري والمصدِّر الأول للنفط قاريًّا، يتموقع بغربها متقدمًا على جنوب إفريقيا منذ 2013، وهو ما يعطي لهذه المنطقة إضافة نوعية، وترقد فوق أراضيها أكبر الأرقام المالية إفريقيًّا تقدر بمليارات الدولارات، وعلى رأس أصحاب تلك الثروات: أليكو دانغوت، رئيس مجموعة دانغوت، ويُعَدُّ أغنى أثرياء إفريقيا، وفق تصنيف مجلة فوربس الأميركية، ويمتلك مجموعة دانغوت التي تعتبر الأضخم في غرب القارة(1)، وله استثمارات قارية في السنغال وغيرها، ولاغوس رائدة المال والأعمال في غرب القارة خاصة وفي إفريقيا عمومًا.

إلا أن الانقلابات العسكرية التي عرفتها معظم بلدان غرب إفريقيا وعدم الاستقرار السياسي بها أيام الحرب الباردة، والتوترات الأمنية بالساحل والصحراء الإفريقي التي اندلعت مع نهاية القرن المنصرم واشتدت حدتها مع بداية الألفية الثالثة وانزياحها إلى جهة الأطلسي أدخلها في دوامة من العنف والأنشطة العسكرية عجزت الحكومات عن التحكُّم في مسارها؛ مما أهدر طاقتها واستنزف خزينتها وزاد من الهوان الاقتصادي فيها، وعادت هواجس الأمن لتسيطر على مطالب التنمية.

انطلاقًا من هذا الواقع مع حدة عدوى التأثيرات داخل العالم الإسلامي المسلوب قراره المادي والمعنوي، تحاول هذه الورقة البحث عن نقاط التَّماس بين الفاعل الصوفي ومربع الاقتصاد في غرب القارة، وبالأخص في السنغال.

علمًا بأن أرض هذا الموضوع ليست بكرًا فقد وطئتها أقدام الباحثين والأكاديميين من قبل، ولا يزال تناول مواضيع ذات صلة بالتصوف يشكِّل حساسية إبستمولوجية ومغامرة معرفية لدى هذه المجتمعات، لاسيما مع الاستقطاب الحاد بين التيارات الدينية وإن تباينت النسبة من دولة لأخرى، لكن ذلك لا يمنع من طرح السؤال الاقتصادي في قوالب فكرية وبمنهجية علمية، ونتساءل هنا: ما حقيقة المكوِّن الاقتصادي "الصوفي" في إفريقيا الغربية؟ وفي أي المجالات الاقتصادية يتجسد وجوده؟ وكيف تتكامل الهيئات الصوفية مع المؤسسات الاقتصادية؟ وما مستقبل الهيمنة الصوفية على جزء من الاقتصادات الإفريقية؟ وللإجابة على التساؤلات المطروحة سيتم التركيز على الطائفة المريدية السنغالية مع استصحاب المقاربة سوسيو-سياسية في التحليل.

مسالك النفوذ: الدِّين والاقتصاد
يشكِّل السنغال نموذجًا حيًّا في غرب إفريقيا لشبكة من العلاقات المتداخلة بين المشيخة الدينية والنخبة السياسية والنشاط الاقتصادي والروابط الاجتماعية، ويوجد من بين أتباع الطرق رجال دولة وموظفون سامون ومديرو شركات وأصحاب مؤسسات، باختصار شخصيات ذات نفوذ واسع، لاسيما مع المريدية التي لا تزال تحافظ على تماسك صوفي واجتماعي يشكِّلان مصدر قوتها وفاعليتها، وهي طريقة سنغالية المولد والمنشأ ظهرت بأرض باوول في إقليم جربل على يد مؤسسها، الشيخ أحمد بمبا 1853-1927، مستفيدًا من خبرات روحانية سابقة، واستطاع أن يشق طريقه لنفسه، ويختار لقب "خادم الرسول"، وأعطى الأولوية للتربية والتعليم وكسب الحلال (أي العمل)(2).

سبقت الطرق الصوفية نشأة الدولة الحديثة وواكبتها بعد ولادتها، ومن ثم كانت ثابتًا من ثوابت الاجتماع السياسي السنغالي المعاصر، وطال ظلها مختلف مناحي الحياة: سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، ويغلب التصوف السلوكي في مقابل التصوف الفلسفي على الأتباع، وتعتبر الزوايا فاعلًا قويًّا في تدبير الشأن العام، وأحيانًا فاعلًا مترددًا بين كونه أساسيًّا أو ثانويًّا على المستويين: الجهوي أو الدولي.

وتُسبِّب التعددية الصوفية تنافسًا خفيًّا بين الأتباع، لكن مع ذلك اتسمت الحركات الصوفية الشعبية فيما بينها بتعايش سلمي وتوافق اجتماعي حتى مع غير المسلم؛ كما تشهد بذلك المناسبات الدينية والاجتماعية المتنوعة.

وخوَّل انتشار التصوف بالسنغال لرجالها حضورًا قويًّا وظلًّا ممدودًا على المجتمع والسياسة والفكر والاقتصاد، وجعل مشايخها قادة ووجهاء، وهو ما يؤهل بلاد ترانغا لحمل لقب "المنتدى الإفريقي للصوفية"، بل ظل السنغالي إلى وقت قريب لا يتصور إمكان وجود مسلم غير منتم إلى طريقة صوفية(3). وعليه، لا يمكن دراسة قضايا الشعب بعيدًا عن هذا المعطى الذي يغطي ساحة الحياة، كما أن شخصيات صوفية وطنية أدت دورًا كبيرًا في نشر التصوف بالبلاد المجاورة، وهو ما يظهر عند بعض العائلات من أواصر القرابة.

وقد تشكَّلت نواة الاقتصاد الصوفي منذ عهد الاستعمار بامتلاك المشايخ وأعوانهم للأراضي الزراعية الشاسعة، أما مع الاستقلال وانتقال زمام الأمور إلى أبناء الوطن فلم يكن بد من التكيف مع الوضع الراهن، بظهور ميلاد اقتصاد جديد، فهو وإن تغير شكليًّا لكن بقي في جوهره محكومًا من الدولة المستعمرة التي تمسك بشريان الاقتصاد.

وبعض المناطق لا تزال البنية الاقتصادية على طبيعتها التقليدية لم يحدث فيها أي تغيير، وتعتمد أساسًا على الزراعة والرعي وأساليب الحياة القديمة، خصوصًا في القرى النائية والأماكن المعزولة، وهو ما يُدخل جُلَّ قطاعات الاقتصاد الوطني في دائرة الاقتصاد غير المهيكل المطبوع بالطابع التقليدي، وتلك صعوبات لا يمكن تجاهلها من أي مستثمر.

وتعتبر الحواضر التي يقطنها مشايخ الطرق في الغالب محاور اقتصادية فاعلة في وسطها الاجتماعي كما في بعض العواصم الرُّوحية مثل: طوبى، كاولاك، بال، وغيرها، إلا أن نصيب طوبى كان أوفر من غيره، وأسواقها ومحلاتها التجارية ناطقة بذلك؛ استجابة لمتطلبات الروح وحاجيات الجسد، وهنا تبرز أهمية العاصمة الروحية للمريدية ومثيلاتها اقتصاديًّا.

فيما أخَّرت الخلافات داخل الأسر الدينية من جهة والأحزاب السياسية من جهة أخرى، مع قرب ميلاد الدولة وبُعيْدها، انطلاقَ المشروع الاقتصادي إلى حين تسوية الخصومات نهائيًّا بين الفرقاء، وكان للجراح التي تندمل أثر على الحياة الصوفية المتشعبة والمشهد الاجتماعي برمته.

وعرف الاقتصاد الوطني في الفترة الاشتراكية مع كل من الرئيس ليوبولد سيدار سنغور وعبد جوف ركودًا وعجزًا ملحوظيْن، وكانت المشاكل الاقتصادية تتفاقم سنة بعد أخرى، وزاد الطين بلة أن رئيس الوزراء، ممادو جاه، المعني بالشؤون الاقتصادية(4) وصاحب الرؤية التنموية أُودِع السجن بعد محاكمته ورفقائه واتهامهم بالسعي للانقلاب على السلطة القائمة(5)؛ ما أحدث تراجعًا في مسيرة النهضة وخلف فراغًا مروِّعًا، بسبب انشغال القيادة السياسية بتصفية الخصوم وتقريب حلفائها، وتعطل بذلك سير المشاريع الكبرى(6).

وشهدت فترة رئاستهما وقائع خطيرة على عموم السياسة الوطنية الاقتصادية؛ منها: سنوات الجفاف وتطبيق سياسة التقويم الهيكلي وخفض قيمة الفرنك الإفريقي 1994، وخصخصة الشركات وتفاقم الديون.

أما في الحقبة الليبرالية مع وصول الرئيس عبد واد إلى الحكم وخلفه الحالي؛ فقد اتسمت بالانفتاح النسبي على شركاء جدد وتطوير بنية تحتية وتنظير اقتصادي قاري تمخض عنه وضع خطة "النيباد"، الشراكة الجديدة من أجل تنمية إفريقيا 2001، وتم تحويل الشراكة الجديدة من أجل تنمية إفريقيا في القمة الإفريقية المنعقدة بنواكشوط يوليو/تموز 2018 إلى وكالة التنمية للاتحاد الإفريقي(7)، وإن كان واد سعى إلى القطيعة مع باريس فإن سَالْ أعاد عجلة الاقتصاد إلى السكة الفرنسية.

ويتسم هذا البلد بافتقاره إلى ضرورات الحياة من الماء الشروب والإنارة والكهرباء، وعجز حكوماته المتعاقبة عن تقديم خدمات اجتماعية على المستوى المطلوب، وتوفير فرص الشغل والتخفيف من البطالة وجذب الاستثمارات، وزيادة الإنتاج، وجودة النوعية، مع ارتفاع نسب الفقر، ونتج عن هذا الواقع سخط شعبي عبَّرت عنه كثرة المظاهرات والاعتصامات في قطاعات حساسة، وهي وضعية غير مريحة لأي فاعل اقتصادي.

ولا يزال المشروع الاقتصادي الوطني طور البناء، ولم يأخذ شكله النهائي، وهو ما يمكن تلمُّسه فيما أُطلق عليه (PSE)، خطة السنغال التنموية في عهد الرئيس الحالي، التي تغطي الفترة ما بين 2014 -2035، وقد جعلت من أهدافها تحصيل اكتفاء ذاتي عام 2017 ولم يتحقق، وقبلها خطة غووانا (GOANA)، فترة رئاسة عبد الله واد، وظل نصيب الفاعل الاقتصادي الوطني محدودًا ولم يرتق إلى المستوى المأمول في إطار التوازنات الاقتصادية الكبرى.

بيد أن الرأسمال "الصوفي" يحتل مكانًا مرموقًا في سلم الاقتصاد الوطني، المسيَّر من طرف رجال أعمال ومؤسسات وشركات ذات صلة قوية بالمشيخة الصوفية في ثنائية جامعة بين الشيخ والمريد تتحدد عموديًّا على أساس تابع ومتبوع، وإحساس الشيخ بالمسؤولية تجاه مريده تجعله سعيدًا بنجاحه على أي صعيد بما في ذلك الجانب الدنيوي-الاقتصادي.

على أن من المفاهيم الاقتصادية المباشرة التي يتم تداولها في الوسط المريدي: العمل، هدية، خدمة، الإنفاق، التبرك "بركيلو"، وقف، وأخرى غير مباشرة: زيارة، التضامن، الأخوة، النعم، الطيبات، ويتجاوز الرأسمال المريدي مليارات الفرنكات.

أ- رجال المال والأعمال
على امتداد التاريخ السنغالي المعاصر، كان مشايخ الصوفية والمقربون منهم على قائمة أثرياء البلد، منذ تأسيس المريدية، منهم على سبيل المثال: مام شيخ أنت امباكي، ومريد الشيخ إبراهيم فال، ومضيفه بعد عودته من المنفى الشيخ الثري، سرين سر لوح(8)، ولاحقًا الشيخ صالح امباكي بن أحمد بامبا، صاحب مزارع خلكوم، وهي أراض شاسعة بلغت مساحتها 70000 هكتار اقتطعها له الرئيس عبد ضيوف(9).

ومن أتباع الطرق تشكَّلت الطبقة الأولى من الأغنياء لحقبة ما بعد الاستقلال، وأشهر أفرادها: الحاج بابكر كيبي المشهور بـ "انغوغو كيبي"، صاحب الاستثمارات الكبيرة، والحاج جيل امباي الذي وصلت أعماله التجارية إلى البلدان المجاورة كساحل العاج وسيراليون، وكان يمد يد العون للدولة أوقات الضيق، وهما المليارديران المعروفان زمن الرئيس عبد جوف، وامتازا بعلاقاتهما ببعض قادة الدول الإفريقية والعربية، ولكل من الرجلين أعمال مشهودة خصوصًا في الحاضرة المريدية وفي العاصمة دكار وفي مسقط رأسيهما، وكان بروز رجال الأعمال السنغاليين مما أثار حفيظة الفرنسيين ما جعلهم يشتكون إلى الرئيس سنغور(10).

وإلى جانب الرجلين، يمكن ذكر رجال أعمال أمثال الحاج مور سورانغ، والسيد أَلَّ سين، والسيد عبد الكريم فال، والحاج سرين سالّ، والحاج بار امبوب الذين كان لهم نشاط في مختلف قطاعات الاقتصاد(11).
سرنج امبوب: وينحدر من أسرة غنية، فوالده بارا امبوب المذكور آنفًا، وهو صاحب مجموعة الصندوق التجاري بارا امبوب (
CCBM)، ومعدود من مليارديري البلاد، وكان مقربًا من النظام أيام عبد الله واد، وله روابط تجارية مع شركة سامسونج الكورية.

عبد الله جاه: المدير العام لشركة سنيكو (Senico)، وراعي الجائزة القرآنية؛ حيث تم رصد عشرات الملايين للدورة الرابعة لمسابقة حفظ القرآن وتجويده بتمويل ورعاية شركة سنيكو وأخرى لمسابقة الرسم القرآني التي تعتبر الأولى من نوعها (1439هـ- 2018م)، وذلك بتمويل من شركة C3S، المملوكة من رجل الأعمال السنغالي، سرين سيك، والمتخصصة في صناعة الألومنيوم ومشتقاته(12).

شيخ عمار، وهو من أتباع الشيخ، صالح امباكى.

جدير بالذكر أن الأغنياء من جميع فئات المجتمع ينفقون أموالهم لدعم وتقوية مكانة اللغة العربية والعلوم الشرعية، وقد بادر رجل الأعمال السنغالي، السيد عبد العزيز سيلا، بوقف عمارة مؤلَّفة من أربعة طوابق علوية وطابق سفلي عن والديه لصالح معهد كوكي الإسلامي(13)، وهو صاحب الشركة التجارية والصناعية السنغالية (S.C.I.S).

ويكتسب الاقتصاد الصوفي رمزيته من تجسيده للمبادرات الوطنية الساعية لتوفير تمويل ذاتي الذي طالما دعا إليه مفكرون أفارقة، لقناعتهم بأن الحلول لمشاكل القارة لن تكون إلا إفريقية، والسلوك الاقتصادي المريدي ينحو هذا المنحى، بيد أن بعض الطرق امتدت أياديها لتلقي المساعدات الأجنبية.

وقد تشكل الوعي الاقتصادي لدى أهل باوول أتباع الشيخ أحمدو بامبا مبكرًا، وساعد على ذلك جملة من العوامل:

  • الضغط الاستعماري الذي مورس عليها ممثَّلًا في مضايقة ونفي وحبس شيخها المؤسس والرمز الموحد؛ مما ولَّد رغبة في الاستقلال الكلي عن السلطة الفرنسية وكل ما يمتُّ إليها بصلة.
  • مقتضيات قيام مشروع إصلاحي من وجود دعم مادي وسند مالي.
  • انتظام بعض أصحاب الجاه والنفوذ ممن سقطت عروشهم ضمن السلك المريدي.
  • فتح السلطات الاستعمارية باب الاستثمار على مصراعيه للطرق الصوفية، وكذلك فعلت الدولة وريثة الإدارة الاستعمارية، ولم تمانع مزاولة الأنشطة الاقتصادية على خلاف العمل السياسي الذي ضايقت فيه المشيخة الصوفية، كما حصل مع مبادرة الشيخ تيجان سه بوصفه رئيسًا لحزب سياسي، وكان هذا العامل أيضًا من العوامل التي أدت إلى بروز رجال أعمال مرموقين منتمين لعائلات صوفية(14). وقد جمع الشيخ تيجان سه ما تفرق في غيره من جيل عصره، من كونه دبلوماسيًّا وسياسيًّا ومثقفًا ورجل أعمال مع انحداره من أسرة صوفية.

ويشغل القطاع الزراعي حيزًا مهمًّا في الاقتصاد الوطني، ومن هنا تكتسب الأراضي الزراعية أهمية كبرى في كونها مصدرًا أساسيًّا للثراء والغنى، وذلك باستغلالها أو تأجيرها أو بيعها، لكن الزحف العمراني وشراء الشركات الأجنبية للأراضي مثلًا بجوكو للتنقيب عن "زرقون" وتذبذب تساقط الأمطار لعب دورًا في تقليص النشاط الزراعي.

ب- حدث "ماغال طوبى" في الميزان الاقتصادي
يُعَدُّ "ماغال طوبى"(15) عيدًا سنويًّا من بين الأعياد الأربعة المجمع عليها مريديًّا، وهي: يوم ماغال الأكبر (Le grand Magal) والمولد النبوي وعيد الفطر وعيد الأضحى(16)، ويعبِّر عن احتفاء الأتباع بعودة مؤسس الطريقة المريدية، الشيخ أحمدو بمبا، من المنفى (1902-1895)، وقد أسهم بما يقارب حوالي 250 مليار فرنك، حسب رئيس لجنة الثقافة والإعلام لماغال(17). ويُقدَّر عدد الوافدين في هذه المناسبة في غضون يومين متتاليين، بحوالي ثلاثة ملايين شخص(18) من مختلف الشرائح: سياسيين ورجال أعمال ودبلوماسيين وأتباع ووافدين من الخارج، وربما ساعد على ارتفاع العدد عدم مزاحمة أي نشاط له في نفس التوقيت؛ بخلاف المناسبات الدينية الأخرى التي لا تستقطب جماهير عريضة أو لتزامن الاحتفالات مع بعضها كعيد المولد النبوي لانتشار الطرق الصوفية بالبلاد.

ويبقى بذلك ماغال طوبى حدثًا فريدًا من نوعه في ربوع السنغال خاصة وفي غرب إفريقيا عامة، ومناسبة لممارسة التجارة والأعمال الحرة سنويًّا ومثالًا حيًّا للسياحة الدينية. وأخيرًا، اعترفت السلطات السنغالية، منذ 2013، بهذا اليوم عطلة رسمية، وتقوم الدولة حاليًّا بإنجاز مشروع الطريق السيَّار الرابط بين طوبى-داكار الذي سيزيد من الفرص والمكاسب الاقتصادية للمناسبة المريديةالسنوية.

مجالات الاقتصاد الصوفي
لإدراك حجم أتباع الطرق في مضمار المال والأعمال لابد من الوقوف على مكونات الخارطة الاقتصادية للبلاد والتجاذب بين أطراف الداخل والخارج، وبصورة عامة يمكن حصر الفاعل الاقتصادي في: القطاع الخاص، والقطاع الحكومي، والشركاء الأجانب.

ولا يمكن الولوج إلى الاقتصاد السنغالي إلا عبر بوابة فرنسا؛ وذلك لوزنها الثقيل في هذه المعادلة، فهي تحتل موقعًا بارزًا في الاقتصاد غرب الإفريقي، خصوصًا في الدول الناطقة بالفرنسية، وتقوم بدور مزدوج على الصعيد الوطني بالسيطرة والهيمنة؛ والدولي بلعبها دور الوسيط والوكيل مع الأجانب، وتتمتع بنفوذ كبير في هذه البلدان من خلال خبرائها وشركاتها وعملتها ولغتها وقواعدها العسكرية، ونذكر هنا: مجموعة بولوري، ومجموعة السكر السنغالية (CSS) متصدرة مؤسسات الصناعات الغذائية، وقطاع الاتصال، والخطوط الجوية الفرنسية.

علمًا بأن ملف الاقتصاد يُعَدُّ إحدى الركائز الخطيرة لفك التبعية مع الغرب ومن ثم تحقيق استقلال شامل، ولهذا ارتباط وثيق بفرز الطبقة الوسطى وإعادة توزيع الثروات بل وصناعة قادة المستقبل.

ونجم عن غياب الديمقراطية والشفافية والأجهزة الرقابية اختفاء مبدأ تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية وضمور دولة الحق والقانون وضعف مؤسسات الدولة؛ وساعد على استمرار الوضع المذكور استقواء النظم السياسية الحاكمة بالقادة الفرنسيين مقابل ثمن للدعم والتأييد، واتخذت باريس من الرقعة الجيوبوليتيكية الفرنكوفونية سوقًا تجارية لمنتجاتها وموردًا للمواد الأولية، وزاحمت عليها القوى الكبرى التقليدية والقوى الصاعدة؛ ما مكَّن باريس من مفاصل الدولة والقطاعات الحيوية.

كما تتسارع خطى بكين الاقتصادية الزاحفة على دكار وكذا القوى الناهضة، إلى جانب الجالية العربية من المشارقة والمغاربة، والمستثمرين الأفارقة، من أمثال أليكو دانغوت النيجيري الذي يُعَدُّ أغنى أغنياء إفريقيا ومن بين المئة الأكثر ثراء في العالم، وكذا اليد العاملة الغينية خصوصًا في مجال التجارة والمقاولات الصغرى.

وتجلب السوق السنغالية المستثمرين الأفارقة والآسيويين والأوروبيين إلا أنها غير قادرة على المنافسة سواء على مستوى الإنتاج أو الجودة أو التصدير. وعليه، فهي سوق تابعة عالميًّا.

ويبقى المجال الأرحب لهيمنة أتباع المؤسسة الصوفية: القطاع الخاص من مقاولات صغرى ومتوسطة، وقد أخذت في الاتساع منذ نهاية الثمانينات، ويمتلك الباوليون أسواقًا تجارية معروفة: كباك لامباي بالعاصمة، وهي سوق قديمة، مع أن بعضهم من أصحاب المقاولات الكبرى في السنغال، مع كونهم كبار التجار السنغاليين في دول المتروبول الغربية وفي الولايات المتحدة الأميركية(19). وللتذكير، فإن رجال الأعمال السنغاليين لم يباشروا الاستثمار في ميدان المحروقات إلا حديثًا بخلاف النيجيريين.

ويُعَدُّ الاستثمار في مجال التعدين، والصناعات الغذائية والاتصال والمواصلات ميدانًا مربحًا لرجال الأعمال، وتستحوذ الدول الأنجلوفونية الإفريقية على الريادة المالية مقارنة بالفرنكوفونية، فلا تكاد تجد في قائمة المليارديرات في القارة من ينتمي إلى الدول الفرنكوفونية.

وتسد التحويلات المالية القادمة من اليد العاملة المغتربة ثغرة معتبرة في الاقتصاد الوطني، ويسهم أتباع الطائفة المريدية بجزء مهم من تلك التمويلات العابرة للأوطان، وتُقدَّر سنويًّا بمئات المليارات من الفرنكات ما يرفع من الدخل القومي، وترى الدولة في هؤلاء المغتربين شريكًا حقيقيًّا للتنمية(20).

لكن تضييق الخناق على المؤسسات الصغرى والمتوسطة المحلية حَجَّم من قدرتها على التحول لشركات وطنية مصنَّفة ضمن الاقتصاد المهيكَل ما جعلها منكمشة على ذاتها، وهو ما يحرمها من مزايا وأرباح كان بالإمكان الاستفادة منها وإعادة توظيفها لتشكل مصدر دخول للشباب العاطلين بدل صرفها إلى جيوب الأجانب الوافدين، فيما تُفتح الأبواب مشرعة للأجنبي، وتلك صعوبة بالغة التعقيد مطروحة أمام النشاط الاقتصادي الصوفي.

هذا يعني أن اقتصاد الزوايا لا يتعدى سد الحاجات اليومية والآنية وعلى الأكثر المدى المتوسط، ويترتب على ذلك ضعف القوة الشرائية وندرة صناديق الادخار ما يُبقي ملامح الفقر بادية على وجه الشعب المحروم، ثم إن انتشار العوز والبؤس وغيرهما بين أتباع الشيوخ، يبرهن على أن مساهمتها في مواجهة التحديات الاقتصادية الداخلية دون المستوى المأمول، ولن يكون بإمكانها الصمود بمفردها زمن تحرير التجارة وأمام التكتلات الاقتصادية الكبرى.

والشريك الصوفي هو الأضعف في سلسلة الحلقة الاقتصادية في معادلة الداخل والخارج، فعلى سبيل المثال لم تجد شركة أوشان (Auchan) الفرنسية في مجال التسويق التجاري بعد أن حطت رحالها بداكار جهة قادرة على مزاحمتها، على الرغم من الاستياء الشعبي الواسع من وجودها والمطالبة برحيلها، والطوائف الصوفية وإن شكلت ثقلًا اقتصاديًّا وقوة مالية استثمارية، إلا أنها لم تصل بعد إلى أن تكون جماعة ضغط اقتصادي.

التكامل بين الهيئات الصوفية والمؤسسات الاقتصادية
يختلف السياق الذي تتحرك فيه الصوفية على تباين مؤسساتها وهيئاتها: دينيًّا وأمنيًّا وسياسيًّا، وتوجهت اقتصاديًّا مع بداية الاستقلال للعمل في المزارع والحقول. ومنذ بداية الثمانينات، انخرطت الطائفة المريدية بقوة في الهجرة الدولية(21)، وأدت سنوات الجفاف إلى ولوج ميدان التجارة والبيع بالتقسيط وبالجملة في المدن السنغالية الكبيرة (داكار، سين لويس، لوغا، كولخ..إلخ) والانتقال بعد ذلك إلى دول إفريقيا جنوب الصحراء، مثل: كوت ديفوار، والغابون، والكونغو، ولاحقًا الاتجاه نحو فرنسا مع نهاية الثمانينات، وإيطاليا وإسبانيا الدول الرئيسة لاستقبال المريد(22).

فيما راكمت المريدية خبرة واسعة في التعامل مع المحيط المالي القاصي والداني، ويظهر ذلك جليًّا في المدن السنغالية وفي مهاجرهم، وانتظام الأتباع في جمعيات مدنية، تقوم بأدوار متعددة دينيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وغالبًا ما يكون لهم في الغربة بيت خادم الرسول الذي يعتبر المقر الرئيسي للوافدين، مما يساعد على إدماجهم في المجتمع الجديد، وتعقد به حلقات إنشاد ولقاءات في المناسبات الدينية الدورية والسنوية، فيما يقرأ بعضهم قصائد الشيخ التماسًا للبركات والسداد، ويواظبون عليها بطريقة أشبه بقراءة الورد اليومي، ومن مميزات المنتسبين للشيخ أحمدو بامبا الثقة بالذات والتفاني في العمل والجدية والاعتماد على النفس والقدرة على التنظيم والإدارة والحشد.

لكن ثمت توظيف للبعد الصوفي في الاقتصاد الوطني لا تخطئه العين؛ من استخدام رموز الطريقة وأعلامها الكبار وتسمية المحلات بالمشايخ والطريقة وأفراد العائلة والمعالم واستخدام صور المناسبات الدينية، وتحويلها إلى علامات تجارية للتبرك وإظهار الانتماء إلى هذا الفضاء الصوفي أو ذاك، وهذا الاستخدام يتنافى أحيانًا مع التعاليم الصوفية كمن يختار اسم شيخ لمحل يبيع بضاعة كان يرى حرمتها، وهذه ظاهرة عامة في كل أتباع الطوائف الصوفية الذين يعملون في التجارة والمال.

وقد تُستعاض الولاية التي ظلت مطلبًا ساميًا في الفكر الصوفي بالثراء المادي الآني عند بعض المريدين حين يبتعدون عن مسار الزهد والورع، ويتعجلون حظوظ الدنيا الفانية على الآخرة الباقية، وعند انقلاب الموازين المعرفية والسلوكية، ويُفسَّر النجاح عندئذ بالمكاسب والأرباح، الوجه الآخر للكرامة التي هي مظهر للولاية، ولعل هذا ما حدا ببعض منظِّري المريدية إلى التنبيه على أهمية الكسب الحلال، وتعداد الأسس الفلسفية للعمل في المريدية، وأولاها: أكل الحلال، وثانيها: الاعتماد على الذات، وثالثها: تصحيح مفهوم التوكل والزهد(23).

لكن توسع الخلف في التمتع بحياة الدنيا وزينتها من مراكب ومساكن وملابس مقارنة بأسلافهم الذين عاشوا عيشة متقشفة يزيد اليوم من نفقات الزوايا، وهو ما يستدعي الحصول على زيادة رأس المال لسد الحاجيات والكماليات.

على الرغم من ذلك، لا يمكن إطلاق الحكم بأن الطرق الصوفية تحولت من هيئات دينية إلى مؤسسات اقتصادية، فالتقارب الحاصل بينهما لا ينفي خصوصية كل مجال وتمايزه عن الآخر، وإن مثَّلا جناحين لا غنى عنهما للتحليق الصوفي.

ويمكن الإشارة هنا إلى أن الاقتصاد الإفريقي، وبالأخص دول إفريقيا الغربية، يميل كثيرًا نحو الاندماج، ويظهر ذلك جليًّا في المبادرات التي تتخذها الدول والمؤسسات منذ عقود ابتداء بتوحيد البنك المركزي لدول إفريقيا الغربية (BCEAO)  التابع لثماني دول داخل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا الخمس عشرة، وعلى صعيد الاتحاد النقدي لإفريقيا الغربية (UMEOA) الذراع النقدية للبنك المركزي، ويضم ثماني دول تتعامل بالفرنك الفرنسي، وهي: بنين، وبوركينافاسو، وتوغو، وكوت ديفوار، وغينيا بيساو، ومالي، والنيجر، والسنغال. وفي المقابل، تشكِّل الدول الأنجلوفونية المنطقة النقدية لإفريقيا الغربية، وتشمل: غامبيا، وغانا، وغينيا، وليبريا، ونيجيريا، وسيراليون، وميزانيتها الاقتصادية تفوق ما لنظيرتها، وهذا الاندماج والتكامل يرفع من شأن سلطة الدولة على حساب أصحاب رؤوس الأموال الوطنية على تنوعهم.

الواقع أن كل طرف من المؤسسات الصوفية والهيئات الاقتصادية يحتفظ بمقومات وجوده، والعلاقة بينهما أقرب إلى التكامل تحقيقًا للمشروع الصوفي الجامع بين الديني والدنيوي في علاقة عمودية تربط الشيخ بالمريد. 

ويتكفل صندوق النقد الدولي بوضع الوصفات العلاجية بعد تشخيص الأمراض المالية للدول، وإدخال من شاء في الملة الاقتصادية وإخراج من شاء، فهو الموجه الحقيقي للبوصلة الاقتصادية في هذه الأقطار وإن نأت عنه، ونتذكر هنا سياسة التقويم الهيكلي في التسعينات وما جرَّته على مجتمعاتها من أزمات ونكبات خلَّفت آثارًا جسيمة عليها، ثم إن السوق الدولية تحدد أسعار المواد الأولية ما يضع ثروات الدول الإفريقية تحت رحمة أصحاب رؤوس الأموال الدولية والرأسمالية العالمية، ولكي يحتل الرأسمال الصوفي موقعًا لائقًا لابد له من طرح جدي أمام عمالقة الاقتصاد العالمي.

وما ذُكر؛ يجعل نصيب الطرق من كعكة الاقتصاد على أهميته محدود الأثر، لارتباط هذا الشأن بدوائر محلية وإقليمية ودولية ليس بمقدوره منافستها، في ظل حكومات مغلوبة على أمرها ومخنوقة باتفاقيات ومعاهدات تحاصر حركتها المالية والاستثمارية.

ومنذ 2001، انحازت الصوفية عمومًا للحرب على الإرهاب، لتكون الحزام الديني المنتظر لتطويق الجماعات المسلحة، وعلى الرغم من ازدياد الطلب الاستراتيجي على الخدمات الصوفية الدينية والثقافية عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، بغرض تقليل أنصار المد الجهادي في إطار محاربة الإرهاب وتجفيف منابعه تفعيلًا للقوى الناعمة؛ فإن ذلك لم يُوسِّع من دائرة النفوذ المالي والاستثماري للتيار الصوفي، وإن تلقى دعمًا ومساندة أحيانًا من طرف السلطات الحكومية أو من البعثات الدبلوماسية ومن دولها، ويتجلى هذا بالخصوص في الدول التي عانت من هجمات الجماعات المسلحة: نيجيريا، ومالي، وكوت ديفوار.

وقد تعزز حضور التصوف على المسرح الدولي وصار لاعبًا أساسيًّا بهدف إعادة تشكيل رقعة العالم الإسلامي وترتيب الحقل الديني وفق متطلبات المرحلة التي اتسمت بمواجهة الإرهاب: "فكرًا وممارسة وتمويلًا"، واستئصال "الإرهابيين" إن أمكن أو التحكم فيهم ودرء أخطارهم في أقل الأحوال، واتخذت بعض القوى من تلك الأوضاع مطية للوصول من جديد إلى ثروات الشعوب المستضعفة.

مستقبل الهيمنة الصوفية الاقتصادية
يعرف الفضاء الديني السنغالي تحولات جذرية يمكن تلمسها في طبيعة الخطاب الديني وتطبيق الشعائر التعبدية والعلاقة بين السلطات المركزية بالشأن الديني وبين الأقطاب الفاعلة في الحقل الديني فيما بينها "الانتقال من الحذر والتوجس إلى التفاعل والتبادل"، والتغير الملحوظ في نزعة الشباب إلى التحرر والتمرد على ما كان عليه آباؤهم من الطاعة "العمياء" لمشايخهم، والمطالبة بالبرهان والدليل بدل الاستسلام العفوي، وذلك ما سيعيد رسم الخريطة الدينية في الأعوام القادمة، وتحديد الشرعية الصوفية بالفضاء العام وتبعًا علاقة الرأسمال الرُّوحي بالبشري وتوظيفاته المحتملة.

وحسب المحللين والخبراء الاقتصاديين، فإن القارة الإفريقية وجهة استثمارية واعدة وزاخرة بخيراتها ومواردها التي تفوق الحصر، والمساهمة الصوفية ليست على قدر التوقعات المستقبلية في ظل النظام المالي السائد، بل عاجزة عن ملء الفراغ الناتج عن الفرص المتاحة لضعفها وهشاشتها.

وثمة عقبة أخرى أمام الرأسمال المريدي، والصوفي عامة، ألا وهي الاقتصاد الشيعي الذي تسهر عليه الجالية اللبنانية المقيمة في العديد من الدول الإفريقية إلى جانب التمدد الإيراني المدعوم دبلوماسيًّا وإعلاميًّا واستثماريًّا، وهو حقيقة اقتصادية ماثلة للعيان. ووفقًا لمصادر عدة، فإنه يوجد الكثير من الجمعيات الشيعية الناشطة في السنغال، ترعاها الجالية اللبنانية ذات النفوذ المالي والاقتصادي القوي(24)، كما يتميز بالتنوع والتنظيم والتأثير والتوغل في المجتمع.

وتشير الإحصائيات إلى أن العاصمة، داكار، تحتل أكثر من ثلث المقاولات الكبرى(25). وللطائفة المريدية حضور مشهود في المعاملات التجارية والمالية ممثلًا بسوق سانداغا وسط العاصمة عبر محلاتها وأسواقها ومؤسساتها، لكن تهميش العمق السنغالي مما يفوت الفرص على المستثمر المحلي ويضيع عليه مكاسب مالية.

والأداء الاقتصادي الصوفي لم يؤثِّر تأثيرًا بالغًا على سياسات الحكومات الإفريقية، ولا في مخططات القوى الكبرى، وكان دائمًا يلعب دور المكمِّل في علاقته بالدولة، ولم يشكِّل ورقة ضغط عليها، ولعل غاية ما وصل إليه هو تحقيق استقلال مالي وتوفير تمويل ذاتي لمشروعه الروحي، وكأن المراد لهذا النشاط الصوفي أن يظل في حدود لا يتجاوزها في مقابل أدوار أخرى ذات أهمية للسلطات السياسية يعول عليه إنجازها في إطار معادلة ضبط الحقل السياسي والحفاظ على موازين القوى وإضفاء الشرعية على الأنظمة القائمة، وتمثيل الهوية الثقافية "المنفتحة" والمتسامحة وفق طرح يتماشى مع مرجعية الدولة العلمانية ورهان المرحلة.

وغني عن البيان أن هذه الدول لم تمتلك بعد قرارها الاقتصادي، وهو ما صرَّح به الملياردير النيجيري، أليكو دانغوت، في مقابلة تليفزيونية مع قناة "Africa 24"، من وضع الأجانب والشركات متعددة الجنسيات يدها على الاقتصاد المحلي، وانتشار هذه الظاهرة في الدول الفرنكوفونية(26). وقد تم تداول الخبر على نطاق واسع، وهو ما يعني أن الرأسمالية المتوحشة لم تفسح حتى لأهل القارة متسعًا للاستفادة من ثرواتها ومواردها، ما يطبع في الأذهان صدق مقولة: "الاستعمار الجديد"، ولا يزال الفرنك الفرنسي يمثل إطارًا تأسيسيًّا للعمل الاقتصادي بحكم سيطرته على العملة المتداولة بالبنك المركزي لدول غرب إفريقيا(27)، وهو ما يؤكده المحلل الاقتصادي، الحاج منير انجاي، في مقابلة من أن الارتباط النقدي والمالي بفرنسا يسبِّب لنا متاعب(28).

ومن المتوقع في غضون سنوات أن تكون دول إفريقيا الغربية المطلة على المحيط الأطلسي من كبريات الدول المصدرة للنفط، وذاك ما يفتح شهية مطامع القوى الكبرى ويجعل من المنطقة محط أنظار المستثمرين، ويضاعف من تعقيدات الحياة الاقتصادية.

وعليه، لا ينبغي أن يتجاوز نصيب أية جهة من اقتصاد الوطن حوالي 30 بالمئة تحقيقًا لاستقلالية القرار السياسي؛ وذلك بتنويع الشركاء والانفتاح على الاستثمار العربي-الإسلامي؛ بما يضمن التوازن بين مكونات التأثير والسيطرة والتدافع بين الداخل والخارج. 

وتبرز العولمة الاقتصادية بتحدياتها وتناقضاتها في هذا الواقع المتجدد عقب الحرب الباردة، وحاصله حدة التجاذب العابر للقارات عبر أذرع الشركات متعددة الجنسيات ذات المرجعية الليبرالية-الرأسمالية، التي تضع أي اقتصاد محلي على الهامش.

والسوق الإفريقية ليست مستقرة على حال بحكم تأرجح أسعار المواد الأولية حسب قاعدة السوق في العرض والطلب، والوصول إلى العملة الصعبة يمر عبر المواد الأولية، وهو ما يجعل من ثروات القارة ملكًا لغيرها ودائرة في فلك الاقتصاد العالمي. ومن ثم، فإن تعرضه لأدنى هزة تربك السوق الوطنية وتعيدها إلى نقطة الصفر ودنيا الأزمات والاحتجاجات، وهو ما يخلِّف آثارًا سيئة على الصعيد الوطني قد ينتج عنها اضطرابات وتوترات داخلية.

أما نصيب الشعب من اقتصاد المعرفة الذي يعتبر أحد أوجه المستقبل فلا يزال عالَمًا لم ترتسم معالمه بوضوح، ولم تتهيأ بعدُ ظروف ولادته في هذه البقاع التي لا تضع البحث العلمي الرصين من بين أولوياتها العلمية، وإن ادعت ذلك.

خاتمة
ينتشر التصوف في ربوع منطقة الساحل والصحراء ويحظى بقبول كبير بين سكانها، لكن الأوضاع المزرية التي عاشتها وتعيشها المنطقة منذ استقلالها وعلاقتها بشركائها الدوليين ذوي المرجعية الرأسمالية الليبرالية إضافة إلى الواقع الأمني المتردي وعدم الاستقرار ليجعل من الطرق الصوفية مطوقة بتقاليدها التي استنفدها الزمن ومأسورة بمناهجها التي لا تنسجم وروح العصر، وتقف عاجزة عن تقديم بديل ينبني عليه عقد اجتماعي جديد قادر على النهوض بأعباء الحياة المعقدة ما لم تتدارك نَفْسها بنَفَس تجديدي يجمع بين الأصالة والمعاصرة.

ويمتد ذلك ليشمل النهوض بإصلاح اقتصادي جذري من حيث القيم والأطر والمؤسسات وإيجاد بيئة قابلة للاستثمار وجذب رجال الأعمال لتجاوز الأعطاب الموروثة منذ عقود، ومن المرتقب من أية قوة مهما كان نوعها ومصدرها أن تسهم في تعزيز الوحدة الوطنية والسلْم الاجتماعي والتحرر من كل القيود وتحقيق العدالة والكرامة الإنسانية للمواطن السنغالي.

وعليه، فإن الزوايا مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تفعيل القيم الصوفية الاقتصادية في الفضاء العام لإعادة ترشيد الشأن العمومي تقليصًا لدائرة الفساد، العائق الأكبر للتنمية، والنهضة من محاسبة النفس والزهد في متاع الحياة الدنيا والحرص على الكسب الحلال والتعفف والاقتصاد في النفقات وتجنب الإسراف والتبذير والاعتماد على الذات والتنديد بأكل المال العام وبيان خطورته.

والسير في التحذير من الرشوة والفساد والكسب غير المشروع، ومعالجة هذه الأمراض المستعصية كفيلان ببعث نهضة تنموية، وتلك دعامة أساسية في طريق الإصلاح الاقتصادي ببلد غالبية سكانه من الصوفية وللمشايخ كلمة مسموعة وأوامر مطاعة.
____________________________________________
* د. هارون با، باحث سنغالي مختص في العلوم السياسية

ABOUT THE AUTHOR

References

(1) - "أليكو دانغوت.. من بائع حلوى لأغنى رجل بإفريقيا"، الجزيرة نت، 5 سبتمبر/أيلول 2016، (تاريخ الدخول: 15 سبتمبر/أيلول 2018):

https://goo.gl/dG1zag

(2) - غالاي انجاي، محمد، الشيخ أحمدو بامبا سبيل السلام، (الرباط، مطبعة المعارف الجديدة، 2011)، ص 68.

(3) - خديم محمد سعيد امباكي، التصوف والطرق الصوفية في السنغال، (منشورات معهد الدراسات الإفريقية، سلسلة بحوث (14)، مطبعة كوثر، الرباط، 2002)، ط 1، ص177.

(4) – انظر:

Dia, Mamadou, "un monument de l’histoire politique du Sénégal", Jeune Afrique, 25 janvier 2009, (vu le 1 aout 2018):

http://www.jeuneafrique.com/146855/archives-thematique/mamadou-dia-un-monument-de-l-histoire-politique-du-s-n-gal/

(5) - قام الرئيس سنغور بإقصاء كل من يتوقع فيه تأثيرًا قويًّا سواء في الداخل أو الخارج ابتداء بهذه الشخصية ذات النظرة البعيدة والطامحة إلى الاستقلال الكلي، ثم شيخ أنت جوب، المؤرخ السنغالي المشهور عالميًّا بنظراته العلمية، وقرَّب منه أناسًا يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه، وحاول استنساخ نسخة من ذاته قبل أن يغادر الحكم ويعتزل السياسة.

(6) - ويمكن الإشارة هنا إلى أن تدشين المركب الصناعي تأخر لحوالي ربع قرن بعد الاستقلال في عام 1984، الذي كان إنجازًا كبيرًا للدولة الناشئة.

(7) – انظر:

7 - Ciss, Malick, "Sommet de Nouakchott, Le Nepad devient l’Agence de développement de l’Ua", LE SOLEIL,10 juillet 2018, 47 ème année N. 14435, p. 5.

(8) - غالاي انجاي، الشيخ أحمدو بامبا سبيل السلام، مرجع سابق، ص125.

(9) - للتوسع في الموضوع، يُنظر: محمد آدم جاختي، الخليفة الخامس للطائفة المريدية، الشيخ صالح امباكي، رحمه الله 1915-2007، مراجعة الشيخ الخليل امباكي، 2009، ط 1، ص46 وما بعدها، نسخة إلكترونية.

(10) – انظر:

Les Mémoires d'Abdou Diouf, 40 années de vie politique au sommet, Seuil, 2014. p 145.

(11) - مؤلف جماعي، دراسات حول المريدية، (منشورات روض الرياحين، الرباط، مطبعة المعارف الجديدة، 2010)، ط 1، ص 100.

(12) - مسابقات قرآنية في موسم قرآني، مجلة اقرأ،الصادرة عن جمعية كوكي (لوغا، السنغال)، العدد الثالث، السنة الثالثة 2018، ص 2.

(13) – انظر:

Louga : l’Institut islamique de Coki se dote d’une mosquée à deux niveaux d’un coût de 615 millions, Site rewmi, publié le Oct 8, 2010, vu le 3o septembre 2018:

http://www.rewmi.com/louga-l-institut-islamique-de-coki-se-dote-d-une-mosquee-a-deux-niveaux-d-un-cout-de-615-millions_a32964.htm

 (14) – انظر:

Magassouba, Moriba, L’islam au Sénégal Demain les mollah?, (Edition Karthala, paris, 1985), p :32, 38.

(15) - وأول من دعا لـ: "ماغال طوبى" على هذا النحو الذي يتم به اليوم هو الخليفة الثاني للمريدية، الشيخ محمد الفاضل، بعد توليه الخلافة عام 1946.

(16) - أحمد جاختي، حمزة، الإدارة المحلية بطوبى، مقتضيات وتحديات المهمة، ص 12، نسخة إلكترونية.

(17) -

Apport économique: Le Magal de Touba génère près de 250 milliards de francs CFA", SeneNews, 31 Octobre 2017 (vu le 0 aout 2018):

https://www.senenews.com/actualites/apport-economique-le-magal-de-touba-genere-pres-de-250-milliards-de-francs-cfa_209149.html

(18) – انظر:

Monographie sur L’impacte socio-économique du grand magal de Touba au Sénégal, novembre 2011, p. 7 ,23.

تقرير صادر عن لجنة الإعداد والتنظيم بمناسبة ماغال طوبى 2011 تحت العنوان المذكور.

(19) – انظر:

Sall, Leyla, Soufisme et utopie économico-religieuse : les entrepreneurs mourides sénégalais à l’«assaut» des métropoles occidentales, Lien social et politiques, No 72 automne 2014, p :110.

(20) – انظر:

Ousmane Kane, Les marabouts sénégalais et leur clientèle aux États-Unis une économie spirituelle transnationale, Afrique contemporaine 2009 /3, p :209.

(21) – انظر:

Monographie sur l’impacte socio-économique du grand magal de Touba au Sénégal, novembre 2011, p. 69.

(22) – انظر:

Sall, Leyla, Soufisme et utopie économico-religieuse, p :116.

(23) - مؤلف جماعي، دراسات حول المريدية، مرجع سابق، ص91 وما بعدها.

(24) - محمد خليفة صديق، الجالية اللبنانية الشيعية في إفريقيا.. الواقع والدور، موقع الراصد، العدد مئة واثنان وخمسون، جمادى الأولى 1437هـ، دراسات، تم التصفح في 31 أغسطس/آب 2018:

http://www.alrased.net/main/articles.aspx?selected_article_no=7269

(25) – انظر:

Voir: Résultats du Recensement Général des Entreprises (RGE)، site de L'Agence Nationale de la Statistique et de la Démographie (ANSD)، juillet 2018, (vu le 25 aout 2018):

http://www.ansd.sn/index.php?option=com_ansd&view=titrepublication&id=65

(26) – انظر:

Voir: Aliko Dangote: Les pays africains francophones ne contrôlent pas leurs économies, site "agenceecofin", 29 mars 2015, (vu le 27 aout 2018):

https://www.agenceecofin.com/politique/2903-27699-pour-aliko-dangote-les-pays-africains-francophones-ne-controlent-pas-leurs-propres-economies

(27) – وكذلك المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا المعروفة اختصارًا بـ"كامك" (camec)، وتضم كلًّا من الدول التالية: الكاميرون، والغابون، وتشاد، وجمهورية الكونغو، وغينيا الاستوائية، وجمهورية إفريقيا الوسطى.

(28) – انظر: مقابلة الحاج منير انجاي في موقع impact السنغالي، (تاريخ الدخول: أغسطس/آب 2018):

https://bit.ly/2E5KcsW